المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

106- ولقد طلبوا منك - يا محمد - أن تأتيهم بالمعجزات التي جاءهم بها موسى وأنبياء بني إسرائيل ، وحسبنا أننا أيدناك بالقرآن ، وأننا إذا تركنا تأييد نبي متأخر بمعجزة كانت لنبي سابق ، أو أنسينا الناس أثر هذه المعجزة فإننا نأتي على يديه بخير منها أو مثلها في الدلالة على صدقه ، فالله على كل شيء قدير .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

قوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها } . وذلك أن المشركين قالوا : إن محمداً يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول قولا ويرجع عنه غداً كما أحبر الله :{ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر } وأنزل :{ ما ننسخ من آية أو ننسها } فبين وجه الحكمة في النسخ بهذه الآية . والنسخ في اللغة شيئان : أحدهما : بمعنى التحويل والنقل ، ومنه نسخ الكتاب ، وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب ، فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ .

والثاني : يكون بمعنى الرفع يقال : نسخت الشمس الظل . أي ذهبت به وأبطلته . فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخاً وبعضه منسوخاً وهو المراد من الآية . وهذا على وجوه أحدها : أن يثبت الخط وينسخ الحكم . مثل آية الوصية للأقارب . وآية عدة الوفاة بالحول . وآية التخفيف في القتال وآية الممتحنة ونحوها ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : في قوله تعالى :{ ما ننسخ من آية } ما نثبت خطها ونبدل حكمها ، ومنها أن ترفع تلاوتها ويبقى حكمها . مثل آية الرجم ، ومنها أن يرفع أصلاً عن المصحف وعن القلوب . كما روي عن أبي أمامة بن سهل ابن حنيف : أن قوماً من الصحابة رضي الله عنهم قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تلك سورة رفعت تلاوتها وأحكامها " .

وقيل : كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة ، فرفع أكثرها تلاوة وحكماً ، ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه ، كما أن القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة ، والوصية للأقارب نسخت بالميراث ، وعدة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ، ومصابرة الواحدة العشرة في القتال نسخت بمصابرة الاثنين ، ومنها ما يرفع ولا يقام غيره مقامه ، كامتحان النساء . والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار . وأما معنى الآية فقوله :{ ما ننسخ من آية } قراءة العامة بفتح النون والسين من النسخ ، أي : نرفعها ، وقرأ ابن عامر بضم النون وكسر السين من الإنساخ وله وجهان : أحدهما : نجعله في المنسوخ . والثاني : أن نجعله في المنسوخ نسخة له . يقال : نسخت الكتاب أي كتبته ، و أنسخته غيري إذا جعلته نسخة له ، أو ننسها أي ننسها على قلبك .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نتركها لا ننسخها ، قال الله تعالى : { نسوا الله فنسيهم } أي تركوه فتركهم ، وقيل ننسها أي : نأمر بتركها ، يقال : أنسيت الشيء إذا أمرت بتركه ، فيكون النسخ الأول من رفع الحكم وإقامة غيره مقامه ، والإنساء يكون نسخاً من غير إقامة غيره مقامه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أو ننسأها بفتح النون الأول والسين مهموزاً ، أي نؤخرها فلا نبدلها . يقال : نسأ الله من أجله وأنسأ الله أجله ، وفي معناه قولان : أحدهما : نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها . كما فعل في آية الرجم ، فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة والحكم ، والقول الثاني : قال سعيد بن المسيب وعطاء : أما ما نسخ من آية فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسخة . أو ننسأها أي نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها .

قوله تعالى : { نأت بخير منها } . أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم ، لا أن آية خير من آية ، لأن كلام الله واحد وكله خير .

قوله تعالى : { أو مثلها } . في المنفعة والثواب فكل ما نسخ إلى الأيسر فهو أسهل في العمل ، وما نسخ إلى الأشق فهو في الثواب أكثر .

قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } . من النسخ والتبديل .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }

النسخ : هو النقل ، فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع ، إلى حكم آخر ، أو إلى إسقاطه ، وكان اليهود ينكرون النسخ ، ويزعمون أنه لا يجوز ، وهو مذكور عندهم في التوراة ، فإنكارهم له كفر وهوى محض .

فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ ، وأنه ما ينسخ من آية { أَوْ نُنْسِهَا } أي : ننسها العباد ، فنزيلها من قلوبهم ، { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } وأنفع لكم { أَوْ مِثْلِهَا }

فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول ، لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة ، التي سهل عليها دينها غاية التسهيل .

وأخبر أن من قدح في النسخ فقد قدح في ملكه وقدرته فقال : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

فإذا كان مالكا لكم ، متصرفا فيكم ، تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه ، فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير ، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام . فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية ، فما له والاعتراض ؟

وهو أيضا ، ولي عباده ، ونصيرهم ، فيتولاهم في تحصيل منافعهم ، وينصرهم في دفع مضارهم ، فمن ولايته لهم ، أن يشرع لهم من الأحكام ، ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم .

ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ ، عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده ، وإيصالهم إلى مصالحهم ، من حيث لا يشعرون بلطفه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

ولم يترك القرآن الكريم تلك الشبهات التي أثارها اليهود حول شريعة الإسلام بدون جواب ، بل أنزل الله - تعالى - آيات كريمة لدحضها وإزالتها من الصدور ، ليزداد المؤمنون إيماناً ، وهذه الآيات هي قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ . . . }

النسخ في اللغة الإِبطال والإزالة ، يقال . نسخت الشمس الظل تنسخه ، إذا أذهبته وأبطلته .

وفي عرف الشرع : بيان انتهاء مدة الحكم بخطاب لولا هذا الخطاب لاستمر الحكم على مشروعيته ، بمقتضى النص الذي تقرر به أولا .

وننسها من أنسى الشيء جعله منسياً .

فمعنى نسخ الآية في قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } رفع حكها مع بقائها .

ومعنى إنسائها في قوله - تعالى - : { نُنسِهَا } رفع الآية من نظم القرآن جملة .

وسمي رفع الآية من نظم القرآن جملة إنساء ، لأن من شأن ما لا يبقى في النظم أن ينساه الناس لقلة جريانه على الألسنة بالتلاوة والاحتجاج به .

ويصح إبقاء الإِنساء على حقيقته ، وهو إذهاب الآية من القلوب وإزالتها من الحافظة ، بعد أن يقضي الله بنسخها .

وإنما قلنا بعد أن يقضي الله بنسخها ، لأن إنساء الناس آية لم تنسخ إضاعة لشيء من القرآن ، والله يقول { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ومما يدل على نسخ الآية المنساة ، أي : انتهاء مدة التكليف بها قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } أي نأت بخير من المنسية المنسوخة أو مثلها ، فيكون قوله تعالى : { أَوْ نُنسِهَا } معبراً عن حالة تعرض في بعض ما سيرفع من القرآن وهي أن ينساه الناس لذهابه من قلوبهم ، بعد أن يقضي الله بنسخه - كما ذكرنا- .

ووجه ذكر هذه الحال بوجه خاص ، أن ما ينسى لعدم حضوره في الذهن لا تعرف الآيات التي تقوم مقامه ، فربما يقع في الوهم أنه ذهب من غير أن ينزل من الآيات ما يغني غناءه .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { نُنسِهَا } بالهمزة ، من النساء وهو التأخير وعلى هذه القراءة يحمل النسخ في قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } على النوعين السابقين وهما : نسخ الآية حكما فقط ، ونسخها حكماً وتلاوة .

ومعنى { نُنسِهَا } تؤخر إنزالها إلى وقت ثان فلا ننزلها ، وننزل ما يقوم مفامها في القيام بالمصلحة .

والخيرية والمماثلة في قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ترجع إلى ثواب العمل بها . فقد يكون ثواب العمل بالناسخة أوفر من ثواب العمل بالمنسوخة قبل نسخها ، وقد يكون مماثلا له ، وإن كانت كل واحدة من الآيتين الناسخة والمنسوخة بالنظر إلى الوقت المقدر للعمل بها ، أقوم على المصلحة من الأخرى .

وبعد أن أثبت - سبحانه - أن النسخ جائز وواقع بقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ساق جملة كريمة في صورة الاستفهام التقريري ، مخاطباً بها الأمة الإسلامية في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم لتكون دليلا على هذا الثبوت ، وهذه الجملة هي قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } والمعنى أن الله - تعالى - متمكن من أن يفعل ما يشاء على الوجه الذي تقتضيه حكمته وإرادته ، ومن كان هذا شأنه فله أن يأمر في وقت بأمر ، ثم ينسخه أو يستبدل به آخر لمقتضيات الظروف والأحوال .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

104

وليس أعظم من نعمة النبوة والرسالة ؛ وليس أعظم من نعمة الإيمان والدعوة إليه . وفي هذا التلميح ما يستجيش في قلوب الذين آمنوا الشعور بضخامة العطاء وجزالة الفضل ، وفي التقرير الذي سبقه عما يضمره الذين كفروا للذين آمنوا ما يستجيش الشعور بالحذر والحرص الشديد . . وهذا الشعور وذاك ضروريان للوقوف في وجه حملة البلبلة والتشكيك التي قادها - ويقودها - اليهود ، لتوهين العقيدة في نفوس المؤمنين ، وهي الخير الضخم الذي ينفسونه على المسلمين !

وكانت الحملة - كما أسلفنا - تتعلق بنسخ بعض الأوامر والتكاليف . وبخاصة عند تحويل القبلة إلى الكعبة . الأمر الذي أبطل حجتهم على المسلمين :

( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) . .

وسواء كانت المناسبة هي مناسبة تحويل القبلة - كما يدل سياق هذه الآيات وما بعدها - أم كانت مناسبة أخرى من تعديل بعض الأوامر والتشريعات والتكاليف ، التي كانت تتابع نمو الجماعة المسلمة ، وأحوالها المتطورة . أم كانت خاصة بتعديل بعض الأحكام التي وردت في التوراة مع تصديق القرآن في عمومه للتوراة . . سواء كانت هذه أم هذه أم هذه ، أم هي جميعا المناسبة التي اتخذها اليهود ذريعة للتشكيك في صلب العقيدة . . فإن القرآن يبين هنا بيانا حاسما في شأن النسخ والتعديل ؛ وفي القضاء على تلك الشبهات التي أثارتها يهود ، على عادتها وخطتها في محاربة هذه العقيدة بشتى الأساليب .

فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال - في فترة الرسالة - هو لصالح البشرية ، ولتحقيق خير أكبر تقتضيه أطوار حياتها . والله خالق الناس ، ومرسل الرسل ، ومنزل الآيات ، هو الذي يقدر هذا . فإذا نسخ آية القاها في عالم النسيان - سواء كانت آية مقروءة تشتمل حكما من الأحكام ، أو آية بمعنى علامة وخارقة تجيء لمناسبة حاضرة وتطوى كالمعجزات المادية التي جاء بها الرسل - فإنه يأتي بخير منها أو مثلها ! ولا يعجزه شيء ، وهو مالك كل شيء ، وصاحب الأمر كله في السماوات وفي الأرض . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

يعني جل ثناؤه بقوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } إلى غيره ، فنبدله ونغيره . وذلك أن يحوّل الحلال حراما والحرام حلالاً ، والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ . وأصل النسخ من «نَسْخَ الكتاب » وهو نَقْلُه من نُسخة إلى أخرى غيرها ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيره . فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية فسواء إذا نسخ حكمها فغُير وبُدّل فرضها ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها أوفر حَظها فتُرك ، أو مُحي أثرها ، فُعفّي ونُسي ، إذ هي حينئذٍ في كلتا حالتيها منسوخة . والحكم الحادث المبدل به الحكم الأوّل والمنقول إليه فرض العباد هو الناسخ ، يقال منه : نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا ، والنسخة الاسم . وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول .

حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : حدثنا خالد بن الحارث ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن أنه قال في قوله : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا }قال : إن نبيّكم صلى الله عليه وسلم أقرىء قرآنا ثم نسيه فلم يكن شيئا ، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { ما نَنْسَخْ } فقال بعضهم بما :

حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن عمار ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ } أما نسخُها فقَبْضُها . وقال آخرون بما :

حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } بقول : ما نبدّل من آية . وقال آخرون بما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم قالوا : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ }نثبت خطها ونبدل حكمها .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { ما نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ }نثبت خطها ، ونبدل حكمها ، حُدثت به عن أصحاب ابن مسعود .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثني بكر بن شوذب ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أصحاب ابن مسعود : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ }نثبت خطها .

القول في تأويل قوله تعالى : أوْ نُنْسِها .

اختلفت القراءة في قوله ذلك ، فقرأها قرّاء أهل المدينة والكوفة : أوْ نُنْسِها ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل ، أحدهما : أن يكون تأويله : ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها . وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله : «ما نُنْسِكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها » ، فذلك تأويل النسيان . وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها }كان ينسخ الآية بالآية بعدها ، ويقرأ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك ثم تُنسى وتُرفع .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها }قال : كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء وينسخ ما شاء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان عبيد بن عمير يقول :

{ نُنْسِها }نرفعها من عندكم .

حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا خالد بن الحارث ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن أنه قال في قوله : { أوْ نُنْسِها }قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرىء قرآنا ، ثم نسيه .

وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأوّل الآية إلا أنه كان يقروها : { أو تَنْسَها } بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنه عني أو تَنْسَها أنت يا محمد . ذكر الأخبار بذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يعلى بن عطاء ، عن القاسم ، قال : سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ تَنْسَها ، قلت له : فإن سعيد بن المسيب يقرؤها : «أَو تُنْسَها » قال : فقال سعد : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ، قال الله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى } ، { وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ } .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : حدثنا يعلى بن عطاء ، قال : حدثنا القاسم بن ربيعة بن قائف الثقفي ، قال : سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه .

حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، قال : سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول : قلت لسعد بن أبي وقاص : إني سمعت ابن المسيب يقرأ : «ما نَنَسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ تُنْسَها » فقال سعد : إن الله لم ينزل القرآن على المسيب ولا على ابنه ، إنما هي : «ما ننسخ من آية أو تَنْسَها » يا محمد . ثم قرأ : { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى } ، { وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها }يقول : نُنسها : نرفعها وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها .

والوجه الاَخر منهما أن يكون بمعنى الترك ، من قول الله جل ثناؤه : { نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ } يعني به تركوا الله فتركهم . فيكون تأويل الآية حينئذٍ على هذا التأويل : ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدّل فرضها نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها . وعلى هذا التأويل تأوّل جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { أوْ نُنْسِها } يقول : أو نتركها لا نبدّلها .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { أوْ نُنْسِها } نتركها لا ننسخها .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها } قال : الناسخ والمنسوخ .

قال : وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما :

حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { نُنْسِها } نمحها .

وقرأ ذلك آخرون : «أو ننسأها » بفتح النون وهمزة بعد السين بمعنى نؤخرها ، من قولك : نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأً ونساءً إذا أخرته ، وهو من قولهم : بعته بنسَاءٍ ، يعني بتأخير . ومن ذلك قول طَرَفَة بن العبد :

لعَمْرُكَ إِنّ المَوْتَ ما أنْسأ الفَتى *** لكالطّوَلِ المُرْخَى وثِنْياهُ باليَدِ

يعني بقوله أنسأ : أخّر .

وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ، وقرأه جماعة من قرّاء الكوفيين والبصريين ، وتأوّله كذلك جماعة من أهل التأويل ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء في قوله : «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نَنْسأها » قال نؤخرها .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قول الله : «أوْ نَنْسأها » قال : نُرْجئها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «أوْ نَنْسأها » نرجئها ونؤخرها .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا فضيل ، عن عطية : «أوْ نَنْسأها » قال : نؤخرها فلا ننسخها .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير عن عبيد الأزدي ، عن عبيد بن عمير «أوْ نَنْسأها » إرجاؤها وتأخيرها . هكذا حدثنا القاسم عن عبد الله بن كثير ، عن عبيد الأزدي . وإنما هو عن عليّ الأزدي .

حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن عليّ الأزدي ، عن عبيد بن عمير أنه قرأها : «نَنْسأها » .

قال : فتأويل من قرأ ذلك كذلك : ما نبدّل من آية أنزلناها إليك يا محمد ، فنبطل حكمها ونثبت خطها ، أو نؤخرها فنرجئها ونقرّها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها نأت بخير منها أو مثلها .

وقد قرأ بعضهم ذلك : «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أو تُنْسَها » وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ أوْ نُنْسِها إلا أن معنى «أو تُنْسَها » أنت يا محمد .

وقد قرأ بعضهم : «ما نُنْسِخْ مِنْ آيَةٍ » بضم النون وكسر السين ، بمعنى : ما نُنسخك يا محمد نحن من آية ، من أنسختك فأنا أُنسخك . وذلك خطأ من القراءة عندنا لخروجه عما جاءت به الحجة من القراءة بالنقل المستفيض . وكذلك قراءة من قرأ «تُنسَها » أو «تَنْسَها » لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قرّاء الأمة . وأولى القراءات في قوله : ( أوْ نُنْسِها ) بالصواب من قرأ : أو نُنْسِها ، بمعنى نتركها لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدّل حكما أو غيره أو لم يبدّله ولم يغيره ، فهو آتيه بخير منه أو بمثله . فالذي هو أولى بالآية إذ كان ذلك معناها ، أن يكون إذ قدّم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدّل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع ، إذا هو لم يبدّل ذلك ولم يغير . فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله : ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قوله : أو نترك نسخها ، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس . مع أن ذلك إذا قرىء كذلك بالمعنى الذي وصفت ، فهو يشتمل على معنى الإنساء الذي هو بمعنى الترك ، ومعنى النّساء الذي هو بمعنى التأخير ، إذْ كان كل متروك فمؤخر على حال مّا هو متروك . وقد أنكر قوم قراءة من قرأ : «أوْ تُنْسَها » إذا عني به النسيان ، وقالوا : غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ إلا أن يكون نسي منه شيئا ثم ذكره . قالوا : وبعد ، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه بجائز على جميعهم أن ينسوه .

قالوا : وفي قول الله جل ثناؤه : { وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنّ بِالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ } ما ينبىء عن أن الله تعالى ذكره لم يُنْسِ نبيه شيئا مما آتاه من العلم .

قال أبو جعفر : وهذا قول يشهد على بطوله وفساده الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا أنس بن مالك : إن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا بهم وفيهم كتابا : «بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا » . ثم إن ذلك رفع .

فالذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون : «لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب » ثم رُفع وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب . وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح ولا بحجة خبر أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه . فإذا كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين ، فغير جائز لقائل أن يقول ذلك غير جائز .

وأما قوله : { وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنّ بالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ } فإنه جلّ ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه ، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه ، فلم يذهب به والحمد لله بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه ، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه ، وقد قال الله تعالى ذكره : سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إِلاّ ما شاءَ اللّهُ فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء ، فالذي ذهب منه الذي استثناه الله . فأما نحن فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى ، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله .

القول في تأويل قوله تعالى : { نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها } .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها } ، فقال بعضهم بما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس :

{ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها } يقول : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم . وقال آخرون بما :

حدثني به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها } يقول : آية فيها تخفيف ، فيها رحمة ، فيها أمر ، فيها نهي .

وقال آخرون : نأت بخير من التي نسخناها ، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا يقول : نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها أو مثل التي تركناها . فالهاء والألف اللتان في قوله : مِنْهَا عائدتان على هذه المقالة على الآية في قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } والهاء والألف اللتان في قوله : أوْ مِثلِها عائدتان على الهاء والألف اللتين في قوله : أوْ نُنْسِها . وقال آخرون بما :

حدثني به المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان عبيد بن عمير يقول : نُنْسِها نرفعها من عندكم ، نأت بمثلها أو خير منها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أوْ نُنْسِها نرفعها نأت بخير منها أو بمثلها .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بكر بن شوذب ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أصحاب ابن مسعود ، مثله .

والصواب من القول في معنى ذلك عندنا : ما نبدّل من حكم آية فنغيره أو نترك تبديله فنقرّه بحاله ، نأت بخير منها لكم من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها ، إما في العاجل لخفته عليكم ، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم فأسقط ثقله عنكم ، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل ، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم ، فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم . وإما في الاَجل لعظم ثوابه من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان ، كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة ، فنُسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كلّ حَوْل ، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات . غير أن ذلك وإن كان كذلك ، فالثواب عليه أجزل والأجر عليه أكثر ، لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات ، فذلك وإن كان على الأبدان أشقّ فهو خير من الأوّل في الاَجل لفضل ثوابه وعظم أجره الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات . فذلك معنى قوله : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه ، أو في الاَجل لعظم ثوابه وكثرة أجره . أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه ، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس إلى فرضها شطر المسجد الحرام . فالتوجه شطر بيت المقدس ، وإن خالف التوجه شطر المسجد ، فكلفة التوجه شطر أيهما توجه شطره واحدة لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدّس من مؤنة توجهه شطره ، نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة سواء . فذلك هو معنى المثل الذي قال جل ثناؤه : { أوْ مِثْلِها } .

وإنما عنى جل ثناؤه بقوله : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها } ما ننسخ من حكم آية أو نُنْسِه . غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها اكتفي بدلالة ذكر الآية من ذكر حكمها . وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا ، كقوله : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ } بمعنى حُبّ العجل ونحو ذلك . فتأويل الآية إذا : ما نغير من حكم آية فنبدّله أو نتركه فلا نبدّله ، نأت بخير لكم أيها المؤمنون حكما منها ، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب .

فإن قال قائل : فإنا قد علمنا أن العجل لا يُشْرَبُ في القلوب وأنه لا يلتبس على من سمع قوله : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ } أن معناه : وأشربوا في قلوبهم حُبّ العجل ، فما الذي يدلّ على أن قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْها } لذلك نظير ؟

قيل : الذي دلّ على أن ذلك كذلك قوله : { نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها } وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء لأن جميعه كلام الله ، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال بعضها أفضل من بعض وبعضها خير من بعض .

القول في تأويل قوله تعالى : { ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

يعني جل ثناؤه بقوله : ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك وأنفع لك ولهم ، إما عاجلاً في الدنيا وإما آجلاً في الاَخرة . أو بأن أبدّل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم عاجلاً في الدنيا وآجلاً في الاَخرة وشبيهه في الخفة عليك وعليهم . فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير . ومعنى قوله : قَدِير في هذا الموضع : قويّ ، يقال منه : «قد قَدَرْت على كذا وكذا » . إذا قويت عليه «أقدْرُ عليه وأَقْدُرُ عليه قُدْرة وقِدْرانا ومَقْدِرةً » . وبنو مُرّة من غطفان تقول : «قَدِرْت عليه » بكسر الدال . فأما من التقدير من قول القائل : «قَدَرْتُ الشيء » فإنه يقال منه : «قَدَرْتُه أَقْدِرُه قَدْرا وقَدَرا » .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

{ ما ننسخ من آية أو ننسها } نزلت لما قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . والنسخ في اللغة : إزالة الصورة عن الشيء وإثباتها في غيره ، كنسخ الظل للشمس والنقل ، ومنه التناسخ . ثم استعمل لكل واحد منهما كقولك : نسخت الريح الأثر ، ونسخت الكتاب . ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها ، أو الحكم المستفاد منها ، أو بهما جميعا . وإنساؤها إذهابها عن القلوب ، وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية . وقرأ ابن عامر ما ننسخ من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها ، أو نجدها منسوخة . وابن كثير وأبو عمرو " ننسأها " أي نؤخرها من النسء . وقرئ " ننسها " أي ننس أحدا إياها ، و " ننسها " أي أنت ، و " تنسها " على البناء للمفعول ، و " ننسكها " بإضمار المفعولين { نأت بخير منها أو مثلها } أي بما هو خير للعباد في النفع والثواب ، أو مثلها في الثواب . وقرأ أبو عمرو بقلب الهمزة ألفا . { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ ، أو بما هو خير منه . والآية دلت على جواز النسخ وتأخير الإنزال إذ الأصل اختصاص أن وما يتضمنها بالأمور المحتملة ، وذلك لأن الأحكام شرعت ، والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا من الله ورحمة ، وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص ، كأسباب المعاش فإن النافع في عصر قد يضر في عصر غيره . واحتج بها من منع النسخ بلا بدل ، أو ببدل أثقل . ونسخ الكتاب بالسنة ، فإن الناسخ هو المأتي به بدلا والسنة ليست كذلك والكل ضعيف ، إذ قد يكون عدم الحكم ، أو الأثقل أصلح . والنسخ قد يعرف بغيره ، والسنة مما أتى به الله تعالى ، وليس المراد بالخير والمثل ما يكون كذلك في اللفظ . والمعتزلة على حدوث القرآن فإن التغير والتفاوت من لوازمه . وأجيب : بأنهما من عوارض الأمور المتعلقة بالمعنى القائم بالذات القديم .