محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

{ فَقَالُوا } أي بلسان الحال والميل إلى المهالك الشيطانية { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } أي فاستعدوا لضلالهم وكفرهم لأن تجعل أمكنتهم تعمل فيها المطيّ والرواحل ، لتباعد ما بينها وبين ما يسيرون إليه .

وحصل ذلك بما بدلوا به من بلادهم الحسنة { وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } أي حتى حل بهم ما حل { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث الناس بهم ويتعجبون من نبئهم وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والعيش الهنيّ { ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي فرقناهم كل تفريق ، حتى اتخذه الناس مثلا مضروبا . يقولون ( تفرقوا أيادي سبا ، وذهبوا أيدي سبا ) بألف مقصورة . قال الأزهري : العرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع ، لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز ، وإن كان أصله مهموزا . والذهاب معلوم . والأيادي جمع أيد . والأيدي جمع يد . وهي بمعنى الجارحة ، وبمعنى النعمة ، وبمعنى الطريق ، وهو المراد . / قال في ( التهذيب ) :قولهم ذهبوا أيدي سبا ، أي متفرقين . شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم الله في الأرض كل ممزق . فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة . و ( اليد ) الطريق . يقال : أخد القوم يد بحر . . فقيل للقوم إذا ذهبوا في جهات مختلفة ( ذهبوا أيدي سبا ) أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها ، كما تفرق أهل سبا في مذاهب شتى .

قال ابن مالك : إنه مركب تركيب خمسة عشر ، مبنيا على السكون . وفى ( زهر الأكم ، في الأمثال والحكم ) أن سبا كانت أخصب بلاد الله . كما قال تعالى : { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } قيل كانت مسافة شهر للراكب المجدّ . يسير الماشي في الجنان من أولها إلى أخرها لا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الأنهار واتساع الفضاء . فمكثوا مدة في أمن لا يعاندهم أحد إلا قصموه . وكانت في بدء الأمر تركبها السيول . فجمع لذلك حمير أهل مملكته وشاورهم . فاتخذوا سدا في بدء جريان الماء ورصفوه بالحجارة والحديد ، وجعلوا فيه مخارق للماء . فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات . فلما كفروا نعم الله تعالى ، ورأوا أن ملكهم لا يبيده شيء ، وعبدوا الشمس ، سلط الله على سدهم فأرة فخرقته . وأرسل عليهم السيل فمزقهم الله كل ممزق . وأباد خضراءهم . وتبددوا في البلاد . فلحق الأزد بعمان . وخزاعة ببطن مرّ . والأوس والخزرج بيثرب . وآل جفنة بأرض الشام . وآل جذيمة الأبرش بالعراق .

وقد روى الإمام أحمد عن بن عباس ، ( أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : عن سبأ ما هو ؟ أرجل أم امرأة ؟ أم أرض ؟ قال صلى الله عليه وسلم :بل هو رجل ولد له عشرة . فسكن اليمن منهم ستة . وبالشام منهم أربعة . فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير . وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان ) .

قال ابن كثير : وإسناده حسن إلا ابن لهيعة .

وروى الإمام أحمد أيضا عن فروة بن مسيك رضي الله عنه قال : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله  ! أقاتل بمقبل قومي مدبرهم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم . فقاتل بمقبل قومك مدبرهم . فلما وليت دعاني فقال : لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام . فقلت : / يا رسول الله  ! أرأيت سبأ ؟ أواد هو أو جبل أو ما هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم : لا . بل هو رجل من العرب ولد له عشرة . فتيامن ستة ، وتشاءم أربعة . تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار - الذين يقال لهم بجيلة - وخثعم . وتشاءم لخم وجذام وعاملة وغسان ) .

قال ابن كثير : حديث حسن . وإن كان فيه أبو حباب الكلبي ، وقد تكلموا فيه .

ورواه الحافظ ابن عبد البر في كتاب ( القصد والأمم بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم ) عن تميم الداري ، ( أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبا ؟ ) فذكر مثله .

وقال ابن كثير : فقوي هذا الحديث وحسن .

وذكر علماء النسب ، منهم محمد بن إسحق اسم سبأ ، عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان . وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب وكان يقال له الرائش . لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه . فسمي الرائش . والعرب تسمي المال ريشا ورياشا . وذكروا أنه بشّر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم . وقال في ذلك شعرا :

سيملك بعدنا ملك عظيم*** نبي لا يرخص في الحرام

ويملك بعده منهم ملوك*** يدينوه القياد بكل رامي

ويملك بعدهم منا ملوك*** يصير الملك فينا بانقسام

ويملك بعد قحطان نبي*** تقي متحنث خير الأنام

يسمى أحمد . يا ليت أني *** أعمر بعد مبعثه بعام

فأعضده وأحبوه بنصري *** بكل مدجج وبكل رام

متى يظهر فكونوا ناصريه *** ومن يلقه يبلغه سلامي

ذكر ذلك الهمدانيّ في كتاب ( الإكليل ) . واختلفوا في قحطان . فقيل : إنه من سلالة إرم بن سام نوح . وقيل : من سلالة عابر وهو هود عليه السلام . وقيل : إنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام . وقد ذكر ذلك مستقصىّ الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ النمريّ في كتاب ( الأنباه على ذكر أصول القبائل الرواه ) .

/ قال ابن كثير : ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم في سبأ : ( كان رجلا من العرب ) ، يعنى العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح . وعلى القول الثالث . كان من سلالة الخليل عليه السلام ، وليس بالمشهور عندهم . والله أعلم .

ولكن في ( صحيح البخاري ) {[6275]} ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتصلون فقال :ارموا ، بني إسماعيل  ! فإن أباكم كان راميا ) . وأسلم قبيلة من الأنصار . والأنصار أوسها وخزرجها من عرب اليمن ، من سبأ ، نزلت يثرب ، لما تفرقت ، كما مر .

( ثم قال ) : ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( ولد له عشرة ) أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن . لا أنهم ولدوا من صلبه . بل منهم من بينه وبينه ، الأبوان والثلاثة ، والأقل والأكثر . كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب { إن في ذلك } أي فيما ذكر من قصتهم ، وما حل بهم من النقمة والعذاب ، وتبديل النعمة وتحويل العافية على ما ارتكبوه من الكفر والآثام { لآيات } أي لعبرا عظيمة { لكل صبار شكور } أي شأنه الصبر عن الشهوات والهوى والآثام ، والشكر على النعم . قال الأعشى من قصيدة .

ففي ذاك للمؤتسي أسوة *** ومأرب عفي عليها العرم

رخام بنته لهم حمير *** إذا جاء موّاره لم يرم

فأروى الزروع وأعنا بها *** على سعة ماؤهم إذا قسم

فصاروا أيادي ما يقدرو*** ن منه على شرب طفل فطم


[6275]:أخرجه في: 56-كتاب الجهاد، 78-باب التحريض على الرمي، حديث رقم1387 عن سلمة بن الأكوع.