{ فَقَالُوا } أي بلسان الحال والميل إلى المهالك الشيطانية { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } أي فاستعدوا لضلالهم وكفرهم لأن تجعل أمكنتهم تعمل فيها المطيّ والرواحل ، لتباعد ما بينها وبين ما يسيرون إليه .
وحصل ذلك بما بدلوا به من بلادهم الحسنة { وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } أي حتى حل بهم ما حل { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث الناس بهم ويتعجبون من نبئهم وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والعيش الهنيّ { ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي فرقناهم كل تفريق ، حتى اتخذه الناس مثلا مضروبا . يقولون ( تفرقوا أيادي سبا ، وذهبوا أيدي سبا ) بألف مقصورة . قال الأزهري : العرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع ، لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز ، وإن كان أصله مهموزا . والذهاب معلوم . والأيادي جمع أيد . والأيدي جمع يد . وهي بمعنى الجارحة ، وبمعنى النعمة ، وبمعنى الطريق ، وهو المراد . / قال في ( التهذيب ) :قولهم ذهبوا أيدي سبا ، أي متفرقين . شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم الله في الأرض كل ممزق . فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة . و ( اليد ) الطريق . يقال : أخد القوم يد بحر . . فقيل للقوم إذا ذهبوا في جهات مختلفة ( ذهبوا أيدي سبا ) أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها ، كما تفرق أهل سبا في مذاهب شتى .
قال ابن مالك : إنه مركب تركيب خمسة عشر ، مبنيا على السكون . وفى ( زهر الأكم ، في الأمثال والحكم ) أن سبا كانت أخصب بلاد الله . كما قال تعالى : { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } قيل كانت مسافة شهر للراكب المجدّ . يسير الماشي في الجنان من أولها إلى أخرها لا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الأنهار واتساع الفضاء . فمكثوا مدة في أمن لا يعاندهم أحد إلا قصموه . وكانت في بدء الأمر تركبها السيول . فجمع لذلك حمير أهل مملكته وشاورهم . فاتخذوا سدا في بدء جريان الماء ورصفوه بالحجارة والحديد ، وجعلوا فيه مخارق للماء . فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات . فلما كفروا نعم الله تعالى ، ورأوا أن ملكهم لا يبيده شيء ، وعبدوا الشمس ، سلط الله على سدهم فأرة فخرقته . وأرسل عليهم السيل فمزقهم الله كل ممزق . وأباد خضراءهم . وتبددوا في البلاد . فلحق الأزد بعمان . وخزاعة ببطن مرّ . والأوس والخزرج بيثرب . وآل جفنة بأرض الشام . وآل جذيمة الأبرش بالعراق .
وقد روى الإمام أحمد عن بن عباس ، ( أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : عن سبأ ما هو ؟ أرجل أم امرأة ؟ أم أرض ؟ قال صلى الله عليه وسلم :بل هو رجل ولد له عشرة . فسكن اليمن منهم ستة . وبالشام منهم أربعة . فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير . وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان ) .
قال ابن كثير : وإسناده حسن إلا ابن لهيعة .
وروى الإمام أحمد أيضا عن فروة بن مسيك رضي الله عنه قال : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ! أقاتل بمقبل قومي مدبرهم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم . فقاتل بمقبل قومك مدبرهم . فلما وليت دعاني فقال : لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام . فقلت : / يا رسول الله ! أرأيت سبأ ؟ أواد هو أو جبل أو ما هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم : لا . بل هو رجل من العرب ولد له عشرة . فتيامن ستة ، وتشاءم أربعة . تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار - الذين يقال لهم بجيلة - وخثعم . وتشاءم لخم وجذام وعاملة وغسان ) .
قال ابن كثير : حديث حسن . وإن كان فيه أبو حباب الكلبي ، وقد تكلموا فيه .
ورواه الحافظ ابن عبد البر في كتاب ( القصد والأمم بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم ) عن تميم الداري ، ( أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبا ؟ ) فذكر مثله .
وقال ابن كثير : فقوي هذا الحديث وحسن .
وذكر علماء النسب ، منهم محمد بن إسحق اسم سبأ ، عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان . وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب وكان يقال له الرائش . لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه . فسمي الرائش . والعرب تسمي المال ريشا ورياشا . وذكروا أنه بشّر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم . وقال في ذلك شعرا :
سيملك بعدنا ملك عظيم*** نبي لا يرخص في الحرام
ويملك بعده منهم ملوك*** يدينوه القياد بكل رامي
ويملك بعدهم منا ملوك*** يصير الملك فينا بانقسام
ويملك بعد قحطان نبي*** تقي متحنث خير الأنام
يسمى أحمد . يا ليت أني *** أعمر بعد مبعثه بعام
فأعضده وأحبوه بنصري *** بكل مدجج وبكل رام
متى يظهر فكونوا ناصريه *** ومن يلقه يبلغه سلامي
ذكر ذلك الهمدانيّ في كتاب ( الإكليل ) . واختلفوا في قحطان . فقيل : إنه من سلالة إرم بن سام نوح . وقيل : من سلالة عابر وهو هود عليه السلام . وقيل : إنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام . وقد ذكر ذلك مستقصىّ الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ النمريّ في كتاب ( الأنباه على ذكر أصول القبائل الرواه ) .
/ قال ابن كثير : ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم في سبأ : ( كان رجلا من العرب ) ، يعنى العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح . وعلى القول الثالث . كان من سلالة الخليل عليه السلام ، وليس بالمشهور عندهم . والله أعلم .
ولكن في ( صحيح البخاري ) {[6275]} ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتصلون فقال :ارموا ، بني إسماعيل ! فإن أباكم كان راميا ) . وأسلم قبيلة من الأنصار . والأنصار أوسها وخزرجها من عرب اليمن ، من سبأ ، نزلت يثرب ، لما تفرقت ، كما مر .
( ثم قال ) : ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( ولد له عشرة ) أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن . لا أنهم ولدوا من صلبه . بل منهم من بينه وبينه ، الأبوان والثلاثة ، والأقل والأكثر . كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب { إن في ذلك } أي فيما ذكر من قصتهم ، وما حل بهم من النقمة والعذاب ، وتبديل النعمة وتحويل العافية على ما ارتكبوه من الكفر والآثام { لآيات } أي لعبرا عظيمة { لكل صبار شكور } أي شأنه الصبر عن الشهوات والهوى والآثام ، والشكر على النعم . قال الأعشى من قصيدة .
ففي ذاك للمؤتسي أسوة *** ومأرب عفي عليها العرم
رخام بنته لهم حمير *** إذا جاء موّاره لم يرم
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.