قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب } ، يعني : ولكم أيضاً عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم ، من ثمرات النخيل والأعناب . { تتخذون منه } ، والكناية في { منه } ، عائدة إلى " ما " محذوفة ، أي : ما تتخذون منه ، { سكراً ورزقاً حسناً } . قال قوم : " السكر " : الخمر ، و " الرزق الحسن " : الخل ، والزبيب ، والتمر والرب . قالوا : وهذا قبل تحريم الخمر . وإلى هذا ذهب ابن مسعود ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن ومجاهد . وقال الشعبي : " السكر " : ما شربت و " الرزق الحسن " : ما أكلت . وروى العوفي عن ابن عباس : أن " السكر " ، هو : الخل ، لغة الحبشة . وقال بعضهم : " السكر " : النبيذ المسكر ، وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد ، والمطبوخ من العصير ، وهو قول الضحاك والنخعي . ومن يبيح شرب النبيذ ومن حرمه يقول : المراد من الآية : الإخبار لا الإحلال . وأولى الأقاويل أن قوله : { تتخذون منه سكراً } ، منسوخ ، روي عن ابن عباس ، قال " السكر " ، ما حرم من ثمرها ، و " الرزق الحسن " : ما أحل . وقال أبو عبيدة : " السكر " : الطعم ، يقال هذا سكر لك ، أي : طعم . { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } .
وجعل تعالى لعباده من ثمرات النخيل والأعناب منافع للعباد ، ومصالح من أنواع الرزق الحسن الذي يأكله العباد طريًّا ونضيجا وحاضرا ومدخرا وطعاما ، وشرابا يتخذ من عصيرها ونبيذها ، ومن السكر الذي كان حلالا قبل ذلك ، ثم إن الله نسخ حلَّ المسكرات ، وأعاض عنها بالطيبات من الأنبذة ، وأنواع الأشربة اللذيذة المباحة .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، عن الله كمال اقتداره ، حيث أخرجها من أشجار شبيهة بالحطب ، فصارت ثمرة لذيذة وفاكهة طيبة ، وعلى شمول رحمته حيث عم{[462]} بها عباده ويسرها لهم ، وأنه الإله المعبود وحده ، حيث إنه المنفرد بذلك .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة أخرى من نعم الله التي لا تحصى ، وهي نعمة ثمرات النخيل والأعناب ، فقال - تعالى - : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً . . . } .
قال الجمل ما ملخصه : قوله - سبحانه - : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب . . } خبر مقدم ، ومن تبعيضية ، والمبتدأ محذوف تقديره ثمر ، وقوله : { تتخذون } ، نعت لهذا المبتدأ المحذوف ، أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا .
ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف ، والتقدير : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أي : من عصيرهما ، وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه ، وقوله { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } ، بيان وكشف عن كيفية الإِسقاء .
والضمير في قوله : { منه } يعود على المضاف المحذوف الذي هو العصير ، أو على المبتدأ المحذوف وهو الثمر .
والسكر - بفتح السين والكاف - اسم من أسماء الخمر ، يقال : سكر فلان - بوزن فرح - يسكر سكرا ، إذا غاب عقله وإدراكه ، فهو سكران ، وسكر - بفتح السين وكسر الكاف - .
وأما الرزق الحسن ، فالمراد به ما كان حلالا من ثمرات النخيل والأعناب ، كالتمر والزبيب وغير ذلك مما أحله الله - تعالى - من ثمارها .
وعلى هذا المعنى سار جمهور العلماء من السلف والخلف .
قال الألوسي ما ملخصه : والسكر : الخمر . قال الأخطل :
بئس الصُّحاة وبئس الشَّرب شَربُهم . . . إذا جرى فيهم المزَّاءُ والسَّكَر
والمزاء : نوع من الأشربة . والسكر ما يسكر وهو الخمر .
وفسروا الرزق الحسن . بالخل والتمر والزبيب وغير ذلك .
ثم قال : وتفسير " السَّكَر " بالخمر ، هو المروي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبي رزين ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي . . والنخعي . . مع خلق آخرين . . .
وعلى هذا التفسير الذي قاله جمهور العلماء يكون السكر غير الرزق الحسن ، ويكون العطف للتغاير .
ومن العلماء من فسر السكر بأنه اسم للخل ، أو للعصير غير المسكر ، أو لما لا يسكر من الأنبذة ، وقد بسط الإِمام القرطبي القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { سكرا } ، السكر : ما يسكر ، هذا هو المشهور في اللغة .
( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) .
هذه الثمرات المنبثقة عن الحياة التي بثها الماء النازل من السماء . تتخذون منه سكرا [ والسكر الخمر ولم تكن حرمت بعد ] ورزقا حسنا . والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر وأن الخمر ليست رزقا حسنا ، وفي هذا توطئة لما جاء بعد من تحريمها ، وإنما كان يصف الواقع في ذلك الوقت من اتخاذهم الخمر من ثمرات النخيل والأعناب ، وليس فيه نص بحلها ، بل فيه توطئة لتحريمها ( إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) . . فيدركون أن من يصنع هذا الرزق هو الذي يستحق العبودية له وهو الله . .
ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا{[16527]} ، ثَنَّى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة ، من ثمرات النخيل والأعناب ، وما كانوا يصنعون ، من النبيذ المسكر قبل تحريمه ؛ ولهذا امتن به عليهم ، فقال : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } ، دل على إباحته شرعا قبل تحريمه ، ودل على التسوية بين السَّكَر المتخذ من العنب ، والمتخذ من النخل ، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء ، وكذا حُكْم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل ، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك ، وليس هذا موضع بسط ذلك ، كما قال{[16528]} ابن عباس في قوله : { سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } ، قال : السَّكَر : ما حرم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن : ما أحل من ثمرتيهما . وفي رواية : السَّكر : حرامه ، والرزق الحسن : حلاله . يعني : ما يبس منهما من تمر وزبيب ، وما عمل منهما من طلاء - وهو الدِّبس{[16529]} - وخل ونبيذ ، حلال يشرب قبل أن يشتد ، كما وردت السنة بذلك .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، ناسب ذكر العقل هاهنا ، فإنه أشرف ما في الإنسان ؛ ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة ، صيانة لعقولها ؛ قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } [ يس : 34 - 36 ] .
{ ومن ثمرات النخيل والأعناب } ، متعلق بمحذوف ، أي : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أي : من عصيرهما ، وقوله : { تتخذون منه سكراً } ، استئناف لبيان الإسقاء أو ب { تتخذون } ، ومنه تكرير للظرف تأكيدا ، أو خبر لمحذوف ، صفته { تتخذون } ، أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه ، وتذكير الضمير على الوجهين الأولين ؛ لأنه للمضاف المحذوف ، الذي هو : العصير ، أو لأن ال { ثمرات } ، بمعنى : الثمر ، وال { سكر } ، مصدر ، سمي به الخمر . { ورزقا حسنا } ، كالتمر ، والزبيب ، والدبس ، والخل . والآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر ، فدالة على كراهتها ، وإلا فجامعة بين العتاب والمنة . وقيل ال { سكر } ، النبيذ . وقيل : الطعم . قال :
جعلتُ أعراض الكرام سُكرا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : تنقلت بأعراضهم . وقيل ما يسد الجوع من السكر ، فيكون الرزق ما يحصل من أثمانه .
قال الطبري : التقدير : { ومن ثمرات النخيل والأعناب } ، ما { تتخذون } ، وقالت فرقة : التقدير : { ومن ثمرات النخيل والأعناب } ، شيء { تتخذون منه } ، ويجوز أن يكون قوله : { ومن ثمرات } ، عطفاً على { الأنعام } [ النحل : 66 ] ، أي : ولكم من ثمرات النخيل والأنعام عبرة ، ويجوز أن يكون عطفاً على { مما } [ النحل : 66 ] ، أي : ونسقيكم أيضاً مشروبات من ثمرات ، والسكر ما يسكر ، هذا هو المشهور في اللغة ، فقال ابن عباس : نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ، وأراد بالسكر : الخمر ، وبالرزق الحسن : جميع ما يشرب ويؤكل حلالاً من هاتين الشجرتين ، وقال بهذا القول ابن جبير ، وإبراهيم ، والشعبي ، وأبو زيد ، وقال الحسن بن أبي الحسن : ذكر الله نعمته في السكر ، قبل تحريم الخمر ، وقال الشعبي ومجاهد : السكر السائغ من هاتين الشجرتين ، كالخل والرب والنبيذ ، و «الرزق الحسن » : العنب والتمر ، قال الطبري : والسكر أيضاً في كلام العرب ، ما يطعم ، ورجح الطبري هذا القول ، ولا مدخل للخمر فيه ، ولا نسخ من الآية شيء ، وقال بعض الفرقة التي رأت السكر الخمر : إن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر ، وفي هذه المقالة درك ؛ لأن النسخ إنما يكون في حكم مستقر مشروع ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : «حُرمت الخمر بعينها ، والسَّكَر من غيرها »{[7360]} ، هكذا في الرواية الصحيحة بفتح السين والكاف ، أي : جميع ما يسكر منه حرم ، على حد تحريم الخمر قليله وكثيره ، ورواه العراقيون ، و «السُّكْر » : بضم السين وسكون الكاف ، وهذا مبني على فقههم في أن ما أسكر كثيره -من غير خمر العنب- ، فقليله حلال ، وباقي الآية بين .
عطف على جملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } [ سورة النحل : 66 ] .
ووجود { من } في صدر الكلام يدلّ على تقدير فعل يدلّ عليه الفعل الذي في الجملة قبلها وهو { نسقيكم } [ النحل : 66 ] . فالتقدير : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب . وليس متعلقاً ب { تتخذون } ، كما دلّ على ذلك وجود ( من ) الثانية في قوله : { تتخذون منه سكراً } المانع من اعتبار تعلّق { من ثمرات النخيل } ب { تتخذون } ، فإن نظم الكلام يدل على قصد المتكلم ولا يصحّ جعله متعلقاً ب { تتخذون } مقدماً عليه ، لأنه يبعد المعنى عن الامتنان بلطف الله تعالى إذ جعل نفسه الساقي للناس .
وهذا عطف منّة على منّة ، لأن { نسقيكم } وقع بياناً لجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } .
ومفاد فعل { نسقيكم } مفاد الامتنان لأن السقي مزية . وكلتا العِبرتين في السقي . والمناسبةُ أن كلتيهما ماء وأن كلتيهما يضغط باليد ، وقد أطلق العرب الحَلْب على عصير الخمر والنبيذ ، قال حسّان يذكر الخمر الممزوجة والخالصة :
كلتاهما حَلَب العصير فعاطني *** بِزُجاجة أرخاهما للمفصل
ويشير إلى كونهما عبرتين من نوع متقارب جَعْل التذييل بقوله تعالى : { إن في ذلك لآية } عقب ذكر السقيين دون أن يُذيّل سقي الألبان بكونه آية ، فالعبرة في خلق تلك الثمار صالحة للعصر والاختمار ، ومشتملة على منافع للناس ولذّات . وقد دلّ على ذلك قوله تعالى : { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } . فهذا مرتبط بما تقدم من العبرة بخلق النبات والثمرات من قوله تعالى : { ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل } [ سورة النحل : 11 ] الآية .
وجملة { تتخذون منه سكراً } الخ في موضع الحال .
و ( من ) في الموضعين ابتدائية ، فالأولى متعلّقة بفعل { نسقيكم } المقدر ، والثانية متعلقة بفعل { تتخذون } . وليست الثانية تبعيضية ، لأن السكر ليس بعض الثمرات ، فمعنى الابتداء ينتظم كلا الحرفين .
والسكر بفتحتين : الشراب المُسْكِر .
وهذا امتنان بما فيه لذّتهم المرغوبة لديهم والمتفشّية فيهم ( وذلك قبل تحريم الخمر لأن هذه الآية مكّية وتحريم الخمر نزل بالمدينة ) فالامتنان حينئذٍ بمباح .
والرزق : الطعام ، ووصف ب { حسناً } لما فيه من المنافع ، وذلك التمر والعنب لأنهما حلوان لذيذان يؤكلان رطبين ويابسين قابلان للادخار ، ومن أحوال عصير العنب أن يصير خلاً ورُبّاً .
وجملة { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } تكرير لتعداد الآية لأنها آية مستقلة .
والقول في جملة { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } مثل قوله آنفاً : { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } [ سورة النحل : 65 ] . والإشارة إلى جميع ما ذكر من نعمة سقي الألبان وسقي السكر وطعم الثمر .
واختير وصف العقل هنا لأن دلالة تكوين ألبان الأنعام على حكمة الله تعالى يحتاج إلى تدبّر فيما وصفته الآية هنا ، وليس هو ببديهي كدلالة المطر كما تقدم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سبحانه: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا}، يعني بالثمرات؛ لأنها جماعة ثمر، يعني بالسكر: ما حرم من الشراب، مما يسكرون من ثمره، يعني: النخيل والأعناب،
ثم قال سبحانه: {إن في ذلك لآية لقوم يعقلون}، يعني: فيما ذكر من اللبن والثمار، لعبرة لقوم يعقلون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولكم أيضا أيها الناسُ عِبرةٌ، فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، ما "تَتّخِذُونَ منه سَكَرا، ورِزْقا حَسَنا"، مع ما نسقيكم من بطون الأنعام من اللبن الخارج من بين الفرث والدم...
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: {تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا}؛ فقال بعضهم: عني بالسّكَر: الخمرُ، وبالرزق الحسن: التمرُ والزبيبُ، وقال: إنما نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، ثم حُرّمت بعد... عن ابن عباس، قوله: {تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا} قال: السّكَر: ما حُرّم من شرابه، والرزق الحسن: ما أحلّ من ثمرته...
عن إبراهيم، في قوله: {تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا}، قال: هي منسوخة، نسخها تحريم الخمر...
وقال آخرون: السّكَر بمنزلة الخمر في التحريم، وليس بخمر، وقالوا: هي نقيع التمر والزبيب، إذا اشتدّ وصار يسكر شاربه... قال ابن عباس: كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر، والسكر حرام مثل الخمر، وأما الحلال منه: فالزبيب والتمر والخل، ونحوه...
وقال آخرون: "السّكَر ": هو كلّ ما كان حلالاً شربه، كالنبيذ الحلال، والخلّ والرطَب. و "الرزق الحسن ": التمر والزبيب... عن الشعبيّ، قال: السّكَر: النبيذ، والرزق الحسن: التمر الذي كان يؤكل.
وعلى هذا التأويل، الآية غير منسوخة، بل حكمها ثابت.
وهذا التأويل عندي، هو أولى الأقوال بتأويل هذه الآية، وذلك أن السكر في كلام العرب، على أحد أوجه أربعة: أحدها: ما أسكر من الشراب. والثاني: ما طُعِم من الطعام... والثالث: السّكُون... والرابع: المصدر، من قولهم: سَكِرَ فلان، يَسْكَرُ سُكْرا وسَكْرا وسَكَرا. فإذا كان ذلك كذلك، وكان ما يُسْكِر من الشراب حراما، بما قد دللنا عليه في كتابنا المسمى: «لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام»، وكان غير جائز لنا أن نقول: هو منسوخ، إذ كان المنسوخ هو: ما نَفَى حكمه الناسخ، وما لا يجوز اجتماع الحكم به وناسخه، ولم يكن في حكم الله تعالى ذكره بتحريم الخمر دليل على أن السّكَر الذي هو غير الخمر، وغير ما يسكر من الشراب، حرام، إذ كان السكر أحد معانيه عند العرب، ومن نزل بلسانه القرآن هو: كلّ ما طعم، ولم يكن مع ذلك، إذ لم يكن في نفس التنزيل دليل على أنه منسوخ، أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول، ولا أجمعت عليه الأمة، فوجب القول بما قلنا من أن معنى السّكَرَ في هذا الموضع: هو كلّ ما حلّ شربه، مما يتخذ من ثمر النخل والكرم، وفسد أن يكون معناه الخمر أو ما يسكر من الشراب، وخرج من أن يكون معناه السّكَر نفسه، إذ كان السّكَر ليس مما يتخذ من النّخْل والكَرْم، ومن أن يكون بمعنى: السكون.
وقوله: {إنّ فِي ذلكَ لآية لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، يقول: فيما إن وصفنا لكم من نعمنا التي آتيناكم أيها الناس، من الأنعام والنخل والكرم؛ لدلالة واضحة وآية بينة لقوم يعقلون عن الله حججه، ويفهمون عنه مواعظه فيتعظون بها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم قال "ومن ثمرات"، وهو جمع ثمرة، وهو ما يطعمه الشجر مما فيه اللذة، والثمرة خاصة طعم الشجر مما فيه اللذة...
وقوله "يتخذون منه سكرا ورزقا حسنا"...
خلق هذه الثمار لتنتفعوا بها، فاتخذتم أنتم منها ما هو محرم عليكم، وتركتم ما هو رزق حسن. وأما وجه المنة فبالأمرين معا ثابتة، لأن ما أباحه وأحله فالمنة به ظاهرة لتعجل الانتفاع به، وما حرمه الله فوجه المنة أيضا ظاهر به، لأنه إذا حرم علينا، وأوجب الامتناع منه، ضمن في مقابلته الثواب، الذي هو أعظم النعم، فهو نعمة على كل حال...
وقوله "إن في ذلك لآية لقوم يعقلون"، معناه: إن فيما ذكره دلالة ظاهرة، للذين يعقلون عن الله، ويتفهمون ويفكرون فيه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تقديره: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً؛ لأنهم يأكلون بعضها، ويتخذون من بعضها السكر...
أحدهما: أن تكون منسوخة. وممن قال بنسخها: الشعبي والنخعي.
والثاني: أن يجمع بين العتاب والمنة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما كان مفتتح الكلام: وأن لكم في الأنعام لعبرة، ناسب الختم بقوله: يعقلون، لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول...
وانظر إلى الإخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن، لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة من الناس، أخبر عن نفسه تعالى بقوله:"نسقيكم". ولما كان السكر والرزق الحسن يحتاج إلى معالجة قال: "تتخذون"، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق، ولأمر ما عجزت العرب العرباء عن معارضته...
ولما ذكر تعالى المنة بالمشروب اللبن وغيره، أتم النعمة بذكر عسل النحل...
ولما كانت المشروبات من اللبن وغيره هو الغالب في الناس أكثر من العسل، قدم اللبن وغيره عليه، وقدم اللبن على ما بعده لأنه المحتاج إليه كثيراً وهو الدليل على الفطرة. ولذلك اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم حين أسري به، وعرض عليه اللبن والخمر والعسل، وجاء ترتيبها في الجنة لهذه الآية قال تعالى: {وأنهاراً من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم عطف عليه ما هو أنفس منه عندهم، وأقرب إليه في المعاني المذكورة، فقال تعالى معلقاً ب "نسقيكم "{ومن ثمرات النخيل والأعناب}.
ولما كان لهم مدخل في اتخاذ ما ذكر منه، بخلاف اللبن الذي لا صنع لهم فيه أصلاً، أسند الأمر إليهم، وليكون ذلك إشارة إلى كراهة السكر، وتوطئة للنهي عنه، في قوله مستأنفاً: {تتخذون}، أي: باصطناع منكم وعلاج، ولأجل استئناف هذه الجملة، كان لا بد من قوله: {منه}، أي: من مائه، وعبر عن السكر بالمصدر، إبلاغاً في تقبيحه، وزاد في الإبلاغ بالتعبير بأثقل المصدرين، وهو المحرك، يقال: سكر سكْراً وسكَراً مثل رشد رشْداً ورشَداً، ونحل نحْلاً ونحَلاً، فقال تعالى: {سكراً}، أي: ذا سكر، منشّياً، مطرباً، سادّاً لمجاري العقل، قبيحاً غير مستحسن للرزق. {ورزقاً حسناً}، لا ينشأ عنه ضرر في بدن ولا عقل، من الخل والدبس وغيرهما، ولا يسد شيئاً من المجاري، بل ربما فتحها، كالحلال الطيب، فإنه ينير القلب، ويوسع العقل، والأدهان كلها تفتح سدد البدن، وهذا كما منحكم سبحانه العقل، الذي لا أحسن منه، فاستعمله قوم على صوابه في الوحدانية، وعكس آخرون فدنسوه بالإشراك؛ قال الرماني: قيل: السكر: ما حرم من الشراب، والرزق الحسن: ما أحل منه -عن ابن عباس رضي الله عنهما، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، والشعبي، وأبي رزين، والحسن، ومجاهد، وقتادة، رضي الله عنهم. والسكر في اللغة على أربعة أوجه: الأول: ما أسكر. الثاني: ما أطعم من الطعام. الثالث: السكون. الرابع: المصدر من سكر، وأصله انسداد المجاري، مما يلقى فيها، ومنه السكر- يعني بكسر ثم سكون، ومن حمل السكر على السكر قال: إنها منسوخة بآية المائدة، والتعبير عنه بما يفهم سد المجاري، يفهم كراهته عندما كان حلالاً... ولتقارب آيتي الأنعام والأشجار، جمعهما سبحانه فقال تعالى: {إن في ذلك}، أي: الأمر العظيم من هذه المنافع، {لآية}، ولوضوح أمرهما في كمال قدرة الخالق ووحدانيته، قال تعالى: {لقوم يعقلون}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الثمرات المنبثقة عن الحياة التي بثها الماء النازل من السماء. تتخذون منه سكرا [والسكر الخمر ولم تكن حرمت بعد] ورزقا حسنا. والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر وأن الخمر ليست رزقا حسنا، وفي هذا توطئة لما جاء بعد من تحريمها، وإنما كان يصف الواقع في ذلك الوقت من اتخاذهم الخمر من ثمرات النخيل والأعناب، وليس فيه نص بحلها، بل فيه توطئة لتحريمها (إن في ذلك لآية لقوم يعقلون).. فيدركون أن من يصنع هذا الرزق هو الذي يستحق العبودية له وهو الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {وإن لكم في الأنعام لعبرة} [سورة النحل: 66].
ووجود {من} في صدر الكلام يدلّ على تقدير فعل يدلّ عليه الفعل الذي في الجملة قبلها وهو {نسقيكم} [النحل: 66]. فالتقدير: ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب. وليس متعلقاً ب {تتخذون}، كما دلّ على ذلك وجود (من) الثانية في قوله: {تتخذون منه سكراً} المانع من اعتبار تعلّق {من ثمرات النخيل} ب {تتخذون}، فإن نظم الكلام يدل على قصد المتكلم ولا يصحّ جعله متعلقاً ب {تتخذون} مقدماً عليه، لأنه يبعد المعنى عن الامتنان بلطف الله تعالى إذ جعل نفسه الساقي للناس.
وهذا عطف منّة على منّة، لأن {نسقيكم} وقع بياناً لجملة {وإن لكم في الأنعام لعبرة}.
ومفاد فعل {نسقيكم} مفاد الامتنان لأن السقي مزية. وكلتا العِبرتين في السقي. والمناسبةُ أن كلتيهما ماء وأن كلتيهما يضغط باليد، وقد أطلق العرب الحَلْب على عصير الخمر والنبيذ...
ويشير إلى كونهما عبرتين من نوع متقارب جَعْل التذييل بقوله تعالى: {إن في ذلك لآية} عقب ذكر السقيين دون أن يُذيّل سقي الألبان بكونه آية، فالعبرة في خلق تلك الثمار صالحة للعصر والاختمار، ومشتملة على منافع للناس ولذّات. وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: {إن في ذلك لآية لقوم يعقلون}. فهذا مرتبط بما تقدم من العبرة بخلق النبات والثمرات من قوله تعالى: {ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل} [سورة النحل: 11] الآية.
وجملة {تتخذون منه سكراً} الخ في موضع الحال.
و (من) في الموضعين ابتدائية، فالأولى متعلّقة بفعل {نسقيكم} المقدر، والثانية متعلقة بفعل {تتخذون}. وليست الثانية تبعيضية، لأن السكر ليس بعض الثمرات، فمعنى الابتداء ينتظم كلا الحرفين.
والسكر بفتحتين: الشراب المُسْكِر.
وهذا امتنان بما فيه لذّتهم المرغوبة لديهم والمتفشّية فيهم (وذلك قبل تحريم الخمر لأن هذه الآية مكّية وتحريم الخمر نزل بالمدينة) فالامتنان حينئذٍ بمباح.
والرزق: الطعام، ووصف ب {حسناً} لما فيه من المنافع، وذلك التمر والعنب لأنهما حلوان لذيذان يؤكلان رطبين ويابسين قابلان للادخار، ومن أحوال عصير العنب أن يصير خلاً ورُبّاً.
وجملة {إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} تكرير لتعداد الآية لأنها آية مستقلة.
والقول في جملة {إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} مثل قوله آنفاً: {إن في ذلك لآية لقوم يسمعون} [سورة النحل: 65]. والإشارة إلى جميع ما ذكر من نعمة سقي الألبان وسقي السكر وطعم الثمر.
واختير وصف العقل هنا لأن دلالة تكوين ألبان الأنعام على حكمة الله تعالى يحتاج إلى تدبّر فيما وصفته الآية هنا، وليس هو ببديهي كدلالة المطر كما تقدم.