قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء } أي : عمد إلى خلق السماء ، { وهي دخان } وكان ذلك الدخان بخار الماء ، { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً } أي : ائتيا ما آمركما أي : افعلاه ، كما يقال : ائت ما هو الأحسن ، أي : افعله . وقال طاوس عن ابن عباس : ائتيا : أعطيا ، يعني اخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد . قال ابن عباس : قال الله عز وجل : أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك ، وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك ، وقال لهما : افعلا ما آمركما طوعاً وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه كرها فأجابتا بالطوع ، و{ قالتا أتينا طائعين } ولم يقل طائعتين ، لأنه ذهب به إلى السماوات والأرض ومن فيهن ، مجازه : أتينا بما فينا طائعين ، فلما وصفهما بالقول أجراهما في الجمع مجرى من يعقل .
{ ثُمَّ } بعد أن خلق الأرض { اسْتَوَى } أي : قصد { إِلَى } خلق { السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } قد ثار على وجه الماء ، { فَقَالَ لَهَا } ولما كان هذا التخصيص يوهم الاختصاص ، عطف عليه بقوله : { وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } أي : انقادا لأمري ، طائعتين أو مكرهتين ، فلا بد من نفوذه . { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ليس لنا إرادة تخالف إرادتك .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر قدرته فى خلق السماء ، فقال : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ . . } .
ومعنى استوائه - سبحانه - إلى السماء ، ارتفاعه إليها بلا كيف أو تشبيه أو تحديد ، لأنه - سبحانه - منزه عن ذلك .
والدخان : ما ارتفع من لهب النار . والمراد به هنا : ما يرى من بخار الأرض أو بخار الماء ويصح أن يكون معنى : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } : تعلقت إرادته - تعالى - بخلقها .
قال الآلوسى : قوله : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } أى : قصد إليها وتوجه ، دون إرادة تأثير فى غيرها ، من قولهم : استوى إلى مكان كذا ، إذا توجه إليه لا يلوى على غيره .
وقوله : { وَهِيَ دُخَانٌ } أى أمر ظلمانى ، ولعله أريد بها مادتها التى منها تركبت .
وقوله - تعالى - : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً . . . } بيان لما وجهه - سبحانه - إليهما من أوامر .
والمراد بإتيانهما : انقيادهما التام لأمره - تعالى - .
أى : فقال - سبحانه - للسماء وللأرض أخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد ، فأنت يا سماء ، أبرزى ما خلقت فيك من شمس وقمر ونجوم . . وأنت يا أرض أخرجى ما خلقت فيك من نبات وأشجار وكنوز .
قال الفخر الرازى : والمقصود من هذا القول : إظهار كمال القدرة ، أى : ائتيا شئتما أم أبينتما ، كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شئت أم لم تشأ ، ولتفعلنه طوعا أو كرها ، وانتصابهما على الحال ، بمعنى طائعين أو مكرهين . .
وقوله : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } بيان لامتثالهما التام لأمره - تعالى - .
أى : قالتا : فلنا ما أمرتنا به منقادين خاضعين متسجيبين لأمرك ، فأنت خالقنا وأنت مالك أمرنا .
قال القرطبى : وقوله : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } فيه وجهان : أنه تمثيل لظهور الطاعة منهما ، حيث انقادا وأجابا فقام مقام قولهما . ومنه قول الراجز :
امتلأ الحوض وقال قطنى . . . مهلا رويدا ملأت بطنى
وقال أكثر أهل العلم : بل خلق الله - تعالى - فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد - سبحانه - .
وجمعهما - سبحانه - جمع من يعقل ، لخطابهما بما يخاطب به العقلاء .
( ثم استوى إلى السماء وهي دخان . فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين ، وأوحى في كل سماء أمرها . وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العليم ) .
والاستواء هنا القصد . والقصد من جانب الله تعالى هو توجه الإرادة . و( ثم )قد لا تكون للترتيب الزمني ، ولكن للارتقاء المعنوي . والسماء في الحس أرفع وأرقى .
( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) . . إن هناك اعتقاداً أنه قبل خلق النجوم كان هناك ما يسمى السديم . وهذا السديم غاز . . دخان
" والسدم - من نيرة ومعتمة - ليس الذي بها من غاز وغبار إلا ما تبقى من خلق النجوم . إن نظرية الخلق تقول : إن المجرة كانت من غاز وغبار . ومن هذين تكونت بالتكثف النجوم . وبقيت لها بقية . ومن هذه البقية كانت السدم . ولا يزال من هذه البقية منتشراً في هذه المجرة الواسعة مقدار من غاز وغبار ، يساوي ما تكونت منه النجوم . ولا تزال النجوم تجر منه بالجاذبية إليها . فهي تكنس السماء منه كنساً . ولكن الكناسين برغم أعدادهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسه من ساحات أكبر وأشد هولاً "
وهذا الكلام قد يكون صحيحاً لأنه أقرب ما يكون إلى مدلول الحقيقة القرآنية : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) . . وإلى أن خلق السماوات تم في زمن طويل . في يومين من أيام الله .
( فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا : أتينا طائعين ) . .
إنها إيماءة عجيبة إلى انقياد هذا الكون للناموس ، وإلى اتصال حقيقة هذا الكون بخالقه اتصال الطاعة والاستسلام لكلمته ومشيئته . فليس هنالك إذن إلا هذا الإنسان الذي يخضع للناموس كرهاً في أغلب الأحيان . إنه خاضع حتماً لهذا الناموس ، لا يملك أن يخرج عنه ، وهو ترس صغير جداً في عجلة الكون الهائلة ؛ والقوانين الكونية الكلية تسري عليه رضي أم كره . ولكنه هو وحده الذي لا ينقاد طائعاً طاعة الأرض والسماء . إنما يحاول أن يتفلت ، وينحرف عن المجرى الهين اللين ؛ فيصطدم بالنواميس التي لا بد أن تغلبه - وقد تحطمه وتسحقه - فيستسلم خاضعاً غير طائع . إلا عباد الله الذين تصطلح قلوبهم وكيانهم وحركاتهم وتصوراتهم وإراداتهم ورغباتهم واتجاهاتهم . . تصطلح كلها مع النواميس الكلية ، فتأتي طائعة ، وتسير هينة لينة ، مع عجلة الكون الهائلة ، متجهة إلى ربها مع الموكب ، متصلة بكل ما فيه من قوى ، . وحينئذ تصنع الأعاجيب ، وتأتي بالخوارق ، لأنها مصطلحة مع الناموس ، مستمدة من قوته الهائلة ، وهي منه وهو مشتمل عليها في الطريق إلى الله( طائعين ) . .
إننا نخضع كرهاً . فليتنا نخضع طوعاً . ليتنا نلبي تلبية الأرض والسماء . في رضى وفي فرح باللقاء مع روح الوجود الخاضعة المطيعة الملبية المستسلمة لله رب العالمين .
إننا نأتي أحياناً حركات مضحكة . . عجلة القدر تدور بطريقتها . وبسرعتها . ولوجهتها . وتدير الكون كله معها . وفق سنن ثابتة . . ونأتي نحن فنريد أن نسرع . أو أن نبطئ . نحن من بين هذا الموكب الضخم الهائل . نحن بما يطرأ على نفوسنا - حين تنفك عن العجلة وتنحرف عن خط السير - من قلق واستعجال وأنانية وطمع ورغبة ورهبة . . ونظل نشرد هنا وهناك والموكب ماض . ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم . ونصطدم هنا وهناك ونتحطم . والعجلة ماضية في سرعتها وبطريقتها إلى وجهتها . وتذهب قوانا وجهودنا كلها سدى . فأما حين تؤمن قلوبنا حقاً ، وتستسلم لله حقاً ، وتتصل بروح الوجود حقاً . فإننا - حينئذ - نعرف دورنا على حقيقته ؛ وننسق بين خطانا وخطوات القدر ؛ ونتحرك في اللحظة المناسبة بالسرعة المناسبة ، في المدى المناسب . نتحرك بقوة الوجود كله مستمدة من خالق الوجود . ونصنع أعمالاً عظيمة فعلاً ، دون أن يدركنا الغرور . لأننا نعرف مصدر القوة التي صنعنا بها هذه الأعمال العظيمة . ونوقن أنها ليست قوتنا الذاتية ، إنما هي كانت هكذا لأنها متصلة بالقوة العظمى .
ويا للرضى . ويا للسعادة . ويا للراحة . ويا للطمأنينة التي تغمر قلوبنا يومئذ في رحلتنا القصيرة ، على هذا الكوكب الطائع الملبي ، السائر معنا في رحلته الكبرى إلى ربه في نهاية المطاف . .
ويا للسلام الذي يفيض في أرواحنا ونحن نعيش في كون صديق . كله مستسلم لربه ، ونحن معه مستسلمون . لا تشذ خطانا عن خطاه ، ولا يعادينا ولا نعاديه . لأننا منه . ولأننا معه في الاتجاه :
وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } ، وهو : بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض ،
{ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } أي : استجيبا لأمري ، وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين .
قال الثوري ، عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله [ تعالى ]{[25638]} { فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } قال : قال الله تعالى للسموات : أطلعي شمسي وقمري ونجومي . وقال للأرض : شققي أنهارك ، وأخرجي ثمارك . فقالتا : { أَتَيْنَا طَائِعِينَ }
واختاره ابن جرير - رحمه الله .
{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أي : بل نستجيب لك مطيعين بما فينا ، مما تريد خلقه من الملائكة والإنس والجن جميعا مطيعين {[25639]} لك . حكاه ابن جرير عن بعض أهل العربية قال : وقيل : تنزيلا لهن معاملة من يعقل بكلامهما .
وقيل {[25640]} إن المتكلم من الأرض بذلك هو مكان الكعبة ، ومن السماء ما يسامته منها ، والله أعلم .
وقال الحسن البصري : لو أبيا عليه أمره لعذبهما عذابا يجدان ألمه . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَهَا وَللأَرْض ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ يعني تعالى ذكره : ثم استوى إلى السماء ، ثم ارتفع إلى السماء . وقد بيّنا أقوال أهل العلم في ذلك فيما مضى قبل .
وقوله : فَقالَ لها وَللأَرْض ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها يقول جلّ ثناؤه : فقال الله للسماء والأرض : جيئا بما خلقت فيكما ، أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم ، وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات ، وتشقّقِي عن الأنهار قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ جئنا بما أحدثت فينا من خلقك ، مستجيبين لأمرك لا نعصي أمرك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، فَقالَ لها وَللأَرْض ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ قال : قال الله للسموات : أطلعي شمسي وقمري ، وأطلعي نجومي ، وقال للأرض : شققي أنهارك واخرجي ثمارك ، فقالتا : أعطينا طائعين .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن جُرَيج ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، في قوله ائْتِنا : أعطيا . وفي قوله : قَالَتا أئتَيْا قالتا : أعطينا .
وقيل : أتينا طائعين ، ولم يُقل طائعتين ، والسماء والأرض مؤنثتان ، لأن النون والألف اللتين هما كناية أسمائهما في قوله أتَيْنا نظيره كناية أسماء المخبرين من الرجال عن أنفسهم ، فأجرى قوله طائِعِينَ على ما جرى به الخبر عن الرجال كذلك . وقد كان بعض أهل العربية يقول : ذهب به إلى السموات والأرض ومن فيهنّ .
وقال آخرون منهم : قيل ذلك كذلك لأنهما لما تكلمتا أشبهتا الذكور من بني آدم .
{ ثم استوى إلى السماء } قصد نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلوي على غيره ، والظاهر أن ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في المدة لقوله : { والأرض بعد ذلك دحاها } ودحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها . { وهي دخان } أمر ظلماني ، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي كتب منها { فقال لها وللأرض ائتيا } بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وأبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة . أو { ائتيا } في الوجود على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب للرتبة ، أو الإخبار أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة ، وقد عرفت ما فيه أو لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما ويؤيده قراءة " آتيا " في المؤاتاة أي لتوافق كل واحدة أختها فيما أردت منكما . { طوعا أو كرها } شئتما ذلك أو أبيتما والمراد إظهار كمال قدرته ووجوب وقوع مراده لا إثبات الطوع والكره لهما ، وهما مصدران وقعا موقع الحال . { قالتا أتينا طائعين } منقادين بالذات ، والأظهر أن المراد تصوير تأثير قدرته فيهما وتأثرهما بالذات عنها ، وتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة المطيع الطائع كقوله : { كن فيكون } وما قيل من أنه تعالى خاطبهما وأقدرهما على الجواب إنما يتصور على الوجه الأول والأخير ، وإنما قال طائعين على المعنى باعتبار كونهما مخاطبتين كقوله : { ساجدين } .
{ استوى إلى السماء } معناه بقدرته واختراعه أي إلى خلق السماء وإيجادها .
وقوله تعالى : { وهي دخان } روي أنها كانت جسماً رخواً كالدخان أو البخار ، وروي أنه مما أمره الله أن يصعد من الماء ، وهنا لفظ متروك ويدل عليه الظاهر ، وتقديره : فأوجدها وأتقنها وأكمل أمرها ، وحينئذ قيل لها وللأرض { ائتيا طوعاً أو كرهاً } .
وقرأ الجمهور : «إيتيا » من أتى يأتي «قالتا أتينا » على وزن فعلنا ، وذلك بمعنى إيتيا وإرادتي فيكما ، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد : «آيتيا »{[10044]} من آتى يؤتى «قالتا آتينا » على وزن أفعلنا{[10045]} ، وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما ، والإشارة بهذا كله إلى تسخيره وما قدره الله من أعمالها .
وقوله : { أو كرهاً } فيه محذوف ومقتضب ، والتقدير : { ائتيا طوعاً } وإلا أتيتما { كرهاً } . وقوله : { قالتا } أراد الفرقتين المذكورتين ، وجعل السماوات سماء والأرضين أرضاً ، ونحو هذا قول الشاعر : [ الوافر ]
ألم يحزنك أن حبال قومي . . . وقومك قد تباينتا انقطاعا{[10046]}
جعلها فرقتين ، وعبر عنها ب { ائتيا } .
وقوله : { طائعين } لما كانت ممن يقول وهي حالة عقل جرى الضمير في { طائعين } ذلك المجرى ، وهذا كقوله : { رأيتهم لي ساجدين }{[10047]} ونحوه .
واختلف الناس في هذه المقالة من السماء والأرض ، فقالت فرقة : نطقت حقيقة ، وجعل الله تعالى لها حياة وإدراكاً يقتضي نطقها . وقالت فرقة : هذا مجاز ، وإنما المعنى أنها ظهر منها من اختيار الطاعة والخضوع والتذلل ما هو بمنزلة القول { أتينا طائعين } والقول الأول أحسن ، لأنه لا شيء يدفعه وإنما العبرة به أتم والقدرة فيه أظهر .
{ ثم } للترتيب الرتبي ، وهي تدل على أن مضمون الجملة المعطوفة أهم مرتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها ، فإن خلق السماوات أعظم من خلق الأرض ، وعوالمها أكثر وأعظم ، فجيء بحرف الترتيب الرتبي بعد أن قُضِي حق الاهتمام بذكر خلق الأرض حتى يوفَّى المقتضيان حقَّهما . وليس هذا بمقتض أن الإِرادة تعلقت بخلق السماء بعد تمام خلق الأرض ولا مقتضياً أن خلق السماء وقع بعد خلق الأرض كما سيأتي .
والاستواء : القصد إلى الشيء تَوًّا لا يعترضه شيء آخر . وهو تمثيل لتعلق إرادة الله تعالى بإيجاد السماوات ، وقد تقدم في قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء } في سورة البقرة ( 29 ) . وربما كان في قوله : { فَقَال لَهَا وللأرْضِ ائتِيَا طَوْعاً أوْ كَرْهاً } إشارة إلى أنه تعالى توجهت إرادته لخلق السماوات والأرض توجهاً واحداً ثم اختلف زَمن الإِرادة التنجيزي بتحقيق ذلك فتعلقت إرادته تنجيزاً بخلق السماء ثم بخلق الأرض ، فعبر عن تعلق الإِرادة تنجيزاً لخلق السماء بتوجه الإرادة إلى السماء ، وذلك التوجه عبر عنه بالاستواء . ويدل لذلك قوله : { فَقَالَ لَهَا وللأرض ائْتِيَا طَوْعاً أوْ كَرْهاً قَالَتَا أتَيْنَا طآئِعِينَ } ففعل { ائتيا } أمر للتكوين .
والدخان : ما يتصاعد من الوَقود عند التهاب النار فيه . وقوله : { وَهِيَ دُخَانٌ } تشبيه بليغ ، أي وهي مثل الدخان ، وقد ورد في الحديث : « أنها كانت عَماء » .
وقيل : أراد بالدخان هنا شيئاً مظلماً ، وهو الموافق لما في « سفر التكوين » من قولها : « وعلى وجه الغمر ظلمة » وهو بعيد عن قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن في الوجود من الحوداث إلا العَماءَ ، والعماء : سحابٌ رقيق ، أي رطوبة دقيقة وهو تقريب للعنصر الأصلي الذي خَلق الله منه الموجودات ، وهو الذي يناسب كوْنَ السماء مخلوقة قبل الأرض . ومعنى : { وَهِيَ دُخَانٌ } أن أصل السماء هو ذلك الكائن المشبه بالدخان ، أي أن السماء كونت من ذلك الدخان كما تقول : عمَدْتُ إلى هاته النخلة ، وهي نواة ، فاخترت لها أخصب تربة ، فتكون مادة السماء موجودة قبل وجود الأرض .
وقوله : { فَقَالَ لَهَا وللأرْضِ } تفريع على فعل { استوى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } فيكون القول موجهاً إلى السماء والأرض حينئذٍ ، أي قبل خلق السماء لا محالة وقبل خلق الأرض ، لأنه جعل القولَ لها مقارناً القول للسماء ، وهو قول تكوين . أي تعلّققِ القدرة بالسماء والأرض ، أي بمادة تكوينهما وهي الدخان لأن السماء تكونت من العماء بجمود شيء منه سمي جلداً فكانت منه السماء وتكوّن مع السماء الماء وتكونت الأرض بيُبْس ظهر في ذلك الماء كما جاء الإِصحاح الأول من « سفر التكوين » من التوراة .
والإِتيان في قوله : { ائتيا } أصله : المجيء والإِقبال ولما كان معناه الحقيقي غير مراد لأن السماء والأرض لا يتصور أن يأتيا ، ولا يتصور منهما طواعية أو كراهية إذ ليستا من أهل العقول والإدراكات ، ولا يتصور أن الله يكرههما على ذلك لأنه يقتضي خروجهما عن قدرته بادىء ذي بدء تعينّ الصرف عن المعنى الحقيقي وذلك بأحد وجهين لهما من البلاغة المكانة العليا :
الوجه الأول : أن يكون الإِتيان مستعاراً لقبول التكوين كما استعير للعصيان الإِدبارُ في قوله تعالى :
{ ثم أدبر يسعى } [ النازعات : 22 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة حين امتنع من الإِيمان والطاعة في وفد قومه بني حنيفة « لئن أدبرت ليعقرنك اللَّه » وكما يستعار النفور والفرار للعصيان . فمعنى { ائتيا } امتثلا أمر التكوين . وهذا الامتثال مستعار للقبول وهو من بناء المجاز على المجاز وله مكانة في البلاغة ، والقول على هذا الوجه مستعار لتعلق القدرة بالمقدور كما في قوله : { أن يقول له كن فيكون } [ يس : 82 ] .
وقوله : { طَوْعاً أوْ كَرْهاً } كناية عن عدم البدّ من قبول الأمر وهو تمثيل لتمكن القدرة من إيجادهما على وفق إرادة الله تعالى فكلمة { طَوْعاً أو كَرْهاً } جارية مجرى الامثال . و { طَوْعاً أوْ كَرْهاً } مصدران وقعا حالين من ضمير { ائتنا } أي طائعين أو كارهيْن .
والوجه الثاني : أن تكون جملة { فَقَالَ لَهَا ولِلأرْضِ ائتنا طَوْعاً أوْ كَرْهاً } مستعملة تمثيلاً لهيئة تعلق قدرة الله تعالى لتكوين السماء والأرض لعظَمة خلْقهما بهيئة صدور الأمر من آمر مُطاع للعبد المأذون بالحضور لعمل شاق أن يقول له : ائت لهذا العمل طوعاً أو كرهاً ، لتوقع إبائهِ من الإِقدام على ذلك العمل ، وهذا من دون مراعاة مشابهة أجزاء الهيئة المركبة المشبَّهة لأجزاء الهيئة المشبه بها ، فلا قول ولا مقول ، وإنما هو تمثيل ، ويكون { طَوْعاً أوْ كَرْهاً } على هذا من تمام الهيئة المشبه بها وليس له مقابل في الهيئة المشبهة . والمقصود على كلا الاعتبارين تصوير عظمة القدرة الإِلهية ونفوذها في المقدورات دَقَّت أو جلَّت .
وأما قوله : { قالتا أتينا طائعين } فيجوز أن يكون قول السماء والأرض مستعاراً لدلالة سرعة تكونهما لشبههما بسرعة امتثال المأمور المطيع عن طواعية فإنه لا يتردد ولا يتلكَّأ على طريقة المكنية والتخييل من باب قول الراجز الذي لا يعرف تعيينه :
وهو كثير ، ويجوز أن يكون تمثيلاً لهيئة تكوّن السماء والأرض عند تعلق قدرة الله تعالى بتكوينهما بهيئة المأمور بعمل تقَبله سريعاً عن طواعية . وهما اعتباران متقاربان ، إلا أن القول ، والإِتيان ، والطوع ، على الاعتبار الأول تكون مجازات ، وعلى الاعتبار الثاني تكون حقائق وإنما المجاز في التركيب على ما هو معلوم من الفرق بين المجاز المفرد والمجاز المركب في فن البيان .
وإنما جاء قوله : { طَآئِعِينَ } بصيغة الجمع لأن لفظ السماء يشتمل على سبع سماوات كما قال تعالى إثر هذا { فقضاهن سَبْعَ سموات } [ فصلت : 12 ] فالامتثالُ صادر عن جَمع ، وأما كونه بصيغة جمع المذكر فلأنَّ السماء والأرضَ ليس لهما تأنيث حقيقي .
وأما كونه بصيغة جمع العقلاء فذلك ترشيح للمكنية المتقدمة مثل قوله تعالى : { إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] .