قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب } ، يعني : ولكم أيضاً عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم ، من ثمرات النخيل والأعناب . { تتخذون منه } ، والكناية في { منه } ، عائدة إلى " ما " محذوفة ، أي : ما تتخذون منه ، { سكراً ورزقاً حسناً } . قال قوم : " السكر " : الخمر ، و " الرزق الحسن " : الخل ، والزبيب ، والتمر والرب . قالوا : وهذا قبل تحريم الخمر . وإلى هذا ذهب ابن مسعود ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن ومجاهد . وقال الشعبي : " السكر " : ما شربت و " الرزق الحسن " : ما أكلت . وروى العوفي عن ابن عباس : أن " السكر " ، هو : الخل ، لغة الحبشة . وقال بعضهم : " السكر " : النبيذ المسكر ، وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد ، والمطبوخ من العصير ، وهو قول الضحاك والنخعي . ومن يبيح شرب النبيذ ومن حرمه يقول : المراد من الآية : الإخبار لا الإحلال . وأولى الأقاويل أن قوله : { تتخذون منه سكراً } ، منسوخ ، روي عن ابن عباس ، قال " السكر " ، ما حرم من ثمرها ، و " الرزق الحسن " : ما أحل . وقال أبو عبيدة : " السكر " : الطعم ، يقال هذا سكر لك ، أي : طعم . { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } .
وجعل تعالى لعباده من ثمرات النخيل والأعناب منافع للعباد ، ومصالح من أنواع الرزق الحسن الذي يأكله العباد طريًّا ونضيجا وحاضرا ومدخرا وطعاما ، وشرابا يتخذ من عصيرها ونبيذها ، ومن السكر الذي كان حلالا قبل ذلك ، ثم إن الله نسخ حلَّ المسكرات ، وأعاض عنها بالطيبات من الأنبذة ، وأنواع الأشربة اللذيذة المباحة .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، عن الله كمال اقتداره ، حيث أخرجها من أشجار شبيهة بالحطب ، فصارت ثمرة لذيذة وفاكهة طيبة ، وعلى شمول رحمته حيث عم{[462]} بها عباده ويسرها لهم ، وأنه الإله المعبود وحده ، حيث إنه المنفرد بذلك .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة أخرى من نعم الله التي لا تحصى ، وهي نعمة ثمرات النخيل والأعناب ، فقال - تعالى - : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً . . . } .
قال الجمل ما ملخصه : قوله - سبحانه - : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب . . } خبر مقدم ، ومن تبعيضية ، والمبتدأ محذوف تقديره ثمر ، وقوله : { تتخذون } ، نعت لهذا المبتدأ المحذوف ، أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا .
ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف ، والتقدير : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أي : من عصيرهما ، وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه ، وقوله { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } ، بيان وكشف عن كيفية الإِسقاء .
والضمير في قوله : { منه } يعود على المضاف المحذوف الذي هو العصير ، أو على المبتدأ المحذوف وهو الثمر .
والسكر - بفتح السين والكاف - اسم من أسماء الخمر ، يقال : سكر فلان - بوزن فرح - يسكر سكرا ، إذا غاب عقله وإدراكه ، فهو سكران ، وسكر - بفتح السين وكسر الكاف - .
وأما الرزق الحسن ، فالمراد به ما كان حلالا من ثمرات النخيل والأعناب ، كالتمر والزبيب وغير ذلك مما أحله الله - تعالى - من ثمارها .
وعلى هذا المعنى سار جمهور العلماء من السلف والخلف .
قال الألوسي ما ملخصه : والسكر : الخمر . قال الأخطل :
بئس الصُّحاة وبئس الشَّرب شَربُهم . . . إذا جرى فيهم المزَّاءُ والسَّكَر
والمزاء : نوع من الأشربة . والسكر ما يسكر وهو الخمر .
وفسروا الرزق الحسن . بالخل والتمر والزبيب وغير ذلك .
ثم قال : وتفسير " السَّكَر " بالخمر ، هو المروي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبي رزين ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي . . والنخعي . . مع خلق آخرين . . .
وعلى هذا التفسير الذي قاله جمهور العلماء يكون السكر غير الرزق الحسن ، ويكون العطف للتغاير .
ومن العلماء من فسر السكر بأنه اسم للخل ، أو للعصير غير المسكر ، أو لما لا يسكر من الأنبذة ، وقد بسط الإِمام القرطبي القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { سكرا } ، السكر : ما يسكر ، هذا هو المشهور في اللغة .
( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) .
هذه الثمرات المنبثقة عن الحياة التي بثها الماء النازل من السماء . تتخذون منه سكرا [ والسكر الخمر ولم تكن حرمت بعد ] ورزقا حسنا . والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر وأن الخمر ليست رزقا حسنا ، وفي هذا توطئة لما جاء بعد من تحريمها ، وإنما كان يصف الواقع في ذلك الوقت من اتخاذهم الخمر من ثمرات النخيل والأعناب ، وليس فيه نص بحلها ، بل فيه توطئة لتحريمها ( إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) . . فيدركون أن من يصنع هذا الرزق هو الذي يستحق العبودية له وهو الله . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولكم أيضا أيها الناسُ عِبرةٌ ، فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، ما تَتّخِذُونَ منه سَكَرا ، ورِزْقا حَسَنا ، مع ما نسقيكم من بطون الأنعام من اللبن الخارج من بين الفرث والدم . وحذف من قوله : { وَمِنْ ثَمَراتِ النّخِيلِ والأعنابِ } ، الاسم ، والمعنى : ما وصفت ، وهو : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه ؛ لدلالة «من » عليه ، لأن «من » تدخل في الكلام مُبَعّضة ، فاستغني بدلالتها ، ومعرفة السامعين بما يقتضي من ذكر الاسم معها . وكان بعض نحويي البصرة يقول في معنى الكلام : ومن ثمرات النخيل والأعناب ، شيء تتخذون منه سَكَرا ، ويقول : إنما ذكرت الهاء في قوله : تَتّخِذُونَ مِنْهُ ؛ لأنه أريد بها الشيء ، وهو عندنا عائد على المتروك ، وهو «ما » ، وقوله : { تَتّخِذُونَ } ، من صفة «ما » المتروكة .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، فقال بعضهم : عني بالسّكَر : الخمرُ ، وبالرزق الحسن : التمرُ والزبيبُ ، وقال : أنما نزلت هذه الاَية قبل تحريم الخمر ، ثم حُرّمت بعد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أيوب بن جابر السّحَيْمي ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } قال : السّكَر : ما حُرّم من شرابه ، والرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرته .
حدثنا ابن وكيع وسعيد بن الربيع الرازي ، قالا : حدثنا ابن عيينة ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا قال : الرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرتها ، والسكَر : ما حرّم من ثمرتها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس بنحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأسود بن قيس ، قال : سمعت رجلاً يحدّث عن ابن عباس في هذه الاَية : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : السكر : ما حرّم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرتيهما .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا الحسن بن صالح ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا الأسود بن قيس ، قال : ثني عمرو بن سفيان ، قال : سمعت ابن عباس يقول ، وذكرت عنده هذه الاَية : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النّخِيلِ والأعْنابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : السكر : ما حرّم منهما ، والرزق الحسن : ما أحلّ منهما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان البصري ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } قال : فأما الرزق الحسن : فما أحلّ من ثمرتهما ، وأما السكر : فما حرّم من ثمرتهما .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا الحِمّاني ، قال : حدثنا شريك ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان البصريّ ، عن ابن عباس : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } قال : السكر : حرامه ، والرزق الحسن : حلاله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا العباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس قال : السّكَر : ما حرّم من ثمرتهما ، والرزق الحسن : ما حلّ من ثمرتهما .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسّكَر : الحرام .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : ما حرم من ثمرتهما ، وما أحلّ من ثمرتهما .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : السكر : خمر ، والرزق الحسن : الحلال .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مسعر وسفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسّكَر : الحرام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في هذه الاَية : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : السكَر : الحرام ، والرزق الحسن : الحلال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي رزين : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا قال : نزل هذا وهم يشربون الخمر ، فكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مَهديّ ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم والشعبي وأبي رزين ، قالوا : هي منسوخة في هذه الاَية : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا أبو قطن ، عن سعيد ، عن المُغيرة ، عن إبراهيم والشعبيّ ، وأبي رزين ، بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : هي منسوخة ، نسخها تحريم الخمر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور وعوف ، عن الحسن ، قال السكر : ما حرّم الله منه ، والرزق : ما أحلّ الله منه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن الحسن ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسكَر : الحرام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسكَر : الحرام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب ، عن ليث ، عن مجاهد قال : السكر : الخمر ، والرزق الحسن : الرّطَب والأعناب .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } ، قال : هي الخمر قبل أن تحرّم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } قال : الخمر قبل تحريمها ، وَرِزْقا حَسَنا قال : طعاما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَمِنْ ثَمَراتِ النّخِيلِ والأعنابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، أما السّكَر : فخمور هذه الأعاجم ، وأما الرزق الحسن : فما تنتبذون ، وما تُخَلّلون ، وما تأكلون . ونزلت هذه الاَية ولم تحرّم الخمر يومئذ ، وإنما جاء تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، قال : قرأت على ابن أبي عُذرة ، قال : هكذا سمعت قتادة : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، ثم ذكر نحو حديث بشر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " سَكَرا " ، قال : هي خمور الأعاجم ، ونُسخت في سورة المائدة . والرزق الحسن قال : ما تنتبذون ، وتخلّلون ، وتأكلون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النّخِيلِ والأعْنابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، وذلك أن الناس كانوا يسمّون الخمر : سكرا ، وكانوا يشربونها ، قال ابن عباس : مرّ رجال بوادي السكران ، الذي كانت قريش تجتمع فيه ، إذا تَلَقّوا مسافريهم إذا جاءوا من الشام ، وانطلقوا معهم يشيعونهم حتى يبلغوا وادي السكران ، ثم يرجعوا منه ، ثم سماها الله بعد ذلك الخمر حين حرمت . وقد كان ابن عباس يزعم أنها الخمر ، وكان يزعم أن الحبشة يسمون الخلّ : السكر . قوله : " وَرِزْقا حَسَنا " يعني بذلك الحلال : التمر والزبيب ، وما كان حلالاً لا يسكر .
وقال آخرون : السّكَر بمنزلة الخمر في التحريم ، وليس بخمر ، وقالوا : هي نقيع التمر والزبيب ، إذا اشتدّ وصار يسكر شاربه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو ، في قوله : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النّخِيلِ والأعْنابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال ابن عباس : كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر ، والسكر حرام مثل الخمر ، وأما الحلال منه : فالزبيب والتمر والخل ، ونحوه .
حدثني المثنى ، وعلي بن داود ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } ، فحرّم الله بعد ذلك ، يعني : بعد ما أنزل في سورة البقرة من ذكر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، السّكَر مع تحريم الخمر ؛ لأنه منه ، قال : " وَرِزْقا حَسَنا " فهو الحلال من الخلّ والنبيذ ، وأشباه ذلك ، فأقرّه الله وجعله حلالاً للمسلمين .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن موسى ، قال : سألت مرّة عن السّكَر ، فقال : قال عبد الله : هو : خمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي فروة ، عن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : السكر : خمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم ، قال : السكر : خمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا حسن بن صالح ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وأبي رزين ، قالا : السكر : خمر .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } ، يعني : ما أسكر من العنب والتمر ، " وَرِزْقا حَسَنا " يعني : ثمرتها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : الحلال ما كان على وجه الحلال ، حتى غيروها ، فجعلوا منها سَكَرا .
وقال آخرون : " السّكَر " : هو كلّ ما كان حلالاً شربه ، كالنبيذ الحلال ، والخلّ والرطَب . و " الرزق الحسن " : التمر والزبيب . ذكر من قال ذلك :
حدثني داود الواسطيّ ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : أبو رَوْق : ثني قال : قلت للشعبيّ : أرأيت قوله تعالى : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } ، أهو هذا السّكَر الذي تصنعه النّبَط ؟ قال : لا ، هذا خمر ، إنما السكر الذي قال الله تعالى ذكره : النبيذ والخلّ ، و " الرزق الحسن " : التمر والزبيب .
حدثني يحيى بن داود ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : وذكر مجالد ، عن عامر ، نحوه .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا قال : ما كانوا يتخذون من النخل النّبيذ ، والرزق الحسن : ما كانوا يصنعون من الزبيب والتمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن أبي رَوْق ، عن الشعبيّ ، قال : قلت له : ما تتخذون منه سَكَرا ؟ قال : كانوا يصنعون من النبيذ والخلّ ، قلت : والرزق الحسن ؟ قال : كانوا يصنعون من التمر والزبيب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة وأحمد بن بشير ، عن مجالد ، عن الشعبيّ ، قال : السّكَر : النبيذ ، والرزق الحسن : التمر الذي كان يؤكل .
وعلى هذا التأويل ، الآية غير منسوخة ، بل حكمها ثابت .
وهذا التأويل عندي ، هو أولى الأقوال بتأويل هذه الاَية ، وذلك أن السكر في كلام العرب ، على أحد أوجه أربعة : أحدها : ما أسكر من الشراب . والثاني : ما طُعِم من الطعام ، كما قال الشاعر :
*** جعَلْتُ عَيْبَ الأكْرَمِينَ سَكَرَا ***
أي طعما . والثالث : السّكُون ، من قول الشاعر :
*** جعَلَتْ عينْ الحَرُورِ تَسْكُرُ ***
وقد بيّنا ذلك فيما مضى . والرابع : المصدر ، من قولهم : سَكِرَ فلان ، يَسْكَرُ سُكْرا وسَكْرا وسَكَرا . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان ما يُسْكِر من الشراب حراما ، بما قد دللنا عليه في كتابنا المسمى : «لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام » ، وكان غير جائز لنا أن نقول : هو منسوخ ، إذ كان المنسوخ هو : ما نَفَى حكمه الناسخ ، وما لا يجوز اجتماع الحكم به وناسخه ، ولم يكن في حكم الله تعالى ذكره بتحريم الخمر دليل على أن السّكَر الذي هو غير الخمر ، وغير ما يسكر من الشراب ، حرام ، إذ كان السكر أحد معانيه عند العرب ، ومن نزل بلسانه القرآن هو : كلّ ما طعم ، ولم يكن مع ذلك ، إذ لم يكن في نفس التنزيل دليل على أنه منسوخ ، أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول ، ولا أجمعت عليه الأمة ، فوجب القول بما قلنا من أن معنى السّكَرَ في هذا الموضع : هو كلّ ما حلّ شربه ، مما يتخذ من ثمر النخل والكرم ، وفسد أن يكون معناه الخمر أو ما يسكر من الشراب ، وخرج من أن يكون معناه السّكَر نفسه ، إذ كان السّكَر ليس مما يتخذ من النّخْل والكَرْم ، ومن أن يكون بمعنى : السكون .
وقوله : { إنّ فِي ذلكَ لاَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، يقول : فيما إن وصفنا لكم من نعمنا التي آتيناكم أيها الناس ، من الأنعام والنخل والكرم ؛ لدلالة واضحة وآية بينة لقوم يعقلون عن الله حججه ، ويفهمون عنه مواعظه فيتعظون بها .
{ ومن ثمرات النخيل والأعناب } ، متعلق بمحذوف ، أي : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أي : من عصيرهما ، وقوله : { تتخذون منه سكراً } ، استئناف لبيان الإسقاء أو ب { تتخذون } ، ومنه تكرير للظرف تأكيدا ، أو خبر لمحذوف ، صفته { تتخذون } ، أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه ، وتذكير الضمير على الوجهين الأولين ؛ لأنه للمضاف المحذوف ، الذي هو : العصير ، أو لأن ال { ثمرات } ، بمعنى : الثمر ، وال { سكر } ، مصدر ، سمي به الخمر . { ورزقا حسنا } ، كالتمر ، والزبيب ، والدبس ، والخل . والآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر ، فدالة على كراهتها ، وإلا فجامعة بين العتاب والمنة . وقيل ال { سكر } ، النبيذ . وقيل : الطعم . قال :
جعلتُ أعراض الكرام سُكرا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : تنقلت بأعراضهم . وقيل ما يسد الجوع من السكر ، فيكون الرزق ما يحصل من أثمانه .
عطف على جملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } [ سورة النحل : 66 ] .
ووجود { من } في صدر الكلام يدلّ على تقدير فعل يدلّ عليه الفعل الذي في الجملة قبلها وهو { نسقيكم } [ النحل : 66 ] . فالتقدير : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب . وليس متعلقاً ب { تتخذون } ، كما دلّ على ذلك وجود ( من ) الثانية في قوله : { تتخذون منه سكراً } المانع من اعتبار تعلّق { من ثمرات النخيل } ب { تتخذون } ، فإن نظم الكلام يدل على قصد المتكلم ولا يصحّ جعله متعلقاً ب { تتخذون } مقدماً عليه ، لأنه يبعد المعنى عن الامتنان بلطف الله تعالى إذ جعل نفسه الساقي للناس .
وهذا عطف منّة على منّة ، لأن { نسقيكم } وقع بياناً لجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } .
ومفاد فعل { نسقيكم } مفاد الامتنان لأن السقي مزية . وكلتا العِبرتين في السقي . والمناسبةُ أن كلتيهما ماء وأن كلتيهما يضغط باليد ، وقد أطلق العرب الحَلْب على عصير الخمر والنبيذ ، قال حسّان يذكر الخمر الممزوجة والخالصة :
كلتاهما حَلَب العصير فعاطني *** بِزُجاجة أرخاهما للمفصل
ويشير إلى كونهما عبرتين من نوع متقارب جَعْل التذييل بقوله تعالى : { إن في ذلك لآية } عقب ذكر السقيين دون أن يُذيّل سقي الألبان بكونه آية ، فالعبرة في خلق تلك الثمار صالحة للعصر والاختمار ، ومشتملة على منافع للناس ولذّات . وقد دلّ على ذلك قوله تعالى : { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } . فهذا مرتبط بما تقدم من العبرة بخلق النبات والثمرات من قوله تعالى : { ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل } [ سورة النحل : 11 ] الآية .
وجملة { تتخذون منه سكراً } الخ في موضع الحال .
و ( من ) في الموضعين ابتدائية ، فالأولى متعلّقة بفعل { نسقيكم } المقدر ، والثانية متعلقة بفعل { تتخذون } . وليست الثانية تبعيضية ، لأن السكر ليس بعض الثمرات ، فمعنى الابتداء ينتظم كلا الحرفين .
والسكر بفتحتين : الشراب المُسْكِر .
وهذا امتنان بما فيه لذّتهم المرغوبة لديهم والمتفشّية فيهم ( وذلك قبل تحريم الخمر لأن هذه الآية مكّية وتحريم الخمر نزل بالمدينة ) فالامتنان حينئذٍ بمباح .
والرزق : الطعام ، ووصف ب { حسناً } لما فيه من المنافع ، وذلك التمر والعنب لأنهما حلوان لذيذان يؤكلان رطبين ويابسين قابلان للادخار ، ومن أحوال عصير العنب أن يصير خلاً ورُبّاً .
وجملة { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } تكرير لتعداد الآية لأنها آية مستقلة .
والقول في جملة { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } مثل قوله آنفاً : { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } [ سورة النحل : 65 ] . والإشارة إلى جميع ما ذكر من نعمة سقي الألبان وسقي السكر وطعم الثمر .
واختير وصف العقل هنا لأن دلالة تكوين ألبان الأنعام على حكمة الله تعالى يحتاج إلى تدبّر فيما وصفته الآية هنا ، وليس هو ببديهي كدلالة المطر كما تقدم .