النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

قوله عز وجل : { فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَرِنَا } قرأ أبو عمرو وابن كثير { بَعِّد } بغير ألف وبتشديد العين ، وقرأ الباقون { بَاعِدْ } بألف وبتخفيف العين وفيهما ثلاثة تأويلات :

أحدها : أنهم قالوا ذلك لأنهم ملّوا النعم كما ملَّ بنو إسرائيل المن والسلوى ، قاله الحسن .

الثاني : أنهم قالوا لو كانت ثمارنا أبعد مما هي كانت أشهى في النفوس وأحلى ، قاله ابن عيسى ، وهو قريب من الأول لأنه بطر . فصار نوعاً من الملل .

الثالث : معناه زد في عمارتنا حتى تبعد فيه أسفارنا ، حكاه النقاش . وهذا القول منهم طلباً للزيادة والكثرة .

وقرأ بعض القراء { بَعُد } بضم العين وتخفيفها ، وهذا القول منهم شكوى لبعد سفرهم وتمني قصره .

{ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } فيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : ظلموها بقولهم باعد بين أسفارنا ، قاله ابن زيد .

الثاني : بتكذيب الرسل وهم ثلاثة عشر{[2259]} نبياً . قال {[2260]} : أنهم قالوا لرسلهم حين ابتلوا وهم مكذّبون : وقد كنا نأبى عليكم وأرضنا عامرة خير أرض فكيف اليوم وأرضنا خراب شر أرض .

الثالث : أنهم ظلموا أنفسهم بالتغيير والتبديل بعد أن كانوا مسلمين ، قاله الحسن .

{ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث الناس بما كانوا فيه من نعيم وما صاروا إليه من هلاك ، حتى ضرب المثل فقيل : تفرقوا أيدي سبأ ، ومنه قول الشاعر :

باد قوم عصف الدهر بهم *** فرقوا عن صرفه أيدي سبأ

{ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } فيه قولان :

أحدهما : أنهم فرقوا بالهلاك حتى صاروا تراباً تذروه الرياح ، قاله يحيى بن سلام .

الثاني : أنهم مزقوا بالتفرق والتباعد ، قاله قتادة .

حكى الشعبي قال : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما خزاعة فحلقوا بمكة ، وأما الأوس والخزرج فلحقوا بيثرب يعني المدينة ، وأما الأزد فلحقوا بعمان .

{ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يحتمل وجهين :

أحدهما : صبار على البلوى شكور على النعماء .

الثاني : صبور على أمر الله شكور في طاعة الله .


[2259]:في ك اثنا عشر.
[2260]:من ك.