قوله تعالى :{ إن الذين يبايعونك } يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا ، { إنما يبايعون الله } لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن يزيد بن أبي عبيد قال : قلت لسلمة بن الأكوع : " على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ؟ قال : على الموت " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن خالد ، عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج ، عن معقل ابن يسار ، قال : " لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس ، وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربعة عشرة مائة ، قال : لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر " . قال أبو عيسى : معنى الحديثين صحيح بايعه جماعة على الموت ، أي لا نزال نقاتل بين يديك ما لم نقتل ، وبايعه آخرون ، وقالوا : لا نفر . { يد الله فوق أيديهم } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم . وقال السدي : كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبايعونه ، ويد الله فوق أيديهم في المبايعة . قال الكلبي : نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة . { فمن نكث } نقض البيعة ، { فإنما ينكث على نفسه } عليه وباله ، { ومن أوفى بما عاهد عليه الله } ثبت على البيعة ، { فسيؤتيه } قرأ أهل العراق فسيؤتيه بالياء ، وقرأ الآخرون بالنون ، { أجراً عظيماً } وهو الجنة .
{ 10 } { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }
هذه المبايعة التي أشار الله إليها هي { بيعة الرضوان } التي بايع الصحابة رضي الله عنهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على أن لا يفروا عنه ، فهي عقد خاص ، من لوازمه أن لا يفروا ، ولو لم يبق منهم إلا القليل ، ولو كانوا في حال يجوز الفرار فيها ، فأخبر تعالى : أن الذين بايعوك حقيقة الأمر أنهم { يُبَايِعُونَ اللَّهَ } ويعقدون العقد معه ، حتى إنه من شدة تأكده أنه قال : { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي : كأنهم بايعوا الله وصافحوه بتلك المبايعة ، وكل هذا لزيادة التأكيد والتقوية ، وحملهم على الوفاء بها ، ولهذا قال : { فَمَنْ نَكَثَ } فلم يف بما عاهد الله عليه { فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } أي : لأن وبال ذلك راجع إليه ، وعقوبته واصلة له ، { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ } أي : أتى به كاملا موفرا ، { فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } لا يعلم عظمه وقدره إلا الذي آتاه إياه .
ثم مدح - سبحانه - الذين عاهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووفوا بعهودهم أكمل وفاء ، فقال : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله . . . } .
وقوله - سبحانه - : { يُبَايِعُونَكَ } من المبايعة أو من البيعة ، بمعنى المعاهدة أو العهد ، وسميت المعاهدة مبايعة ، لاشتمال كل واحد منهما على معنى المبادلة ، وعلى وجوب الصدق والوفاء .
والمراد بهذه المبايعة ، ما كان من المؤمنين فى صلح الحديبية ، عندما عاهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الثبات وعلى مناجرة المشركين بعد أن أشيع أنهم قتلوا عثمان - رضى الله عنه - . أى : إن الذين يبايعونك على الموت أو على عدم الفرار عند لقاء عند لقاء المشركين ، إنما يبايعون ويعاهدون الله - تعالى - على ذلك قبل أن يبايعوك أنت ، لأن المقصود من هذه البيعة إنما هو طاعته - سبحانه - وامتثال أمره ، كما قال - تعالى - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } فالمقصود بقوله : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } تأكيد وجوب الوفاء بما عهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه من الثبات وعدم الفرار ، والطاعة له فى كل ما يأمرهم به .
وقوله - سبحانه - : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } زيادة فى تأكيد وجوب الوفاء .
ومذهب السلف فى هذه الآية وأمثالها من آيات الصفات : أنه يجب الإِيمان بها ، وتفويض علم معناها المراد منها إلى الله - تعالى - وترك تأويلها مع تنزيهه - تعالى - عن حقيقتها ، لاستحالة مشابهته - تعالى - بالحوادث ، كما قال - سبحانه - : { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } أما الخلف فمذهبهم تأويل هذه الصفات على معنى يليق بجلاله ، فيؤولون اليد هنا بالقوة أو القدرة . أى : قوة الله - تعالى - ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم ، كما يقال : اليد فى هذه المسألة لفلان ، أى : الغلبة والنصرة له .
أو المعنى : يد الله - تعالى - بالوفاء بما وعدهم من الخير والنصرة فوق أيديهم . . والمقصود بهذه الجملة - كما أشرنا - زيادة التأكيد على وجوب الوفاء والثبات .
قال صاحب الكشاف : لما قال - سبحانه - : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } أكده تأكيداً على سبيل التمثيل ، فقال : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يريد أن يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التى تعلو أيدى المبايعين : هى يد الله ، والله - تعالى - منزله عن الجوارح وعن صفات الأجسام .
وإنما المعنى : تقرير أن عقد الميثاق من الرسول - صلى الله عليه وسلم - كعقده مع الله - تعالى - .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الناكثين فقال : { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } أى : فمن نقض العهد بعد إبرامه وتوثيقه ، فإنما عاقبة نقضه يعود وبالها وشؤمها عليه .
فقوله { نَّكَثَ } مأخوذ من النَّكث - بكسر النون - وهو فك الخيوط المغزولة بعد غزلها ، وقوله : { وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } أى : ومن ثبت على الوفاء بما عاهد الله - تعالى - عليه فسيعطيه - سبحانه - من فضله أجرا عظيما على ذلك .
والهاء فى قوله : { عَلَيْهُ } قرأها حفص بالضم ، توصلا إلى تفخيم لفظ الجلالة ، الملائكة لتفخيم أمر العهد المشعر به الكلام ، وقرأها الجمهور بالكسر .
هذا ، وقد وردت أحاديث متعددة ، تصرح بأن الذين كانوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - فى صلح الحديبية قد بايعوا جميعا النبى - صلى الله عليه وسلم - على الموت أو على الفرار ، سوى جماعة من المنافقين ، امتنعوا عن هذه البيعة ، لمرض قلوبهم ، وسوء طويتهم . .
ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الشيخان عن سلمة بن الأكوع قال : بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة ، قيل : على أى شئ ؟ قال : على الموت .
وروى مسلم فى صحيح عن جابر بن عبد الله أنه سئل : كم كان عددكم يوم الحديبية ؟ قال : كنا أربع عشرة مائة ، فبايعنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن لا نفر - سوى الجد بن قيس فإنه اختفى تحت بطن بعيره ، ولم يسرع مع القوم . .
وهكذا فاز المؤمنون الصادقون بشرف هذه البيعة وحرم منها المنافقون لمرض قلوبهم .
وقد جاء [ صلى الله عليه وسلم ] ليصلهم بالله ، ويعقد بينهم وبينه بيعة ماضية لا تنقطع بغيبة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عنهم . فهو حين يضع يده في أيديهم مبايعا ، فإنما يبايع عن الله : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله . يد الله فوق أيديهم ) . . وهو تصوير رهيب جليل للبيعة بينهم وبين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والواحد منهم يشعر وهو يضع يده في يده ، أن يد الله فوق أيديهم . فالله حاضر البيعة . والله صاحبها . والله آخذها . ويده فوق أيدي المتبايعين . . ومن ? الله ! يا للهول ! ويا للروعة ! ويا للجلال !
وإن هذه الصورة لتستأصل من النفس خاطر النكث بهذه البيعة - مهما غاب شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فالله حاضر لا يغيب . والله آخذ في هذه البيعة ومعط ، وهو عليها رقيب .
( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) . .
فهو الخاسر في كل جانب . هو الخاسر في الرجاع عن الصفقة الرابحة بينه وبين الله تعالى . وما من بيعة بين الله وعبد من عباده إلا والعبد فيها هو الرابح من فضل الله ، والله هو الغني عن العالمين . وهو الخاسر حين ينكث وينقض عهده مع الله فيتعرض لغضبه وعقابه على النكث الذي يكرهه ويمقته ، فالله يحب الوفاء ويحب الأوفياء .
( ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) . .
هكذا على إطلاقه : أجرا عظيما . . لا يفصله ولا يحدده . فهو الأجر الذي يقول عنه الله إنه عظيم .
عظيم بحساب الله وميزانه ووصفه الذي لا يرتقي إلى تصوره أبناء الأرض المقلون المحدودون الفانون !
ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم تشريفا له وتعظيما وتكريما : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } كقوله { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [ النساء : 80 ] ، { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي : هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم ، فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ التوبة : 111 ] .
وقد قال{[26768]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الفضل بن يحيى الأنباري ، حدثنا علي بن بكار ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سل سيفه في سبيل الله ، فقد بايع الله " {[26769]} .
وحدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أخبرنا جرير ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر : " والله ليبعثه الله يوم القيامة له عينان ينظر بهما ، ولسان ينطق ، به ويشهد على من استلمه بالحق ، فمن استلمه فقد بايع الله " ، ثم قرأ : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } {[26770]} .
ولهذا قال هاهنا : { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } أي : إنما يعود وبال ذلك على الناكث ، والله غني عنه ، { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } أي : ثوابًا جزيلا . وهذه البيعة هي بيعة الرضوان ، وكانت تحت شجرة سَمُر بالحديبية ، وكان الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قيل : ألف وثلثمائة . وقيل : أربعمائة . وقيل : وخمسمائة . والأوسط{[26771]} أصح .
قال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن جابر قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة .
ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ، به{[26772]} . وأخرجاه أيضا من حديث الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر قال : كنا يومئذ ألفا وأربعمائة ، ووضع يده في ذلك الماء ، فنبع الماء من بين أصابعه ، حتى رووا كلهم {[26773]} .
وهذا مختصر من سياق آخر حين ذكر قصة عطشهم يوم الحديبية ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاهم سهما من كنانته ، فوضعوه في بئر الحديبية ، فجاشت بالماء ، حتى كفتهم ، فقيل لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال : كنا ألفا وأربعمائة ، ولو كنا مائة ألف لكفانا{[26774]} . وفي رواية [ في ] {[26775]} الصحيحين عن جابر : أنهم كانوا خمس عشرة مائة{[26776]} .
وروى البخاري من حديث قتادة ، قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال : خمس عشرة مائة .
قلت : فإن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنهما ، قال : كانوا أربع عشرة مائة . قال رحمه الله : وهم ، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة {[26777]} .
قال البيهقي : هذه الرواية تدل على أنه كان في القديم يقول : خمس عشرة مائة ، ثم ذكر الوهم فقال : أربع عشرة مائة{[26778]} .
وروى العوفي عن ابن عباس : أنهم كانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين . والمشهور الذي رواه غير واحد عنه : أربع عشرة مائة ، وهذا هو الذي رواه البيهقي ، عن الحاكم ، عن الأصم ، عن العباس الدوري ، عن يحيى بن معين ، عن شبابة بن سوار ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة{[26779]} . وكذلك هو في رواية سلمة بن الأكوع ، ومعقل بن يسار ، والبراء بن عازب . وبه يقول غير واحد من أصحاب المغازي والسير . وقد أخرج صاحبا الصحيح من حديث شعبة ، عن عمرو بن مرة قال : سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول : كان أصحاب الشجرة ألفا وأربعمائة ، وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين{[26780]} .
وروى محمد بن إسحاق في السيرة ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، أنهما حدثاه قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، كل بدنة عن عشرة نفر ، وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني عنه يقول : كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة {[26781]} .
كذا قال ابن إسحاق وهو معدود من أوهامه ، فإن المحفوظ في الصحيحين أنهم كانوا بضع عشرة مائة .
قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة : ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول الله ، إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظي {[26782]} عليها ، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته .
فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] {[26783]} ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف . فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول صلى الله عليه وسلم . واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل .
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل : " لا نبرح حتى نناجز القوم " . ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة . فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت . وكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعهم على الموت ، ولكن بايعنا على ألا نفر .
فبايع الناس ، ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة ، فكان جابر يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته ، قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان باطل . {[26784]}
وذكر ابن لهيعة عن الأسود {[26785]} . عن عروة بن الزبير قريبا من هذا السياق ، وزاد في سياقه : أن قريشا بعثوا وعندهم عثمان [ بن عفان ] {[26786]} سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينما هم عندهم إذ وقع كلام بين {[26787]} بعض المسلمين وبعض المشركين ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل من الفريقين من عنده من الرسل ، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بالبيعة ، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا ، فسار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على ألا يفروا أبدا ، فأرعب ذلك المشركين{[26788]} ، وأرسلوا من كان عندهم من المسلمين ، ودعوا إلى الموادعة والصلح .
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا تمتام{[26789]} ، حدثنا الحسن بن بشر{[26790]} ، حدثنا الحكم بن عبد الملك ، عن قتادة ، عن أنس{[26791]} بن مالك قال : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان [ رضي الله عنه ] {[26792]} رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ، فبايع الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله " . فضرب بإحدى يديه على الأخرى ، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم{[26793]} .
قال ابن هشام {[26794]} : حدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له ، عن أبي مليكة{[26795]} ، عن ابن عمر قال : بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان ، فضرب بإحدى يديه على الأخرى .
وقال عبد الملك بن هشام النحوي : فذكر وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي : أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي {[26796]} .
وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا ابن أبي خالد ، عن الشعبي ، قال : لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة ، كان أول من انتهى إليه أبو سنان [ الأسدي رضي الله عنه ] {[26797]} ، فقال : ابسط يدك أبايعك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " علام تبايعني ؟ " . فقال أبو سنان : على ما في نفسك . هذا أبو سنان [ بن ] {[26798]} وهب الأسدي [ رضي الله عنه ]{[26799]} {[26800]} .
وقال البخاري : حدثنا شجاع بن الوليد ، سمع النضر بن محمد : حدثنا صخر [ بن الربيع ] {[26801]} ، عن نافع ، قال : إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر ، وليس كذلك ، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى الفرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة ، وعمر لا يدري بذلك ، فبايعه عبد الله ، ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر ، وعمر يستلئم للقتال ، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة ، فانطلق ، فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر {[26802]} أسلم قبل عمر .
ثم قال البخاري : وقال هشام بن عمار : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عمر بن محمد العمري ، أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، أن الناس كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قد تفرقوا في ظلال الشجر ، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال - يعني عمر - : يا عبد الله ، انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم . فوجدهم يبايعون ، فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع .
وقد أسنده البيهقي عن أبي{[26803]} عمرو الأديب ، عن أبي بكر الإسماعيلي ، عن الحسن بن سفيان ، عن دحيم : حدثني الوليد بن مسلم فذكره {[26804]} .
وقال الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه ، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ، وقال : بايعناه على ألا نفر ، ولم نبايعه على الموت . رواه مسلم عن قتيبة عنه{[26805]} .
وروى مسلم عن يحيى بن يحيى ، عن يزيد بن زريع ، عن خالد ، عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج ، عن معقل بن يسار ، قال : لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس {[26806]} ، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربع عشرة مائة ، قال : ولم نبايعه على الموت ، ولكن بايعناه على ألا نفر{[26807]} .
وقال البخاري : حدثنا المكي بن إبراهيم ، عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع ، قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة . قال يزيد : قلت : يا أبا مسلم {[26808]} ، على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ ؟ قال : على الموت{[26809]} .
وقال البخاري أيضا : حدثنا أبو عاصم ، حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة ، قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ثم تنحيت ، فقال : " يا سلمة ألا تبايع ؟ " قلت : بايعت ، قال : " أقبل فبايع " . فدنوت فبايعته . قلت : علام بايعته يا سلمة ؟ قال : على الموت . وأخرجه مسلم من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد {[26810]} . وكذا روى البخاري عن عباد بن تميم ، أنهم بايعوه على الموت{[26811]} .
وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو الفضل بن إبراهم ، حدثنا أحمد بن سلمة ، حدثنا إسحاق بن إبراهم ، حدثنا أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو ، حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي ، عن إياس بن سلمة ، عن أبيه سلمة{[26812]} بن الأكوع قال : قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة ، وعليها خمسون شاة لا ترويها ، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها - يعني الركي - فإما دعا وإما بصق فيها ، فجاشت ، فسقينا واستقينا . قال : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة . فبايعته أول الناس ، ثم بايع وبايع ، حتى إذا كان في وسط الناس قال صلى الله عليه وسلم : " بايعني يا سلمة " . قال : قلت : يا رسول الله ، قد بايعتك في أول الناس . قال : " وأيضا " . قال : ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلا فأعطاني حجفة - أو درقة - ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال صلى الله عليه وسلم : " ألا تبايع يا سلمة ؟ " قال : قلت : يا رسول الله ، قد بايعتك{[26813]} في أول الناس وأوسطهم . قال : " وأيضا " . فبايعته الثالثة ، فقال : " يا سلمة ، أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك ؟ " . قال : قلت : يا رسول الله ، لقيني عامر عزلا فأعطيتها إياه : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " إنك كالذي قال الأول : اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي " قال : ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا . قال : وكنت خادما لطلحة بن عبيد الله ، رضي الله عنه ، أسقي فرسه وأحسه{[26814]} وآكل من طعامه ، وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله . فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة ، واختلط بعضنا ببعض ، أتيت شجرة فكسحت شوكها ، ثم اضطجعت{[26815]} في أصلها في ظلها ، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة ، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم ، وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا ، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي : يا للمهاجرين ، قتل ابن زنيم . فاخترطت سيفي ، فشددت على أولئك الأربعة وهم رقود ، فأخذت سلاحهم وجعلته ضغثا في يدي ، ثم قلت{[26816]} : والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم ، لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ، قال : ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وجاء عمي عامر برجل من العَبَلات يقال له : " مكرز " من المشركين يقوده ، حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين ، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه " ، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله [ عز وجل ] {[26817]} : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } الآية [ الفتح : 24 ] .
وهكذا رواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه بسنده نحوه ، أو قريبا منه{[26818]} .
وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة ، عن طارق ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة . قال : فانطلقنا من قابل حاجين ، فخفي علينا مكانها ، فإن كان تبينت لكم ، فأنتم أعلم {[26819]} .
وقال أبو بكر الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا أبو الزبير ، حدثنا{[26820]} جابر ، قال : لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة ، وجدنا رجلا منا يقال له " الجد بن قيس " مختبئا تحت إبط بعيره " .
رواه مسلم من حديث ابن جريج ، عن ابن الزبير ، به{[26821]} .
وقال الحميدي أيضا : حدثنا سفيان{[26822]} ، عن عمرو ، سمع جابرا ، قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنتم خير أهل الأرض اليوم " . قال جابر : لو كنت أبصر{[26823]} لأريتكم موضع الشجرة . قال سفيان : إنهم اختلفوا في موضعها . أخرجاه من حديث سفيان{[26824]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا الليث . عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " {[26825]} .
وقال{[26826]} ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن هارون الفلاس المخرمي ، حدثنا سعد بن عمرو الأشعثي ، حدثنا محمد بن ثابت العبدي ، عن خداش بن عياش ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر " . قال : فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره ، فقلنا : تعال فبايع . فقال : أصيب بعيري أحب إلي من أن أبايع{[26827]} .
وقال عبد الله بن أحمد : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي حدثنا قرة ، عن أبي الزبير {[26828]} ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من يصعد الثنية ، ثنية المرار ، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل " . فكان أول من صعد خيل بني{[26829]} الخزرج ، ثم تبادر الناس بعد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر " . فقلنا : تعال يستغفر لك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[26830]} . فقال : والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم . فإذا هو رجل ينشد ضالة {[26831]} . رواه مسلم عن عبيد الله ، به {[26832]} .
وقال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابرا يقول : أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة : " لا يدخل النار - إن شاء الله - من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد " . قالت : بلى يا رسول الله . فانتهرها ، فقالت لحفصة : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد قال الله : { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } [ مريم : 72 ] ، رواه مسلم{[26833]} .
وفيه أيضا عن قتيبة ، عن الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر ؛ أن عبدًا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطبا ، فقال : يا رسول الله ، ليدخلن حاطب النار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كذبت ، لا يدخلها ؛ فإنه قد شهد بدرا والحديبية " {[26834]} .
ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [ الفتح : 10 ] ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } [ الفتح : 18 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نّكَثَ فَإِنّمَا يَنكُثُ عَلَىَ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىَ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنّ الّذِينَ يُبايِعُونَكَ بالحديبية من أصحابك على أن لا يفرّوا عند لقاء العدوّ ، ولا يولّوهم الأدبار إنّمَا يُبايِعُونَ اللّهَ يقول : إنما يبايعون ببيعتهم إياك الله ، لأن الله ضمن لهم الجنة بوفائهم له بذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : إنّ الّذِينَ يُبايِعُونَكَ قال : يوم الحديبية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنّمَا يُبايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فإنّمَا يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وهم الذين بايعوا يوم الحديبية .
وفي قوله : يَدُ اللّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ وجهان من التأويل : أحدهما : يد الله فوق أيديهم عند البيعة ، لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صلى الله عليه وسلم والاَخر : قوّة الله فوق قوّتهم في نُصرة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم إنما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نُصرته على العدوّ .
وقوله : فَمَنْ نَكَثَ فإنّمَا يَنْكُثُ على نَفْسِهِ يقول تعالى ذكره : فمن نكث بيعته إياك يا محمد ، ونقضها فلم ينصرك على أعدائك ، وخالف ما وعد ربه فإنّمَا يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ يقول : فإنما ينقض بيعته ، لأنه بفعله ذلك يخرج ممن وعده الله الجنة بوفائه بالبيعة ، فلم يضرّ بنكثه غير نفسه ، ولم ينكث إلا عليها ، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تبارك وتعالى ناصره على أعدائه ، نكث الناكث منهم ، أو وفى ببيعته .
وقوله : وَمَنْ أوْفَى بِمَا عاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ . . . الآية ، يقول تعالى ذكره : ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدوّ في سبيل الله ونُصرة نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه فَسَيُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما يقول : فسيعطيه الله ثوابا عظيما ، وذلك أن يُدخله الجنة جزاءً له على وفائه بما عاهد عليه الله ، ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الأيمان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَسَيؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما وهي الجنة .
{ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } لأنه المقصود ببيعته . { يد الله فوق أيديهم } حال أو استئناف مؤكد له على سبيل التخييل . { فمن نكث } نقض العهد . { فإنما ينكث على نفسه } فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه . { ومن أوفى بما عاهد عليه الله } في مبايعته { فسيؤتيه أجرا عظيما } هو الجنة ، وقرئ " عهد " وقرأ حفص { عليه } بضم الهاء وابن كثير ونافع وابن عامر وروح " فسنؤتيه " بالنون . والآية نزلت في بيعة الرضوان .
شروع في الغرض الأصلي من هذه السورة ، وهذه الجملة مستأنفة ، وأكد بحرف التأكيد للاهتمام ، وصيغة المضارع في قوله : { يبايعونك } لاستحضار حالة المبايعة الجليلة لتكون كأنها حاصلة في زمن نزول هذه الآية مع أنها قد انقضت وذلك كقوله تعالى : { ويَصنع الفلك } [ هود : 38 ] .
وَالحصر المفاد من { إنما } حَصر الفعل في مفعوله ، أي لا يبايعون إلا الله وهو قصر ادعائيّ بادعاء أن غاية البيعة وغرضها هو النصر لدين الله ورسوله فنزل الغرض منزلة الوسيلة فادعى أنهم بايعوا الله لا الرسول . وحيث كان الحصر تأكيداً على تأكيد ، كما قال صاحب « المفتاح » : « لم أجعل ( إنّ ) التي في مفتتح الجملة للتأكيد لِحصول التأكيد بغيرها فجعلتها للاهتمام بهذا الخبر ليحصل بذلك غرضان » .
وانتقل من هذا الادعاء إلى تخيل أن الله تعالى يبايعه المبايعون فأثبتت له اليد التي هي من روادف المبايَع بالفتح على وجه التخييلية مثل إثبات الأظفار للمنية .
وقد هيأت صيغة المبايعة لأن تذكر بعدها الأيدي لأن المبايعة يقارنها وضع المبايع يده في يد المبايَع بالفتح كما قال كعب بن زهير :
حتى وضعتُ يميني لا أُنازعه *** في كَفِّ ذي يَسرات قِيلُه القِيل
ومما زاد هذا التخييل حسناً ما فيه من المشاكلة بين يد الله وأيديهم كما قال في « المفتاح » : والمشاكلة من المحسنات البديعية والله منزّه عن اليد وسمات المحدثات .
فجملة { يد الله فوق أيديهم } مقررة لمضمون جملة { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } المفيدة أن بيعتهم النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ، هي بيعة منهم لله في الواقع فقررته جملة { يد الله فوق أيديهم } وأكدته ولذلك جردت عن حرف العطف . وجعلت اليد المتخيلة فوق أيديهم : إمّا لأن إضافتها إلى الله تقتضي تشريفها بالرفعة على أيدي الناس كما وصفت في المعطي بالعليا في قول النبي صلى الله عليه وسلم " اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي الآخذة " ، وإما لأن المبايعة كانت بأن يمد المبايع كفه أمام المبايَع بالفتح ويضع هذا المبايَع يده على يد المبايع ، فالوصف بالفوقية من تمام التخييلية . ويشهد لهذا ما في « صحيح مسلم » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بايعه الناس كان عُمر آخذاً بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كان عمر يضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيدي الناس كيلاً يتعب بتحريكها لكثرة المبايعين فدلّ على أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت توضع على يد المبايعين . وأيًّا مَّا كان فذكر الفوقية هنا ترشيح للاستعارة وإغراق في التخيل .
والمبايعة أصلها مشتقة من البيع فهي مفاعلة لأن كلا المتعاقدين بائع ، ونقلت إلى معنى العهد على الطاعة والنصرة قال تعالى : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعْنَك على أن لا يشركن بالله شيئاً } [ الممتحنة : 12 ] الآية وهي هنا بمعنى العهد على النصرة والطاعة . وهي البيعة التي بايعها المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تحت شجرة من السّمُر وكانوا ألفاً وأربعمائة على أكثر الروايات . وقال جابر بن عبد الله : أو أكثر ، وعنه : أنهم خمس عَشرة مائة . وعن عبد الله بن أبي أوفى كانوا ثلاث عشرة مائة . وأول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أبو سنان الأسدي . وتسمّى بيعة الرضوان لقول الله تعالى { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } [ الفتح : 18 ] .
وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عثمان بن عفان من الحديبية إلى أهل مكة ليفاوضهم في شأن التخلية بين المسلمين وبين الاعتمار بالبيت فأرجف بأن عثمان قتل فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم لذلك ودعا من معه إلى البيعة على أن لا يرجعوا حتى يناجزوا القوم ، فكان جابر بن عبد الله يقول : بايعوه على أن لا يَفرَّوا ، وقال سلمة بن الأكوع وعبد الله بن زيد : بايعناه على المَوت ، ولا خلاف بين هذين لأن عدم الفرار يقتضي الثبات إلى الموت . ولم يتخلف أحد ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبيّة عن البيعة إلا عثمان إذ كان غائباً بمكة للتفاوض في شأن العمرة ، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على يده اليسرى وقال : « هذه يد عثمان » ثم جاء عثمان فبايع ، وإلا الجد بن قيس السلمى اختفى وراء جَمَلِهِ حتّى بايع الناسُ ولم يكن منافقاً ولكنّه كان ضعيف العزم . وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنتم خير أهل الأرض .
وفرع قوله : { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } على جملة { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } ، فإنه لما كَشف كنه هذه البيعة بأنها مبايعة لله ضرورة أنها مبايعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار رسالته عن الله صار أمر هذه البيعة عظيماً خطيراً في الوفاء بما وقع عليه التبايع وفي نكث ذلك .
والنكث : كالنقض للحبل . قال تعالى : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً } [ النحل : 92 ] . وغلب النكث في معنى النقض المعنوي كإبطال العهد .
والكلام تحذير من نكث هذه البيعة وتفظيع له لأن الشرط يتعلق بالمستقبل . ومضارع { ينكث } بضم الكاف في المشهور واتفق عليه القرّاء . ومعنى { فإنما ينكث على نفسه } : أن نكثه عائد عليه بالضرّ كما دلّ عليه حرف على .
و { إنما } للقصر وهو لقصر النكث على مدلول { على نفسه } ليراد لا يضر بنكثه إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً فإن نكث العهد لا يخلو من قصد إضرار بالمنكوث ، فجيء بقصر القلب لقلب قصد الناكث على نفسه دون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقال : أوفى بالعهد وهي لغة تهامة ، ويقال : وفي بدون همز وهي لغة عامة العرب ، ولم تجيء في القرآن إلا الأولى .
قالوا : ولم ينكث أحد ممن بايع .
والظاهر عندي : أن سبب المبايعة قد انعدم بالصلح الواقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة وأن هذه الآية نزلت فيما بين ساعة البيعة وبين انعقاد الهدنة وحصل أجر الإيفاء بالنية عدمه لو نزل ما عاهدوا الله عليه . وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر ورويس عن يعقوب { فسنؤتيه } بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم . وقرأه الباقون بياء الغيبة عائداً ضميره على اسم الجلالة .