فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

ثم ذكر سبحانه أنهم لم يشكروا النعمة بل طلبوا التعب والكد .

{ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } وكان هذا القول منهم بطرا وطغيانا لما سئموا النعمة ولم يصبروا على العاقبة فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار ، وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء والشجر والأمن من المفاوز والقفاز ، والبراري المتباعدة الأقطار ، فأجابهم الله إلى ذلك وخرب تلك القرى المتواصلة ، وذهب بما فيها من الخير والماء والشجر .

فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا : { ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها } الآية مكان المن والسلوى وكقول النضر ابن الحرث : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } الآية قرأ الجمهور : ربنا بالنصب على أنه منادى مضاف وقرأوا أيضا باعد وقرئ : بعد بتشديد العين ، وقرأ ابن السميفع بضم العين فعلا ماضيا فيكون معنى هذه القراءة الشكوى من بعد الأسفار ، وقرئ : ربنا بالرفع وباعد بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء والخبر ، والمعنى : لقد باعد ربنا بين أسفارنا ، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس ، واختارها أبو حاتم ، وقال : لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطرا وأشرا ، وكفرا للنعمة ، وقرئ : ربنا بالرفع وبعد بفتح العين مشددة والمعنى على هذه القراءة الشكوى بأن ربهم بعد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء .

فيكون هذا من جملة بطرهم وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل في قوله : لقد تقطع بينكم وروى الفراء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف ، والتقدير بعد سيرنا بين أسفارنا ، قال النحاس : وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداهما أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها ، ولكن أخبر عنهم بأنهم : دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم فلما فعل ذلك شكوا وتضرروا ولهذا قال سبحانه :

{ وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } حيث كفروا بالله وطغوا وبطروا نعمته وتعرضوا لنقمته { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } يتحدث الناس بأخبارهم وعبرة لمن بعدهم ، والأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر كما في القاموس . والمعنى جعلناهم ذوي أحاديث يتحدث بها من بعدهم تعجبا من فعلهم ، وأمرهم وشأنهم واعتبارا بحالهم وعاقبتهم .

{ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق بحيث لا يتوقع بعده عود اتصال ، وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث وذلك أن الله سبحانه لما أغرق مكانهم وأذهب جنتهم تفرقوا في البلاد فصارت العرب تضرب بهم الأمثال فتقول : تفرقوا أيدي سبأ ، وذهبوا أيادي سبأ ، والأيدي ههنا بمعنى الأولاد لأنهم يعتضد بهم ، وفي المفصل الأيدي الأنفس كناية أو مجاز ، قال في الكشف : وهو أحسن . قال الشعبي : فلحقت الأنصار يعني الأوس والخزرج بيثرب ، وغسان بالشام ، والأزد بعمان ، وخراعة بتهامة ، وكان الذي قدم منهم المدينة عمر بن عامر وهو جد الأنصار ، ولحق آل خزيمة بالعراق .

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي فيما ذكر من قصتهم وما فعل الله بهم { لآيَاتٍ } بينات وعبرا ظاهرات ودلالات واضحات { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي لكل من هو كثير الصبر عن المعاصي ، والشكر لله على نعمه وخص الصبار والشكور لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات .