اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَوۡ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالٗا وَلَأَوۡضَعُواْ خِلَٰلَكُمۡ يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّـٰعُونَ لَهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِينَ} (47)

{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } ، بقي أن يقال : فلمَّا كان الأصلح أن لا يخرجوا ، فلِمَ عاتب الرسول في الإذن ؟ فنقولُ : قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال : ليس في قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] أنه عليه الصلاة والسلام ، قد أذن لهم بالقُعُود ، بل يحتمل أن يقال : إنهم استأذنوه في الخروج معه ، فأذن لهم ، وعلى هذا يسقط السؤال .

قال أبو مسلم " ويدلُّ على صحَّة ما قلنا أنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ خُروجَهُمْ معه كان مفسدةً ؛ فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه " ويؤكد ذلك قوله تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] وقوله تعالى : { سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } [ الفتح : 15 ] فاندفع السُّؤال على طريق أبي مسلم .

والجوابُ على طريقة غيره ، وهو أن نسلم أنَّ العتاب في قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] يوجب أنَّهُ عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود ، فنقولُ : ذلك العتابُ ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة ، بل لأجل أنَّ إذنه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك القعود مفسدة ، وبيانه من وجوه :

الأول : أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل ، ولهذا قال تعالى { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين } [ التوبة : 43 ] .

والثاني : أن التقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود ، فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ، ولم يغتَرُّوا بقولهم ، فلمَّا أذن الرَّسولُ في ذلك القعود بقي نفاقهم مخفياً ، وفاتت تلك المصالح .

والثالث : أنَّهم لمَّا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليهم وقال : { اقعدوا مَعَ القاعدين } ثم إنَّهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا : قد أذن لنا ، فقال تعالى : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] أي : لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى غرضهم .

الرابع : أن الذين يقولون إن الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ، قالوا : إنه إنَّما أذن بمجرد الاجتهاد وذلك غير جائز ؛ لأنهم لمَّا تمكنوا من الوَحْيِ ، وكان الإقدامُ على الاجتهاد مع التَّمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حضور النَّص ، فلمَّا كان هذا غير جائز فكذا ذاك .

ثم قال تعالى : { وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين } . واختلفوا في تأويل هذا القول ، فقيل : هو الشيطان على طريق الوسوسة ، وقيل : قاله بعضهم لبعضٍ . وقيل : قاله الرسُول - عليه الصلاة والسلام - ، لمَّا أذن لهم في التخلف ، فعاتبه الله . وقيل : القائل هو الله تعالى ؛ لأنه كره خروجهم ؛ لأجل الإفساد ، فأمرهم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص . ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } أي : في جيشكم ، وفي جمعكم . وقيل : " فِي " بمعنى " مع " أي : معكم .

قوله : " إِلاَّ خَبَالاً " جَوَّزُوا فيه أن يكون استثناء متصلاً ، وهو مفرَّغٌ ؛ لأنَّ زاد يتعدى لاثنين .

قال الزمخشري{[17846]} المُسْتَثنى منه غيرُ مذكورٍ ، فالاستثناءُ من أعمِّ العام ، الذي هو الشيء فكان استثناء متصلاً ، فإنَّ " الخبال " بعض أعمِّ العام ، كأنه قيل : " ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً " وجوَّزُوا فيه أن يكون منقطعاً ، والمعنى : ما زادوكم قوةً ولا شدةً ، ولكنْ خبالاً . وهذا يجيءُ على قول من قال : إنَّه لم يكن في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبال . كذا قال أبو حيان{[17847]} . وفيه نظرٌ ؛ لأنه إذا لم يكن في العسكر خبال أصلاً ، فكيف يُسْتثنى شيءٌ لم يكن ولم يتوهَّمْ وجوده ؟ . وتقدم تفسير " الخبال " في آل عمران . قال الكلبيُّ : إلاَّ شراً وقال يمان : إلاَّ مكراً ، وقيل : إلاَّ غيّاً ، وقال الضحاك : إلاَّ غَدْراً .

وقرأ ابن أبي{[17848]} عبلة : " ما زادكُمْ إلاَّ خَبَالاً " ، أي : ما زادكم خروجهم .

قوله : { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } . الإيضاعُ : الإسراعُ ، يقال : أوضع البعيرُ ، أي : أسرعَ في سيرهِ ؛ قال امرؤ القيس : [ الوافر ]

أرَانَا مُوضِعينَ لأمْرِ عَيْبٍ *** ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ{[17849]}

وقال آخر : [ منهوك الرجز ]

يَا لَيْتنِي فيهَا جَذَعْ *** أخُبُّ فيها وأضَعْ{[17850]}

ومفعول : " أوْضَعُوا " محذوف ، أي : أوضعوا ركائبهم ؛ لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي .

قال الواحديُّ " قال أكثر أهل اللُّغةِ : إن الإيضاع حمل البعير على العدو ، ولا يجوزُ أن يقال : أوضع الرَّجلُ إذا سار بنفسه سَيْراً حثيثاً . يقال : وضع البعيرُ : إذا عدا ، وأوضعه الراكب : إذا حمله عليه " .

وقال الفرَّاءُ : " العرب تقول : وضعتْ النَّاقةُ ، وأوضع الراكبُ ، وربَّما قالوا للرَّاكب : وضَعَ " .

وقال الأخفشُ وأبو عبيد : يجوزُ أن يقال : أوضع الرَّجُلُ : إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد وضع ناقته . روى أبو عبيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم " أفاض من عرفة وعليه السَّكينة وأوضعَ في وادي مُحَسِّر " {[17851]} . قال الواحديُّ " والآية تشهد لقول الأخفشِ وأبي عبيد " والمراد من الآية : السَّعي بينهم بالعداوة والنميمة .

و " الخِلال " جمع " خَلَل " ، وهو الفُرْجَةُ بين الشيئين . ومنه قوله : { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [ النور : 43 ] ، وقرىء{[17852]} " مِنْ خلله " وهي مخارج صب القطر . ويستعار في المعاني فيقال : في هذا الأمْر خلل .

وقرأ مجاهدٌ{[17853]} ، ومحمد بن زيدٍ " ولأوْفَضُوا " ، وهو الإسراع أيضاً ؛ من قوله تعالى : { إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [ المعارج : 43 ] .

وقرأ ابنُ الزبير{[17854]} " ولأرْفَضُوا " بالفراء والفاء والضاد المعجمة ، من : رفض ، أي : أسرع أيضاً ؛ قال حسَّان : [ الكامل ]

بِزُجَاجةٍ رفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا *** رَفَضَ القَلُوصِ بِراكبٍ مُسْتعْجِلِ{[17855]}

وقال : [ الكامل ]

. . . *** والرَّافِضَاتِ إلى مِنى فالغَبْغَبِ{[17856]}

يقال : رَفَضَ في مشيه رفْضاً ، ورَفَضاناً .

فإن قيل : كتب في المصحفِ " ولاَ أوْضَعُوا " بزيادة ألف . أجاب الزمخشريُّ " أنَّ الفتحة كانت تُكْتَب ألفاً قبل الخطِّ العربي ، والخطُّ العربي اخترع قريباً من نزول القرآن ، وقد بقى من ذلك الألف أثرٌ في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً ، وفتحتها ألفاً أخرى ، ونحوه { أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] . يعني : في زيادة الألف بعد " لا " وهذا لا يجوزُ القراءةُ به ومن قرأ به متعمداً يكفّر " .

قوله : " يَبْغُونَكُمُ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، من فاعل " أوْضَعُوا " أي : لأَسْرعُوا فيما بينكم ، حال كونهم باغين ، أي : طالبين الفتنة لكم ، ومعنى الفتنة : افتراقُ الكلمة .

قوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول " يَبْغُونكُمْ " أو من فاعله ، وجاز ذلك ؛ لأنَّ في الجملة ضميريهما . ويجوزُ أن تكون مستأنفةً ، والمعنى : أنَّ فيكم من يسمع لهم ، ويُصْغِي لقولهم .

فإن قيل : كيف يجوزُ ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ؟

فالجوابُ : لا يمتنع لمنْ قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ، أو يكون بعضهم مجبولاً على الجبن والفشل ؛ فيؤثر قولهم فيهم ، أو يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساءِ المنافقين فينظرون إليهم بعض الإجلال والتَّعظيم ؛ فلهذا الأسباب يؤثر قول المنافقين فيهم ويجوز أن يكون المراد : وفيكم جواسيس منهم ، يسمعون لهم الأخبار منكم ، فاللاَّمُ على الأوَّلِ للتقوية لكون العامل فرعاً ، وفي الثاني للتعليل ، أي : لأجلهم . ثم قال تعالى : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم ، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات .

فصل


[17846]:ينظر: الكشاف 2/276.
[17847]:ينظر: البحر المحيط 5/50.
[17848]:ينظر: المحرر الوجيز 3/41، البحر المحيط 5/50، الدر المصون 3/470.
[17849]:تقدم.
[17850]:البيت لدريد بن الصمة في ديوانه (93) وينظر: المحتسب 1/293 اللسان 6/4859 [وضع] الطبري 14/278 القرطبي 8/157 البحر المحيط 5/51 الدر المصون 3/470 الصحاح [جذع].
[17851]:ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (16/65).
[17852]:ستأتي في سورة النور الآية (43).
[17853]:ينظر: الكشاف 2/277، المحرر الوجيز 3/41، البحر المحيط 5/51، الدر المصون 3/470.
[17854]:ينظر: السابق.
[17855]:البيت في ديوانه (124) وروايته فيه "رقصت بما في مقرها" وينظر: المحتسب 1/293 التهذيب واللسان [رقص] المحرر الوجيز 3/499 البحر المحيط 5/51.
[17856]:عجز بيت لنهيك الفزاري وصدره: يا عام لو قدرت عليك رماحنا *** ... ينظر: الكشاف 2/217 اللسان 5/3204 غبب معجم مقاييس اللغة 2/60 حسب البحر المحيط 5/51، الدر المصون 3/470.