قوله تعالى : { لو خرجوا فيكم } ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالجهاد لغزوة تبوك ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره على ثنية الوداع ، وضرب عبد الله بن أبي على ذي جدة أسفل من ثنية الوداع ، ولم يكن بأقل العسكرين ، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب ، فأنزل الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم : { لو خرجوا } يعني المنافقين { فيكم } أي معكم ، { ما زادوكم إلا خبالا } ، أي : فسادا وشرا . ومعنى الفساد : إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر ، { ولأوضعوا } ، أسرعوا ، { خلالكم } ، وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة ونقل الحديث من البعض إلى البعض . وقيل : { لأوضعوا خلالكم } أي : أسرعوا فيما يخل بكم . . { يبغونكم الفتنة } ، أي : يطلبون لكم ما تفتنون به ، يقولون : لقد جمع لكم كذا وكذا ، وإنكم مهزومون وسيظهر عليكم عدوكم ونحو ذلك . وقال الكلبي : يبغونكم الفتنة يعني : العيب والشر . وقال الضحاك : الفتنة الشرك ، ويقال : بغيته الشر والخير أبغيه بغاء إذا التمسته له ، يعنى : يغيت له . { وفيكم سماعون لهم } ، قال مجاهد : معناه وفيكم محبون لهم يؤدون إليهم ما يسمعون منكم ، وهم الجواسيس . وقال قتادة : معناه وفيكم مطيعون لهم ، أي : يسمعون كلامهم ويطيعونهم . { والله عليم بالظالمين } .
ثم ذكر الحكمة في ذلك فقال { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا } أي : نقصا .
{ وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ } أي : ولسعوا في الفتنة والشر بينكم ، وفرقوا جماعتكم المجتمعين ، { يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } أي : هم حريصون على فتنتكم وإلقاء العداوة بينكم .
{ وَفِيكُمْ } أناس ضعفاء العقول { سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي : مستجيبون لدعوتهم يغترون بهم ، فإذا كانوا هم حريصين على خذلانكم ، وإلقاء الشر بينكم ، وتثبيطكم عن أعدائكم ، وفيكم من يقبل منهم ويستنصحهم . فما ظنك بالشر الحاصل من خروجهم مع المؤمنين ، والنقص الكثير منهم ، فللّه أتم الحكمة حيث ثبطهم ومنعهم من الخروج مع عباده المؤمنين رحمة بهم ، ولطفا من أن يداخلهم ما لا ينفعهم ، بل يضرهم .
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } فيعلم عباده كيف يحذرونهم ، ويبين لهم من المفاسد الناشئة من مخالطتهم .
ثم بين - سبحانه - المفاسد المترتبة على خروج المنافقين في جيش المؤمنين فقال : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } ، وأصل الخبال . الاضطراب والمرض الذي يؤثر في العقل كالجنون ونحوه . أو هو الاضطراب في الرأى .
أى : لو خرج هؤلاء المنافقون معكم أيها المؤمنون إلى تبوك ما زادوكم شيئاً من الأشياء إلا اضطراباً في الرأى ؛ وفسادا في العمل ، وضعفا في القتال ، لأن هذا هو شأن النفوس المريضة التي تكره لكم الخير ، وتحب لكم الشر .
قال الآلوسى . والاستثناء مفرغ متصل ، والمستثنى منه محذوف ، ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زاده ؛ لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء .
وقال أبو حيان : إنه كان في تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج أيضاً اجتمعوا بهم زاد الخبال ، فلا فساد في ذلك الاستلزام لو ترتب .
وقوله : { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } معطوف على قوله : " ما زادوكم " . والإِيضاع . كما يقول القرطبى . سرعة السير قال الراجز .
يا ليتنى فيها جذع . . . أخب فيها وأضع
يقال : وضع البعير . إذا أسرع في السير ، وأوضعته . حملته على العدو .
والخلل الفرجة بين الشيئين . والجمع الخلال ، أى : الفرج التي تكون بين الصفوف وهو هنا ظرف مكان بمعنى بين ، ومفعول الإِيضاح محذوف ، أى . ولأسرعوا بينكم ركائبهم بالوشايات والنمائم والإِفساد .
ففى الكلام استعارة تبعية ، حيث شبه سرعة إفسادهم لذات البين بسرعة سير الراكب ، ثم استعير لها الإِيضاع وهو للإِبل وأصل الكلام ولأوضعوا ركائبهم ، ثم حذفت الركائب .
وجملة { يَبْغُونَكُمُ الفتنة } في محل نصب على الحال من فاعل ( أوضعوا ) .
أى : لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا شراً وفساداً ، ولأسرعوا بينكم بالإِشاعات الكاذبة ، والأقوال الخبيثة ، حال كونهم باغين وطالبين لكم الافتتان في دينكم ، والتشكيك في صحة عقائدكم ، والتثبيط عن القتال ، والتخويف من قوة أعدائكم ، ونشر الفرقة في صفوفكم .
فالمراد بالفتنة هنا : كل ما يؤدى إلى ضعف المسلمين في دينهم أو في دنياهم .
وقوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } بيان لأحوال المؤمنين في ذلك الوقت .
أى . وفيكم . في ذلك الوقت . يا معشر المؤمنين ، أناس كثيرو السماع لهؤلاء المنافقين ، سريوا الطاعة لما يلقون إليهم من أباطيل .
قال ابن كثير . قوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أى : مطيعون لهم ، ومستحسنون لحديثهم وكلامهم ، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، فيؤدى إلى وقع شر بين المؤمنين وفساد كبير .
وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أى : عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم .
وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عام في جمع الأحوال .
والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق . وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين .
وقال محمد بن إسحاق : كان الذين استأذنوا ، فيما بلغنى ، من ذوى الشرف ، منهم عبد الله بن أبى بن سلول ، والجد بن قيس ، وكانوا أشرافا في قومهم ، فثبطهم الله لعلمه بهم أن يرخجوا فيفسدوا عليه جنده . وكان في جنده قوم أهل محبة لهم ، وطاعة فيما يدعونه إليه لشرفهم فقال : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } .
وقوله : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } تذييل المقصود منه وعيد هؤلاء المنافقين وتهديديهم بسبب ما قدمت أيديهم من مفاسد .
أى : والله - تعالى - لا تخفى عليه خافية من أحوال هؤلاء الظالمين ، وسيعاقبهم بالعقاب المناسب لجرائمهم ورذائلهم .
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد وضحت أن هناك ثلاث مفاسد كانت ستترتب على خروج هؤلاء المنافقين مع المؤمنين إلى تبوك .
أما المفسدة الأولى : فهى زيادة الاضطراب والفوضى في صفوف المجاهدين .
وأما المفسدة الثانية : فهى الإِسراع بينهم بالوشايات والنمائم والإِشاعات الكاذبة .
وأما المفسدة الثالثة : فهى الحرص على تفريق كلمتهم ، وتشكيكهم في عقيدتهم .
وهذه المفاسد الثلاث ما وجدت في جيش إلا وأدت إلى انهزامه وفشله .
ومن هنا كان تثبيط الله - تعالى - لهؤلاء المنافقين ، نعمة كبرى للمؤمنين .
ومن هنا - أيضاً - كانت الكثرة العددية في الجيوش لا تؤتى ثمارها المرجوة منها ، إلا إذا كانت متحدة في عقيدتها ، وأهدافها ، واتجاهاتها . . أما إذا كانت هذه الكثرة مشتملة على عدد كبير من ضعاف الإِيمان ، فإنها في هذه الحالة يكون ضرر أكبر من نفعها .
( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ، وفيكم سماعون لهم ، واللّه عليم بالظالمين ) . .
والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف ، والنفوس الخائنة خطر على الجيوش ؛ ولو خرج أولئك المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم بل لزادوهم اضطراباً وفوضى . ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل . وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك الحين . ولكن اللّه الذي يرعى دعوته ويكلأ رجالها المخلصين ، كفى المؤمنين الفتنة ، فترك المنافقين المتخاذلين قاعدين :
والظالمون هنا معناهم( المشركون ) فقد ضمهم كذلك إلى زمرة المشركين !
ثم بين [ الله تعالى ]{[13544]} وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين . فقال : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا } أي : لأنهم جبناء مخذولون ، { وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } أي : ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة ، { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي : مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم ، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير .
وقال مجاهد ، وزيد بن أسلم ، وابن جرير : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي : عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم .
وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عام في جميع الأحوال ، والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق ، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين .
وقال محمد بن إسحاق : كان فيما بلغني - من استأذن - من ذوي الشرف منهم : عبد الله بن أبي ابن سلول والجَدُّ بن قيس ، وكانوا أشرافا في قومهم ، فثبطهم الله ، لعلمه بهم : أن يخرجوا معه{[13545]} فيفسدوا عليه جنده ، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه ، لشرفهم فيهم ، فقال : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } {[13546]} ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } فأخبر بأنه [ يعلم ]{[13547]} ما كان ، وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ؛ ولهذا قال تعالى : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا } فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا ، كما قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] وقال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } [ النساء : 66 - 68 ] والآيات في هذا كثيرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً ولأوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : لو خرج أيها المؤمنون فيكم هؤلاء المنافقون ، ما زَادُوكُمْ إلاّ خَبالاً يقول : لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادا وضرّا ولذلك ثبطتهم عن الخروج معكم . وقد بيّنا معنى الخبال بشواهده فيما مضى قبل . وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يقول : ولأسرعوا بركائبهم السير بينكم . وأصله من إيضاع الخيل والركاب ، وهو الإسراع بها في السير ، يقال للناقة إذا أسرعت السير : وضعت الناقة تضع وضعا ومَوْضُوعا ، وأوضعها صاحبها : إذا جدّ بها وأسرع يُوضِعُها إيضاعا ومنه قول الراجز :
يا لَيْتَنِي فِيها جَذَعْ *** أخُبّ فيها وأضَعْ
وأما أصل الخلال : فهو من الخلل : وهي الفرج تكون بين القوم في الصفوف وغيرها ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «تَرَاصّوا فِي الصّفُوفِ لا يَتَخَلّلُكُمْ أوْلادُ الحَذَفِ » .
وأما قوله : يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ فإن معنى يبغونكم الفتنة : يطلبون لكم ما تفتنون به عن مخرجكم في مغزاكم ، بتثبيطهم إياكم عنه ، يقال منه : بغيته الشرّ ، وبغيته الخير أبغيه بغاءً : إذا التمسته له ، بمعنى : بغيت له ، وكذلك عكمتك وحلبتك ، بمعنى : حلبت لك وعكمت لك ، وإذا أرادوا أعنتك على التماسه وطلبه ، قالوا : أبغيتك كذا وأحلبتك وأعكمتك : أي أعنتك عليه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ولأَوْضَعُوا خِلالَكُم بينكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ بذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يقول : ولأوضعوا أسلحتهم خلالكم بالفتنة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ يبطئونكم . قال : رفاعة بن التابوت ، وعبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وأوس بن قيظي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ قال : لأسرعوا الأزقة خلالكم . يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ يبطئونكم ، عبد الله بن نبتل ، ورفاعة بن تابوت ، وعبد الله بن أبيّ ابن سلول .
قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ قال : لأسرعوا خلالكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ بذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زَادُوكُمْ إلاّ خَبالاً قال : هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك ، يُسّليّ الله عنهم نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فقال : وما يُحْزِنكم . ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ الكفر .
وأما قوله : وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وفيكم سماعون لحديثكم لهم يؤدونه إليهم عيون لهم عليكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ يحدّثون بأحاديثكم ، عيونٌ غير منافقين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ قال : محدّثون عيون غير منافقين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ يسمعون ما يؤدونه لعدوّكم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وفيكم من يسمع كلامهم ويطيع لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وفيكم من يسمع كلامهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم : عبد الله بن أبيّ ابن سلولَ والجدّ بن قيس ، وكانوا أشرافا في قومهم ، فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معهم فيفسدوا عليه جنده ، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم ، فقال : وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ فعلى هذا التأويل : وفيكم أهل سمع وطاعة منكم لو صحبوكم أفسدوهم عليكم بتثبيطهم إياهم عن السير معكم .
وأما على التأويل الأوّل ، فإن معناه : وفيكم منهم سماعون يسمعون حديثكم لهم ، فيبلغونهم ويؤدونه إليهم عيون لهم عليكم .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين عندي في ذلك بالصواب تأويل من قال : معناه : وفيكم سماعون لحديثكم لهم يبلغونه عنكم عيون لهم ، لأن الأغلب من كلام العرب في قولهم : سماع ، وصف من وصف به أنه سماع للكلام ، كما قال الله جلّ ثناؤه في غير موضع من كتابه : سمّاعُونَ للْكَذِبِ واصفا بذلك قوما بسماع الكذب من الحديث . وأما إذا وصفوا الرجل بسماع كلام الرجل وأمره ونهيه وقبوله منه ، وانتهائه إليه فإنما تصفه بأنه له سامع ومطيع ، ولا تكاد تقول : هو له سماع مطيع .
وأما قوله : وَاللّهُ عَلِيمٌ بالظّالِمِينَ فإن معناه : والله ذو علم بمن يوجه أفعاله إلى غير وجوهها ويضعها في غير مواضعها ، ومن يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعذر ومن يستأذنه شكّا في الإسلام ونفاقا ، ومن يسمع حديث المؤمنين ليخبر به المنافقين ومن يسمعه ليسرّ بما سرّ المؤمنين ويساء بما ساءهم ، لا يخفى عليه شيء من سرائر خلقه وعلانيتهم . وقد بيّنا معنى الظلم في غير موضع من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
{ لو خرجوا فيكم ما زادوكم } بخروجهم شيئا . { إلا خبالا } فسادا وشرا ولا يستلزم ذلك أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء ، ولأجل هذا التوهم جعل الاستثناء منقطعا وليس كذلك لأنه لا يكون مفرغا . { ولأوضعوا خلالكم } ولأسرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة والتضريب ، أو الهزيمة والتخذيل من وضع البعير وضعا إذا أسرع . { يبغونكم الفتنة } يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم أو الرعب في قلوبكم ، والجملة حال من الضمير في " أوضعوا " . { وفيكم سمّاعون لهم } ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم ، أو نمامون يسمعون حديثكم للنقل إليهم . { والله عليم بالظالمين } فيعلم ضمائرهم وما يتأتى منهم .
وقوله تعالى : { لو خرجوا فيكم } الآية ، خبر بأنهم لو خرجوا لكان خروجهم مضرة ، وقولهم { إلا خبالاً } استثناء من غير الأول ، وهذا قول من قدر أنه لم يكن في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبال ، فيزيد المنافقون فيه ، فكأن المعنى ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالاً ، ويحتمل أن يكون استثناء غير منقطع وذلك أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في غزوة تبوك كان فيه منافقون كثير ولهم لا محالة خبال ، فلو خرج هؤلاء لالتأموا مع الخارجين فزاد الخبال ، والخبال الفساد في الأشياء المؤتلفة الملتحمة كالمودات وبعض الأجرام ، ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
يا بني لبينى لستما بيدِ*** إلاّ يداً مخبولة العضدِ{[5677]}
وقرأ ابن أبي عبلة «ما زادكم » بغير واو{[5678]} .
وقرأ جمهور الناس { لأوضعوا } ومعناه لأسرعوا السير ، و { خلالكم } معناه فيما بينكم من هنا إلى هنا لسد الموضع الخلة بين الرجلين ، والإيضاع سرعة السير{[5679]} ، وقال الزجّاج { خلالكم } معناه فيما يخل بكم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وماذا يقول في قوله : { فجاسوا خلال الديار }{[5680]} وقرأ مجاهد فيما حكى النقاش عنه ، «ولأوفضوا » وهو أيضاً بمعنى الإسراع ومنه قوله تعالى : { إلى نصب يوفضون }{[5681]} ، وحكي عن الزبير أنه قرأ «ولأرفضوا » قال أبو الفتح : هذه من رفض البعير إذا أسرع في مشيه رقصاً ورقصاناً ، ومنه قول حسان بن ثابت : [ الكامل ]
بزجاجة رفضت بما في قعرها *** رقص القلوص براكب مستعجل{[5682]}
ووقعت «ولا أوضعوا » بألف بعد «لا » في المصحف ، وكذلك وقعت في قوله { أو لأذبحنه }{[5683]} ، قيل وذلك لخشونة هجاء الأولين{[5684]} قال الزجّاج : إنما وقعوا في ذلك لأن الفتحة في العبرانية وكثير من الألسنة تكتب ألفاً .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تمطل حركة اللام فيحدث بين اللام والهمزة التي من أوضع{[5685]} ، وقوله : { يبغونكم الفتنة } أي يطلبون لكم الفتنة ، وقوله { وفيكم سماعون } قال سفيان بن عيينة والحسن ومجاهد وابن زيد معناه جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم ، ورجحه الطبري ، قال النقاش : بناء المبالغة يضعف هذا القول ، وقال جمهور المفسرين معناه وفيكم مطيعون سامعون لهم ، وقوله { والله عليم بالظالمين } توعد لهم ولمن كان من المؤمنين على هذه الصفة .