ثم ذكر سبحانه : أنهم لم يشكروا النعمة ، بل طلبوا التعب والكد . { فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا } وكان هذا القول منهم بطراً وطغياناً لما سئموا النعمة ، ولم يصبروا على العافية ، فتمنوا طول الأسفار ، والتباعد بين الديار ، وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء والشجر والأمن ، والمفاوز والقفار ، والبراري المتباعدة الأقطار ، فأجابهم الله إلى ذلك ، وخرّب تلك القرى المتواصلة ، وذهب بما فيها من الخير ، والماء والشجر ، فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا : { فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الارض مِن بَقْلِهَا } [ البقرة : 61 ] الآية مكان المنّ والسلوى ، وكقول النضر بن الحارث { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] الآية . قرأ الجمهور { ربنا } بالنصب على أنه منادى مضاف ، وقرءوا أيضاً { باعد } وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن ، وهشام عن ابن عامر : ( بعد ) بتشديد العين ، وقرأ ابن السميفع بضم العين فعلاً ماضياً ، فيكون معنى هذه القراءة : الشكوى من بعد الأسفار ، وقرأ أبو صالح ، ومحمد بن الحنفية ، وأبو العالية ، ونصر بن عاصم ، ويعقوب { ربنا } بالرفع : { باعد } بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء والخبر .
والمعنى : لقد باعد ربنا بين أسفارنا ، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس ، واختارها أبو حاتم ، قال : لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطراً ، وأشراً وكفراً للنعمة . وقرأ يحيى بن يعمر ، وعيسى بن عمر : ( ربنا ) بالرفع ، ( بعد ) بفتح العين مشدّدة ، فيكون معنى هذه القراءة : الشكوى بأن ربهم بعد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء ، فيكون هذا من جملة بطرهم ، وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل في قوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] . وروى الفرّاء ، والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف ، والتقدير : بعد سيرنا بين أسفارنا . قال النحاس : وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال : إحداها أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا ا ختلفت معانيها ، ولكن أخبر عنهم : أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم ، فلما فعل ذلك بهم شكوا وتضرّروا ، ولهذا قال سبحانه : { وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } حيث كفروا بالله ، وبطروا نعمته ، وتعرّضوا لنقمته { فجعلناهم أَحَادِيثَ } يتحدّث الناس بأخبارهم . والمعنى : جعلناهم ذوي أحاديث يتحدّث بها من بعدهم تعجباً من فعلهم ، واعتباراً بحالهم وعاقبتهم { ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي فرّقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق ، وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث ، وذلك أن الله سبحانه لما أغرق مكانهم ، وأذهب جنتهم ، تفرّقوا في البلاد ، فصارت العرب تضرب بهم الأمثال . فتقول : تفرّقوا أيدي سبا . قال الشعبي : فلحقت الأنصار بيثرب ، وغسان بالشام ، والأزد بعمان ، وخزاعة بتهامة { إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَاتٍ } أي فيما ذكر من قصتهم ، وما فعل الله بهم لآيات بينات ، ودلالات واضحات { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي لكل من هو كثير الصبر والشكر ، وخصّ الصبار الشكور ، لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.