قوله تعالى : { فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا } فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل ونتزود الأزواد ، فجعل الله لهم الإجابة . وقال مجاهد : بطروا النعمة وسئموا الراحة . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : بعد بالتشديد من التبعيد ، وقرأ الآخرون : باعد ، بالألف ، وكل على وجه الدعاء والسؤال ، وقرأ يعقوب : ربنا برفع الباء ، باعد بفتح العين والدال على الخبر ، كأنهم استبعدوا أسفارهم القريبة بطروا وأشروا . { وظلموا أنفسهم } بالبطر والطغيان . قوله تعالى :{ فجعلناهم أحاديث } عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ، { ومزقناهم كل ممزق } فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق . قال الشعبي : لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد ، أما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان ، وخزاعة إلى تهامة ، ومر آل خزيمة إلى العراق ، والأوس والخزرج إلى يثرب ، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر ، وهو جد الأوس والخزرج . { إن في ذلك لآيات } لعبراً ودلالات ، { لكل صبار } عن معاصي الله ، { شكور } لأنعمه ، قال مقاتل : يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شاكر للنعماء . قال مطرف : هو المؤمن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
صبار على المكاره والشدائد ، يتحملها لوجه اللّه ، ولا يتسخطها بل يصبر عليها . شكور لنعمة اللّه تعالى يُقِرُّ بها ، ويعترف ، ويثني على من أولاها ، ويصرفها في طاعته . فهذا إذا سمع بقصتهم ، وما جرى منهم وعليهم ، عرف بذلك أن تلك العقوبة ، جزاء لكفرهم نعمة اللّه ، وأن من فعل مثلهم ، فُعِلَ به كما فعل بهم ، وأن شكر اللّه تعالى ، حافظ للنعمة ، دافع للنقمة ، وأن رسل اللّه ، صادقون فيما أخبروا به ، وأن الجزاء حق ، كما رأى أنموذجه في دار الدنيا .
ولكنهم لم يقدروا هذه النعمة ، بل بلغ بهم الجهل والحمق والبطر ، أنهم دعوا الله - تعالى - بقولهم - كما حكى القرآن عنهم - : { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } .
أى : ما أننا بفضلنا وإحساننا قد أعطيناهم تلك النعمة ، ومكانهم منها ، وهى نعمة تيسير وسائل السفر ، ومنحهم الأمان والاطمئمان خلاله . . إلا أنهم - لشؤمهم وضيق تفكيرهم وشقائهم - تضرعوا إلينا وقالوا : يا ربنا اجعل بيننا وبين القرى المباركة ، مفاوز وصحارى متباعدة الأقطار ، بدل تلك القرى العامرة المتقاربة ، فهم - كما يقول صاحب الكشاف - : بطروا النعمة ، وبشموا . أى : سئموا - من طيب العيش ، وملوا العافية ، فطلبوا النكد والتعب ، كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم ، مكان المن والسلوى .
وفى هذه الجملة الكريمة قراءات متعددة ذكرها القرطبى فقال ما ملخصه : فقراءة العامة { ربنا } - النصب - على أنه نداء مضاف . . { باعد } - بزنة فاعل - سألوا المباعدة فى أسفارهم . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { ربنا } كذلك على الدعاء { بعَّد } - بتشديد العين - من التبعيد .
وقرأ يعقوب وغيره { ربُّنا } - بالرفع - { باعَدَ } بفتح العين والدال - على الخبر . أى : لقد باعد ربنا { بَيْنَ أَسْفَارِنَا } .
وقوله : { وظلموا أَنفُسَهُمْ } أى : قالوا ذلك القول السئ ، وظلموا أنفسهم بسببه ، حيث أجيب دعاؤهم ، فكان نقمة عليهم ، لأنهم بعد أن كانوا يسافرون بيسر وأمان ، صاروا يسافرون بمشقة وخوف .
وقوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } بيان لما آل إليه أمرهم .
والأحاديث : جمع أحدوثة ، وهى ما يتحث به الناس على سبيل التلهى والتعجب أى : قالوا ما قالوا من سوء وفعلوا ما فعلوا من منكر ، فكانت نتيجة ذلك . أن صيرناهم أحاديث يتلهى الناس بأخبارهم ، ويضربون بهم المثل ، فيقولون : فتفرقوا أيدى سبأ ، ومزقناهم كل ممزق فى البلاد المتعددة ، فمنهم من ذهب إلى الشام ، ومنهم من ذهب إلى العراق . . . . بعد أن كانوا أمة متحدة ، يظلها الأمان والاطمئمان ، والغى والجاه . .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } الذى فعلناه بهم بسبب جهلهم وفسوقهم وبطرهم { لآيَاتٍ } واضحات بينات { لِّكُلِّ صَبَّارٍ } على طاعة الله - تعالى - { شَكُورٍ } له - سبحانه - على نعمه .
وخص - سبحانه - الصبار والشكور بالذكر . لأنهما هما المنتفعان بآياته وعبره ومواعظه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَالُواْ رَبّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزّقْنَاهُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ } .
اختلق القرّاء في قراءة قوله : رَبّنا باعِدْ بينَ أسْفارِنا فقرأته عامة قرّاء المدينة والكُوفة : رَبّنا باعِدْ بينَ أسْفارِنا على وجه الدعاء والمسألة بالألف وقرأ ذلك بعض أهل مكة والبصرة : «بَعّدْ » بتشديد العين على الدعاء أيضا . وذُكر عن المتقدمين أنه كان يقرؤه : «رَبّنا باعَدَ بَينَ أسْفارِنا » على وجه الخبر من الله أن الله فعل ذلك بهم . وحكي عن آخر أنه قرأه : «ربنا بَعّد » على وجه الخبر أيضا غير أنّ الربّ منادي .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : رَبّنا باعِدْ و«بَعّدْ » لأنهما القراءتان المعروفتان في قرأة الأمصار وما عداهما فغير معروف فيهم على أن التأويل من أهل التأويل أيضا يحقّق قراءة من قرأه على وجه الدعاء والمسألة ، وذلك أيضا مما يزيد القراءة الأخرى بُعدا من الصواب .
فإذا كان هو الصواب من القراءة ، فتأويل الكلام : فقالوا : يا ربنا باعِدْ بين أسفارنا ، فاجعل بيننا وبين الشأم فَلَوات ومَفاوِز ، لنركب فيها الرواحل ، ونتزوّد معنا فيها الأزواد وهذا من الدلالة على بطر القوم نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم ، وجهلهم بمقدار العافية ولقد عجل لهم ربهم الإجابة ، كما عجل للقائلين : إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عَنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ أعطاهم ما رغبوا إليه فيه وطلبوا من المسألة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو خُصَين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عَبْثَر ، قال : حدثنا حُصَين ، عن أبي مالك في هذه الاَية : فَقالُوا رَبّنا باعِدْ بينَ أسْفارِنا قال : كانت لهم قُرًى متصلة باليمن ، كان بعضها ينظر إلى بعض ، فبطروا ذلك ، وقالوا : ربنا باعدْ بين أسفارنا ، قال : فأرسل الله عليهم سَيْل العَرِم ، وجعل طعامهم أَثْلاً وخَمْطا وشيئا من سدر قليل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَقَالُوا رَبّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ قال : فإنهم بطِروا عيشهم ، وقالوا : لو كان جَنَى جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه ، فمُزّقوا بين الشأم وسبأ ، وبدّلوا بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل ، وشيء من سدر قليل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَقالُوا رَبّنا باعِدْ بينَ أسْفارِنا بطر القوم نعمة الله ، وغَمَطوا كرامة الله ، قال الله وَظَلَمُوا أنُفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَقالُوا رَبّنا باعِدْ بَينَ أسْفارِنا حتى نبيت في الفَلَوات والصحاري فَظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ .
وقوله فَظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ وكان ظلمهم إياها عَمَلَهم بما يسخط الله عليهم من معاصيه ، مما يوجب لهم عقاب الله فجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ يقول : صيرناهم أحاديث للناس يضربون بهم المثل في السبّ ، فيقال : تفرّق القوم أيادِي سَبَا ، وأيدي سبا ، إذا تفرّقوا وتقطّعوا .
وقوله وَمَزّقْناهُمْ كُلّ مُمَزّقٍ يقول : وقطعناهم فِي البلاد كلّ مقطع ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ فجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ وَمَزّقْناهُمْ كُلّ مُمّزّقٍ قال قتادة : قال عامر الشّعْبِي : أما غَسّان فقد لَحِقوا بالشأم ، وأما الأنصار فلحقوا بَيثرِب ، وأما خَزَاعة فلحقوا بتهامة ، وأما الأزد فلحقوا بعُمان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : يزعمون أن عمِران بن عامر ، وهو عمّ القوم كان كاهنا ، فرأى في كَهانته أن قومه سيمزّقون ويتباعَدُون ، فقال لهم : إني قد علمت أنكم سَتُمزّقون ، فمن كان منكم ذا همّ بعيد ، وجمل شديد ، ومزاد جديد ، فليلحق بكأس أو كرود ، قال : فكانت وادعة بن عمرو ومن كان منكم ذا هم مدنٍ ، وأمرد عَنٍ ، فليلْحَق بأرض شَنّ ، فكانت عوف بن عمرو ، وهم الذين يقال لهم بارق ومن كان منكم يريد عيشا آينا ، وحرَما آمنا ، فليلحق بالأرزين ، فكانت خزاعة ومن كان يريد الراسيات في الوحْل ، المطْعِمات في المَحْل ، فليلحق بيثرب ذات النخل ، فكانت الأوس والخزرج فهما هذان الحيان من الأنصار ومن كان يريد خمرا وخميرا ، وذهبا وحريرا ، وملكا وتأميرا فليلحق بكُوثىَ وبُصْرَى ، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشأم ومن كان منهم بالعراق . قال ابن إسحاق : قد سمعت بعض أهل العلم يقول : إنما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمران بن عامر ، وكانت كاهنة ، فرأت في كهانتها ذلك ، والله أعلم أيّ ذلك كان قال : فلما تفرّقوا ، نزلوا على كهانة عمران بن عامر .
وقوله : إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ يقول تعالى ذكره : إن في تمزيقناهم كلّ ممزّق لاَيات يقول : لعظة وعِبْرة ودلالة على واجب حق الله على عبده من الشكر على نعمه إذا أنعم عليه ، وحقه من الصبر على محنته إذا امتحنه ببلاء لكلّ صبار شكور على نعمه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ كان مطرّف يقول : نعم العبد الصّبار الشكور ، الذي إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر .