{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } ، بقي أن يقال : فلمَّا كان الأصلح أن لا يخرجوا ، فلِمَ عاتب الرسول في الإذن ؟ فنقولُ : قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال : ليس في قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] أنه عليه الصلاة والسلام ، قد أذن لهم بالقُعُود ، بل يحتمل أن يقال : إنهم استأذنوه في الخروج معه ، فأذن لهم ، وعلى هذا يسقط السؤال .
قال أبو مسلم " ويدلُّ على صحَّة ما قلنا أنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ خُروجَهُمْ معه كان مفسدةً ؛ فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه " ويؤكد ذلك قوله تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] وقوله تعالى : { سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } [ الفتح : 15 ] فاندفع السُّؤال على طريق أبي مسلم .
والجوابُ على طريقة غيره ، وهو أن نسلم أنَّ العتاب في قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] يوجب أنَّهُ عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود ، فنقولُ : ذلك العتابُ ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة ، بل لأجل أنَّ إذنه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك القعود مفسدة ، وبيانه من وجوه :
الأول : أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل ، ولهذا قال تعالى { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين } [ التوبة : 43 ] .
والثاني : أن التقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود ، فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ، ولم يغتَرُّوا بقولهم ، فلمَّا أذن الرَّسولُ في ذلك القعود بقي نفاقهم مخفياً ، وفاتت تلك المصالح .
والثالث : أنَّهم لمَّا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليهم وقال : { اقعدوا مَعَ القاعدين } ثم إنَّهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا : قد أذن لنا ، فقال تعالى : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] أي : لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى غرضهم .
الرابع : أن الذين يقولون إن الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ، قالوا : إنه إنَّما أذن بمجرد الاجتهاد وذلك غير جائز ؛ لأنهم لمَّا تمكنوا من الوَحْيِ ، وكان الإقدامُ على الاجتهاد مع التَّمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حضور النَّص ، فلمَّا كان هذا غير جائز فكذا ذاك .
ثم قال تعالى : { وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين } . واختلفوا في تأويل هذا القول ، فقيل : هو الشيطان على طريق الوسوسة ، وقيل : قاله بعضهم لبعضٍ . وقيل : قاله الرسُول - عليه الصلاة والسلام - ، لمَّا أذن لهم في التخلف ، فعاتبه الله . وقيل : القائل هو الله تعالى ؛ لأنه كره خروجهم ؛ لأجل الإفساد ، فأمرهم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص . ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } أي : في جيشكم ، وفي جمعكم . وقيل : " فِي " بمعنى " مع " أي : معكم .
قوله : " إِلاَّ خَبَالاً " جَوَّزُوا فيه أن يكون استثناء متصلاً ، وهو مفرَّغٌ ؛ لأنَّ زاد يتعدى لاثنين .
قال الزمخشري{[17846]} المُسْتَثنى منه غيرُ مذكورٍ ، فالاستثناءُ من أعمِّ العام ، الذي هو الشيء فكان استثناء متصلاً ، فإنَّ " الخبال " بعض أعمِّ العام ، كأنه قيل : " ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً " وجوَّزُوا فيه أن يكون منقطعاً ، والمعنى : ما زادوكم قوةً ولا شدةً ، ولكنْ خبالاً . وهذا يجيءُ على قول من قال : إنَّه لم يكن في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبال . كذا قال أبو حيان{[17847]} . وفيه نظرٌ ؛ لأنه إذا لم يكن في العسكر خبال أصلاً ، فكيف يُسْتثنى شيءٌ لم يكن ولم يتوهَّمْ وجوده ؟ . وتقدم تفسير " الخبال " في آل عمران . قال الكلبيُّ : إلاَّ شراً وقال يمان : إلاَّ مكراً ، وقيل : إلاَّ غيّاً ، وقال الضحاك : إلاَّ غَدْراً .
وقرأ ابن أبي{[17848]} عبلة : " ما زادكُمْ إلاَّ خَبَالاً " ، أي : ما زادكم خروجهم .
قوله : { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } . الإيضاعُ : الإسراعُ ، يقال : أوضع البعيرُ ، أي : أسرعَ في سيرهِ ؛ قال امرؤ القيس : [ الوافر ]
أرَانَا مُوضِعينَ لأمْرِ عَيْبٍ *** ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ{[17849]}
يَا لَيْتنِي فيهَا جَذَعْ *** أخُبُّ فيها وأضَعْ{[17850]}
ومفعول : " أوْضَعُوا " محذوف ، أي : أوضعوا ركائبهم ؛ لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي .
قال الواحديُّ " قال أكثر أهل اللُّغةِ : إن الإيضاع حمل البعير على العدو ، ولا يجوزُ أن يقال : أوضع الرَّجلُ إذا سار بنفسه سَيْراً حثيثاً . يقال : وضع البعيرُ : إذا عدا ، وأوضعه الراكب : إذا حمله عليه " .
وقال الفرَّاءُ : " العرب تقول : وضعتْ النَّاقةُ ، وأوضع الراكبُ ، وربَّما قالوا للرَّاكب : وضَعَ " .
وقال الأخفشُ وأبو عبيد : يجوزُ أن يقال : أوضع الرَّجُلُ : إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد وضع ناقته . روى أبو عبيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم " أفاض من عرفة وعليه السَّكينة وأوضعَ في وادي مُحَسِّر " {[17851]} . قال الواحديُّ " والآية تشهد لقول الأخفشِ وأبي عبيد " والمراد من الآية : السَّعي بينهم بالعداوة والنميمة .
و " الخِلال " جمع " خَلَل " ، وهو الفُرْجَةُ بين الشيئين . ومنه قوله : { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [ النور : 43 ] ، وقرىء{[17852]} " مِنْ خلله " وهي مخارج صب القطر . ويستعار في المعاني فيقال : في هذا الأمْر خلل .
وقرأ مجاهدٌ{[17853]} ، ومحمد بن زيدٍ " ولأوْفَضُوا " ، وهو الإسراع أيضاً ؛ من قوله تعالى : { إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [ المعارج : 43 ] .
وقرأ ابنُ الزبير{[17854]} " ولأرْفَضُوا " بالفراء والفاء والضاد المعجمة ، من : رفض ، أي : أسرع أيضاً ؛ قال حسَّان : [ الكامل ]
بِزُجَاجةٍ رفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا *** رَفَضَ القَلُوصِ بِراكبٍ مُسْتعْجِلِ{[17855]}
. . . *** والرَّافِضَاتِ إلى مِنى فالغَبْغَبِ{[17856]}
يقال : رَفَضَ في مشيه رفْضاً ، ورَفَضاناً .
فإن قيل : كتب في المصحفِ " ولاَ أوْضَعُوا " بزيادة ألف . أجاب الزمخشريُّ " أنَّ الفتحة كانت تُكْتَب ألفاً قبل الخطِّ العربي ، والخطُّ العربي اخترع قريباً من نزول القرآن ، وقد بقى من ذلك الألف أثرٌ في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً ، وفتحتها ألفاً أخرى ، ونحوه { أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] . يعني : في زيادة الألف بعد " لا " وهذا لا يجوزُ القراءةُ به ومن قرأ به متعمداً يكفّر " .
قوله : " يَبْغُونَكُمُ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، من فاعل " أوْضَعُوا " أي : لأَسْرعُوا فيما بينكم ، حال كونهم باغين ، أي : طالبين الفتنة لكم ، ومعنى الفتنة : افتراقُ الكلمة .
قوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول " يَبْغُونكُمْ " أو من فاعله ، وجاز ذلك ؛ لأنَّ في الجملة ضميريهما . ويجوزُ أن تكون مستأنفةً ، والمعنى : أنَّ فيكم من يسمع لهم ، ويُصْغِي لقولهم .
فإن قيل : كيف يجوزُ ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ؟
فالجوابُ : لا يمتنع لمنْ قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ، أو يكون بعضهم مجبولاً على الجبن والفشل ؛ فيؤثر قولهم فيهم ، أو يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساءِ المنافقين فينظرون إليهم بعض الإجلال والتَّعظيم ؛ فلهذا الأسباب يؤثر قول المنافقين فيهم ويجوز أن يكون المراد : وفيكم جواسيس منهم ، يسمعون لهم الأخبار منكم ، فاللاَّمُ على الأوَّلِ للتقوية لكون العامل فرعاً ، وفي الثاني للتعليل ، أي : لأجلهم . ثم قال تعالى : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم ، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.