73- وقالوا أيضاً : لا تذعنوا إلا لمن تبع دينكم ، خشية أن يدعي أحد أنه أوتي مثل ما عندكم ، أو يحتج عليكم بإذعانكم عند ربكم ، قل لهم - أيها النبي : إن الهدى ينزل من عند الله ، فهو الذي يفيض به ويختار له من يشاء ، وقل لهم - أيها النبي - إن الفضل من عند الله يعطيه من يريد من عباده ، وهو واسع الفضل ، عليم بمن يستحقه ومن ينزله عليه .
قوله تعالى : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } . هذا متصل بالأول من قول اليهود بعضهم لبعض ( ولا تؤمنوا ) أي لا تصدقوا ( إلا لمن تبع دينكم ) أي وافق ملتكم ، واللام في لمن صلة ، أي لا تصدقوا إلا من تبع دينكم ، اليهودية كقوله تعالى ( قل عسى أن يكون ردف لكم ) أي ردفكم .
قوله تعالى : { قل إن الهدى هدى الله } . هذا خبر من الله تعالى أن البيان بيانه ، ثم اختلفوا فيه ، فمنهم من قال : هذا كلام معترض بين كلامين وما بعده متصل بالكلام الأول ، إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض ، ومعناه ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا إن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والكتاب والحكمة ، والآيات من المن والسلوى وفلق البحر ، وغيرها من الكرامات ، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنكم أصح ديناً منهم ، وهذا معنى قول مجاهد . وقيل : أن اليهود قالت لسفلتهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم .
قوله تعالى : { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } من العلم أي لئلا يؤتى أحد ، ولا فيه مضمرة ، كقوله تعالى ( يبين الله لكم أن تضلوا ) أي لئلا تضلوا ، يقولون : لا تصدقوهم لئلا يعلموا مثل ما علمتم فيكون لكم الفضل عليهم في العلم ، أولئلا يحاجوكم عند ربكم فيقولوا : عرفتم أن ديننا حق ، وهذا معنى قول ابن جريح . وقرأ الحسن والأعمش " إن يؤتى " بكسر الألف ، فيكون قول اليهود تاماً عند قوله " إلا لمن تبع دينكم " وما بعد من قول الله تعالى يقول : قل يا محمد إن الهدى هدى الله إن يؤتى " إن " بمعنى الجحد ، أي ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد .
قوله تعالى : { أو يحاجوكم عند ربكم } . يعني : إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولوا : نحن أفضل منكم ، فقوله عز وجل ( عند ربكم ) أي : عند فعل ربكم بكم ، وهذا معنى قول سعيد بن جبير ، والحسن ، والكلبي ، ومقاتل ، وقال الفراء : ويجوز أن يكون " أو " بمعنى " حتى " كما يقال تعلق به أو يعطيك حقك ، ومعنى الآية : ما أعطي أحد مثل ما أعطيتم يا أمة محمد من الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكم ، وقرأ ابن كثير : آن يؤتى بالمد على الاستفهام ، وحينئذ يكون فيه اختصار تقديره آن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة تحسدونه ولا تؤمنون به ، هذا قول قتادة والربيع قالا : هذا من قول الله تعالى يقول : قل لهم يا محمد إن الهدى هدى الله بأن أنزل كتاباً مثل كتابكم وبعث نبياً حسدتموه وكفرتم به .
قوله تعالى : { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } . قوله أو يحاجوكم على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين ، وتكون أو بمعنى إن لأنهما حرفاً شرط وجزاء يوضح أحدهما موضع الآخر ، أي وإن يحاجوكم يا معشر المؤمنين عند ربكم فقل يا محمد إن الهدى هدى الله ونحن عليه ، ويجوز أن يكون الجميع خطاباً للمؤمنين ، ويكون نظم الآية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين حسدوكم ، فقل إن الفضل بيد الله وإن حاجوكم فقل : إن الهدى هدى الله ، ويجوز أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله ( لعلهم يرجعون ) ، وقوله تعالى ( ولا تؤمنوا ) من كلام الله يثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم ، يقول : لا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا من اتبع دينكم ، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين والفضل ، ولا تصدقوا أن يحاجوكم في دينكم عند ربكم ، أي يقدروا على ذلك فإن الهدى هدى الله ، وإن الفضل بيد الله ، يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ، فتكون الآية كلها خطاب الله للمؤمنين عند تلبيس اليهود لئلا يرتابوا .
{ و } قال بعضهم لبعض { لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } أي : لا تثقوا ولا تطمئنوا ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم ، واكتموا{[159]} أمركم ، فإنكم إذا أخبرتم غيركم وغير من هو على دينكم حصل لهم من العلم ما حصل لكم فصاروا مثلكم ، أو حاجوكم عند ربكم وشهدوا عليكم أنها قامت عليكم الحجة وتبين لكم الهدى فلم تتبعوه ، فالحاصل أنهم جعلوا عدم إخبار المؤمنين بما معهم من العلم قاطعا عنهم العلم ، لأن العلم بزعمهم لا يكون إلا عندهم وموجبا للحجة عليهم ، فرد الله عليهم بأن { الهدى هدى الله } فمادة الهدى من الله تعالى لكل من اهتدى ، فإن الهدى إما علم الحق ، أو إيثارة ، ولا علم إلا ما جاءت به رسل الله ، ولا موفق إلا من وفقه الله ، وأهل الكتاب لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ، وأما التوفيق فقد انقطع حظهم منه لخبث نياتهم وسوء مقاصدهم ، وأما هذه الأمة فقد حصل لهم ولله الحمد من هداية الله من العلوم والمعارف مع العمل بذلك ما فاقوا به وبرزوا على كل أحد ، فكانوا هم الهداة الذين يهدون بأمر الله ، وهذا من فضل الله عليها وإحسانه العظيم ، فلهذا قال تعالى { قل إن الفضل بيد الله } أي : الله هو الذي يحسن على عباده بأنواع الإحسان { يؤتيه من يشاء } ممن أتى بأسبابه { والله واسع } الفضل كثير الإحسان { عليم } بمن يصلح للإحسان فيعطيه ، ومن لا يستحقه فيحرمه إياه .
ثم حكى - سبحانه - لونا من عصبيتهم وتعاونهم على الإثم والعدوان فقال تعالى : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } .
وقوله - سبحانه - حكاية عنهم { وَلاَ تؤمنوا } معطوف على قوله - تعالى - فى الآية السابقة { آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ } .
وقد فسر بعضهم { وَلاَ تؤمنوا } بمعنى ولا تقروا ، أو ولا تعترفوا ؛ فتكون اللام فى قوله { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } أصلية .
وعليه يكون المعنى : أن بعض اليهود قد قالوا لبعض : أظهروا إسلامكم أول النهار واكفروا آخره ، لعل هذا العمل منكم يحمل بعض المسلمين على أن يتركوا دينهم الإسلام ، ويعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ولم يكتفوا بهذا القول بل قالوا أيضا على سبيل المكر والخديعة ، ولا تقروا ولا تعترفوا بأن أحداً من المسلمين أو من غيرهم يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة والفضائل ، أو بأن أحدا فى قدرته أن يحاججكم أى يبادلكم الحجة عند ربكم يوم القيامة ، ولا تقروا ولا تعترفوا بشيء من ذلك " إلا لن تبع دينكم " أى إلا لمن كان على ملتكم اليهودية دون غيرها .
فالمستثنى منه على هذا التفسير محذوف ، والتقدير : ولا تؤمنوا أى تقروا وتعترفوا لأحد من الناس بأن أحداً يؤتى مثل ما أوتيتم أو بأن أحداً يحاججكم عند ربكم إلا لمن تبع دينكم ، لأن إقراركم بذلك أمام المسلمين أو غيرهم ممن هو على غير ملتكم سيؤدى إلى ضعفكم وإلى قوة المسلمين .
فهم على هذا التفسير يعلمون ويعتقدون بأن المؤمنين قد أوتوا مثلهم من الدين والفضائل عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم الذى أرسله الله رحمة للعالمين ، ولكنهم لشدة حسدهم وبغضهم للنبى صلى الله عليه وسلم ولأتباعه ، قد تواصوا فيما بينهم بأن يكتموا هذا العلم وتلك المعرفة ، ولا يظهروا ذلك إلا فيما بينهم ، وصدق الله إذ يقول فى شأنهم { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وقد صدر صاحب الكشاف تفسيره لللآية بهذا الوجه فقال : " قوله { وَلاَ تؤمنوا } بمعنى ولا تصدقوا أو ولا تعتقدوا ، فتكون اللام فى قوله { لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } زائدة للتقوية .
فيصير المعنى على هذا الوجه : أن بعض اليهود قد قالوا لبعض : أظهروا الإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل عملكم هذا يجعل بعض المسلمين يترك دينه ويعود إلى الكفر الذى كان عليه ، ولا تصدقوا أن أحدا من البشر يؤتى مثل ما أتيتم يا بنى إسرائيل من الكتاب والنبوة ، أو أن أحدا في قدرته أن يحاججكم عند ربكم فأنتم الأعلون فى الدنيا والآخرة وأنتم الذين لا تخرج النبوة من بينكم إلى العرب ، وما دام الأمر كذلك فلا تتبعوا إلا نبياً منكم يقرر شرائع التوراة ، أما من جاء بتغيير شىء من أحكامها أو كان من غير بنى إسرائيل كمحمد صلى الله عليه وسلم فلا تصدقوه .
فالمستثنى منه على هذا الوجه هو قوله " أحد " المذكور في الآية ، والمستثنى هو قوله { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } .
والتقدير : ولا تصدقوا أن أحدا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم أو يمكنه أن يحاججكم عند ربكم { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } أى إلا من كان على ملتكم اليهودية ، أما أن يكون من غيركم كهذا النبى العربى فلا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة ، لأنهما - فى زعمهم - حكر على بني إسرائيل .
فهم على هذا الوجه من التفسير يزعمون أنهم غير مصدقين ولا معتقدين بأن المسلمين قد أوتوا كتاباً وديناً وفضائل مثل ما أوتوا هم أى اليهود ، ويرون أنفسهم - لغرورهم وانطماس بصيرتهم - أنهم أهدى سبيلا من كل من سواهم من البشر .
وعلى كل من الوجهين يكون قوله - تعالى - { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } حكاية من الله - تعالى - لما تواصى به بعض اليهود فيما بينهم من أقوال خبيثة ، وأفكار ماكرة .
ويكون قوله - تعالى - { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } كلاما معترضا بين أقوالهم ساقه الله - تعالى - للمسارعة بالرد على أقوالهم الذميمة حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ويزدادوا هم رجسا إلى رجسهم ، وينكشف ما أضمروه وما بيتوه للمؤمنين من سوء وحقد .
أى قل لهم يا محمد إن هداية الله - تعالى - ملك له وحده ، وهو الذى يهبها لمن يشاء من عباده ، فهى ليست حكراً على أحد ، ولا أمرا مقصورا على قوم دون قوم ، وإذا كانت النبوة قد ظلت فترة من الزمان فى بنى إسرائيل ، فالله - تعالى - قادر على أن يسلبها منهم لأنهم لم يشكروه عليها وأن يجعلها فى محمد العربى صلى الله عليه وسلم لأنه أهل لها وهو - سبحانه - أعلم حيث يجعل رسالته .
هذا ، ويرى بعض المفسرين أن أقوال اليهود التى حكاها القرآن عنهم قد انتهت بنهاية قوله - تعالى - { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } وأما قوله - تعالى - { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } فهو من كلام الله - تعالى - وقد ساقه - سبحانه - للرد عليهم .
وعليه فيكون المعنى : أن بعض اليهود قد قال لبعض : أظهروا إسلامكم أول النهار واكفروا آخره لعل بعض المسلمين يرجع عن دينه بسبب فعلكم هذا ، ولا تعترفوا بفعلكم هذا إلا لأهل دينكم من اليهود حتى يبقى عملكم هذا سرا له أثره فى بلبلة أفكار المسلمين ورجوع بعضهم عن الإسلام .
وهنا يأمر الله - تعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم وبالكشف عن مكرهم فيقول : قل لهم يا محمد إن الهدى هدى الله ، أى إن هداية الله ملك له وحده فهو الذى يهدى من يشاء وهو الذى يضل من يشاء ، وقد هدانا - سبحانه - إلى الإسلام وارتضيناه دينا لنا ولن نرجع عنه .
وقل لهم كذلك على سبيل التوبيخ والتهكم بعقولهم : أمخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة : أو مخافة أن يحاججكم المسلمون عند ربكم يوم القيامة حيث آمنوا بالحق وأنتم كفرتم به ، أمخافة ذلك دبرتم ما دبرتم من هذه الأقوال السيئة والأفعال الخبيثة ؟ لا شك أنه لم يحملكم على ذلك المنكر السىء إلا الحسد لمحمد صلى الله عليه وسلم ولقومه وزعمكم أنكم أفضل منهم لأنكم - كما تدعون - أبناء الله وأحباؤه فدفعكم ذلك كله إلى كراهية دينه والكيد لأتباعه .
قالوا : ويؤيد هذا الوجه من التفسير للآية قراءة ابن كثير " أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . . . " بهمزتين أولاهما للاستفهما الذى قصد به التوبيخ والإنكار ، والثانية هى همزة أن المصدرية .
وقد أشار إلى هذا الوجه الفخر الرازي فقال ما ملخصه : " واعمل أن هذه الآية من المشكلات الصعبة . . ويحتمل أن يكون قوله - تعالى - { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } من كلام الله - تعالى - فقد قرا ابن كثير { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } . والمعنى أمن أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع تنكرون اتباعه ، ثم حذف الجواب للاختصار ، وهذا الحذف كثير .
يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه . وبعد كثرة إحسانه إليه : أمن قلة إحسانى إليك ؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت " .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم مرة ثانية حتى يبطل مزاعمهم ويفضحهم على رؤس الأشهاد فقال : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أى قل لهم يا محمد : إن الفضل - الذى يتناول النبوة وغيرها من نعم الله على عباده - هذا الفضل وذلك العطاء بيد الله - تعالى- وحده ، وهو - سبحانه - المتفضل به على من يشاء التفضل عليه من عباده ، وإذا كان - سبحانه - قد جعل النبوة فى بنى إسرائيل لفترة من الزمان ، فذلك بفضل منه وبرحمته ، وإذا كان قد سلبها عنهم لأنهم لم يرعوها حق رعايتها وجعلها فى هذا النبى العربى فذلك - أيضا - بفضله ورحمته ، وهو - سبحانه - أعلم حيث يجعل رسالته ، وهو - سبحانه - صاحب الاختيار المطلق في أن يؤتى فضله لمن يشاء من عباده . وهو - سبحانه - { وَاسِعٌ } الرحمة والفضل { عَلِيمٌ } بمن يستحقها وبمن لا يستحقها .
وكان أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض : تظاهروا بالإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم . وليكن هذا سرا بينكم لا تبدونه ولا تأتمنون عليه إلا أهل دينكم :
( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) . .
وفعل الإيمان حين يعدى باللام يعني الاطمئنان والثقة . أي ولا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تفضوا بأسراركم إلا لهؤلاء دون المسلمين !
وعملاء الصهيونية والصليبية اليوم كذلك . . إنهم متفاهمون فيما بينهم على أمر . . هو الإجهاز على هذه العقيدة في الفرصة السانحة التي قد لا تعود . . وقد لا يكون هذا التفاهم في معاهدة أو مؤامرة . ولكنه تفاهم العميل مع العميل على المهمة المطلوبة للأصيل ! ويأمن بعضهم لبعض فيفضي بعضهم إلى بعض . . ثم يتظاهرون - بعضهم على الأقل - بغير ما يريدون وما يبيتون . . والجو من حولهم مهيأ ، والأجهزة من حولهم معبأة . . والذين يدركون حقيقة هذا الدين في الأرض كلها مغيبون أو مشردون !
( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) . .
وهنا يوجه الله نبيه [ ص ] أن يعلن أن الهدى هو وحده هدى الله ؛ وأن من لا يفيء إليه لن يجد الهدى أبدا في أي منهج ولا في أي طريق :
( قل : إن الهدى هدى الله ) . .
ويجيء هذا التقرير ردا على مقالتهم : ( آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون )تحذيرا للمسلمين من تحقيق الهدف اللئيم . فهو الخروج من هدى الله كله . فلا هدى إلا هداه وحده . وإنما هو الضلال والكفر ما يريده بهم هؤلاء الماكرون .
يجيء هذا التقرير قبل أن ينتهي السياق من عرض مقولة أهل الكتاب كلها . . ثم يمضي يعرض بقية تآمرهم بعد هذا التقرير المعترض :
( أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو يحاجوكم عند ربكم ) . .
بهذا يعللون قولهم : ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) . . فهو الحقد والحسد والنقمة أن يؤتي الله أحدا من النبوة والكتاب ما آتى أهل الكتاب . وهو الخوف أن يكون في الاطمئنان للمسلمين وإطلاعهم على الحقيقة التي يعرفها أهل الكتاب ، ثم ينكرونها ، عن هذا الدين ، ما يتخذه المسلمون حجة عليهم عند الله ! - كأن الله سبحانه لا يأخذهم بحجة إلا حجة القول المسموع ! - وهي مشاعر لا تصدر عن تصور إيماني بالله وصفاته ؛ ولا عن معرفة بحقيقة الرسالات والنبوات ، وتكاليف الإيمان والاعتقاد !
ويوجه الله سبحانه رسوله الكريم ليعلمهم - ويعلم الجماعة المسلمة - حقيقة فضل الله حين يشاء أن يمن على أمة برسالة وبرسول :
( قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم . يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ) . .
وقد شاءت إرادته أن يجعل الرسالة والكتاب في غير أهل الكتاب ؛ بعد ما خاسوا بعهدهم مع الله ؛ ونقضوا ذمة أبيهم إبراهيم ؛ وعرفوا الحق ولبسوه بالباطل ؛ وتخلوا عن الأمانة التي ناطها الله بهم ؛ وتركوا أحكام كتابهم وشريعة دينهم ؛ وكرهوا أن يتحاكموا إلى كتاب الله بينهم . وخلت قيادة البشرية من منهج الله وكتابه ورجاله المؤمنين . . عندئذ سلم القيادة ، وناط الأمانة ، بالأمة المسلمة . فضلا منه ومنة . ( والله واسع عليم ) . .
وقوله : { وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } أي : لا تطمئنوا وتظهروا سركم وما عندكم إلا لمن اتبع دينكم ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين ، فيؤمنوا به ويحتجوا{[5172]} به عليكم ؛ قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ } أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان ، بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات ، والدلائل القاطعات ، والحجج الواضحات ، وَإنْ كتمتم{[5173]} - أيها اليهود - ما بأيديكم من صفة محمد في{[5174]} كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين .
وقوله { أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ } يقولون : لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين ، فيتعلموه منكم ، ويساووكم{[5175]} فيه ، ويمتازوا{[5176]} به عليكم لشدة الإيمان{[5177]} به ، أو يحاجوكم{[5178]} به عند الله ، أي : يتخذوه حجة عليكم مما بأيديكم ، فتقوم{[5179]} به عليكم الدلالة وتَتَركَّب الحجةُ في الدنيا والآخرة .
قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : الأمورُ كلها تحت تصريفه ، وهو المعطي المانع ، يَمُنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام ، ويضل من يشاء ويُعمي بصره وبصيرته ، ويختم على سمعه وقلبه ، ويجعل على بصره غشاوة ، وله الحجة والحكمة{[5180]} .
{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
وذكر الله تعالى عن هذه الطائفة من أهل الكتاب ، أنهم قالوا : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } ولا خلاف بين أهل التأويل أن هذا القول هو من كلام الطائفة ، واختلف الناس في قوله تعالى : { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم } ، فقال مجاهد وغيره من أهل التأويل . الكلام كله من قول الطائفة لأتباعهم ، وقوله تعالى : { قل إن الهدى هدى الله } اعتراض بين الكلامين .
قال القاضي : والكلام على هذا التأويل يحتمل معاني : أحدها : ولا تصدقوا تصديقاً صحيحاً وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم كراهة أو مخافة أو حذاراً أن يؤتى أحد من النبوة والكرامة مثل ما أوتيتم ، وحذراً أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه ، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة الحسد والكفر ، مع المعرفة بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون التقدير ، أن لا يؤتى فحذفت - لا - لدلالة الكلام ، ويحتمل الكلام أن يكون معناه ، ولا تصدقوا وتؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم وجاء بمثله وعاضداً له ، فإن ذلك لا يؤتاه غيركم ، { أو يحاجوكم عند ربكم } ، بمعنى : إلا أن يحاجوكم ، كما تقول : أنا لا أتركك أو تقتضيني حقي ، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم على اعتقاد منهم أن النبوة لا تكون إلا في بني إسرائيل ، ويحتمل الكلام أن يكون معناه : ولا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوته ، إذ قد علمتم صحتها ، إلا لليهود الذين هم منكم ، و{ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } ، صفة لحال محمد فالمعنى ، تستروا بإقراركم ، ان قد أوتي أحد مثل ما أوتيتم ، أو فإنهم يعنون _ العرب _ يحاجوكم بالإقرار عند ربكم ، قال أبو علي و{ تؤمنوا } تعدى بالباء المقدرة في قوله
{ أن يؤتى } كما تعدى أول الآية في قوله ، { بالذي أنزل } واللام في قوله ، { لمن تبع } ، لا يسهل أن تعلق ب{ تؤمنوا } ، وأنت قد أوصلته بالباء فتعلق بالفعل جارين ، كما لا يستقيم أن تعديه إلى مفعولين إذا كان لا يتعدى إلا إلى واحد ، وإنما يحمل أمر هذه اللام على المعنى ، والمعنى : لاتقروا بأن الله يؤتي أحداً مثل ما أوتيتم إلا لمن ، فهذا كما تقول : أقررت لزيد بألف فتكون اللام متعلقة بالمعنى ولا تكون زائدة على حد { إن كنتم للرؤيا تعبرون }{[3247]} ولا تتعلق على حد المفعول ، قال أبو علي : وقد تعدى «آمن » باللام في قوله { فما آمن لموسى إلا ذرية }{[3248]} وقوله { آمنتم له }{[3249]} [ الشعراء : 49 ] وقوله { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين }{[3250]} و{ أحد } إنما دخل في هذا الكلام بسبب النفي الواقع في أوله ، قوله : { ولا تؤمنوا } كما دخلت - من - في قوله { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم }{[3251]} فكما دخلت - من - في صلة أن ينزل ، لأنه مفعول النفي اللاحق لأول الكلام ، فكذلك دخل { أحد } في صلة - أن - في قوله { أن يؤتى أحد } لدخول النفي في أول الكلام .
قال القاضي : وهذا لأن أحداً الذي فيه الشياع ، لا يجيء في واجب من الكلام ، لأنه لا يفيد معنى ، وقرأ ابن كثير وحده بين السبعة «آن يؤتى » بالمد على جهة الاستفهام الذي هو تقرير ، وفسر أبو علي قراءة ابن كثير على أن الكلام كله من قول الطائفة ، إلا الاعتراض الذي هو : { قل إن الهدى هدى الله } فإنه لا يختلف أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم قال : فلا يجوز مع الاستفهام أن يحمل { أن يؤتى } على ما قبله من الفعل ، لأن الاستفهام قاطع ، فيجوز أن تكون - أن - في موضع رفع بالابتداء وخبره محذوف تقديره تصدقون به أو تعترفون ، أو تذكرونه لغيركم ، ونحو هذا مما يدل عليه الكلام ويكون { يحاجوكم } على هذا معطوفاً على { أن يؤتى } قال أبو علي : ويجوز أن يكون موضع - أن - منصوباً ، فيكون المعنى : أتشيعون أو أتذكرون { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } ؟ ويكون ذلك بمعنى قوله تعالى عنهم { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم }{[3252]} فعلى كل الوجهين معنى الآية ، توبيخ من الأحبار للأتباع على تصديقهم بأن محمداً نبي مبعوث ، ويكون قوله تعالى :
{ أو يحاجوكم } في تأويل نصب أن أي أو تريدون أن يحاجوكم . قال أبو علي : و{ أحد } على قراءة ابن كثير هو الذي يدل على الكثرة{[3253]} ، وقد منع الاستفهام القاطع من أن يشفع لدخوله النفي الذي في أول الكلام ، فلم يبق إلا أن يقدر أن أحداً الذي في قولك ، أحد وعشرون وهو يقع في الإيجاب لأنه بمعنى واحد ، وجمع ضميره في قوله { أو يحاجوكم } حملاً على المعنى ، إذ ل { أحد } المراد بمثل النبوة اتباع ، فهو في معنى الكثرة ، قال أبو علي : وهذا موضع ينبغي أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير ، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن تدل على الكثرة .
قال القاضي : إلا أن أحداً في مثل النبوة يدل عليها من حيث يقتضي الاتباع ، وقرأ الأعمش ، وشعيب بن أبي حمزة - «إن يؤتى » - بكسر الهمزة بمعنى ، لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من الكرامة وهذه القراءة يحتمل بمعنى فليحاجوكم ، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتي ، ويحتمل أن تكون بمعنى ، إلا أن يحاجوكم ، وهذا على تجويز أن تؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له ، فهذا ترتيب التفسير والقراءات على قول من قال : الكلام كله من قول الطائفة .
وقال السدي وغيره : الكلام كله من قوله { قل إن الهدى هدى الله } ، إلى آخر الآية هو مما أمر به محمد عليه السلام أن يقوله لأمته ، وحكى الزجّاج وغيره أن المعنى : قل إن الهدى هو هذا الهدى ، لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وحكي عن بعض النحويين أن المعنى : أن لا يؤتى أحداً ، وحذفت -لا- لأن في الكلام دليلاً عليها ، كما في قوله تعالى : { يبين الله لكم أن تضلوا }{[3254]} أي أن لا تضلوا ، وحكي عن أبي العباس المبرد : لا تحذف لا ، وإنما المعنى كراهة أن تضلوا ، وكذلك هنا كراهة «أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم » ، أي ممن خالف دين الإسلام ، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وتبعد من هذا القول قراءة ابن كثير بالاستفهام والمد ، وتحمل عليه قراءة الأعمش وابن أبي حمزة - إن يؤتى- ، بكسر الألف ، كأنه عليه السلام يخبر أمته أن الله لا يعطي أحداً ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمة محمد عليه السلام لكونها وسطاً ويكون قوله تعالى : { أو يحاجوكم } على هذه المعاني التي ترتبت في قول السدي ، تحتمل معنيين أحدهما «أو فليحاجوكم عند ربكم » ، يعني اليهود ، فالمعنى لم يعط أحد مثل حظكم وإلا فليحاجوكم من ادعى سوى ذلك ، والمعنى الثاني : أن يكون قوله ، { أو يحاجوكم } بمعنى التقرير والإزراء باليهود ، كأنه قال : أو هل لهم أن يحاجوكم أو يخاصموكم فيما وهبكم الله وفضلكم به ؟ وقوله : { هدى الله } على جميع ما تقدم خبر { إن }
وقال قتادة والربيع : الكلام من قوله { قل إن الهدى هدى الله } إلى آخر الآية ، هو مما أمر به محمد عليه السلام أن يقوله للطائفة التي قالت
{ لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } وتتفق مع هذا القول قراءة ابن كثير بالاستفهام والمد ، وتقدير الخبر المحذوف { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } ، حسدتم وكفرتم ، ويكون قوله { أو يحاجوكم } محمولاً على المعنى ، كأنه قال : أتحسدون أو تكفرون لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ؟
{ أو يحاجوكم } على ما أوتوه فإنه يغلبونكم بالحجة ، وأما على قراءة غير ابن كثير بغير المد ، فيحتمل [ ذلك ] {[3255]}أن يكون بمعنى التقرير بغير حرف استفهام ، وذلك هو الظاهر من لفظ{[3256]} قتادة فإنه قال : يقول لما أنزل الله كتاباً مثل كتابكم وبعث نبياً مثل نبيكم حسدتموهم على ذلك ، ويحتمل أن يكون قوله : { أن يؤتى } بدلاً من قوله { هدى الله } ويكون المعنى : قل إن الهدى هدى الله ، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن ، ويكون قوله { أو يحاجوكم } بمعنى ، أو فليحاجوكم ، فإنه يغلبونكم ، ويحتمل قوله ، { أن يؤتى } خبر - «إن » ويكون قوله
{ هدى الله } بدلاً من الهدى ، وهذا في المعنى قريب من الذي قبله ، وقال ابن جريج ، قوله تعالى : { أن يؤتى } هو من قول محمد صلى الله عليه وسلم لليهود ، وتم الكلام في قوله { أوتيتم } وقوله تعالى : { أو يحاجوكم } متصل بقول الطائفة { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } ، وهذا القول يفسر معانيه ما تقدم في قول غيره من التقسيم والله المستعان .
وقرا ابن مسعود : «أن يحاجوكم » بدل { أو } ، وهذه القراءة تلتئم مع بعض المعاني التي تقدمت ولا تلتئم مع بعضها ، وقوله { عند ربكم } يجيء في بعض المعاني على معنى عند ربكم في الآخرة ، ويجيء في بعضها على معنى عند كتب ربكم ، والعلم الذي جعل في العباد ، فأضاف ذلك إلى الرب تشريفاً ، وكأن المعنى أو يحاجوكم عند الحق ، وقرأ الحسن «إن يؤتى » أحد بكسر الهمزة والتاء ، على إسناد الفعل إلى { أحد } ، والمعنى : أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه ، وأظهر ما في القراءة أن يكون خطاباً من محمد عليه السلام لأمته ، والمفعول محذوف تقديره إن يؤتي أحد أحداً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قال السفلة اليهود: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم}؛ فإنه لن يؤتى أحد من الناس مثل ما أوتيتم من الفضل والتوراة والمن والسلوى والغمام والحجر، اثبتوا على دينكم، وقالوا لهم: لا تخبروهم بأمر محمد صلى الله عليه وسلم فيحاجوكم، يعني فيخاصموكم عند ربكم، قالوا ذلك حسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن تكون النبوة في غيرهم، فأنزل الله عز وجل: {قل إن الهدى هدى الله أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل} يا محمد: {إن الفضل}: يعني الإسلام والنبوة {بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع} لذلك {عليم} بمن يؤتيه الفضل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم فكان يهوديا. وهذا خبر من الله عن قول الطائفة الذين قالوا لإخوانهم من اليهود: {آمِنُوا بِالّذِي أُنْزِلَ على الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهَارِ}.
{قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّهِ أنْ يُؤْتَى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أوْ يُحاجّوكُمْ عِنْدَ رَبّكُمْ}
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: قوله: {قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّهِ} اعترض به في وسط الكلام خبرا من الله عن أن البيان بيانه والهدى هداه. قالوا: وسائر الكلام بعد ذلك متصل بالكلام الأوّل خبرا عن قيل اليهود بعضها لبعض. فمعنى الكلام عندهم: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو أن يحاجوكم عند ربكم: أي ولا تؤمنوا أن يحاجكم أحد عند ربكم. ثم قال الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وإن الهدى هدى الله وقال آخرون: تأويل ذلك: قل يا محمد إن الهدى هدى الله، إن البيان بيان الله أن يؤتى أحد، قالوا: ومعناه: لا يؤتى أحد من الأمم مثل ما أوتيتم، كما قال: {يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا} بمعنى لا تضلون، وكقوله: {كذلك سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني: أن لا يؤمنوا. {مِثْلَ ما أوتِيتُمْ}: مثل ما أوتيت أنت يا محمد وأمتك من الإسلام والهدى. "أو يحاجوكم عند ربكم". قالوا: ومعنى «أو» إلا: أي إلا أن يحاجوكم، يعني إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فعل بهم ربكم. عن السديّ: قال الله عزّ وجلّ لمحمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّهِ أنْ يُؤْتَى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ} يقول: مثل ما أوتيتم يا أمة محمد، أو يحاجوكم عند ربكم، تقول اليهود: فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة، حتى أنزل علينا المنّ والسلوى، فإن الذي أعطيتكم أفضل، فقولوا: {إنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ...} الآية.
فعلى هذا التأويل جميع هذا الكلام أَمْر من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود، وهو متلاصق بعضه ببعض لا اعتراض فيه، والهدى الثاني ردّ على الهدى الأوّل الهدى.
وقال آخرون: بل هذا أمر من الله لنبيه أن يقوله لليهود، وقالوا: تأويله: قل يا محمد إن الهدى هدى الله، أن يؤتى أحد من الناس مثل ما أوتيتم، يقول: مثل الذي أوتيتموه أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله، ومثل نبيكم، فلا تحسدوا المؤمنين على ما أعطيتهم، مثل الذي أعطيتكم من فضلي، فإن الفضل بيدي أوتيه من أشاء. وقال آخرون: بل تأويل ذلك: قل يا محمد إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله. قالوا: وهذا آخر القول الذي أمر الله به نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لليهود من هذه الآية، قالوا: وقوله: {أوْ يُحاجّوكُمْ} مردود على قوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}. وتأويل الكلام على قول أهل هذه المقالة: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فتتركوا الحقّ أن يحاجوكم به عند ربكم من اتبعتم دينه، فاخترتموه أنه محقّ، وأنكم تجدون نعته في كتابكم. فيكون حينئذ قوله: {أوْ يُحاجّوكُمْ} مردودا على جواب نهي متروك على قول هؤلاء... فيكون تأويله حينئذ: ولا تؤمنوا إلا لمن اتبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، بمعنى: لا يؤتى أحد بمثل ما أوتيتم، {أو يُحاجّوكُمْ عِنْدَ رَبّكُمْ} بمعنى: أو أن يحاجكم عند ربكم أحد بإيمانكم، لأنكم أكرم على الله منهم بما فضلكم به عليهم. فيكون الكلام كله خبرا عن قول الطائفة التي قال الله عزّ وجلّ {وَقَالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بالّذِي أُنْزِلَ على الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ} سوى قوله: {قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّهِ} ثم يكون الكلام مبتدأ بتكذيبهم في قولهم: قل يا محمد للقائلين ما قالوا من الطائفة التي وصفت لك قولها لتبّاعها من اليهود {إنّ الهُدَى هُدَى الله} إن التوفيق توفيق الله، والبيان بيانه، وإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود. وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها، لأنه أصحها معنى، وأحسنها استقامة على معنى كلام العرب، وأشدّها اتساقا على نظم الكلام وسياقه، وما عدا ذلك من القول، فانتزاع يبعد من الصحة على استكراه شديد الكلام.
{قُلْ إنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين وصفت قولهم لأوليائهم: إن الفضل بيد الله، إن التوفيق للإيمان، والهداية للإسلام بيد الله، وإليه دونكم ودون سائر خلقه، {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} من خلقه، يعني: يعطيه من أراد من عباده تكذيبا من الله عزّ وجلّ لهم في قولهم لتبّاعهم: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. فقال الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: ليس ذلك إليكم، إنما هو إلى الله الذي بيده الأشياء كلها، وإليه الفضل، وبيده يعطيه من يشاء. {وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: والله ذو سعة بفضله على من يشاء أن يتفضل عليه، "عليم": ذو علم بمن هو منهم للفضل أهل.
عن ابن جريج، في قوله: {قُلْ إنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مِنَ يَشاءُ} قال: الإسلام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {قل إن الهدى هدى الله أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم} اختلف فيه: قيل: هو على التقديم والتأخير... {أن يؤتى}... ويحتمل أن يكون قال: [لم يؤت] أحد من الأنبياء قبلي من الآيات مثل ما أوتيت أنا، لأن آياتهم كانت كلها حسية يفهمها كل واحد، وآيات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت حسية وعقلية لا يفهمها كل أحد إلا الخواص من الناس وخيرتهم...
{ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} فيحاجوكم {به عند ربكم} أنهم قد آمنوا به مرة، وأقروا له، وهو كقوله: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم} [البقرة: 76]، إنهم كانوا يظهرون لهم الإسلام والإيمان، ثم إذا {خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون} [البقرة: 14]...
ويحتمل: لا تؤمنوا بما جاء به إلا لأجل من تبع دينكم، فيكون عندهم قدرة، يثقون عندهم بالذي فعلتم: أنكم أهل الحق، فيتبعكم كيف ما تصرون إليه، ويحتمل: لا تؤمنوا؛ لا تصدقوا في ما يخبركم عن أوائلكم {إلا من تبع دينكم} على المنع عن تصديق الرسول في ما يخبرهم من التحريف والتبديل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يحتمل أن يكون هذا ابتداء أمر من الله سبحانه للمسلمين، والإشارة فيه ألا تعاشروا الأضداد، ولا تفشوا أسراركم للأجانب. {قُلْ إِنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ}. فهو الذي يختص من يشاء بأنوار التعريف، ويختص من يشاء بالخذلان والحرمان...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم. أرادوا: أسرّوا تصديقكم بأنّ المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ} عطف على أن يؤتى والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، أنّ المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة...
أو يتمَّ الكلام عند قوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} على معنى: ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم: إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم. وقوله: {أَن يؤتى} معناه لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه، لا لشيء آخر، يعني أن ما بكم من الحسد والبغي. أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم،... ويجوز أن يكون {هُدَى الله} بدلاً من الهدى، و {أَن يؤتى أَحَدٌ} خبر إن، على معنى: قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربكم فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقرأ ابن كثير وحده بين السبعة «آن يؤتى» بالمد على جهة الاستفهام الذي هو تقرير، وفسر أبو علي قراءة ابن كثير على أن الكلام كله من قول الطائفة، إلا الاعتراض الذي هو: {قل إن الهدى هدى الله} فإنه لا يختلف أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم قال: فلا يجوز مع الاستفهام أن يحمل {أن يؤتى} على ما قبله من الفعل، لأن الاستفهام قاطع، فيجوز أن تكون -أن- في موضع رفع بالابتداء وخبره محذوف تقديره تصدقون به أو تعترفون، أو تذكرونه لغيركم، ونحو هذا مما يدل عليه الكلام ويكون {يحاجوكم} على هذا معطوفاً على {أن يؤتى}... فعلى كل الوجهين معنى الآية، توبيخ من الأحبار للأتباع على تصديقهم بأن محمداً نبي مبعوث،... وقوله {عند ربكم} يجيء في بعض المعاني على معنى عند ربكم في الآخرة، ويجيء في بعضها على معنى عند كتب ربكم، والعلم الذي جعل في العباد، فأضاف ذلك إلى الرب تشريفاً، وكأن المعنى أو يحاجوكم عند الحق...
وفيه وجهان الأول: المعنى: ولا تصدقوا إلا نبيا يقرر شرائع التوراة، فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه، وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم،... {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} أي لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم، كأنهم قالوا: ليس الغرض من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم، فالمعنى ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم، فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته...
واعلم أنه لا بد من بيان أنه كيف صار هذا الكلام جوابا عما حكاه عنهم؟ فنقول: أما على الوجه الأول وهو قولهم لا دين إلا ما هم عليه، فهذا الكلام إنما صلح جوابا عنه من حيث أن الذي هم عليه إنما ثبت دينا من جهة الله، لأنه تعالى أمر به وأرشد إليه وأوجب الانقياد له وإذا كان كذلك، فمتى أمر بعد ذلك بغيره، وأرشد إلى غيره، وأوجب الانقياد إلى غيره كان نبيا يجب أن يتبع، وإن كان مخالفا لما تقدم، لأن الدين إنما صار دينا بحكمه وهدايته، فحيثما كان حكمه وجبت متابعته، ونظيره قوله تعالى جوابا لهم عن قولهم {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب} [البقرة: 142] يعني الجهات كلها لله، فله أن يحول القبلة إلى أي جهة شاء، وأما على الوجه الثاني فالمعنى أن الهدى هدى الله، وقد جئتكم به فلن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف...
الوجه الثاني: أن أولئك لما قالوا لأتباعهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم إن الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتي أحد سواكم من الهدى (مثل ما أوتيتم) {أو يحاجوكم} يعني هؤلاء المسلمين بذلك {عند ربكم} إن لم تقبلوا ذلك منهم، أقصى ما في الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار قوله فلا تنكروا لأن عليه دليلا وهو قوله {إن الهدى هدى الله} فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار...
واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين أحدهما: أن يؤمنوا وجه النهار، ويكفروا آخره، ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام. فأجاب عنه بقوله {قل إن الهدى هدى الله} والمعنى: أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر والثاني: أنه حكى عنهم أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة. فأجاب عنه بقوله {قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء}...
والمراد بالفضل الرسالة، وهو في اللغة عبارة عن الزيادة، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان، والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير، ثم كثر استعمال الفضل لكل نفع قصد به فاعله الإحسان إلى الغير وقوله {بيد الله} أي إنه مالك له قادر عليه، وقوله {يؤتيه من يشاء} أي هو تفضل موقوف على مشيئته، وهذا يدل على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق، لأنه تعالى جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله،...
وقوله {والله واسع عليم} مؤكد لهذا المعنى، لأن كونه واسعا، يدل على كمال القدرة، وكونه عليما على كمال العلم، فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء، ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} هذا من قول الكائدين من أهل الكتاب. وآمن له: صدقه وسلم له ما يقول قال تعالى: {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26]، وقال حكاية عن إخوة يوسف: {وما أنت بمؤمن لنا} [يوسف: 17] وقال الأستاذ الإمام: إن الإيمان يتعدى باللام إذا أريد بالتصديق الثقة والركون كقوله: {ويؤمن للمؤمنين} أي فيكون تصديقا خاصا تضمن معنى زائدا. وذلك أن اليهود حصروا الثقة بأنفسهم لزعمهم أن النبوة لا تكون إلا فيهم بل غلوا في التعصب والغرور حتى حقروا جميع الناس فجعلوا كل ما يكون من أنفسهم حسنا وما يكون من غيرهم قبيحا. وهذا من الانتكاس الذي يحول بين أهله وبين كل خير.
وإننا نرى من الناس من يحاول تغرير قومه بحملهم على أن يكونوا كذلك يحقرون كل ما لم يأت منهم وإن كان حسنا. فنعوذ بالله من الخذلان وعسى أن يعتبر هؤلاء بما رد الله به على أهل الكتاب إذ قال لنبيه: {قل إن الهدى هدى الله} لا هدى شعب معين هو لازم من لوازم ذاته، فهو سبحانه يبين هداه على لسان من شاء من عباده لا تتقيد مشيئته بأحد ولا بشعب.
قال النيسابوري فإن قيل: إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم عنه، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضا بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب؟
فالجواب ليس المراد من هذا النهي الأمر بإفشاء هذا التصديق فيما بين أتباعهم بل المراد أنه إن اتفق منكم تكلم بهذا فلا يكن إلا عند خويصتكم وأصحاب أسراركم. على أنه يحتمل أن يكون شائعا ولكن البغي والحسد كان يحملهم على الكتمان عن غيرهم. هذا ما قاله وهو مبني على أن المراد من الإيمان إظهاره، والظاهر أن المراد به النهي عن تصديق من يقول ذلك من غيرهم، أي الاعتراف له بأنه صادق، كأنهم قالوا: إذا قال لكم قائل إنه يجوز أن يؤتى غيركم من النبوة ما أوتيتم فكذبوه ولا تؤمنوا له. والمفهوم مسكوت عنه وهو مفهوم مخالفة، فيه من الخلاف في الأصول ما هو مشهور وإذا قلنا به فإنه يصدق بأن يؤمنوا لبعض أهل دينهم إذا قالوا بهذا الجواز كالمتفقين معهم على المكابرة والمكايدة للتنفير عن الإسلام. وأهل الجحود والكيد لا يكابد بعضهم بعضا فيما هو حجة للمخالف عليهم جميعا وإنما يكابرون المخالفين.
ثم قال النيسابوري: فإن قيل كيف وقع قوله "قل إن الهدى هدى الله "بين جزئي كلام واحد وهذا لا يليق بكلام الفصحاء؟ قلت قال القفال: يحتمل أن يكون هذا كلاما أمر الله نبيا أن يقوله عندما وصل الكلام إلى هذا الحد كأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولا باطلا لا جرم أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقابله بقول حق ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولا فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة: آمنت بالله، أو لا إله إلا الله، أو تعالى الله، ثم يعود إلى تلك الحكاية. اهـ.
أقول: ويجوز على هذا الوجه أن تكون الباء المحذوفة من "أن يؤتى" للسببية ويكون المعنى آمنوا وجه النهار مخادعة واكفروا آخره مكايدة ولا تؤمنوا إيمانا حقيقا ثابتا إلا لمن تبع دينكم وأقركم على ما أنت عليه من التوراة بسبب إتيان أحد كمحمد صلى الله عليه وسلم مثل ما أوتيتم من النبوة والوحي أو بسبب ما يخشى من محاجته لكم عند ربكم في الآخرة. والسببية معلقة بالنهي، أي لا يكون إتيان محمد بدين حق وشرع إلهي كالذي أوتيتموه على لسان موسى سببا في الإيمان له.
وأما قراءة ابن كثير بالاستفهام: فأقرب ما تفسر به على هذا الوجه أي وجه كون الكلام حكاية عن اليهود أن يقال: إن المصدر الذي يؤخذ من "أن يؤتى" مبتدأ خبر محذوف للعلم به من قرينة الحال والخطاب. والمعنى أإتيان أحد بمثل ما أوتيتم يحملكم على الإيمان له وإن لم يتبع دينكم؟ أي إن هذا منكر لا ينبغي أن يكون. ولم أر هذا ولا ما قبله لأحد.
الوجه الثاني: أن يكون قوله "أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" من كلام الله تعالى بناء على أن حكاية كلام اليهود قد انتهت بقوله "دينك" وعلى هذا تكون قراءة ابن كثير أظهر. وتقرير المعنى عليها: أتكيدون هذا الكيد كراهة أن يؤتى أحد ما أوتيتم؟ أو: أإيتاء أحد مثل ما أوتيتم يحملكم على ذلك الباطل؟ ويحتمل على هذا أن يكون قوله "أو يحاجوكم" بمعنى حتى يحاجوكم إذ وردت "أو" بمعنى "حتى" أو بمعنى الواو كما قيل. أو التقدير الأجل أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل بذلك محاجتكم عند ربكم كدتم ذلك الكيد؟ ينكر عليهم ذلك.
وأما قراءة الجمهور فيجوز أن تحمل على هذه القراءة لأن أداة الاستفهام يجوز حذفها استغناء عنها بلحن القول وكيفية الأداء. ويجوز فيها وجوه أخرى أظهرها أن يكون المعنى: قل إن الهدى الذي هو هدى الله هو أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ويحاجوكم به عند ربكم في الآخرة، أي وذلك جائز داخل في مشيئة الله فلا وجه لإنكاره ولذلك أعقبه بقوله {قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء} فالكلام كله رد عليهم من الله تعالى. وأقوى هذه الوجوه ما يوافق القراءتين وهو ان قوله تعالى "قل إن الهدى" إلى آخر الآية رد عليهم وإن قوله "أن يؤتى" استفهام إنكاري على القراءتين. والمعنى: أتفعلون ما تفعلون من الكيد للمؤمنين ومن كتمان الحق عن غير أبناء دينكم كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلخ.
وعندي أن في الكلام لفا ونشرا مرتبا، وهو أن كراهتهم أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا هو سبب كيدهم للمؤمنين ليرجعوا، وكراهتهم أن يحاجهم بعض المؤمنين عند ربهم هو سبب كتمانهم ذلك عمن لم يتبع دينهم أو عدم الإيمان لهم إذا هم ادعوه. ويشهد لهذا الأخير قوله تعالى حكاية عنهم: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم} [البقرة: 76] هذا ما فتح الله علي به وله الحمد. وما عدا هذا مما أكثروا فيه فانتزاع بعيد من البلاغة لا يقبله الذوق إلا باستكراه وتكلف.
وختم الآية بقوله: {والله واسع عليم} لبيان سعة فضله وإحاطة علمه بالمستحق له وللإشعار بأن اليهود قد ضيقوا بزعمهم حصر النبوة فيهم هذا الفضل الواسع وجهلوا كنه هذا العلم المحيط.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو الخوف أن يكون في الاطمئنان للمسلمين وإطلاعهم على الحقيقة التي يعرفها أهل الكتاب، ثم ينكرونها، عن هذا الدين، ما يتخذه المسلمون حجة عليهم عند الله! -كأن الله سبحانه لا يأخذهم بحجة إلا حجة القول المسموع!- وهي مشاعر لا تصدر عن تصور إيماني بالله وصفاته؛ ولا عن معرفة بحقيقة الرسالات والنبوات، وتكاليف الإيمان والاعتقاد!...
وقد شاءت إرادته أن يجعل الرسالة والكتاب في غير أهل الكتاب؛ بعد ما خاسوا بعهدهم مع الله؛ ونقضوا ذمة أبيهم إبراهيم؛ وعرفوا الحق ولبسوه بالباطل؛ وتخلوا عن الأمانة التي ناطها الله بهم؛ وتركوا أحكام كتابهم وشريعة دينهم؛ وكرهوا أن يتحاكموا إلى كتاب الله بينهم. وخلت قيادة البشرية من منهج الله وكتابه ورجاله المؤمنين.. عندئذ سلم القيادة، وناط الأمانة، بالأمة المسلمة. فضلا منه ومنة. (والله واسع عليم)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فجمعُهم بين مقالة: {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا} وبين مقالة: {ولا تؤمنوا} مثل {وما رميت إذ رميت} [الأنفال: 17]...
{قل إن الهدى هدى الله} كلام معترض، أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوله لهم. كنايةً عن استبعاد حصول اهتدائهم، وأنّ الله لم يهدهم، لأنّ هدى غيره أي محاولته هدى الناس لا يحصل منه المطلوب، إذا لم يقدّره الله. فالقصر حقيقي: لأنّ ما لم يقدّره الله فهو صورة الهدى وليس بهُدى وهو مقابل قولهم: آمنوا بالذي أنزل ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم، إذْ أرادوا صورة الإيمان، وما هو بإيمان، وفي هذا الجواب إظهار الاستغناء عن متابعتهم...
وفائدة الاعتراض في أثناء كلامهم المبادرة بما يفيد ضلالهم لأنّ الله حرمهم التوفيق...
وكلمة {أحد} اسم نكرة غلب استعمالها في سياق النفي ومعناها شخص أو إنسان وهو معدود من الأسماء التي لا تقع إلاّ في حيّز النفي فيفيد العموم مثل عَرِيب ودَيَّار ونحوهما وندر وقوعه في حيّز الإيجاب، وهمزته مبدلة من الواو وأصلَه وَحَد بمعنى واحد ويرد وصفاً بمعنى واحد...
وتأكيد الكلام ب (إنّ) لتنزيلهم منزلة من ينكر أنّ الفضل بيد الله ومن يحسب أنّ الفضل تبع لشهواتهم وجملة... و {واسع} اسم فاعل الموصوف بالسعة. وحقيقة السعة امتداد فضاء الحَيِّز من مكانٍ أو ظرفٍ امتداداً يكفي لإيواء ما يحويه ذلك الحيز بدون تزاحم ولا تداخل بين أجزاء المحويّ، يقال أرض واسعة وإناء واسع وثوب واسع، ويطلق الاتساع وما يشتقّ منه على وفاء شيء بالعمل الذي يعملَه نوعُه دون مشقة يقال: فلان واسع البال، وواسع الصدر، وواسع العطاء. وواسعِ الخُلُق، فتدلّ على شدّةِ أو كثرةِ ما يسند إليه أو يوصف به أو يعلق به من أشياء ومعانٍ، وشاع ذلك حتى صار معنى ثانياً. و {وَاسع} من صفات الله وأسمائِه الحسنى وهو بالمعنى المجازي لا محالة لاستحالة المعنى الحقيقي في شأنه تعالى، ومعنى هذا الاسم عدمُ تناهي التعلقات لصفاته ذاتِ التعلق فهو واسع العلم، واسع الرحمة، واسع العطاء، فسعة صفاته تعالى أنها لا حدّ لتعلقاتها، فهو أحقّ الموجودات بوصف واسع، لأنه الواسع المطلق. وإسناد وصف واسع إلى اسمه تعالى إسناد مجازي أيضاً لأنّ الواسع صفاتُه ولذلك يُؤتَى بعد هذا الوصف أو ما في معناه من فعل السعة بما يميز جهة السعة من تمييز نحو: وَسِع كل شيء علماً، ربنا وسعت كلّ شيء رحمةً وعلماً. فوصفه في هذه الآية بأنه واسع هو سعة الفضل لأنه وقع تذييلاً لقوله: ذلكَ فضل الله يؤتيه من يشاء. وأحسب أنّ وصف الله بصفة واسع في العربية من مبتكرات القرآن...
لقد أخذهم الخوف؛ لأن الناس إن أخذوا بدين محمد صلى الله عليه وسلم لأوتوا مثلما أوتي أهل الكتاب من معرفة بالمنهج، بل إن المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو المنهج الخاتم، وأهل المكر من أهل الكتاب إنما أرادوا أن يحرموا الناس من الإيمان، أو أنهم خافوا أن يدخل المسلمون معهم في المحاجة في أمر الإيمان، وكان كل ذلك من قلة الفطنة التي تصل إلى حد الغباء. لماذا؟ لأنهم توهموا أن الله لا يعرف باطن ما كتموا وظاهر ما فعلوا، إنهم تناسوا أن الحق يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور،... والله واسع بمعنى أنه قادر على إعطاء الفضل لكل الخلق، ولن ينقص ذلك من فضله شيئا، والحق سبحانه عليم بمن يستحق هذا الفضل لأن قلبه مشغول بربه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[ولا تؤمنوا إلاَّ لِمَن تَبِعَ دينكُم] أي: لا تطمئنوا إلاَّ لليهود في الحديث عن قضاياكم الخاصّة وأسراركم الخفية، لأنَّ الوثوق بالآخرين قد يفضح الكثير من الأوضاع الداخلية الذاتية أو الخطط الخفية التي يدبّرها اليهود للمسلمين، ما يؤدّي إلى انكشاف السرّ، وإحباط الخطط، وسقوط الموقف...
وهذه من خِصال اليهود في سائر العصور من خلال ما يمثِّلونه من المجتمع المنغلق على قضاياه الذي وضع بينه وبين الآخرين حاجزاً نفسياً ومادّياً من موقع الشعور بالرفعة على من عداه، ومن موقع الإخلاص لسلامة القضايا التي يعملون من أجلها ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآية التي تقع بين كلام اليهود، يردّ الله عليهم ردّاً قصيراً ولكنه عميق المعنى. فأوّلاً: الهداية مصدرها الله، ولا تختصّ بعنصر أو قوم بذاته، فلا ضرورة في أن يجيء النبيّ من اليهود فقط. وثانياً: إنّ الذين شملهم الله بهدايته الواسعة لا تزعزعهم هذه المؤامرات ولا تؤثّر فيهم هذه الخطط...