اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

قوله : «رَبَّنَا » العامة بالنصب على النداء . وابن كثير وأبو عمرو{[44482]} وهشام «بَعِّدْ » بتشديد العين فعل طلب والباقون بَاعِدْ طلب أيضاً من المفاعلة بمعنى الثلاثي . وقرأ ابن الحَنَفِيَّة{[44483]} وسُفْيَان بن حُسَيْنِ{[44484]} وابن السَّميفع بَعْدَ{[44485]} بضم العين فعلاً ماضياً والفاعل المسير أي بَعُد المَسِيرُ ، و «بين » ظرف وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلا أنه ضَمَّن{[44486]} نون بين جعله فَاعِلَ «بَعُدَ » فأخرجه عن الظرفية{[44487]} ، كقراءة { تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] رفعاً . فالمعنى على القراءة المتضمنة للطلب أنهم أَشِرُوا وبَطَرُوا فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسْفَارِ{[44488]} ، وعلى القراءة المتضمنة للخبر الماضي يكون شكوى من بعد الأسفار التي طلبوها أولاً{[44489]} وقرأ جماعة كبيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية ويعقوب ( وعمرو ){[44490]} بن فايد : «رَبُّنَا » رفعاً على الابتداء بَعَّدَ بتشديد العين فعلاً ماضياً خبره{[44491]} ، وأبو رجاء والحَسَنُ ويعقوبُ كذلك إلا أنه «بَاعَد » بالألف{[44492]} والمعنى على هذه القراءة شكوى بعد أسفارهم على قربها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم وقرئ : «بُوعِدَ » مبنياً{[44493]} للمفعول . وإذا نصبت «بين » بعد فعل متعد من هذه المادة في إحدى هذه القراءات سواء أكان أمراً أم ماضياً فجعله أبو حيان منصوبا على المفعول به لا ظرفا قال : " ألا ترى إلى قراءة من رفع كيف{[44494]} جعله اسماً » ؟ قال شهاب الدين : إقراره على ظرفيته أولى ويكون المفعول محذوفاً تقديره بعد المسيرُ بين أسفارنا . ويدل على ذلك قراءة بَعُدَ بضمّ العين بَيْنَ بالنصب فكما يضمر هنا الفاعل وهو ضمير السَّيْر كذلك يبقى هنا «بين » على بابها وينوى السَّير وكان هذا أولى ؛ لأن حذف المفعول{[44495]} كثيرٌ جداً لا نزاع فيه وإخراج الظرف غير المتصرف عن ظرفيته فيه نزاع كثير{[44496]} . وتقدم تحقيق هذا والاعتذار عن رفع «بَيْنكُمْ » في الأنْعَامِ{[44497]} وقرأ العامة أَسْفَارِنَا جَمْعاً . وابن يَعْمُرَ «سَفَرنا »{[44498]} مفرداً .

قوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم { ومَزَّقْناهُمّ كُلَّ مُمَزَّقٍ } وفرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق . وهذا بيان لجعلهم أحاديث . قال الشعبي : لما غرقت قُراهم تفرّقوا في البلاد أما غسان فلحقوا بالشام ومرَّ الأزد على عمان وخزاعة إلى تِهامة وموالي جذيمة إلى العراق والأوس والخزرج إلى يثرب وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بْنُ عامر وهو جدّ الأوس والخزرج{[44499]} .

قوله : { إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } أي فيما ذكرنا من حال الشاكرين ووبال الكافرين لِعبَرٌ ودَلاَلاَتٌ «لِكُلِّ صَبَّارٍ » عن معاصي الله «شَكُورٍ » لنعمة الله قال مقاتل{[44500]} : يعني المؤمن في هذه الآية صبور على البلاد شكور للنعماء قال مُطْرِفٌ{[44501]} : هو المؤمن إذا أُعْطِيَ شَكَر ، وإذا ابتُلي صَبَرَ{[44502]} .


[44482]:انظر: تقريب النشر 166 والنشر 2/350 والكشف 2/207 وقال مكي: "والقراءتان بمعنى حكى سيبويه: ضعف وضاعف بمعنى فهو بمعنى التباعد". وانظر أيضا القرطبي 14/290، والسبعة 529 والإتحاف 359 والكشاف 3/286 وإعراب النحاس 4/342 ومعاني الفراء 2/359.
[44483]:محمد بن علي بن أبي طالب أبو القاسم ابن الحنفية وردت الرواية عنه في حروف القرآن. روى عن أبيه وغيره من الصحابة وروى عنه بنوه إبراهيم وعبد الله والحسن مات سنة ثلاث وسبعين هـ، وانظر: غاية النهاية 2/204.
[44484]:هو سفيان بن حسين بن حسن السلمي مولى عبد الله بن خازم الواسطي أبو محمد روى عن ابن سيرين والحكم بن عتيبة وروى عنه شعبة وعباد بن العوام وغيرهما مات في خلافة المهدي. الخلاصة 123.
[44485]:قاله في المحتسب 2/189.
[44486]:في "ب" ضم. وهو الأصح والأقرب.
[44487]:لم يبينه في المحتسب بوضوح حيث قال: "وقرأ: ربنا بعد – بفتح الباء والدال وضم العين- بين أسفارنا ، ابن يعمر وسعيد بن أبي الحسن ومحمد بن السميفع وسفيان بن الحسين بخلاف، والكلبي بخلاف". وصرح بذلك بوضوح القرطبي في 14/291 وأبو حيان في البحر 7/273. وانظر الكشاف 3/286.
[44488]:الدر المصون 4/431.
[44489]:المرجع السابق.
[44490]:ما بين القوسين سقط من "ب".
[44491]:ذكرها في المحتسب 2/189 وهي جائزة قياسا شاذة رواية وقد ذكرها أيضا الزجاج في إعراب القرآن 4/250 والفراء في معانيه 2/359.
[44492]:انظر: المراجع السابقة وهي قراءة عشرية متواترة النشر 2/350، والإتحاف 359.
[44493]:مختصر ابن خالويه 121 وهي قراءة شاذة وقد ذكر كل هذه القراءات أبو حيان في البحر 7/272 و 273 والنحاس في إعراب القرآن 3/341 و 342.
[44494]:قاله أبو حيان في البحر 7/273.
[44495]:الدر المصون 4/432.
[44496]:في : "لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون" والاعتذار بأن "بينكم" معناه وصلكم وقد ذكر هناك أقوالا لمن تعرضوا لمثل هذه الآية انظر: اللباب 3/127 ب.
[44497]:ذكرها ابن خالويه في مختصره وتلك من الشواذ غير المتواترة. المختصر 121 وانظر البحر المحيط أيضا 7/273.
[44498]:القرطبي 14/291.
[44499]:قاله البغوي في معالم التنزيل 5/289.
[44500]:هو رواية مالك بن أنس كان به صمم مات بالمدينة سنة 220 هـ انظر المعارف 521.
[44501]:المرجع السابق.
[44502]:قاله في النشر 2/350، وتقريبه 162 والإتحاف والسبعة 529 وابن خالويه في الحجة 294، وانظر: الدر المصون 4/432 ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/251 ومعاني الفراء 2/360 وإعراب النحاس 3/343 والكوفيون هم: حمزة وعاصم والكسائي ومن حذا حذوهم.