قوله تعالى : { ومن أعرض عن ذكري } يعني : القرآن ، فلم يؤمن به ولم يتبعه ، { فإن له معيشة ضنكاً } ، ضيقاً .
روي عن ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا : هو عذاب القبر . قال أبو سعيد : يضغط حتى تختلف أضلاعه . وفي بعض المسانيد مرفوعاً يلتئم عليه القبر ، حتى تختلف أضلاعه ، فلا يزال يعذب حتى يبعث .
وقال الحسن : هو الزقوم والضريع والغسلين في النار . وقال عكرمة : هو الحرام . وقال الضحاك : هو الكسب الخبيث . وعن ابن عباس قال : الشقاء . وروى عنه أنه قال : كل مال أعطى العبد قل أم كثر فلم يتق فيه فلا خير فيه ، وهو : الضنك في المعيشة ، وإن أقواماً أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين ، فكانت معيشتهم ضنكاً ، وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف عليهم فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله . قال سعيد بن جبير : يسلبه القناعة حتى لا يشبع . { ونحشره يوم القيامة أعمى } قال ابن عباس : أعمى البصر . وقال مجاهد أعمى عن الحجة .
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي } أي : كتابي الذي يتذكر به جميع المطالب العالية ، وأن يتركه على وجه الإعراض عنه ، أو ما هو أعظم من ذلك ، بأن يكون على وجه الإنكار له ، والكفر به { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } أي : فإن جزاءه ، أن نجعل معيشته ضيقة مشقة ، ولا يكون ذلك إلا عذابا .
وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر ، وأنه يضيق عليه قبره ، ويحصر فيه ويعذب ، جزاء لإعراضه عن ذكر ربه ، وهذه إحدى الآيات الدالة على عذاب القبر . والثانية قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } الآية . والثالثة قوله : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ } والرابعة قوله عن آل فرعون : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } الآية .
والذي أوجب لمن فسرها بعذاب القبر فقط من السلف ، وقصرها على ذلك -والله أعلم- آخر الآية ، وأن الله ذكر في آخرها عذاب يوم القيامة . وبعض المفسرين ، يرى أن المعيشة الضنك ، عامة في دار الدنيا ، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه ، من الهموم والغموم والآلام ، التي هي عذاب معجل ، وفي دار البرزخ ، وفي الدار الآخرة ، لإطلاق المعيشة الضنك ، وعدم تقييدها . { وَنَحْشُرُهُ } أي : هذا المعرض عن ذكر ربه { يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } البصر على الصحيح ، كما قال تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا }
وبعد أن بين - سبحانه - حسن عاقبة من اتبع هداه ، أتبع ذلك ببيان سوء عاقبة من أعرض عن ذكره وطاعته فقال - تعالى - : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي . . . } .
قوله : { ضَنكاً } أى : شديدة الضيق . وكل شىء ضاق فهو ضنك .
وهو مصدر يستوى فيه المذكر والمؤنث ، والواحد والجمع يقال : ضنك - ككرم - عيش فلان ضنكا وضناكة إذا ضاق .
والمعنى أن من اتبع هداى الذى جاءت به رسلى فلن يضل ولن يشقى ، أما من أعرض عن { ذِكْرِي } أى : عن هداى الذى جاءت به رسلى ، واشتملت عليه كتبى { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } .
أى : فإن لهذا المعرض معيشة ضيقة مليئة بالهم والغم والأحزان وسوء العاقبة ، حتى ولو ملك المال الوفير ، والحطام الكثير . . . فإن المعيشة الطيبة لا تكون إلا مع طاعة الله ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه .
قال - تعالى - : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } قال الإمام ابن كثير : قوله - تعالى - : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } أى : فى الدنيا فلا طمأنينة له ، ولا انشراح لصدره ، بل صدره ضيق لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء ، وأكل ما شاء ، وسكن حيث شاء ، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى . فهو فى قلق وحيرة وشك ، فلا يزال فى ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة . . .
وقال سفيان بن عيينة ، عن أبى حازم ، عن أبى سلمة ، عن ابى سعيد فى قوله { مَعِيشَةً ضَنكاً } قال : يضيق عليه قبره . حتى تختلف أضلاعه .
والمراد بالعمى فى قوله - سبحانه - : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } : عمى البصر ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك : { قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعْمَىَ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ } .
يقول تعالى ذكره : وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْري الذي أذكره به فتولى عنه ولم يقبله ولم يستجب له ، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا يقول : فإن له معيشة ضيقة . والضنك من المنازل والأماكن والمعايش : الشديد يقال : هذا منزل ضنك : إذا كان ضيقا ، وعيش ضنك : الذكر والأنثى والواحد والاثنان والجمع بلفظ واحد ومنه قول عنترة :
*** وإنْ نَزَلُوا بضَنْكٍ أنْزلِ ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " يقول : الشقاء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ضَنْكا قال : ضيقة .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : " فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : الضنك : الضيق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : " فإنّ لَهُ مَعَيشَةً ضَنْكا " يقول : ضيقة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي جعل الله لهؤلاء المعرضين عن ذكره العيشة الضنك ، والحال التي جعلهم فيها ، فقال بعضهم : جعل ذلك لهم في الاَخرة في جهنم ، وذلك أنهم جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو بن عليّ بن مقدم ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوفُ ، عن الحسن ، في قوله : " فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : في جهنم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " فقرأ حتى بلغ : " ولَمْ يُؤْمِنْ بآياتِ رَبّهِ " قال : هؤلاء أهل الكفر . قال : ومعيشة ضنكا في النار شوك من نار وزقوم وغسلين ، والضريع : شوك من نار ، وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة ، ما المعيشة والحياة إلا في الاَخرة ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ : " يا لَيْتَنِي قَدّمْتُ لِحَياتِي " قال : لمعيشتي قال : والغسلين والزقوم : شيء لا يعرفه أهل الدنيا .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة " فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : في النار .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : فإن له معيشة في الدنيا حراما . قال : ووصف الله جلّ وعزّ معيشتهم بالضنك ، لأن الحرام وإن اتسع فهو ضنك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرِمة في قوله : " مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : هي المعيشة التي أوسع الله عليه من الحرام .
حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب من أهل البصرة ، قال : حدثنا عمرو بن جرير البجلي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم في قول الله : مَعِيشَةً ضَنْكا قال : رزقا في معصيته .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، قال : حدثنا أبو بسطام ، عن الضحاك " فإنّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكا " قال : الكسب الخبيث .
حدثني محمد بن إسماعيل الصراري ، قال : حدثنا محمد بن سوار ، قال : حدثنا أبو اليقظان عمار بن محمد ، عن هارون بن محمد التيمي ، عن الضحاك ، في قوله : " فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : العمل الخبيث ، والرزق السيىء .
وقال آخرون ممن قال عنى أن لهؤلاء القوم المعيشة الضنك في الدنيا ، إنما قيل لها ضنك وإن كانت واسعة ، لأنهم ينفقون ما ينفقون من أموالهم على تكذيب منهم بالخلف من الله ، وإياس من فضل الله ، وسوء ظنّ منهم بربهم ، فتشتدّ لذلك عليهم معيشتهم وتضيق ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " يقول : كلّ مال أعطيته عبدا من عبادي قلّ أو كثر ، لا يتقيني فيه ، لا خير فيه ، وهو الضنك في المعيشة . ويقال : إن قوما ضُلاّلاً أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله عزّ وجلّ ليس بمخلف لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله ، والتكذيب به ، فإذا كان العبد يكذّب بالله ، ويسيء الظنّ به ، اشتدّت عليه معيشته ، فذلك الضنك .
وقال آخرون : بل عني بذلك : أن ذلك لهم في البرزخ ، وهو عذاب القبر . ذكر من قال ذلك :
حدثني يزيد بن مخلد الواسطي ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي حازم عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال في قول الله : " مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : عذاب القبر .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بِشر بن المفضل ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي حازم ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، قال : إن المعيشة الضنك ، التي قال الله : عذاب القبر .
حدثني حوثرة بن محمد المنقري ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخُدريّ " فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، قال : حدثنا خالد بن زيد ، عن ابن أبي هلال ، عن أبي حازم ، عن أبي سعيد ، أنه كان يقول : المعيشة الضنك : عذاب القبر ، إنه يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنّينا تنهشه وتخدش لحمه حتى يُبعث . وكان يقال : لو أن تنّينا منها نفخ الأرض لم تنبت زرعا .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : يطبق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، وهي المعيشة الضنك التي قال الله : " مَعِيشَةً ضَنْكا ونحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَى " .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح والسديّ في قوله : مَعِيشَةً ضَنْكا قال : عذاب القبر .
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا قال : عذاب القبر .
حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : حدثنا أبو عُمَيس ، عن عبد الله بن مخارق عن أبيه ، عن عبد الله ، في قوله : مَعِيشَةً ضَنْكا قال : عذاب القبر .
حدثني عبد الرحيم البرقيّ ، قال : حدثنا ابن أبي مَريم ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي حازم ، قالا : حدثنا أبو حازم ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخدريّ مَعِيشَةً ضَنْكا قال : عذاب القبر .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هو عذاب القبر الذي :
حدثنا به أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن درّاج ، عن ابن حُجَيرة عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أتَدْرُونَ فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ : فإنّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ القيامَةِ أعْمَى ، أتَدْرُونَ ما المَعِيشَةً الضّنْكُ ؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «عَذَابُ الكافرِ في قَبْرِهِ ، والّذِي نَفْسي بيَدِهِ ، إنّه لَيُسَلّطُ عَلَيْهِ تَسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنّينا ، أتَدْرُونَ ما التّنِينُ : تسْعَةٌ وَتسْعُونَ حَيّة ، لكلّ حَيّة سَبْعَةُ رُؤُوسٍ ، يَنْفُخُونَ في جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ ويَخْدِشُونَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ » . وإن الله تبارك وتعالى أتبع ذلك بقوله : " وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أشَدّ وأبْقَى " فكان معلوما بذلك أن المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم قبل عذاب الاَخرة ، لأن ذلك لو كان في الاَخرة لم يكن لقوله " وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أشَدّ وأبْقَى " معنى مفهوم ، لأن ذلك إن لم يكن تقدّمه عذاب لهم قبل الاَخرة ، حتى يكون الذي في الاَخرة أشدّ منه ، بطل معنى قوله وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أشَدّ وأبْقَى . فإذ كان ذلك كذلك ، فلا تخلو تلك المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم من أن تكون لهم في حياتهم الدنيا ، أو في قبورهم قبل البعث ، إذ كان لأوجه لأن تكون في الاَخرة لما قد بيّنا ، فإن كانت لهم في حياتهم الدنيا ، فقد يجب أن يكون كلّ من أعرض عن ذكر الله من الكفار ، فإن معيشته فيها ضنك ، وفي وجودنا كثيرا منهم أوسع معيشة من كثير من المقبلين على ذكر الله تبارك وتعالى ، القائلين له المؤمنين في ذلك ، ما يدلّ على أن ذلك ليس كذلك ، وإذ خلا القول في ذلك من هذين الوجهين صحّ الوجه الثالث ، وهو أن ذلك في البرزخ .
وقوله : " ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَى " اختلف أهل التأويل في صفة العمى الذي ذكر الله في هذه الاَية ، أنه يبعث هؤلاء الكفار يوم القيامة به ، فقال بعضهم : ذلك عمى عن الحجة ، لا عمى عن البصر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : " ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَى " قال : ليس له حجة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَى " قال : عن الحجة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله ، وقيل : يحشر أعمى البصر .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قال الله تعالى ذكره ، وهو أنه يحشر أعمى عن الحجة ورؤية الشيء كما أخبر جلّ ثناؤه ، فعمّ ولم يخصص .
{ ومن أعرض عن ذكري } عن الهدى الذاكر لي والداعي إلى عبادتي { فإن له معيشة ضنكا } ضيقا مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وقرىء " ضنكى " كسكرى ، وذلك لأن مجامع همته ومطامح نظره تكون إلى أعراض الدنيا متهالكا على ازديادها خائفا على انقصاها ، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه تعالى قد يضيق بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان كما قال { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقو } الآيات ، وقيل هو الضريع والزقوم في النار ، وقيل عذاب القبر { ونحشره } قرىء بسكون الهاء على لفظ الوقف وبالجزم عطفا على محل { فإن له معيشة ضنكا } لأنه جواب الشرط . يوم القيامة أعمى البصر أو القلب ويؤيد الأول .
{ من أعرض } عن ذكر الله وكفر به { فإن له معيشة ضنكاً } والضنك النكد الشاق من العيش أو المنازل أو مواطن الحرب ونحو هذا ، ومنه قول عنترة وإن نزلوا بضنك أنزل{[8172]} ، وصف به الواحد والجمع والمؤنث ، وقرأت فرقة : [ ضنكى ]{[8173]} ، أتبعت بالصفة لفظة " المعيشة " . واختلف الناس في المعيشة الضنك ، متى هو الوقت الذي هي فيه فقالت فرقة : هي الدنيا ، ومعنى ذلك عندهم أن الكافر وإن كان متسع الحال والمال فمعه من الحرص والأمل والتعذيب بأمور الدنيا والرغبة واتساع صفاء العيش بذلك ما يصير معيشيته ضنكا ، وقالت فرقة : هي ضنك بأكل الحرام ، وقالت فرقة : بل المعيشة الضنك هي في البرزخ ، وهو أن يرى مقعده من النار غدوا ورواحا ، وبالجملة عذاب القبر على ما روي فيه . ذلك من وعيد لهم .
ويدل لهذا مقابلة ضده في قوله { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى } ، إذ رتب على الإعراض عن هدي الله اختلال حَاله في الدنيا والآخرة ، فالمعيشة مراد بها مدة المعيشة ، أي مدّة الحياة .
والضنك : مصدر ضَنُك ، من باب كَرُم ضناكة وضنكاً ، ولكونه مصدراً لم يتغيّر لفظه باختلاف موصوفه ، فوصف به هنا { معيشة وهي مؤنث . والضنك : الضيق ، يقال : مكان ضنك ، أي ضيق . ويستعمل مجازاً في عسر الأمور في الحياة ، قال عنترة :
إن يلحقوا أكرُر وإن يستلحموا *** أشدد وإن نَزلوا بضَنْك أنْزِلِ
أي بمنزل ضنك ، أي فيه عسر على نازله . وهو هنا بمعنى عسر الحال من اضطراب البال وتبلبله . والمعنى : أن مجامع همه ومطامح نظره تكون إلى التحيل في إيجاد الأسباب والوسائل لمطالبه ، فهو متهالك على الازدياد خائف على الانتقاص غير ملتفت إلى الكمالات ولا مأنوس بما يسعى إليه من الفضائل ، يجعله الله في تلك الحالة وهو لا يشعر ، وبعضهم يبدو للناس في حالة حسنة ورفاهية عيش ولكن نفسَه غير مطمئنة .