قوله عز وجل : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } ، قال ابن عباس : عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان . وقال الكلبي و مقاتل : خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسبه به . وقال الحسن : يمنه وشؤمه . وعن مجاهد : ما من مولود إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد . وقال أهل المعاني : أراد بالطائر ما قضى الله عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة سمي طائراً على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها . وقال أبو عبيدة و القتيبي : أراد بالطائر حظه من الخير والشر ، من قولهم : طار سهم فلان بكذا ، وخص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزين أو يشين ، فجرى على كلام العرب بتشبيه الأشياء اللازمة إلى الأعناق . { ونخرج له } ، يقول الله تعالى : ونحن نخرج له ، { يوم القيامة كتاباً } ، وقرأ الحسن و مجاهد و يعقوب : { ونخرج له } بفتح الياء وضم الراء ، معناه : ويخرج له الطائر يوم القيامة كتاباً . وقرأ أبو جعفر يخرج بالياء وضمها وفتح الراء . { يلقاه } ، قرأ ابن عامر و أبو جعفر يلقاه بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، يعني : يلقى الإنسان ذلك الكتاب ، أي : يؤتاه . وقرأ الباقون بفتح الياء خفيفة أي لا يراه { منشوراً } ، وفي الآثار : إن الله تعالى يأمر الملك بطي الصحيفة إذا تم عمر العبد فلا تنشر إلى يوم القيامة .
{ 13-14 } { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }
وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه ، أي : ما عمل من خير وشر يجعله الله ملازما له لا يتعداه إلى غيره ، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله .
{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } فيه ما عمله من الخير والشر حاضرا صغيره وكبيره ويقال له : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }
ثم ساق - سبحانه - صورة من صور هذا التفصيل المحكم فى كل شئ فقال - تعالى - : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } .
والمراد بطائره : عمله الصادر عنه باختياره وكسبه ، حسبما قدره الله - تعالى - عليه من خير وشر .
أى : وألزمنا كل إنسان مكلف عمله الناتج عنه ، إلزاما لا فكاك له منه ، ولا قدرة له على مفارقته .
وعبر - سبحانه - عن عمل الإِنسان بطائره ، لأن العرب كانوا - كما يقول الآلوسى - يتفاءلون بالطير ، فإذا سافروا ومر بهم الطير زجروه ، فإن مر بهم سانحا - أى من جهة الشمال إلى اليمين - تيمنوا وتفاءلوا ، وإن مر بارحا ، أى : من جهة اليمين الى الشمال تشاءموا ، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر ، استعير استعارة تصريحية ، لما يشبههما من قدر الله - تعالى - وعمل العبد ، لأنه سبب للخير والشر .
وقوله - سبحانه - : { فى عنقه } تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط بين الإِنسان وعمله .
وخص - سبحانه - العنق بالذكر من بين سائر الأعضاء ، لأن اللزوم فيه أشد ، ولأنه العضو الذى تارة يكون عليه ما يزينه كالقلادة وما يشبهها ، وتارة يكون فيه ما يشينه كالغل والقيد وما يشبههما .
قال الامام ابن كثير : وطائره : هو ما طار عنه من عمله كما قال ابن عباس ومجاهد ، وغير واحد - من خير أو شر ، يلزم به ويجازى عليه : كما قال - تعالى - : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وكما قال - تعالى - : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه ، قليله وكثيره : ويكتب عليه ليلا ونهارا ، صباحا ومساء .
وقوله - سبحانه - : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } بيان لحاله فى الآخرة بعد بيان حاله فى الدنيا .
والمراد بالكتاب هنا صحائف أعماله التى سجلت عليه فى الدنيا .
أى : ألزمنا كل إنسان مكلف عمله الصادر عنه فى الدنيا ، وجعلناه مسئولا عنه دون غيره . أما فى الآخرة فسنخرج له ما عمله من خير أو شر " في كتاب يلقاه منشورا " أى : مفتوحا بحيث يستطيع قراءته ، ومكشوفا بحيث لا يملك إخفاء شئ منه ، أو تجاهله ، أو المغالطة فيه .
كتاب ظهرت فيه الخبايا والأسرار ظهورا يغنى عن الشهود والجدال .
كتاب مشتمل على كل صغيرة وكبيرة من أعمال الإِنسان ، كما قال - تعالى - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ }
( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) .
وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله ، أي ما يقسم له من العمل ، وهو كناية عما يعمله . وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته ؛ على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية . فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه . وكذلك التعبير بإخراج كتابه منشورا يوم القيامة . فهو يصور عمله مكشوفا ، لا يملك إخفاؤه ، أو تجاهله أو المغالطة فيه . ويتجسم هذا المعنى في صورة الكتاب المنشور ، فإذا هو أعمق أثرا في النفس وأشد تأثيرا في الحس ؛ وإذا الخيال البشري يلاحق ذلك الطائر ويلحظ هذا الكتاب في فزع الطائر من اليوم العصيب ، الذي تتكشف فيه الخبايا والأسرار ،
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.