السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

ولما انقضى الخبر عن هذه الأوصاف التي تستدعي غاية الشكر لما فيها من الألطاف دل على بطرهم للنعمة بها بأنهم جعلوها سبباً للضجر والملال بقوله تعالى :

{ فقالوا } أي : على وجه الدعاء { ربنا باعد بين أسفارنا } أي : إلى الشام أي : اجعلها مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل ، وتزوّد الأزواد والماء فبطروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل لما طلبوا الثوم والبصل فأجابهم الله تعالى بتخريب القرى المتوسطة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بتشديد العين ولا ألف قبلها فعل طلب ، والباقون بألف قبل العين وتخفيف العين ، وقرئ بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطاً في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه { وظلموا } حيث عدوا النعمة نقمة والإحسان إساءة { أنفسهم } بالكفر { فجعلناهم } أي : بما لنا من العظمة { أحاديث } أي : عبرة لمن بعدهم يتحدث الناس بهم تعجباً وضرب مثل فيقولون : ذهبوا أيدي سبأ وتفرقوا أيادي سبأ قال كثير :

أيادي سبا يا عزُّ ما كنت بعدكم *** فلم يحل للعينين بعدك منظر

{ ومزقناهم كل ممزق } أي : فرقناهم في كل جهة من البلاد كل التفريق قال الشعبي : لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد ، أما غسان فلحقوا بالشام ، ومرّ الأزد إلى عمان ، وخزاعة إلى تهامة ، ومرّ خزيمة إلى العراق ، والأوس والخزرج إلى يثرب ، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جد الأوس والخزرج { إن في ذلك } أي : المذكور { لآيات } أي : عبراً ودلالات بينة جداً على قدرة الله تعالى على التصرف فيما بين أيديهم وما خلقهم من السماء والأرض بالإيجاد والإعدام للذوات والصفات والخسف والمسخ ، فإنه لا فرق بين خارق وخارق ، وعلى أن بطرهم لتلك النعمة حتى ملوها ودعوا بإزالتها ، دليلٌ على أن الإنسان ما دام حياً فهو في نعمة يجب عليه شكرها كائنة ما كانت وإن كان يراها بلية لأنه لما طبع عليه من القلق كثيراً ما يرى النعم نقماً ، واللذة ألماً ، ولذلك ختم الآية بالصبر بصيغة المبالغة بقوله تعالى : { لكل صبار } على طاعة الله وعن معصيته { شكور } لنعمه قال مقاتل : يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شكور على النعماء قال مطرف : هو المؤمن إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلى صبر .