213- وإنَّ الناس طبيعة واحدة فيها الاستعداد للضلالة ، ومنهم من تستولي عليه أسباب الهداية ، ومنهم من تغلب عليه الضلالة ، ولذلك اختلفوا ، فبعث الله إليهم الأنبياء هداة ومبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتب مشتملة على الحق ، لتكون هي الحكم بين الناس فينقطع التنازع ، ولكن الذين انتفعوا بهدى النبيين هم الذين آمنوا فقط ، والذين هداهم الله في موضع الاختلاف إلى الحق ، والله هو الذي يوفق أهل الحق إذا أخلصوا .
قوله تعالى : { كان الناس أمة واحدة } . على دين واحد ، قال مجاهد : أراد آدم وحده ، كان أمة واحدة ، قال : سمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل وأبو البشر ، ثم خلق الله تعالى حواء ، ونشر منهما الناس فانتشروا ، وكانوا مسلمين إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا .
قوله تعالى : { فبعث الله النبيين } . قال الحسن وعطاء : كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمة واحدة على ملة الكفر أمثال البهائم ، فبعث الله نوحاً وغيره من النبيين . وقال قتادة وعكرمة : كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح ، وكان بينهما عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى ، ثم اختلفوا في زمن نوح فبعث الله إليهم نوحاً ، فكان أول نبي بعث ، ثم بعث بعده النبيين . وقال الكلبي : هم أهل سفينة نوح ، كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاة نوح . وروي عن ابن عباس قال : كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة كفاراً كلهم ، فبعث الله إبراهيم وغيره من النبيين ، وقيل : كان العرب على دين إبراهيم إلى أن غيره عمرو بن لحي . وروي عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : كان الناس حين عرضوا على آدم ، وأخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية لله تعالى ، أمة واحدة مسلمين كلهم ، ولم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم ، ثم اختلفوا بعد آدم . نظيره في سورة يونس ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) فبعث الله النبيين ، وجملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، والرسل منهم ، ثلاثمائة وثلاثة عشر ، والمذكورون في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون نبياً .
قوله تعالى : { مبشرين } . بالثواب من آمن وأطاع .
قوله تعالى : { ومنذرين } . محذرين بالعقاب من كفر وعصى .
قوله تعالى : { وأنزل معهم الكتاب } . أي الكتب ، تقديره وأنزل مع كل واحد منهم الكتاب .
قوله تعالى : { بالحق } . بالعدل والصدق .
قوله تعالى : { ليحكم بين الناس } . قرأ أبو جعفر " ليحكم " بضم الياء وفتح الكاف هاهنا ، وفي أول آل عمران ، وفي النور موضعين ، لأن الكتاب لا يحكم في الحقيقة إنما يحكم به ، وقراءة العامة بفتح الياء وضم الكاف ، أي ليحكم الكتاب ذكره على سعة الكلام كقوله تعالى ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) . وقيل معناه ليحكم كل نبي بكتابه .
قوله تعالى : { فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه } . أي في الكتاب .
قوله تعالى : { إلا الذين أوتوه } . أي أعطوا الكتاب .
قوله تعالى : { من بعد ما جاءتهم البينات } . يعني أحكام التوراة والإنجيل ، قال الفراء : ولاختلافهم معنيان : أحدهما : كفر بعضهم بكتاب بعض . قال الله تعالى : ( ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ) والآخر : تحريفهم كتاب الله قال الله : ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) وقيل : الآية راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه اختلف فيه أهل الكتاب من بعد ما جاءتهم البينات صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم .
قوله تعالى : { بغياً بينهم } . ظلماً وحسداً .
قوله تعالى : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه } . أي لما اختلفوا فيه .
قوله تعالى : { من الحق بإذنه } . بعلمه وإرادته فيهم . قال ابن زيد في هذه الآية : اختلفوا في القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى المغرب ، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس ، فهدانا الله إلى الكعبة ، واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان ، واختلفوا في الأيام ، فأخذت اليهود السبت ، والنصارى الأحد ، فهدانا الله للجمعة ، واختلفوا في إبراهيم عليه السلام ، فقالت اليهود : كان يهودياً ، وقالت النصارى كان نصرانياً فهدانا الله للحق من ذلك ، واختلفوا في عيسى ، فجعلته اليهود الفرية ، وجعلته النصارى إلهاً وهدانا الله للحق فيه .
ثم بين - سبحانه - أحوال الناس ، وأنهم في حاجة إلى الرسل ليبشروهم وينذروهم ويحكموا بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه فقال - تعالى - :
{ كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين . . . }
قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما بين في الآية المقتدمة أن سبب إصرار هؤلاء الكفار على كفرهم هو حب الدنيا ، بين هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان ، بل كان حاصلا في الأزمنة المتقادمة ، لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق ثم اختلفوا ، وما كان اختلافهم إلا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا " .
و { أُمَّةً } القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدي بعضهم ببعض مأخوذ من أم بمعنى قصد لأن كل واحد من أفراد القوم يؤم المجموع ويقصده في مختلف شؤونه .
وللعلماء أقوال في معنى قوله - تعالى - { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } .
القول الأول الذي عليه جمهور المفسرين أن المعنى : كان الناس أمة واحدة متفقين على توحيد الله - تعالى - مقرين له بالعبودية مجتمعين على شريعة الحق ثم اختلفوا ما بين ضال ومهتد ، فبعث الله إليهم النبيين ليبشروا من اهتدى منهم بجزيل الثواب ، ولينذروا من ضل بسوء العذاب ، وليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه بالحكم العادل ، والقول الفاصل .
قال القفال : ويشهد لصحة هذا الرأي قوله - تعالى - { فَبَعَثَ الله النبيين . . . } فهذا يدل على أن الأنبياء - عليهم السلام - إنما بعثوا حين الاختلاف ، ويتأكد هذا بقوله :
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " ويتأكد أيضاً بما نقل عن ابن مسعود أنه قرأ { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين . . } .
و " كان " على هذا الرأي على بابها من المضي ، وعدم استمرار الحكم ، وعدم امتداده إلى المستقبل ، لأن الناس كانوا مهتدين ثم زالت الهداية عنهم أو عن كثير منهم بسبب اختلافهم فأرسل الله - تعالى - رسله لهدايتهم .
القول الثاني يرى أصحابه أن المعنى : كان الناس أمة واحدة مجتمعين على الضلال والكفر فبعث الله النبيين لهدايتهم .
و " كان " على هذا الرأي - أيضاً - على بابها من المضي والانقضاء ، ولا تحتاج على هذا الرأي إلى تقدير كلام محذوف ، وهو ثم اختلفوا فبعث . . إلخ .
ومن العلماء الذين رجحوا القول الأول الإِمام ابن كثير فقد قال : عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . . وهكذا قال قتادة ومجاهد . وقال العوفي عن ابن عباس { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } يقول كانوا كفاراً { فَبَعَثَ الله النبيين } والقول الأول عن ابن عباس وهو أصح سنداً ومعنى ؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحاً - عليه السلام - فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض .
أما الرأي الثالث فقد قرره الإِمام القرطبي بقوله : ويحتمل أن تكون " كان " للثبوت ، والمراد الإِخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع ، وجهلهم بالحقائق ، لولا مَنُّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم . فلا يختص " كان " على هذا التأويل بالمضي فقط ، بيل معناه معنى قوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } وهذا الرأي قد اختاروه الأستاذ الإِمام محمد عبده تفسيره للآية الكريمة ووافقه عليه بعض العلماء الذين كتبوا في تفسير هذه الآية . قال الأستاذ الإِمام ما ملخصه .
" خلق الله الإِنسان أمة واحدة أي مرتبطاً بعضه ببعض في المعاش لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلا مجتمعين يعاون بعضهم بعضاً ، فكل واحد منهم يعيش ويحيا بشيء من عمله لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة في توفير جميع ما يحتاج إليه ، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته . . . وهذا معنى قولهم : " الإنسان مدني بطبعه " يريدن بذلك أنه لم يوهب من القوى ما يكفي للوصول إلى جميع حاجاته إلا بالاستعانة بغيره . . . ولما كان الناس كذلك كان لا بد لهم من الاختلاف بمقتضى فطرهم ، وكان من رحمة الله أن يرسل إليهم مبشرين ومنذرين .
وترتيب بعثة الرسل على وحدة الأمة في الآية التي تفسرها يكون على هذا المعنى :
أن الله قضى أن يكون الناس أمة واحدة يرتبط بعضهم ببعض ولا سبيل لعقولهم وحدها إلى الوصول إلى ما يلزم لهم في توفير مصالحهم ودفع المضار عنهم ، لتفاوت عقولهم ، واختلاف فطرهم ، وحرمانهم من الإِلهام الهادي لكل منهم إلى ما يجب عليه نحو صاحبه ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم ، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله - تعالى - القادر على إثابتهم وعقوبتهم . . . " .
وقال فضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ما ملخصه : وإن هذا الرأي الذي اختاره الأستاذ الإِمام هو الذي نختاره ، وعلى هذا التأويل لا يكون ثمة حاجة إلى تقدير محذوف ، لأن ذات حالهم من كونهم لا علم لهم بالشرائع ولا تهتدي عقولهم إلى الحقائق بنفسها توجب البعث ، ولأن تلك الحال التي تكون على الفطرة وحدها توجب الاختلاف فتوجب بعث النبيين . . ثم إن نفس كل إنسان فيها نزوع إلى الاجتماع ، وحيث كان الاجتماع فلا بد من نظام يربط ، وشرع يحكم .
وعلى هذا التأويل أيضا تكون الفاء في قوله : { فَبَعَثَ . . . } - وهي التي يقول عنها النحويون إنها للترتيب والتعقيب - في موضعها من غير حاجة إلى تقدير ، لأن كون الناس أمة واحدة اقتضت الرسالة واقتضت الاختلاف .
و " كان " على هذا التأويل تدل على الاستمرار والثبوت ، لأن الناس بمقتضى فطرهم دائما في حاجة إلى شرع السماء لا يهتدون إلا به .
ثم قال فضيلته : وقد يقول قائل : إن جعل " كان " للاستمرار يفيد أن وحدة الناس في الفطرة وتأديتها إلى التناحر يقتضي بعث النبيين إلى يوم القيامة ، وأنه لا بد من نبي لعصرنا ، ونحن نسلم بالاعتراض ولا ندفع إيراده ونقول : نعم إنه لا بد من قيام رسالة إلى يوم القيامة وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي جاءت بكتاب تتجدد به الرسالة والبعث إلى أن تفني الأرض ومن عليها وهذا الكتاب هو القرآن الكريم الذي لا تبلى جدته ، والذي تكفل الله بحفظه ، وبإعجازه إلى يوم القيامة ، والذي من يقرؤه فكأنهما يتلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم " .
هذه هي أشهر الأقوال في معنى قوله - تعالى - { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } وهناك أقوال أخرى لم نذكرها لضعفها .
وقوله - تعالى - : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } معطوف على { فَبَعَثَ } ، والمراد بالكتاب الجنس .
والمعنى : وأنزل - سبحانه - مع هؤلاء النبيين الذين بعثهم مبشرين ومنذرين كلامه الملتبس بالحق والجامع لما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا ، لكي يفصلوا بواسطته بين الناس فيما اختلفوا من شئون دينيه ودنيويه .
وذكر - سبحانه - الكتاب بصيغة المفرد للإِشارة إلى أن كتب النبيين وإن تعددت إلا أنها في جوهرها كتاب واحد لاشتمالها على شرع واحد في أصله ، وإذا كان هناك خلاف بينها ففي تفاصيل الأحكام وفروعها لا في جوهرها وأصولها ، وقوله : { بالحق } متعلق بأنزل ، أو حال من الكتاب أي ملتبسا شاهدا به .
والضمير في قوله : { لِيَحْكُمَ . . } يجوز أن يعود إلى الله - تعالى - أو إلى النبيين ، أو إلى الكتاب . ورجح بعضهم عودته إلى الكتاب لأنه أقرب مذكور . والجملة تعليلية للإِنزال المذكور .
وفي إسناد الحكم إلى الكتاب تنبيه للناس إلى أن من الواجب عليهم أن يرجعوا إليه عند كل اختلاف . لأن هذا هو المقصد الأساسي من إنزال الكتب السماوية .
وللأستاذ الإِمام محمد عبده كلام نفيس في هذا المعنى فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : " الحكم مسند إلى الكتاب نفسه ، فالكتاب ذاته هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وفيه نداء للحاكمين بالكتاب أن يلزموا حكمه ، وألا يعدلوا عنه إلى ما تسوله الأنفس وتزينه الأهواء . . ولو ساغ للناس أن يؤولوا نصا من نصوص الكتب على حسب ما تنزع إليه عقولهم بدون رجوع إلى بقية النصوص ، لما كان لإِنزال الكتب فائدة ، ولما كانت الكتب في الحقيقة حاكمة ، بل كانت متحكمة فيها الأهواء ، فننعود المصلحة مفسدة ، وينقلب الدواء علة ، ولهذا رد الله الحكم إلى الكتاب نفسه لا إلى هوى الحاكم به .
. ونسبة الحكم إلى الكتاب هي كنسبة النطق والهدى والتبشير إليه في قوله - تعالى - : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } وقوله - تعالى - : { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤمنين . . . } ثم بقول - رحمه الله - " يتخذ الواحد منهم كلمة من الكتاب أو أثراً مما جاء به وسيلة إلى تسخير غيره لما يريد ، وذلك قطع الكلمة أو الأثر عن بقية ما جاء في الكتاب والآثار الأخر ولي اللسان أو تأويله بيغر ما قصد منه ؛ وما هم المؤول أن يعمل بالكتاب وإنما كل ما يقصد هو أن يصل إلى مطلب لشهوته ، أو عضد لسطوته ، سواء أهدمت أحكام الله أم قامت ، واعوجت السبيل أم استقامت ، ثم يأتي ضال آخر يريد أن ينال من هذا ما نال غيره ، فيحرف ويؤول حتى يجد المخدوعين بقوله ، ويتخذهم عونا على الخادع الأول ، فيقع الاختلاف والاضطراب ، وآلة المختلفين في ذلك هو الكتاب .
ثم بين - سبحانه الأسباب التي أدت إلى اختلاف الناس في الكتاب الذي أنزله لهدايتهم فقال { وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات بَغْياً بَيْنَهُمْ } .
والضمير في قوله : { فِيهِ } وفي قوله : { أُوتُوهُ } يعود إلى الكتاب ، والمعنى عليه : وما اختلف في شأن الكتاب الهادي الذي لا لبس فيه ، المنزل لإزالة الاختلاف ، إلا الذين أوتوه ، أي علموه ووقفوا على تفاصيله ، ولم يكن اختلافهم لا لتباس عليهم من جهته وإنما كان خلافهم من بعد ما ظهرت لهم الدلائل الواضحة الدالة على صدقه ، وما حملهم على هذا الاختلاف إلا البغي والظلم والحسد الذي وقع بينهم .
والمراد بالذين اختلفوا فيه أهل الكتاب اليهود والنصارى ، واختلافهم في الكتاب يشمل تصديقهم ببعضه وتكذيبهم بالبعض الآخر ، كما يشمل اختلافهم في تفسيره وتأويله وتنفيذ أحكامه وعدم تنفيذها ، وذهاب كل فريق منهم مذهباً يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في فروعه .
وعبر عن الإِنزال بالإِيتاء - كما يقول الآلوسي - للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق ، فإن الإِنزال لا يفيد ذلك ، وقيل : عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين ، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم " .
وقوله : { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } متعلق باختلف ، وفيه زيادة تشنيع عليهم لأنهم قد اختلفوا فيه بعد أن قامت أمامهم الحجج الناصعة الدالة على الحق .
وقوله : { بَغْياً } مفعول لأجله لاختلفوا { بَيْنَهُم } متعلق بمحذوف صفة لقوله { بَغْياً } .
أي لا داعي الاختلاف هو البغي والحسد الذي وقع بينهم ، فجعل كل فريق منهم يخطئ الآخر ، ويجرح رأيه .
وفي هذا التعبير إشارة إلى أن البغي قد باض وفرخ عندهم ، فهو يحرم عليهم ، ويدور بينهم ، ولا طمع له في غيرهم ، ولا ملجأ له سواهم ، لأنهم أربابه الذين تمكنوا منه ، وتمكن منهم بقوة ورسوخ .
وبعضهم جعل الضمير في قوله : { فِيهِ } يعود إلى الحق ، والضمير في قوله : { أُوتُوهُ } يعود إلى الكتاب . أي : وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب .
ويرى بعض العلماء أن عودة الضمير في كليهما إلى الحق أو إلى الكتاب جائز ، وأن المعنى على التقدير واحد ، لأن الكتاب أنزل ملابساً للحق ومصاحباً له ، فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق والجملة الكريمة تحذير شديد من الوقوع فيما وقع فيه غيرهم من اختلاف يؤدي إلى البغي والتنازع والإِعراض عن الحق .
ثم بين - سبحانه - حال المؤمنين بعد بيانه لحال الغاوين فقال - تعالى - { فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ } .
أي : فهدى الله الذين آمنوا وصدقوا رسله إلى الحق الذي اختلف فيه أهل الضلالة ، وذلك الهدى بفضل توفيقه لهم وتيسيره لأمرهم .
والفاء في قوله : { فَهَدَى } فصيحة لأنها أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف .
والتقدير : إذا كان هذا شأن الضالين المختلفين في الحق ، فقد هدى الله بفضله الذين آمنوا إلى الصواب .
وبين - سبحانه - أن الذين رزقهم الهداية هم الذين آمنوا ، للإِشعار بأن سبب هدايتهم للحق هو إيمانهم وتقواهم ، واستجابتهم للداعي الذي دعاهم إلى الطريق المستقيم .
وأسند الهداية إليه - سبحانه - لأنه هو خالقها ، ولأن قلوب العباد بيديه فهو يقلبها كيف يشاء ، وهذا لا ينافي أن للعبد اختياراً وكسباً فهو إذا سار في طريق الحق رزقه الله النور المشرق الذي يهديه ، وإن سار في طريق الضلالة واستحب العمى على الهدى سلب الله عنه توفيقه بسبب إيثاره الضلالة على الهداية .
وقوله - تعالى - في ختام هذه الآية : { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } تذييل قصد به بيان كمال سلطانه ، وتمام قدرته .
أي : والله هو الهادي من يشاء من عباده إلى طريق الحق الذي لا يضل سالكه ، فليس لأحد سلطان بجوار سلطانه ، ولو أراد أن يكون الناس جميعاً مهديين لكانوا ، ولكن حكمته اقتضت أن يختبرهم ليتميز الخبيث من الطيب ، فيجازي كل فريق بما يستحقه .
قال ابن كثير : وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصللي يقول : " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض علام الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدنى لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " .
وفي الدعاء المأثور : اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل واجعلنا للمتقين إماما .
وبذلك نرى أن الآية قد بينت أن الناس لا يستغنون عن الدين الذي شرعه الله لهم على لسان رسله - عليهم الصلاة والسلام - ، وأن الأشرار من الناس هم الذين يحملهم البغي على الاختلاف في الحق بعدج ظهوره لهم ، أما الأخيار منهم فهم الذين اهتدوا بتوفيق الله وتيسيره إلى طريق الخير والصواب { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
{ كان الناس أمة واحدة } متفقين على الحق فيما بين آدم وإدريس أو نوح أو بعد الطوفان ، أو متفقين على الجهالة والكفر في فترة إدريس أو نوح . { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } أي فاختلفوا فبعث الله ، وإنما حذف لدلالة قوله فيما اختلفوا فيه . وعن كعب ( الذي علمته من عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون ) . { وأنزل معهم الكتاب } يريد به الجنس ولا يريد به أنه أنزل مع كل واحد كتابا يخصه ، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب . يخصهم وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم . { بالحق } حال من الكتاب ، أي ملتبسا بالحق شاهدا به . { ليحكم بين الناس } أي الله أو النبي المبعوث ، أو كتابه . { فيما اختلفوا فيه } في الحق الذي اختلفوا فيه ، أو فيما التبس عليهم . { وما اختلف فيه } في الحق ، أو الكتاب . { إلا الذين أوتوه } أي الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيجا للاختلاف سببا لاستحكامه . { من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم } حسدا بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا . { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه } أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف . { من الحق } بيان لما اختلفوا فيه . { بإذنه } بأمره أو بإرادته ولطفه . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } لا يضل سالكه .
استئناف لبيان أن اختلاف الأديان أمر كان في البشر لحكمة اقتضته وأنه قد ارتفع ذلك ورجع الله بالناس إلى وِحْدة الدين بالإسلام .
والمناسبة بينها وبين ما تقدمها تحتمل وجوهاً :
الأول : قال فخر الدين : إن الله تعالى لما بين في قوله : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } [ البقرة : 212 ] أن سبب إصرار الكفار على كفرهم هو استبدالهم الدنيا بالآخرة بين في هذه الآية أن هذه الحالة غير مختصة بالذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بل كانت حاصلة في الأزمنة المتقادمة لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق وما كان اختلافهم لسبب البغي والتحاسد في طلب الدنيا اهـ ، فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لتنظير ما لقيه المسلمون بما كان في الأمم الغابرة .
الثاني : يؤخذ من كلام الطيبي عند قوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [ البقرة : 214 ] أخذ من كلام « الكشاف » أن المقصود من قوله : { كان الناس أمة واحدة } تشجيع الرسول عليه السلام والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين بذكر ما قابلت به الأمم السالفة أنبياءها وما لقوا فيها من الشدائد اه فالمناسبة على هذا في مدلوللِ قوله تعالى : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون } [ البقرة : 212 ] إلخ ، وتكون الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً للمناسبة .
والظاهر عندي أن موقع هذه الآية هنا جامع لموقع تذييل لما قبلها ومقدمة لما بعدها .
فأما الأول فلأنها أفادت بيان حالة الأمم الماضية كيف نشأ الخلاف بينهم في الحق مما لأجله تداركهم الله ببعثات الرسل في العصور والأجيال التي اقتضتها حكمة الله ولطفه مما يماثل الحالة التي نشأت فيها البعثة المحمدية وما لقيه الرسول والمسلمون من المشركين .
وأما الثاني فلأنها مقدمة لما يرد بعدها من ذكر اختصاص الإسلام بالهداية إلى الحق الذي اختلفت فيه الأمم وهو مضمون قوله تعالى : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه } إلى قوله : { إلى صراط المستقيم } وذلك من خصائص كون الإسلام مهيمناً على ما سبقه من الشرائع الإلهية وتفضيله على جميع الأديان وأن هذه المزية العظمى يجب الاعتراف بها وألا تكون مثار حسد للنبيء وأمته ، رداً على حسد المشركين ، إذ يسخرون من الذين آمنوا وعلى حسد أهل الكتاب الذي سبق التنبيه عليه في قوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم } إلى قوله { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 142 ] .
وحصل من عموم ذلك تعليم المسلمين تاريخ أطوار الدين بين عصور البشر بكلمات جامعة ختمت بقوله : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } فإن كان المراد من كونهم أمة واحدة الوحدة في الخير والحق وهو المختار كما سيأتي فقد نبه الله أن الناس اختلفوا فبعث لهم أنبياء متفرقين لقصد تهيئة الناس للدخول في دين واحد عام ، فالمناسبة حاصلة مع جملة
{ ادخلوا في السلم كافة } [ البقرة : 208 ] بناء على أنها خطاب لأهل الكتاب أي ادخلوا في دين الإسلام الذي هدى الله به المسلمين . وإن كان المراد من كون الناس أمة واحدة الوحدة في الضلال والكفر يكون الله قد نبههم أن بعثة الرسل تقع لأجل إزالة الكفر والضلال الذي يحدث في قرون الجهالة ، فكذلك انتهت تلك القرون إلى القرن الذي أعقبته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الآية تثبيتاً للمؤمنين فالمناسبة حاصلة مع قوله : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } [ البقرة : 212 ] . فالمعنى أن الإسلام هدى إلى شريعة تجمع الناس كلهم تبييناً لفضيلة هذا الدين واهتداء أهله إلى ما لم يهتد إليه غيرهم ، مع الإشارة إلى أن ما تقدمه من الشرائع تمهيد له وتأنيس به كما سنبينه عند قوله : { فهدى الله الذين آمنوا } .
والناس اسم جمع ليس له مفرد من لفظه ، و ( أل ) فيه للاستغراق لا محالة وهو هنا للعموم أي البشر كلهم ، إذ ليس ثمة فريق معهود ولكنه عموم عرفي مبني على مراعاة الغالب الأغلب وعدم الاعتداد بالنادر لظهور أنه لا يخلو زمن غلب فيه الخير عن أن يكون بعض الناس فيه شريراً مثل عصر النبوة ولا يخلو زمن غلب فيه الشر من أن يكون بعض الناس فيه خيراً مثل نوح { وما آمن معه إلاّ قليل } [ هود : 4 ] .
والأمة بضمة الهمزة : اسم للجماعة الذين أمرهم واحد ، مشتقة من الأم بفتح الهمزة وهو القصد أي يؤمون غاية واحدة ، وإنما تكون الجماعة أمة إذا اتفقوا في الموطن أو الدين أو اللغة أو في جميعها .
والوصف بـ ( واحدة ) في الآية لتأكيد الإفراد في قوله ( أمة ) لدفع توهم أن يكون المراد من الأمة القبيلة ، فيظن أن المراد كان الناس أهل نسب واحد ، لأن الأمة قد تطلق على من يجمعهم نسب متحد .
والوحدة هنا : مراد بها الاتحاد والتماثل في الدين بقرينة تفريع { فبعث الله النبيئين } الخ ، فيحتمل أن يكون المراد كانوا أمة واحدة في الحق والهدى أي كان الناس على ملة واحدة من الحق والتوحيد ، وبهذا المعنى روى الطبري تفسيرها عن أُبَيّ بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وجابر بن زيد وهو مختار الزمخشري قال الفخر : وهو مختار أكثر المحققين قال القفال : بدليل قوله تعالى بعده { فبعث الله النبيين } إلى قوله { فيما اختلفوا فيه } ، لأن تفريع الخبر ببعثة النبيين على الجملة السابقة وتعليل البعث بقوله { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } انتظم من ذلك كلام من بليغ الإيجاز وهو أن الناس كانوا أمة واحدة فجاءتهم الرسل بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد ليدوموا على الحق خشية انصرافهم عنه إذا ابتدأ الاختلاف يظهر وأيدهم الله بالكتب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، فلا جرم أن يكون مجيء الرسل لأجل إبطال اختلاف حدث ، وأن الاختلاف الذي يحتاج إلى بعثة الرسل هو الاختلاف الناشىء بعد الاتفاق على الحق كما يقتضيه التفريع على جملة { كان الناس أمة واحدة } بالفاء في قوله : { فبعث الله النبيين } وعلى صريح قوله : { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } .
ولأجل هذه القرينة يتعين تقدير فاختلفوا بعد قوله { أمة واحدة } ، لأن البعثة ترتبت على الاختلاف لا على الكون أمة واحدة ، وعلى هذا الفهم قرأ ابن مسعود ( كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله ) الخ ، ولو كان المراد أنهم كانوا أمة واحدة في الضلال لصح تفريع البعثة على نفس هذا الكون بلا تقدير ولولا أن القرينة صرفت عن هذا لكان هو المتبادر ، ولهذا قال ابن عطية كل من قدَّر الناسَ في الآية كانوا مؤمنين قدَّر في الكلام فاختلفوا وكل من قدرهم كفاراً كانت بعثة الرسل إليهم اهـ . ويؤيد هذا التقدير قوله في آية سورة يونس ( 19 ) { وما كان الناس إلا أُمة واحدة فاختلفوا لأن الظاهر اتحاد غرض الآيتين ، ولأنه لما أخبر هنا عن الناس بأنهم كانوا أمة واحدة ونحن نرى اختلافهم علمنا أنهم لم يدوموا على تلك الحالة .
والمقصود من الآية على هذا الوجه التنبيه على أن التوحيد والهدى والصلاح هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها حين خلقهم كما دلت عليه آية { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] ، وأنها ما غشَّاها إلاّ تلقين الضلال وترويج الباطل وأن الله بعث النبيئين لإصلاح الفطرة إصلاحاً جزئياً فكان هديهم مختلف الأساليب على حسب اختلاف المصالح والأهلية وشدة الشكائم ، فكان من الأنبياء الميسر ومنهم المغلظ وأنه بعث محمداً لإكمال ذلك الإصلاح ، وإعادة الناس إلى الوحدة على الخير والهدى وذلك معنى قوله : { فهدى الله الذين آمنوا } الخ .
وعن عطاء والحسن أن المعنى كان الناس أمة واحدة متفقين على الضلال والشر وهو يروى عن ابن عباس أيضاً وعليه فعطف قوله { فبعث الله النبيئين } عطف على اللفظ الظاهر لا تقدير معه أي كانوا كذلك فبعث الله النبيئين فيعلم أن المراد ليرشدوا الناس إلى الحق بالتبشير والنذارة . فالمقصود من الآية على هذا التأويل إظهار أن ما بعث الله به النبيئين قد وقع فيه التغيير والاختلاف فيما بعثوا به وأن الله بعث محمداً بالقرآن لإرشادهم إلى ما اختلفوا فيه فيكون المقصود بيان مزية دين الإسلام وفضله على سائر الأديان بما كان معه من البيان والبرهان .
وأيّاً ما كان المراد فإن فعل كان هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف اسمها المخبر عنه بمضمون خبرها في الزمن الماضي وأن ذلك قد انقطع ، إذ صار الناس منقسمين إلى فئتين فئة على الحق وفئة على الباطل .
فإن كان المراد الوحدة في الحق فقد حصل ذلك في زمن كان الغالب فيه على الناس الرشد والاستقامة والصلاح والإصلاح فلم يكونوا بحاجة إلى بعثة الرسل إلى أن اختلفت أحوالهم فظهر فيهم الفساد ، فقيل كان ذلك فيما بين آدم ونوح ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ، وقال ابن عطية قال قوم كان ذلك زمن نوح كفر رجل قومه فهلكوا بالطوفان إلاّ من نجاه الله مع نوح فكان أولئك النفر الناجون أمة واحدة قائمة على الحق ، وقيل إنما كان الناس على الحق حين خلق الله الأرواح التي ستودع في بني آدم ففطرها على الإسلام فأقروا له بالوحدانية والعبودية وهو ما في قوله تعالى في سورة الأعراف ( 172 ، 173 ) : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } على أحد تفاسير تلك الآية وروي هذا عن أبي بن كعب وجابر بن زيد والربيع بن سليمان .
وفي تفسير الفخر عن القاضي عبد الجبار وأبي مسلم الأصفهاني أن معنى الآية : { كان الناس أمة واحدة } في التمسك بالشرائع العقلية على وجود الخالق وصفاته واجتناب الظلم والكذب وحجتهما على ذلك أن قوله : { النبيئين جمع يفيد العموم ( أي لأنه معرف باللام ) فيقتضي أن بعثة كل النبيئين كانت بعد أن كان الناس أمة واحدة بدليل الفاء ، والشرائع إنما تلقيت من الأنبياء ، فتعين أن كون الناس أمة واحدة شيء سابق على شرائع الأنبياء ولا يكون إلاّ مستفاداً من العقل ، وهما يعنيان أن الله فطر الإنسان في أول نشأته على سلامة الفطرة من الخطأ والضلال ، قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] وقيل : أريد بالناس آدم وحواء . نقله ابن عطية عن مجاهد وقوم ، والذي نجزم به أن هذا كان في زمن من أزمان وجود الناس على الأرض يعلمه الله تعالى لقوله : { وقروناً بين ذلك كثيراً } [ الفرقان : 38 ] والأظهر أنه من زمن وجود آدم إلى أن أشرك قوم نوح .
وإن كان المراد الوحدة على الباطل فقد حصل ذلك في زمن نوح في أول ما قص الله علينا مع ما ورد في الصحيح أن نوحاً أول الرسل إلى أهل الأرض ، فيظهر أن الضلال حدث في أهل الأرض وعمَّهم عاجلاً فبعث الله نوحاً إليهم ثم أهلك الكافرين منهم بالطوفان ونجى نوحاً ونفراً معه فأصبح جميع الناس صالحين ، ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله النبيين . فيجدر بنا أن ننظر الآن فيما تضمنته هذه الآية من المعنى في تاريخ ظهور الشرائع وفي أسباب ذلك .
الناس أبناء أب واحد وأم واحدة فلا جرم أن كانوا في أول أمرهم أمة واحدة لأن أبويهم لما ولدا الأبناء الكثيرين وتوالد أبناؤهما تألفت منهم في أمد قصير عائلة واحدة خلقت من مزاج نقي فكانت لها أمزجة متماثلة ونشأوا على سيرة واحدة في أحوال الحياة كلها وما كانت لتختلف إلاّ اختلافاً قليلاً ليس له أثر يؤبه به ولا يحدث في العائلة تنافراً ولا تغالباً .
ثم إن الله تعالى لما خلق نوع الإنسان أراده ليكون أفضل الموجودات في هذا العالم الأرضي فلا جرم أن يكون خلقه على حالة صالحة للكمال والخير قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] . فآدم خلق في أحسن تقويم يليق بالذكر جسماً وعقلاً وألهمه معرفة الخير واتباعه ومعرفة الشر وتجنبه فكانت آراؤه مستقيمة تتوجه ابتداء لما فيه النفع وتهتدي إلى ما يحتاج للاهتداء إليه ، وتتعقل ما يشار به عليه فتميز النافع من غيره ويساعده على العمل بما يهتدي إليه فكره جسد سليم قوي متين وحواءُ خلقت في أحسن تقويم يليق بالأنثى خلقاً مشابهاً لخلق آدم ، إذ إنها خلقت كما خلق آدم ، قال تعالى : { خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] فكانت في انسياق عقلها واهتدائها وتعقلها ومساعدة جسدها على ذلك على نحو ما كان عليه آدم . ولا شك أن أقوى عنصر في تقويم البشر عند الخلقة هو العقل المستقيم فبالعقل تأتَّى للبشر أن يتصرف في خصائصه ، وأن يضعها في مواضع الحاجة إليها .
هكذا كان شأن الذكَر والأنثى فما ولدا من الأولاد نشأ مثل نشأتهما في الأحوال كلها ، ألم تر كيف اهتدى أحد بني آدم إلى دفن أخيه من مشاهدة فعل الغراب الباحث في الأرض فكانت الاستنباط الفكري والتقليدُ به أسَّ الحضارة البشرية . فالصلاح هُوَ الأصل الذي خلق عليه البشر ودام عليه دهراً ليس بالقصير ، ثم أخذ يرتد إلى أسفل سافلين ، ذلك أن ارتداد الإنسان إلى أسفل سافلين إنما عرض له بعوارض كانت في مبدأ الخليقة قليلة الطرُوّ أوْ معدومته ، لأن أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة لا تعدو أربعة أسباب :
الأول : خلل يعرض عند تكوين الفرد في عقله أو في جسده فينشأ منحرفاً عن الفضيلة لتلك العاهة .
الثاني : اكتساب رَذائل من الأخلاق من مخترعات قواه الشهوية والغضبية ومن تقليد غيره بداعية استحسان ما في غيره من مفاسد يخترعها ويدعو إليها .
الثالث : خواطر خياليّة تحدث في النفس مخالفة لما عليه الناس كالشهوات والإفراط في حب الذات أو في كراهية الغير مما توسوس به النفس فيفكر صاحبها في تحقيقها .
الرابع : صدور أفعال تصدر من الفرد بدواع حاجية أو تكميلية ويجدها ملائمة له أو لذيذة عنده فيلازمها حتى تصير له عادة وتشتبه عنده بعد طول المدة بالطبيعة ، لأن العادة إذا صادفت سذاجة من العقل غير بصيرة بالنواهي رسخت فصارت طبعاً .
فهذه أربعة أسباب للانحطاط عن الفطرة الطيبة ، والأول كان نادر الحدوث في البشر ، لأن سلامة الأبدان وشبابَ واعتدالَ الطبيعة وبساطةَ العيش ونظامَ البِيئة كل تلك كانت موانع من طرو الخلل التكويني ، ألا ترى أن نوع كل حيوانٍ يلازم حال فطرته فلا ينحرف عنها باتباع غيره .
والثاني كان غير موجود ، لأن البشر يومئذٍ كانوا عائلة واحدة في موطن واحد يسير على نظام واحد وتربية واحدة وإحساس واحد فمن أين يجيئه الاختلاف ؟
والثالث ممكن الوجود لكن المحبة الناشئة عن حسن المعاشرة وعن الإلف ، والشفقة الناشئة عن الأخوة والمواعظ الصادرة عن الأبوين كانت حُجباً لما يهجس من هذا الإحساس .
والرابع لم يكن بالذي يكثر في الوقت الأول من وجود البشر ، لأن الحاجات كانت جارية على وفق الطباع الأصلية ولأن التحسينات كانت مفقودة ، وإنما هذا السبب الرابع من موجبات الرقي والانحطاط في أحوال الجمعيات البشرية الطارئة .
أما حادثة قتل ابن آدم أخاه فما هي إلاّ فلتة نشأت عن السبب الثالث عن إحساس وجداني هو الحسَد مع الجهل بمغبة ما ينشأ عن القتل ؛ لأن البشر لم يعرف الموت إلاّ يومئذٍ ولذلك أسرعت إليه الندامة ، فتبين أن الصلاح هو حال الأمة يومئذٍ أو هو الغالب عليها .
وينشأ عن هذا الصلاح والاستقامة في الآباء دوام الاستقامة في النسل ، لأن النسل مُنْسَلٌ من ذوات الأصول فهو ينقل ما فيها من الأحوال الخِلقية والخُلُقية ، ولما كان النسل منسَلاَ من الذكر والأنثى كان بحكم الطبع محصِّلاً على مجموع من الحالتين فإن استوت الحالتان أو تقاربتا جاء النسل على أحوال مساويةِ المظاهرِ لأحوال سلفه ، قال نوح عليه السلام في عكسه { ولا يَلدوا إلاّ فاجراً كفاراً } [ نوح : 27 ] ، ومما يدل على أن حال البشر في أول أمره صلاحٌ ما نقله في « الكشاف » عن ابن عباس أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون على شريعة من الحق .
ثم كثرت العائلة البشرية وتكونت منها القبيلة فتكاثرت ونشأ فيها مع الزمان قليلاً قليلاً خواطر مختلفة ودبت فيها أسباب الاختلاف في الأحوال تبعاً لاختلاف بين حالي الأب والأم ، فجاء النسل على أحوال مركبة مخالفة لكل من مفرد حالتي الأب والأم ، وبذلك حدثت أمزجة جديدة وطرأت عليها حينئذٍ أسباب الانحطاط الأربعة ، وصارت ملازمة لطوائف من البشر بحكم التناسل والتلقي ، هنالك جاءت الحاجة إلى هدي البشر ببعثة الرسل ، والتاريخُ الديني دلنا على أن نوحاً أول الرسل الذين دَعوا إلى الله تعالى قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } [ الشورى : 13 ] الآية ، ولما ذكر الرسل في آيات القرآن ابتدأهم في جميع تلك الآيات بنوح ولم يذكر آدم وفي حديث الشفاعة في الصحيح تصريح بذلك أن آدم يقول للذين يستشفعون به إني لست هناكم ، ويذكر خطيئته ايتوا نوحاً أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ، وبهذا يتعين أن خطيئة قابيل ليست مخالفة شرع مشروع ، وأن آدم لم يكن رسولاً وأنه نبيء صالح أوحي إليه بما يهذب ابناءه ويعلمهم بالجزاء .
فقوله تعالى : { فبعث الله النبيئين } هو على الوجه الأول مفرع على ما يؤذن به قوله : { كان الناس أمة واحدة } مع تحقق وجود الخلاف بينهم بالمشاهدة من إرادة أن كونهم { أمة واحدة } دام مدة ثم انقضى ، فيكون مفرعاً على جملة مقدرة تقديرها فاختلفوا فبعث الله النبيئين ، وعلى الوجه الآخر مفرعاً على الكون أمة واحدة في الباطل فعلى الأول يكون أول النبيين المبعوثين نوحاً ، لأنه أول الرسل لإصلاح الخلق . وعلى الثاني : يكون أولهم آدم بعث لبنيه لما قتل أحدهم أخاه ؛ فإن الظاهر أن آدم لم يبعث بشريعة لعدم الدواعي إلى ذلك ، وإنما كان مرشداً كما يرشد المربي عائلته .
والمراد بالنبيين هنا الرسل بقرينة قوله : { وأنزل معهم الكتاب بالحق } والإرسال بالشرائع متوغل في القدم وقبله ظهور الشرط وهو أصل ظهور الفواحش لأن الاعتقاد الفاسد أصل ذميم الفعال ، وقد عبد قوم نوح الأصنام ، عبدوا ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وهم يومئذٍ لم يزالوا في مواطن آدم وبنيه في ( جبال نوذ ) من بلاد الهند كما قيل ، وفي البخاري عن ابن عباس أن ودّاً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانوا من صالحي قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت اهـ ، وقيل كانوا من صالحي قوم آدم ، وقيل إن سواعاً هو ابن شيث وأن يغوث ابن سواع ويعوق ابن سغوث ونسر بن يعوق ، وقيل إنهم من صالحي عصر آدم ماتوا فنحت قابيل بن آدم لهم صوراً ثم عبدوهم بعد ثلاثة أجيال ، وهذا كله زمن متوغل في القدم قبل التاريخ فلا يؤخذ إلاّ بمزيد الاحتراز ، وأقدم شريعة أثبتها التاريخ شريعة برهمان في الهند فإنها تبتدىء من قبل القرن الثلاثين قبل الهجرة . وفي هذا العهد كانت في العراق شريعة عظيمة ببابل وضعها ملك بابل المدعو ( حَمُورَابي ) ويظن المؤرخون أنه كان معاصراً لإبراهيم عليه السلام وأنه المذكور في « سفر التكوين » باسم ( ملْكي صادق ) الذي لقي إبراهيم في شاليم وبارك إبراهيم ودعا له .
والبعث : الإرسال والإنهاض للمشي ومنه بعث البعير إذا أنهضه بعد أن برك والبعث هنا مجاز مستعمل في أمر الله النبي بتبليغ الشريعة للأمة .
و ( النبيئين ) جمع نبيء وهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من النبأ وهو الخبر المهم ، لأن الله أخبره بالوحي وعلم ما فيه صلاح نفسه وصلاح من ينتسب إليه ، فإن أمره بتبليغ شريعة الأمة فهو رسول فكل رسول نبيء ، والقرآن يذكر في الغالب النبي مراداً به الرسول ، وقد ورد أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً لا يعلم تفصيلهم وأزمانهم إلاّ الله تعالى قال تعالى :
{ وقروناً بين ذلك كثيراً } [ الفرقان : 38 ] وقال : { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } [ الإسراء : 17 ] . وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر .
والمراد بالنبيين هنا خصوص الرسل منهم بقرينة قوله { بعث } وبقرينة الحال في قوله : { مبشرين ومنذرين } ، لأن البشارة والإنذار من خصائص الرسالة والدعوة وبقرينة ما يأتي من قوله : { وأنزل معهم الكتاب بالحق } الآية . فالتعريف في ( النبيين ) للاستغراق وهو الاستغراق الملقب بالعرفي في اصطلاح أهل المعاني .
والبشارة : الإعلام بخير حصل أو سيحصل ، والنذارة بكسر النون الإعلام بشر وضر حصل أو سيحصل ، وذلك هو الوعد والوعيد الذي تشتمل عليه الشرائع .
فالرسل هم الذين جاءوا بالوعد والوعيد ، وأما الأنبياء غير الرسل فإن وظيفتهم هي ظهور صلاحهم بين قومهم حتى يكونوا قدوة لهم ، وإرشاد أهلهم وذويهم ومريديهم للاستقامة من دون دعوة حتى يكون بين قومهم رجال صالحون ، وإرشاد من يسترشدهم من قومهم ، وتعليم من يرونه أهلاً لعلم الخير من الأمة .
ثم هم قد يجيئون مؤيدين لشريعة مضت كمجيء إسحاق ويعقوب والأسباط لتأييد شريعة إبراهيم عليه السلام ، ومجيء أنبياء بني إسرائيل بعد موسى لتأييد التوراة ، وقد لا يكون لهم تعلق بشرع من قبلهم كمجيء خالد بن سنان العَبْسي نبيئاً في عَبْس من العرب .
وقوله : { وأنزل معهم الكتاب } ، الإنزال : حقيقته تدلية الجسم من علو إلى أسفل ، وهو هنا مجاز في وصول الشيء من الأعلى مرتبة إلى من هو دونه ، وذلك أن الوحي جاء من قبل الله تعالى ودال على مراده من الخلق فهو وارد للرسل في جانب له علو منزلة .
وأضاف مع إلى ضمير النبيئين إضافة مجملة واختير لفظ مع دون عليهم ليصلح لمن أنزل عليه كتاب منهم مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، ولمن جاء مؤيداً لمن قبله مثل أنبياء بني إسرائيل بين موسى وعيسى .
والكتاب هو المكتوب ، وأطلق في اصطلاح الشرع على الشريعة لأن الله يأمر الناس بكتابتها لدوام حفظها والتمكن من مدارستها ، وإطلاق الكتاب عليها قد يكون حقيقة إن كانت الشريعة في وقت الإطلاق قد كتبت أو كتب بعضها كقوله تعالى : { الم ذلك الكتاب } [ البقرة : 1 2 ] على أحد الوجهين المتقدمين هنالك ، وقد يكون مجازاً على الوجه الآخر ، وما هنا يحمل على الحقيقة لأن الشرائع قد نزلت وكتبت وكتب بعض الشريعة المحمدية .
والمعية معية اعتبارية مجازية أريد بها مقارنة الزمان ، لأن حقيقة المعية هي المقارنة في المكان وهي المصاحبة ، ولعل اختيار المعية هنا لما تؤذن به من التأييد والنصر قال تعالى : { إنني معكما أسمع وأرى } [ طه : 20 ] وفي الحديث « ومعك روح القدس » .
والتعريف في الكتاب للاستغراق ، أي وأنزل مع النبيئين الكتب التي نزلت كلها وهو من مقابلة الجمع بالجمع على معنى التوزيع ، فالمعنى أنزل مع كل نبي كتابه وقرينة التوزيع موكولة لعلم السامعين لاشتهار ذلك .
وإنما أفرد الكتاب ولم يقل الكتب ، لأن المفرد والجمع في مقام الاستغراق سواء ، وقد تقدم مع ما في الإفراد من الإيجاز ودفع احتمال العهد إذ لا يجوز أن ينزل كتاب واحد مع جمع النبيئين ؛ فتعين أن يكون المراد الاستغراق لا العهد ، وجوز صاحب « الكشاف » كون اللام للعهد والمعنى أنزل مع كل واحد كتابه .
والضمير في { ليحكم } راجع إلى الكتاب فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز عقلي ، لأنه مبين ما به الحكم ، أو فعل يحكم مجاز في البيان . ويجوز رجوع الضمير إلى اسم الجلالة أي أنزل الله الكتاب ليحكم بينهم إسناد الحكم مجاز عقلي ، لأنه المسبب له والأمر بالقضاء به ، وتعدية ( يحكم ) ببين لأنه لم يعين فيه محكوم له أو عليه .
وحكم الكتاب بين الناس بيان الحق والرشد والاستدلال عليه ، وكونه فيما اختلفوا فيه كناية عن إظهاره الحق ، لأن الحق واحد لا يختلف فيه إلاّ عن ضلال أو خطأ ، ولهذا قال جمهور علمائنا إن المصيب في الاجتهاديات واحد .
عطف على جملة { أنزل معهم الكتاب بالحق } لبيان حقيقة أخرى من أحوال اختلاف الأمم وهو الاختلاف بين أهل الكتاب بعضهم مع بعض وبين أهل الكتاب الواحد مع تلقيهم ديناً واحداً ، والمعنى وأنزل معهم الكتاب بالحق فاختلف فيه كما قال تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } [ هود : 110 ] . والمعنى وما اختلف فيه إلا أقوامهم الذين أوتوا كتبهم فاستغنى بجملة القصر عن الجملة الأخرى لتضمن جملة القصر إثباتاً ونفياً . فاللَّه بعث الرسل لإبطال الضلال الحاصل من جهل البشر بصلاحهم فجاءت الرسل بالهدى ، اتبعهم من اتبعهم فاهتدى وأعرض عنهم من أعرض فبقي في ضلالة ، فإرسال الرسل لإبطال الاختلاف بين الحق والباطل ، ثم أحدث اتباع الرسل بعدهم اختلافاً آخر وهو اختلاف كل قوم في نفس شريعتهم . والمقصود من هذا بيان عجيب حال البشر في تسرعهم إلى الضلال ، وهي حقيقة تاريخية من تاريخ الشرائع ، وتحذير المسلمين من الوقوع في مثل ذلك .
والتعريض بأهل الكتاب وهم أشهر أهل الشرائع يومئذٍ فيما صنعوا بكتبهم من الاختلاف فيها ، وهذا من بديع استطراد القرآن في توبيخ أهل الكتاب وخاصة اليهود وهي طريقة عربية بليغة قال زهير :
إن البخيل ملوم حين كان *** ولكن الجوادَ على علاَّته هرم
وقال الفرزدق يمدح الخليفة ويستطرد بهجاء جرير :
إلى مَلِك ما أُمُّه من مُحَارِب *** أبُوه ولا كانَتْ كُلَيْبٌ تصاهره
والضمير من قوله : { فيه } يجوز أن يعود إلى الكتاب وأن يعود إلى الحق الذي تضمنه الكتاب ، والمعنى على التقديرين واحد ، لأن الكتاب أنزل ملابساً للحق ومصاحباً له فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق .
والاختلاف في الكتاب ذهاب كل فريق في تحريف المراد منه مذهباً يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في الفروع ، فإن الاختلاف في أصوله يعطل المقصود منه .
وجيء بالموصول دون غيره من المعرفات لما في الصلة من الأمر العجيب وهو أن يكون المختلفون في مقصد الكتاب هم الذين أعطوا الكتاب ليزيلوا به الخلاف بين الناس فأصبحوا هم سبب خلاف فيه ، ولا شك أن ذلك يبطل المراد منه .
والمعنى تشنيع حال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالاً من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع ، لأن أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم .
وقوله : { من بعد ما جاءتهم البينات } متعلق باختلف ، والبينات جمع بينة وهي الحجة والدليل . والمراد بالبينات هنا الدلائل التي من شأنها الصدّ عن الاختلاف في مقاصد الشريعة ، وهي النصوص التي لا تحتمل غير مدلولاتها أعني قواطع الشريعة ، والظواهر المتعاضدة التي التحقت بالقواطع . والظواهر التي لم يدع داع إلى تأويلها ولا عارضها معارض . والظواهر المتعارضة التي دل تعارضها على أن محمل كل منها على حالة لا تعارض حالة محمل الآخر وهو المعبر عنه في الأصول بالجمع بين الأدلة وتواريخ التشريع الدالة على نسخ حكم حكماً آخر ، أو ما يقوم مقام التاريخ من نحو هذا ناسخ ، أو كان الحكم كذا فصار كذا ، فهذه بينات مانعة من الاختلاف لو كان غرض الأمم اتباع الحق ومجىء البينات بلوغ ما يدل عليها وظهور المراد منها .
والبعدية هنا : بعدية اعتبار لم يقصد منها تأخر زمان الاختلاف عن مجيء البينات ، وإن كان هو كذلك في نفس الأمر ، أي إن الخلاف كان في حالة تقررت فيها دلائل الحق في نفوس المختلفين .
وقوله : { بغياً بينهم } مفعول لأجله لاختلفوا ، والبغي : الظلم وأصل البغي في كلام العرب الطلب ، ثم شاع في طلب ما للغير بدون حق فصار بمعنى الظلم معنى ثانياً وأطلق هنا على الحسد لأن الحسد ظلم .
والمعنى أن داعي الاختلاف هو التحاسد وقصد كل فريق تغليط الآخر فيحمل الشريعة غير محاملها ليفسد ما حملها عليه الآخر فيفسد كل فريق صواب غيره وأما خطؤه فأمره أظهر .
وقوله : { بينهم } متعلق بقوله : { بغياً } للتنصيص على أن البغي بمعنى الحسد ، وأنه ظلم في نفس الأمة وليس ظلماً على عدوها .
واعلم أن تعلق كل من المجرور وهو { من بعد ما جاءتهم } وتعلق المفعول لأجله وهو { بغياً } بقوله : { اختلف } الذي هو محصور بالاستثناء المفرغ ، ويستلزم أن يكون كلاهما محصوراً في فاعل الفعل الذي تعلقا به ، فلا يتأتى فيه الخلاف الذي ذكره الرضي بين النحاة في جواز استثناء شيئين بعد أداة استثناء واحدة ، لأن التحقيق أنّ ما هنا ليس استثناء أشياء بل استثناء شيء واحد وهم الذين أوتوه ، لكنه مقيد بقيدين هما { من بعد ما جاءتهم البينات } و { بغياً } إذ المقصود أن الخلاف لم يكن بين أهل الدين ومعانديه ، ولا كان بين أهل الدين قبل ظهور الدلائل الصارفة عن الخلاف ، ولا كان ذلك الخلاف عن مقصد حسن بل كان بين أهل الدين الواحد ، مع قيام الدلائل وبدافع البغي والحسد .
والآية تقتضي تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف في الدين أي في أصول الإسلام ، فالخلاف الحاصل بين علماء الإسلام ليس اختلافاً في أصول الشريعة ، فإنها إجماعية ، وقد أجمعوا على أنهم يريدون تحقيقها ، ولذلك اتفقت أصولهم في البحث عن مراد الله تعالى وعن سنة رسوله للاستدلال عن مقصد الشارع وتصرفاته ، واتفقوا في أكثر الفروع ، وإنما اختلفوا في تعيين كيفية الوصول إلى مقصد الشارع ، وقد استبرءوا للدِّين فأعلنوا جميعاً أن لله تعالى حكماً في كل مسألة ، وأنه حكم واحد ، وأنه كلف المجتهدين بإصابته وأن المصيب واحد ، وأن مخطئه أقل ثواباً من مصيبه ، وأن التقصير في طلبه إثم . فالاختلاف الحاصل بين علمائنا اختلاف جليل المقدار موسع للأنظار .
أما لو جاء أتباعهم فانتصروا لآرائهم مع تحقق ضعف المدرك أو خطئه لقصد ترويج المذهب وإسقاط رأي الغير فذلك يشبه الاختلاف الذي شنعه الله تعالى وحذرنا منه فكونوا من مثله على حذر ولا تكونوا كمثل قول المعري :
فمجادل وصَلَ الجدالَ وقد درى *** أن الحقيقة فيه ليس كما زعَــمْ
عَلِم الفتى النَّظَّار أن بصائــرا *** عميتْ فكم يُخفى اليقين وكم يُعَم
وقوله : { فهدى الله الذين آمنوا } هذا العطف يحتمل أن الفاء عاطفة على { اختلف فيه } الذي تضمنته جملة القصر ، قال ابن عرفة : عطف بالفاء إشارة إلى سرعة هدايته المؤمنين بعقب الاختلاف اهـ ، يريد أنه تعقيب بحسب ما يناسب سرعة مثله وإلا فهدى المسلمين وقع بعد أزمان مضت ، حتى تفاقم اختلاف اليهود واختلاف النصارى ، وفيه بعد لا يخفى ، فالظاهر عندي أن الفاء فصيحة لما علم من أن المقصود من الكلام السابق التحذير من الوقوع في الاختلاف ضرورة أن القرآن إنما نزل لهدي المسلمين للحق في كل ما اختلف فيه أهل الكتب السالفة فكأنَّ السامعَ ترقب العلم بعاقبة هذا الاختلاف فقيل : دامَ هذا الاختلاف إلى مجيء الإسلام فهدى الله الذين آمنوا إلخ ، فقد أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف كقوله تعالى : { اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } [ البقرة : 60 ] .
والمراد من الذين آمنوا المسلمون لا محالة ، والضمير في { اختلفوا } عائد للمختلفين كلهم ، سواء الذين اختلفوا في الحق قبل مجيء الرسل والذين اختلفوا في الشرائع بعد مجيء الرسل والبينات ولذلك بينه بقوله : { من الحق } وهو الحق الذي تقدم ذكره في قوله : { وأنزل معهم الكتاب بالحق } اختلاف الفريقين راجع إلى الاختلاف في تعيين الحق إما عن جهل أو عن حسد وبغي .
والإذن : الخطاب بإباحة فعل وأصله مشتق من فعل أذنَ إذا أصغى أُذُنه إلى كلام مَن يكلمه ، ثم أطلق على الخطاب بإباحة فعل على طريقة المجاز بعلاقة اللزوم لأن الإصغاء إلى كلام المتكلم يستلزم الإقبال عليه وإجابةَ مطلبه ، وشاع ذلك حتى صار الإذن أشْيَع في معنى الخطاب بإباحة الفعل ، وبذلك صار لفظ الإذن قابلاً لأن يستعمل مجازاً في معان من مشابهات الخطاب بالإباحة ، فأطلق في هذه الآية على التمكين من الاهتداء وتيسيره بما في الشرائع من بيان الهُدى والإرشاد إلى وسائل الاهتداء على وجه الاستعارة ، لأن من ييسر لك شيئاً فكأنه أباح لك تناوله .
وفي هذا إيماء إلى أن الله بعث بالإسلام لإرجاع الناس إلى الحق وإلى التوحيد الذي كانوا عليه ، أو لإرجاعهم إلى الحق الذي جاءت الرسل لتحصيله ، فاختلف أتباعهم فيه بدلاً من أن يحققوا بأفهامهم مقاصد ما جاءت به رسلهم ، فحصل بما في الإسلام من بيان القرآنِ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وضوحُ الحق والإرشاد إلى كيفية أخذه ، فحصل بمجيء الإسلام إتمام مراد الله مما أنزل من الشرائع السالفة .
وقوله : { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } تذييل لبيان أن فضل الله يعطيه من يشاء ، وهذا إجمال ، وتفصيله أن حكمة الله اقتضت أن يتأخر تمام الهدى إلى وقت مجىء شريعة الإسلام لمَّا تهيأَ البشر بمجيء الشرائع السابقة لقبول هذه الشريعة الجامعة ، فكانت الشرائع السابقة تمهيداً وتهيئة لقبول دين الإسلام ، ولذلك صدرت هذه الآية بقوله : { كان الناس أمة واحدة } ، فكما كان البشر في أول أمره أمة واحدة على هدى بسيط ثم عرضت له الضلالات عند تحرك الأفكار البشرية ، رجع البشر إلى دين واحد في حالة ارتقاء الأفكار ، وهذا اتحاد عجيب ، لأنه جاء بعد تشتت الآراء والمذاهب ، ولذا قال تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } ، وفي الحديث : « مَثَل المسلمين واليهود والنصارى كمثلِ رجلٍ استأْجَر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطتَ لنا وما عَمِلنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أَكمِلوا بقيةَ عملكم وخُذُوا أجركم كاملاً فأَبَوْا وتركوا ، واستأجر آخرين بعدهم فقال لهم : أَكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطتُ لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا : لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلتَ لنا فيه ، فقال لهم أَكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأَبَوْا ، واستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما ، فذلك مثَلُهم ومثَلُ ما قبلوا من هذا النور ، فقالت اليهود والنصارى ما لَنا أكثرُ عملاً وأقَلُّ عطاء ، قال هل ظلمتكم من حقكم شيئاً ؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء » .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى الأمة في هذا الموضع، وفي الناس الذين وصفهم الله بأنهم كانوا أمة واحدة؛ فقال بعضهم: هم الذين كانوا بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، كلهم كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا بعد ذلك، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. فكان أولَ نبيّ بعث نوح. [روي عن ابن عباس].
فتأويل الأمة على هذا القول: الدين... فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء: كان الناس أمة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
وأصل الأمة: الجماعة، تجتمع على دين واحد، ثم يكتفى بالخبر عن الأمة من الخبر عن الدين لدلالتها عليه كما قال جل ثناؤه: "وَلَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أمّةً وَاحِدَةً "يراد به أهل دين واحد وملة واحدة.
وقال آخرون: بل تأويل ذلك: كان آدم على الحق إماما لذرّيته، فبعث الله النبيين في ولده، ووجهوا معنى الأمة إلى الطاعة لله والدعاء إلى توحيده واتباع أمره من قول الله عزّ وجل: "إنّ إبْرَاهيمَ كانَ أُمّةً قانِتا لِلّهِ حَنِيفا "يعني بقوله أُمّةً: إماما في الخير يقتدى به، ويتبع عليه... عن مجاهد: "كانَ النّاسُ أُمْةً وَاحِدَةً" قال: آدم... وكأنّ من قال هذا القول استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرقة فيمن سماه بالأمة، كما يقال: فلان أمة وحده، يقول مقام الأمة. وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير، فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم سماه بذلك أمة.
وقال آخرون: معنى ذلك: كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرج ذرية آدم من صلبه، فعرضهم على آدم... ففطرهم يومئذ على الإسلام، وأقرّوا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم. ثم اختلفوا من بعد آدم، فكان أبيّ يقرأ: «كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللّهُ النَبِييّنَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» إلى «فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ» وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف.
وتأويل الآية على هذا القول نظير تأويل قول من قال: إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدم ونوح. وقد بينا معناه هنالك إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالف الوقت الذي وقته ابن عباس.
وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك، وقالوا: إنما معنى قوله: "كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً" على دين واحد، فبعث الله النبيين. وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة. فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. وكان الدين الذي كانوا عليه دين الحق. فاختلفوا في دينهم، فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارا منه إليهم.
وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام.
وجائز أن يكون كان ذلك حين عرض على آدم خلقه. وجائز أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك. ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيّ هذه الأوقات كان ذلك، فغير جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل من أن الناس كانوا أمة واحدة، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياء والرسل. ولا يضرّنا الجهل بوقت ذلك، كما لا ينفعنا العلم به إذا لم يكن العلم به لله طاعة، غير أنه أيّ ذلك كان، فإن دليل القرآن واضح على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحقّ دون الكفر بالله والشرك به. وذلك أن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها يونس: "وَما كانَ النّاسُ إلاّ أُمّةً وَاحِدَةً فاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقتْ مِنْ رَبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" فتوعد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع، ولا على كونهم أمة واحدة، ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته، ومحال أن يتوعد في حال التوبة والإنابة، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك.
"فَبَعَثَ اللّهُ النَبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ": فإنه يعني أنه أرسل رسلاً يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب، وكريم المآب ويعني بقوله وَمُنْذِرِينَ ينذرون من عصى الله فكفر به، بشدة العقاب، وسوء الحساب والخلود في النار وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بالحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني بذلك ليحكم الكتاب وهو التوراة بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه فأضاف جل ثناؤه الحكم إلى الكتاب، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين، إذ كان من حكم من النبيين والمرسلين بحكم، إنما يحكم بما دلهم عليه الكتاب الذي أنزل الله عزّ وجل، فكان الكتاب بدلالته على ما دل وصفه على صحته من الحكم حاكما بين الناس، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيره.
"وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ بَغْيا بَيْنَهُمْ": وَما اخْتَلَفَ فِيهِ وما اختلف في الكتاب الذي أنزله وهو التوراة، إلاّ الّذينَ أُوتُوهُ يعني بذلك اليهود من بني إسرائيل، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها. والهاء في قوله «أوتوه» عائدة على الكتاب الذي أنزله الله. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ يعني بذلك: من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أن الكتاب الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه، ولا العمل بخلاف ما فيه. فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتاب التوراة، واختلفوا فيه على علم منهم، ما يأتون متعمدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه.
ثم أخبر جل ذكره أن تعمدهم الخطيئة التي أنزلها، وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمره، إنما كان منهم بغيا بينهم. والبغي مصدر من قول القائل: بغى فلان على فلان بغيا إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت: بغى كل ذلك بمعنى واحد، وهي زيادته وتجاوز حده. فمعنى قوله جل ثناؤه: "وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ بَغيْا بَيْنَهُمْ" من ذلك. يقول: لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنزلته مع نبي عن جهل منهم به، بل كان اختلافهم فيه، وخلاف حكمه من بعد ما ثبتت حجته عليهم بغيا بينهم، طلب الرياسة من بعضهم على بعض، واستذلالاً من بعضم لبعض... ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله: "وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ" يقول: إلا الذين أوتوا الكتاب والعلم "مِنْ بَعدِ ما جاءَتُهُمُ البَيّناتُ بَغيْا بَيْنَهُمْ" يقول: بغيا على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها وزينتها، أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس. فبغى بعضهم على بعض، وضرب بعضهم رقاب بعض.
ثم اختلف أهل العربية في «مِن» التي في قوله: "مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ" ما حكمها ومعناها؟ وما المعنى المنتسق في قوله "وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَتْهُمُ البَيّناتُ بَغيْا بَيْنَهُمْ"؟ فقال بعضهم: "من": ذلك للذين أوتوا الكتاب وما بعده صلة له. غير أنه زعم أن معنى الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم من بعد ما جاءتهم البينات. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لا معنى لما قال هذا القائل، ولا لتقديم البغي قبل «من»، لأن «من» إذا كان الجالب لها البغي، فخطأ أن تتقدمه لأن البغي مصدر، ولا تتقدم صلة المصدر عليه. وزعم المنكر ذلك أن «الذين» مستثنى، وأن «من بعد ما جاءتهم البينات» مستثنى باستثناء آخر. وأن تأويل الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، ما اختلفوا فيه إلا بغيا، ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات. فكأنه كرّر الكلام توكيدا. وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية، لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيا، فذلك أشبه بتأويل الآية.
"فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لَما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم": فوفق الذي آمنوا وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه. وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته: الجمعة، ضلوا عنها وقد فرضت عليهم كالذين فرض علينا، فجعلوها السبت فقال صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ الآخِرُونَ السّابِقُونَ، بَيْدَ أنّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِنا وأُوتِيناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهَذَا اليَوْمُ الّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانا اللّهُ لَهُ، فَلِلْيَهُودِ غَدا وللنّصَارَى بَعْدَ غَدٍ».
وكان مما اختلفوا فيه أيضا ما قال ابن زيد: فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا للإسلام، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلى إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا للقبلة واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض يوم، وبعضهم بعض ليلة، وهدانا الله له. واختلفوا في يوم الجمعة، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود كان يهوديا، وقالت النصارى كان نصرانيا، فبرأه الله من ذلك، وجعله حنيفا مسلما، وما كان من المشركين للذين يدّعونه من أهل الشرك. واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لفرية، وجعلته النصارى ربا، فهدانا الله للحق فيه فهذا الذي قال جل ثناؤه: "فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنهِ".
قال: فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد، وبما جاء به لما اختلف هؤلاء الأحزاب من بني إسرائيل الذين أوتوا الكتاب فيه من الحق بإذنه أن وفقهم لإصابة ما كان عليه من الحقّ من كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية إذ كانوا أمة واحدة، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن، فصاروا بذلك أمة وسطا، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس... عن الربيع: "فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيه": فهداهم الله عند الاختلاف أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلغوهم، وأنهم كذبوا رسلهم. "والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم». فكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
"بإذْنِهِ": بعلمه بما هداهم له، وقد بينا معنى الإذن إذ كان بمعنى العلم.
"وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم": والله يسدد من يشاء من خلقه ويرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيا بينهم، فسدّدهم لإصابة الحق والصواب فيه.
وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحق من أن كل نعمة على العباد في دينهم أو دنياهم، فمن الله عز وجل.
فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: "فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيه أهداهم للحق" أم هداهم للاختلاف؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم، وإن كان هداهم للحق فيكف قيل: "فَهَدَى اللّهَ الّذِين آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ"؟ قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه، وإنما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للحق فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه، فكفر بتبديله بعضهم، وثبت على الحقّ والصواب فيه بعضهم، وهم أهل التوراة الذين بدّلوها، فهدى الله للحق مما بدلوا وحرّفوا الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد قال بعضهم: إن معنى قوله: "فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ": أن أهل الكتب الأول اختلفوا، فكفر بعضهم بكتاب بعض، وهي كلها من عند الله، فهدى الله أهل الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها، وذلك قول، غير أن الأول أصحّ القولين، لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله: {كان الناس أمة واحدة} يعني صنفا واحدا، ومعنى الأمة معنى الصنف كقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر بجناحيه إلا أمم أمثالكم} [الأنعام: 38] يعني أصنافا، ثم خص الله تعالى صنفا: بعث الرسل إليهم، وأنزل الكتاب عليهم من بين غيرها من الأصناف تفضيلا لهم وإكراما؛ وبعث كل رسول إلى قومه، فيهم كفار، وفيهم مؤمنون، لأن الأرض لا تخلو من نبي أو ولي كقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70] ليعلموا أن سائر أصناف الخلق خلقوا لهم ولحاجاتهم، وهو قول الحسن، وكذلك قول أبي حنيفة رضي الله عنه: (إن الأرض لا تخلو من نبي أو ولي) والله أعلم.
{فبعث الله النبيئين مبشرين} لمن أطاعه {ومنذرين} لمن عصاه. وجائز أن تكون البشارة والنذارة جملة له عن الوقوع بما به يقعان مختلف، كقوله: {إنما تنذر من اتبع الذكر} [يس: 11] وقوله: {ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان: 1].
{وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس}، يحتمل قوله: {ليحكم} وجهين: يحتمل {ليحكم} الكتاب المنزل عليهم بالحق فيما بينهم، وهو كقوله تعالى: {لينذر الذين ظلموا} [الأحقاف: 12].
وقرأ بعضهم {ليحكم} بالياء، وقرأ آخرون بالتاء؛ فمن قرأ بالياء جعل الكتاب، هو المنذر، ومن قرأ بالتاء صير الرسول، هو المنذر. فكذلك في هذا ليحكم الكتاب بينهم بالحق، وليحكم الرسول بالكتاب فيما بينهم بالحق.
وقوله: {فيما اختلفوا فيه}؛ يحتمل قوله: {فيه} وجوها: يحتمل {فيه} في محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل {فيه} في دينه؛ ويحتمل [{فيه} في ما اختلفوا فيه في كتابه].
{وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات}: أي ما اختلفوا فيه إلا {من بعد ما جاءتهم البينات}: والعلم؛ إما من جهة العقل، وإما من جهة السمع والكتب والخبر، وإما من جهة المعاينة والمشاهدة، لكنهم تعاندوا، وكابروا وكفروا به.
{بغيا بينهم}؛ قيل: {بغيا بينهم}: أي] حسدا بينهم، وقيل: [{بغيا بينهم}] ظلما منهم؛ ظلموا محمدا صلى الله عليه وسلم.
{فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه}: هدى الله الذين آمنوا، ولم يختلفوا من بين الذين اختلفوا. ويحتمل: هدى الله من أنصف، ولم يعاند، ولم يهد الذين عاندوا، ولم ينصفوا.
وقوله: {بإذنه} يحتمل وجوها: قيل: {بإذنه} بأمره، وقيل: {بإذنه} بفضله. لكن قوله: {بإذنه}: بأمره لا يحتمل، ولكن {بإذنه} أي بمشيئته وإرادته. {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}: فيه دلالة [على أنه] من شاء أن يهتدي هداه، ومن لم يشأ أن يهتدي لم يهده؛
وفي قوله: {فبعث الله النبيين}: دلالة على ألا يفهم من البعث والإتيان والمجيء الانتقال من مكان إلى مكان، ولا الزوال من موضع إلى موضع، لأنه ذكر البعث، وهم كانوا بين ظهرانيهم، فدل أنه يراد الوجود لا غير.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الأمة: الجماعة على المقصد الواحد، ويسمى الواحد أمة إذا كان منفرداً بمقصد، والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه تعالى على الشنعة في فعلهم والقبح الذي واقعوه.
اعلم أنه تعالى لما بين في هذه الآية المتقدمة أن سبب إصرار هؤلاء الكفار على كفرهم هو حب الدنيا، بين في هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان، بل كان حاصلا في الأزمنة المتقادمة، لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق، ثم اختلفوا وما كان اختلافهم إلا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا فهذا هو الكلام في ترتيب النظم.
قال القفال: الأمة القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدي بعضهم ببعض، وهو مأخوذ من الائتمام.
الصفة الثانية: كونهم منذرين ونظيره قوله تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين} وإنما قدم البشارة على الإنذار، لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض، ولا شك أن المقصود بالذات هو الأول دون الثاني فلا جرم وجب تقديمه في الذكر.
قوله تعالى: {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات}. يقتضي تأخير اختلافهم عن الإنزال وعدم تقدمه عليه لأنه مقرون بأداة الحصر كما قال في سورة الجاثية {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ منَ الأمر فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} وهذا كله على قولهم: إن الضمير المجرور في قوله {وَمَا اختلف} عائد على ما عاد عليه قوله تعالى: {فِيمَا اختلفوا فِيهِ}.
قال ابن عرفة: اختلفوا قبل وبعد. قلت: اختلفوا قبله اختلافا ضعيفا فلما ورد الكتاب والدلائل أعمى الله بصائرهم فاستنبطوا به شبهات كانت سببا في تعنتهم وضلالهم واختلافهم كمن يقرأ أصول الدين ليهتدي فيضل وكان قبل على الصواب. فاختلافهم المعتبر إنما هو بعد الآيات وما قبل ذلك لا عبرة له. قلت: فهذا يحسن جوابا والله أعلم، قال الله تعالى {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} ووافقني عليه بعضهم وقال: تكون من عود الضمير على اللفظ فقط نحو: عندي درهم ونصفه. { {فَهَدَى الله...}. العطف بالفاء إشارة على سرعة هدايته للمؤمنين بعقب الاختلاف، فإن يكن اختلافهم في الفروع فيحسن أن يكون {وَمَا اختلف فِيهِ} بعض الحق وإن يكن من الاعتقاد فهو كل الحق لا بعضه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان كأنه قيل: هل كان هذا الكفر والتزيين من بدء الأمر أم هو شيء حدث فيكون حدوثه أعجب؟ فقيل: لا فرق عند الحكيم بين هذا وذاك، فإن قدرته على الكبير والصغير والجاهل والعليم والطائش والحليم على حد سواء على أن الواقع أن ذلك شيء حدث بعد البيان الواضح {كان الناس} أي كلهم {أمة} أي مجتمعين على شيء واحد يؤم بعضهم بعضاً ويقتدي بعضهم بعضاً ثم أكد اجتماعهم فقال: {واحدة} أي على الصراط المستقيم فزل بعضهم فاختلفوا وتفرقت بهم السبل كما في آية يونس {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} [يونس: 19] وعلى هذا أكثر المحققين.
{فبعث الله} أي الذي لا حكم لغيره {النبيين} الذين رفعهم الله تعالى على بقية خلقه فأنبأهم بما يريد من أمره وأرسلهم إلى خلقه {مبشرين} لمن أطاع، وهو جار مجرى حفظ الصحة، ولأنه مقصود بالذات قدم {ومنذرين} لمن عصى، وذلك جار مجرى إزالة المرض بالدواء.
قال الحرالي: فيه إعلام بأنه ليس للأنبياء من الهداية شيء وإنما هم مستجلون لأمر جبلات الخلق وفطرهم فيبشرون من فطر على خير وينذرون من جبل على شر، لا يستأنفون أمراً لم يكن بل يظهرون أمراً كان مغيباً، وكذلك حال كل إمام وعالم في زمانه يميز الله الخبيث من الطيب...
{وأنزل معهم الكتاب} أي كلامه الجامع للهداية. قال الحرالي: إبراماً لثني الأمر المضاعف ليكون الأمر بشاهدين أقوى منه بشاهد واحد فقد كان في الرسول كفاية وفي الكتاب وحده كفاية لكن الله تعالى ثنى الأمر وجمع الكتاب والرسول لتكون له الحجة البالغة...
{بالحق} أي الثابت كل ثبات {ليحكم} أي الله بواسطة الكتاب {بين الناس فيما اختلفوا فيه} من الدين الحق الذي كانوا عليه قبل ذلك أمة واحدة فسلكوا بهم بعد جهد السبيل الأقوم ثم ضلوا على علم بعد موت الرسل فاختلفوا في الدين لاختلافهم في الكتاب
{وما اختلف فيه} أي الكتاب الهادي للحق الذي لا لبس فيه المنزل لإزالة الاختلاف {إلا الذين} ولما كان العالم يقبح منه مخالفة العلم مطلقاً لا بقيد كونه من معلم مخصوص بني للمفعول {أوتوه} أي فبدلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف، ففي هذا غاية التعجيب وإظهار القدرة الباهرة التي حملتهم على ذلك.
ولما كان الخلاف ربما كان عن أمر غامض بين أن الأمر على غير ذلك فقال مشيراً بإثبات الجار إلى أنه لم يستغرق الزمان {من بعد ما جاءتهم البينات} أي الدلائل العقلية والنقلية التي ثبتت بها النبوة التي ثبت بها الكتاب. قال الحرالي: الجامعة لآيات ما في المحسوس وآيات ما في المسموع، فلذلك كانت البينات مكملة لاجتماع شاهديها...
ولما كان هذا محل السؤال عن السبب بين أنه الحسد والاستطالة عدولاً عن الحق محبة لما زين من الدنيا وتنافساً فيها فقال: {بغياً} قال الحرالي: والبغي أعمال الحسد بالقول والفعل... و زاده عجباً بقوله {بينهم} أي لا بغياً على غيرهم فبدلوا من كل جهة.
ولما ذكر إنزال الكتاب وسببه ذكر ما تسبب عنه فقال عاطفاً على ما تقديره: فعموا عن البينات: {فهدى الله} في إسناده إلى الاسم الأعظم كما قال الحرالي إعلام بأنه ليس من طوق الخلق إلا بعون وتوفيق من الحق... {الذين آمنوا} أي بالنبيين ببركة إيمانهم {لما اختلفوا} أي أهل الضلالة {فيه} ثم بينه بقوله: {من الحق} ويجوز أن تكون تبعيضية لما عموا عنه من الحق الذي نزل به الكتاب الذي جاء به النبيون {بإذنه} أي بما ارتضاه لهم من علمه وإرادته وتمكينه. قال الحرالي: فيه إشعار بما فطرهم عليه من التمكين لقبوله لأن الإذن أدناه التمكين وإزالة المنع...
{والله} أي المحيط علماً وقدرة {يهدي من يشاء} أي بما له من أوصاف الكمال {إلى صراط مستقيم}
قال الحرالي: هذا هدى أعلى من الأول كأن الأول هدى إلى إحاطة علم الله وقدرته وهذا هدى إليه، وفي صيغة المضارع بشرى لهذه الأمة بدوام هداهم إلى ختم اليوم المحمدي "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله"...
ولما أفهم ما صرح به الكلام السابق من الاختلاف وقوع العداوات وكان في العداوات خطر الأموال والأنفس وكان ذلك أشق ما يكون وكانت العادة قاضية بأن المدعوين إلى ذلك إن لم يصمموا على الآيات كانوا بين مستثقلين لأمر الرسل يرون أنهم يفرقون ما اتفق من الكلمة ورضي به الناس لأنفسهم ويشتتون أمرهم مستثقلين لطول انتظار الانتصار كان حالهم حال من يطلب الراحات في ذرى الجنات بلا مشقات وذلك محال ومحض ضلال، فإن الثبات على الصراط المستقيم لا يكون إلا باحتمال شدائد التكاليف.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} أي الكتابَ المنزلَ لإزالة الاختلاف وإزاحةِ الشقاق، والتعبيرُ عن الإنزال بالإيتاء للتنبيه من أول الأمرِ على كمال تمكُّنِهم من الوقوف على ما في تضاعيفه من الحق، فإن الإنزالَ لا يفيد تلك الفائدةَ أي عكسوا الأمرَ حيث جعلوا ما أُنزل لإزالة الاختلافِ سبباً لاستحكامه ورسوخِه.
{مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} أي رَسَخَتْ في عقولهم {مِنَ الحق} بيانٌ لما، وفي إبهامه أولاً وتفسيرِه ثانياً ما لا يخفى من التفخيم
{بِإِذْنِهِ} بأمره أو بتيسيره ولطفهِ {والله يَهْدِي مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} موصِلٍ إلى الحقّ وهو اعتراضٌ مقرِّر لمضمون ما سبق.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
تطلق الأمة في كتاب الله تعالى بمعنى الملة أي العقائد وأصول الشريعة كما في قوله تعالى في سورة الأنبياء: {إن هذه أمتكم واحدة وأنا ربكم فاعبدوني} (الأنبياء: 92-93) بعدما ذكر من شأن جماعة الأنبياء صلوات الله عليهم، وكما قال في سورة المؤمنين: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعموا صالحا إني بما تعملون عليم، وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} (المؤمنين: 51-52) رجح كثير من المفسرين أن المراد من الأمة في الآيتين الملة أي العقائد وأصول الشرائع، أي أن جميع الأنبياء ورسل الله على ملة ودين واحد قال: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19) وقال كثير منهم إن الأمة في هذه الآية بمعنى الجماعة كما هي في قوله تعالى: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} (الإسراء: 181) أي جماعة وكما في قوله: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل عمران: 104) ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقا وإنما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع يعتبرون بها واحدا، وتسوغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمة، وتكون بمعنى السنين كما في قوله تعالى: {وادكر بعد أمة} (يوسف: 45) وبمعنى الإمام الذي يقتدى به كما في قوله: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله} (النحل: 120) وبمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (آل عمران: 110) وهذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة على ما ذكرنا وإنما خصصه العرف تخصيصا.
وقد حمل جمهور من المفسرين لفظ الأمة في هذه الآية على الملة ثم اختلفوا فيم كانت الملة فقال جمهورهم إنها ملة الهدي والدين القويم فيكون معنى الآية في رأيهم {كان الناس أمة} أي ملة {واحدة} قيمة الدين صحيحة العقائد جارية في أعمالها على أحكام الشرائع {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} ولما وجدوا أن المعنى لا يكون قويما لأنه لا معنى لإرسال الرسل إلى الأمم الصالحة المهتدية ليحكموا بينهم فيما يختلفون فيه، إذا لا يتأتى الاختلاف الذي يحتاج في رفعه إلى رسالة الرسل مع استقامة العمل والوقوف عند حدود الشرائع، قالوا لا بد من تقدير في العبارة فيكون الكلام كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، والقرينة على هذه القضية المقدرة قوله فيما بعد {ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} وأنت ترى أن هذا بمنزلة أن تقول كان زيد عالما فبعث إليه من يعلمه ما كان نسيه من معلوماته، أو كان عاملا فأرسلت إليه من يعظه في العود على ما ترك من عمله، وتقول إن كلامي على تقدير كان عالما فنسي أو كان عاملا فترك العمل فبعثت إليه أو أرسلت إليه الخ. وهو مما لا يقبله ذوق عربي، فإذا كنت لا تراه لائقا بكلامك فكيف تجده لائقا بكلام الله أبلغ الكلام، وأولى قول يملك العقول والأفهام. ومما استدلوا به على صحة قولهم إن آدم عليه السلام كان نبيا وكان أولاده على ملته هادين مهتدين إلى أن وقع التحاسد بين ولديه وكان قتل أحدهما للآخر ما هو معروف، وإن الإنسان يولد على الفطرة السليمة الدين الحق، وإنما يعرض له ما ينحرف به عن الفطرة من تحكم الأهواء، وإغواء الشهوات، ورين الشبهات، ونحو ذلك، فلا ريب يكون للإنسان طور أول كان فيه خيرا عادلا واقفا عند الحق فيما يعتقد وما يعمل، ثم يعرض إليه ما يعرض من الميل إلى الشر والقبيح من الأعمال، ولكن هذه الأدلة لا تغير شيئا مما ذكرناه مختصا بتأليف الكلام، على أنه قد عرض على أولاد آدم من بعده أطوار كثيرة بلغ بهم الجهل في بعضها أن كانوا ملة واحدة في الكفر وفساد الأعمال، كما كانت الحال لعهد نوح وعهد إبراهيم من بعده، والآية لم تحدد زمن كان الناس أمة واحدة، وغاية ما في الأمر أن يكون النبيون المبعوثون مخصوصين بغير آدم أو نوح مثلا إذا حملت الأمة الواحدة على أمة الضلال، وملة الفساد والاعتلال.
ولذلك ذهبت طائفة أخرى وفي مقدمتهم ابن عباس وعطاء والحسن إلى أن الأمة الواحدة أمة الضلال، التي لا تهتدي بحق ولا تقف في أعمالها عند حد شريعة، واحتجوا على قولهم بهذا التعقب في الآية فإنه جعل بعثة الرسل تابعة لوحدة الأمة، ولا تكون كذلك حتى تكون الوحدة قاضية بالحاجة إلى إرسالهم ليحكموا بينهم في الاختلاف الذي يقع فيهم بسبب الفساد في العقائد، والذهاب مع الأهواء الضالة في الأعمال، واعتداء بعضهم على بعض لذلك، وانتهاكهم حرمة ما أمر الله برعاية حرمته، فيجب أن تكون وحدة الأمة واحدة في الباطل حتى يرد الحق عليه فيزهقه، وأما لو كانت الملة واحدة في الهدي واتباع الحق فلا معنى لجعل بعثة الرسل مرتبة عليها كما هو ظاهر. ودفعوا ما يقال: من أن آدم كان نبيا وكان من أولاده من بقي على شريعته فكيف يقال: إن الناس كانوا أمة واحدة على الباطل دفعوه بأن الحكم على الغالب فقد كان الناس لعهد نوح كفارا إلا القليل منهم، ومن المعروف أنه يقال دار كفر لمن كان أغلب سكانها كفارا وإن كان فيها مسلمون. وقد يجاب بما تقدم ذكره من تخصيص النبيين بما بعد آدم. ونوح من إبراهيم ومن بعده، ولكن المعنى كما تراه ليس ما تطمئن إليه النفس بعد النظر إلى آدم ورسالته، ومن بقي من أولاده على ملته.
وقال أبو مسلم والقاضي أبو بكر: إن وحدة الأمة كانت فيما هو من مقتضى أصل الفطرة من الأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل، فكان الناس يهتدون بعقولهم، والنظر المحض في الآيات الدالة على وجود الصانع ووجوب شكره، ثم كانوا يميزون الحسن من القبيح، والباطل من الصحيح، بالنظر في المنافع والمضار، أو الاتفاق مع ما يليق بالله على حسب ما يرشد إليه العقل أو ما لا يليق، ولا ريب أن استسلام الناس إلى عقولهم بدون هداية إلهية مما يدعو إلى الاختلاف، بل كثيرا ما حالت الأوهام، دون الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام، فيكون الاختلاف مفهوما من معنى الوحدة على هذا التأويل وما سبقه ولهذا رتب عليها بعثة الأنبياء ليحكموا بما أنزل الله فيما اختلف فيه الناس. وقد أورد القاضي على نفسه مسألة آدم ورسالته وأجاب عنها بأنه الجائز أن يكون آدم وأولاده قد بدأ أمرهم على سنة الفطرة فكانوا من أهل النظر، ثم بعد أن كثر أولاده وظهر أن هداية العقل وحده لا تكفي في حفظ سلامة القلوب ولا صلاح الأعمال، أرسله الله إليهم بهداية إلهية من عنده، وأنه من المحتمل بل يكاد يكون من المحقق أنه طرأ على نسل آدم ما أنساهم شرعه فعادوا إلى استعمال عقولهم وحدها فعادت إليهم الوحدة فيما يؤدي إلى الاختلاف فبعث الله النبيين الخ.
وتوقف قوم في معنى الأمة وقالوا لا حاجة إلى البحث في أنها كانت أمة هداية أو أمة ضلال أو أمة عقل، وهو قول غاية في الغرابة لأنه ذهاب إلى ترك فهم الآية الكريمة ومعنى ترتيب بعثة الأنبياء على وحدة الأمة، اللهم إلا أن يكون القائل قد أراد ما سيأتي لنا ذكره إن شاء الله تعالى.
وأغرب من هذا القول قول بعض المفسرين ونقل عن مجاهد أن الناس هم آدم وحده وأنه كان أمة يقتدى به، ولا ندري ماذا يقول أصحاب هذا القول في تفسير بقية الآية؟ نعوذ بالله من الخذلان.
ويزعم آخرون أن المراد من الآية أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى عليه السلام ثم اختلفوا بغيا بينهم فأرسلت إليهم بكتب تهذبهم كما أرسل داود بزبوره وعيسى بإنجيله ليردوهم إلى الحق فيما اختلفوا فيه، وهو تخصيص للناس وللنبيين بما لا دليل عليه البتة كما لا يخفى.
قال ابن العادل نقلا عن القرطبي: ولفظة {كان} على هذه الأقوال على بابها من المضي ويحتمل أن تكون للثبوت، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق لولا أن الله من عليهم بالرسل تفضلا منه فلا تختص بالمضي فقط بل يكون معناها كقوله: {وكان الله غفورا رحيما} (النساء: 96) اه.
وقد قارب الصواب في هذا الاحتمال الثاني وهو الذي كان يذهب الذهن إليه لأول الأمر لولا ما يشغل به من النظر في تلك الضروب من التأويل، فتفرق به السبل ويكاد يضل السبيل، ونحن ذاكرون لك إن شاء الله ما يجلي المعنى في الآية مقتفين أثر ابن العادل والقرطبي فيما قالاه في معنى كان وأنها للثبوت لا للمضي، غير أنا نقدم لك ما جاء في كتاب الله من وصف الأمة بالواحدة، والمعنى من ذلك الوصف في مواضعه المختلفة، ليكون في ذلك توضيح لما نقصد، وسند لنا فيما إليه نعمد، والله الموفق.
ورد وصف الأمة بالوحدة في قوله تعالى في سورة الأنبياء: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدوني وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون} (الأنبياء: 92-93) جاءت هذه الآية الكريمة [إن هذه أمتكم] الخ بعد ذكر جمع من الأنبياء صلوات الله عليهم وذكر ما كان من شأنهم مع قومهم والخطاب فيها للأنبياء كما يفسره قوله تعالى في سورة المؤمنين بعدما ذكر من أحوال الأنبياء والمرسلين وما كان من أقوامهم معهم {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم* وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون* فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} (المؤمنين: 51-53) وقد جاء لفظ [الأمة] بالنصب في الآيتين على الحال والخبر قد تم في قوله: {وإن هذه أمتكم} أي هذا الجمع من الأنبياء والمرسلين أمتكم أي جماعتكم حال أنها أمة واحدة، أي ليس جمعا تربطه الروابط البعيدة كما يقال أمة الهند على اختلاف مللها وتفرق كلمتها، بل هي أمة تربطها رابطة قريبة هي رابطة الاهتداء بنور الله والدعوة إلى توحيده، والقيام على شرعه وحمل الناس على اتباع أحكامه، فهي مجتمعة على أمر واحد لا تعدد فيه هو الحق والعدل، فهي جديرة بأن تكون أمة واحدة.
وإن شئت قلت كما قالوا إن الأمة بمعنى الملة في الآيتين، يراد بذلك أن الله يخبر المرسلين بأن هذا الذي سبق في الكلام من السير في الناس بهداية الله والمثابرة على ذلك وعدم المبالاة بما يكون منهم من تكذيب أو تثريب أو تعذيب، هذه هي ملتكم ودينكم وهو أمر واحد لا تعدد فيه، يأتي به السابق، ويتبعه عليه اللاحق، لا يختلف فيه نبي، عن نبي ولا يناكر فيه مرسل مرسلا.
هذا المعنى من الوحدة هو الذي جاء في قوله تعالى في سورة هود: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود: 118) وفي قوله في سورة الشورى: {ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير} (الشورى: 8) أي لو شاء ربك لخلق الناس على غريزة تميل إلى الحق، وفطرة يسطع فيها نور الهداية، إليه بدون حجاب من الهوى والشهوة أو ظلمة الفكر وستر الغواية، فكانوا جميعا على مثال الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان، وكانوا بذلك من أهل السعادة وسكان دار النعيم، ولكن قضى ربك أن يخلق الإنسان إنسانا يكله إلى فكره، ويدعه إلى سعيه وكسبه، فلا يزال يتخبط في الاختلاف، وسيجرهم الاختلاف إلى دار الشقاء، بعد الخزي في دار الفناء، إلا أولئك الذين رحمهم ربك من هداة العامين، وقادة الناس إلى خير الدارين، ومن وفقه الله لاستجابة دعوتهم والاهتداء بسنتهم، فأدخلهم في رحمته، بعد ما شمل الظالمين بسخطه ونقمته.
ويفهم من هاتين الآيتين الكريمتين أن الناس لم يكونوا أمة واحدة قط لا بمعنى أنه كانوا جميعا على الخير والهدى لأن الله خلق الإنسان على غريزة تبعد عن الاتحاد على الحق والاتفاق على العدل، ولا بمعنى أنهم كانوا جميعا في الضلال كما تراه من صريح النسق الشريف، فكان الناس ولا يزالون منهم المحسن والمسيء، والمهتدي والضال، سنة الله في هذا الخلق.
لكنك تجده في سورة يونس نصا صريحا في أن الله تعالى شاء أن يكون الناس أمة واحدة قال تعالى: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون} (يونس: 19) ولا يمكنك أن تحمل {كان} على معناها من المضي لأن الحصر يبعد ذلك بالمرة، فالمراد منه أن الناس كانوا ولا يزالون أمة واحدة ونشأ عن هذه الوحدة نفسها اختلافهم، وكان الله سبحانه يقضي في الخلاف بإهلاك من ينحرف منهم عن سبيل الفطرة السليمة فلا يبقى من الناس إلا من استقام عليها، ولكن سبقت كلمته وثبت في علمه وتم في مشيئته أن يكون الناس في أمرهم كاسبين لسعيهم، مكلفين بالنظر فيما بين أيديهم من الآيات، وأن يكون منهم الضال والمهتدي والعادل والمعتدي حتى يوفي كلا جزاءه في الدار الأخرى. ولهذا بعث فيهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ليكونوا لهم أئمة في الإيمان وأسوة في العمل الصالح.
فهل يمكنك مع هذا أن تحمل وحدة الأمة على وحدة العقيدة والعمل كما حملتها على ذلك في الآيات الأخرى؟ ليس ذلك بممكن لأن الناس ليسوا أمة واحدة بذلك المعنى بل هم مختلفون فلا ريب أنه يجب حمل الأمة على معنى آخر، وهو ذلك الذي نختاره في الآية التي نحن بصدد تفسيرها.
خلق الله الإنسان أمة واحدة أي مرتبطا بعضه ببعض في المعاش لا يسهل أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلى الأجل الذي قدره الله لهم إلا مجتمعين يعاون بعضهم بعضا، ولا يمكن أن يستغني بعضهم عن بعض، فكل واحد منهم يعيش ويحيا بشيء من علمه، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن توفيته جميع ما يحتاج إليه، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قواته فيستعين بهم في بعض شأنه كما يستعينون به في بعض شأنهم، وهذا الذي يعبرون عنه بقولهم [الإنسان مدني بالطبع] يريدون بذلك أنه لم يوهب من القوى ما يكفي للوصول إلى جميع حاجاته، بل قدر له أن تكون منزلة أفراده من الجماعة منزلة العضو من البدن، لا يقوم البدن إلا بعمل الأعضاء كما لا تؤدي الأعضاء وظائفها إلا بسلامة البدن.
فلما كان الناس أمة واحدة ولا يمكن أن يكونوا بمقتضى فطرتهم إلا كذلك وهم إنما يعملون بمقتضى آرائهم، وينحون في أعمالهم نحو المنافع التي يرونها لازمة لقوام معيشتهم، ولم يمنحوا من قوة الإلهام ما يعرف كلا منهم وجه المصلحة في حفظ حق غيره، لتوفير المنفعة بذلك لنفسه لما كانوا كذلك كان لابد لهم من الاختلاف، وكان من رحمة الله بهم أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، وترتيب بعثة الرسل على وحدة الأمة في الآية التي نفسرها يكون على هذا المعنى: أن الناس أمة واحدة لا بد لهم أن يعيشوا تحت نظام واحد يكفل لهم ما يحتاجون إليه مدة بقائهم في هذه الحياة الدنيا، ويضمن لهم ما به يسعدون في الحياة الأخرى، ولا يمكنهم في هذه الوحدة ومع تلك الوصلة اللازمة بمقتضى الضرورة أن يتفقوا على تحديد ذلك النظام مع اختلاف الفطر وتفاوت العقول وحرمانهم من الإلهام الهادي لكل منهم إلى ما يجب عليه صاحبه لما كانوا كذلك كان من لطف الله ورحمته بهم أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، ويبشرونهم بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة إذا لزم كل واحد منهم ما حدد له واكتفى بما له من الحق، ولم يعتد على الحق غيره، وينذرونهم بخيبة الأمل وحبوط العمل وعذاب الآخرة إذا اتبعوا شهواتهم الحاضرة ولم ينظروا في العاقبة.
هذه الآية الكريمة جاءت بمنزلة بيان الحكمة فيما سبقها من الأوامر الإلهية والأخبار السماوية أمر الله الذين آمنوا بنبيه وكتابه بأن يدخلوا في السلم كافة، وهو على أحد الوجوه السلام وعلى أحدهما الإسلام، والسلام هم الوفاق الذي ليس معه نزاع، ولا يليق بمن جاءه الهداية من ربه تبين له الطريق الذي يسلكه في معاملة إخوانه ومن يرتبط معه برابطة بعيدة أو قريبة من الناس أن ينحو في عمله نحو ما يدعو إلى الخلاف ويثير النزاع، بل الواجب عليه أن يقف عند ما حددته هداية الكتاب الإلهي والسنن النبوي والإسلام كذلك يدعو إلى السلام. ثم بين سبب ما يقع من الاختلاف بين الناس ويحرمهم حيطة النظام فقال: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا} (البقرة: 212) أي أن جاحد الحق والمعرض عن هداية الله له التي يسوقها إليه على أيدي رسله إنما ينظر في عمله إلى ما يوفر عليه لذاته في هذه الحياة الدنيا، فهو لا يسعى إلا لذة عاجلة، ولا ينظر إلى عاقبة آجلة، ومن كان هذا شأنه كان أمره اختلافا وشقاقا، ورياء ونفاقا.
ثم أراد الله تعالى أن يقيم الدليل على أن الاهتداء بهدي الأنبياء ضروري للبشر، وأنه لا غنى لهم عنه مهما بلغوا من كمال العقل، فقال إن الله قضى أن يكون الناس أمة واحدة يربط بعضهم ببعض، ولا سبيل لعقولهم وحدها إلى الوصول إلى ما يلزم لهم في توفير مصالحهم ودفع المضار عنهم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله تعالى القادر على إثابتهم وعقوبتهم، العالم بما يخطر في ضمائرهم، الذي لا يخفى عليه خافية من سرائرهم.
قال تعالى: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} الإتيان بهذه القضية بعد وصف الأنبياء بالمبشرين المنذرين يدل على أن التبشير والإنذار عمل يسبق إنزال الكتب وهو حق لأن الأنبياء أول ما يبعثون ينبهون قومهم إلى ما غفلوا عنه، ويحذرونهم عاقبة ما يكونون فيه، من عادة سيئة أو خلق قبيح أو عمل غير صالح، فإذا تهيأت الأذهان لقبول ما بعد ذلك من تشريع الأحكام وتحديد الحدود، أنزل الله الكتب لبيان ما يريد حمل الناس عليه مما هو صالح لهم على حسب استعدادهم، ثم في قوله {وأنزل معهم الكتاب} وعود الضمير على جميع النبيين ما يفيد أن الله أنزل مع كل نبي كتابا معجزا كان أو غير معجز طويلا كان أم قصيرا، دون وحفظ أم لم يدون ولم يحفظ، ليؤدي من سلف إلى خلف.
وقوله {ليحكم بين الناس} قرأ يزيد بضم الياء وفتح الكاف والباقون بفتح الياء وضم الكاف وهي الرواية المشهورة المعروفة أما على رواية يزيد فالمعنى أن الله أنزل الكتب مع النبيين بالحق أي بيان ما يجب أن يعتقد به مما هو منطبق على الواقع وبيان ما يجب أن يعمل به مما هو صالح لا مفسدة فيه، ليقع الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الأمرين، والحاكم هو المتولي للفصل بين الناس في الخصومات بالنسبة إلى الأعمال، والمرشد إلى صحيح العقائد على مقتضى ما جاء في الكتاب النازل بالحق، والمبين لما ينطبق على نصوصه من الأعمال التي يحكم فيها الحاكمون.
أما على القراءة المعروفة، فالحكم مسند إلى الكتاب نفسه، فالكتاب ذاته هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، وفيه نداء على الحاكمين بالكتاب أن يلزموا حكمه، وأن يعدلوا عنه إلى ما تسوله الأنفس وتزينه الأهواء، فإن الكتاب نفسه هو الحاكم، وليس الحاكم في الحقيقة سواه. ولو ساغ للناس أن يؤولوا نصا من نصوص الكتب على حسب ما تنزع إليه عقولهم بدون رجوع إلى بقية النصوص وبناء التأويل على ما يؤخذ من جميعها جملة، لما كان لإنزال الكتب فائدة، ولما كانت الكتب في الحقيقة حاكمة، بل تتحكم الأهواء وتذهب النفوس منازع شتى، فينضم إلى الاختلاف في المنافع اختلاف آخر جديد وهو الاختلاف في ضروب التأويل، وبناء كل واحد حكما على ما نزع إليه، فتعود المصلحة مفسدة، وينقلب الدواء علة، ولهذا رد الله تعالى الحكم إلى الكتاب نفسه لا إلى هوى الحاكم به وقال {فيما اختلفوا فيه} لأن الاختلاف كان تابعا لتلك الوحدة التي بيناها فكان كأنه لازم لها، وهو كذلك كما بينه تاريخ البشر وما توارثوه عن أسلافهم. وكما يقضي فيما اختلفوا فيه، يقضي بما يختلفون به من بعد، ونسبة الحكم إلى الكتاب هي كنسبة النطق والهدي والتبشير إليه في قوله {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} (الجاثية: 29) وقوله {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين} (الإسراء: 9)...
والسر في التجاوز هو ما ذكرت لك. وقد يعود الضمير على الله، أي أنزل الله معهم الكتاب بالحق ليحكم سبحانه بين الناس فيما اختلفوا فيه، وهو يشعر كذلك بأن الحاكم يجب أن يكون هو الله دون آراء البشر وظنونهم التي ترد إليه جل شأنه.
{وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم} وقد عرفت فيما سبق أن الناس بحكم اشتراكهم في الأعمال وضرورة اشتباكهم في المعاملات عرضة للاختلاف في الحق، لأن عقولهم وحدها ليست كافية في الهداية إليه على الوجه الذي يحفظ جماعتهم من الاضطراب، ويؤدي بهم إلى السعادة العظمى في المآب، فلا يصح بعد ذلك أن يعود الضمير في {فيه} إلى الحق، فلا يقال وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات، فإن الحق يختلف فيه الناس قبل مجيء البينات الأولى، والعجب مما ذكره بعض المفسرين من أن النص في الآية دليل على أن الناس لم يكن منهم اختلاف في الحق إلا بعد بعثة الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب، أما فيما قبل ذلك فكانوا متفقين على الحق فكأن رذيلة الاختلاف والتفرق لم تقع في العالم الإنساني إلا ببعثة الرسل، والقول بمثله من أغرب ما ينسب إلى صاحب دين، ما فما بالك به إذا صدر عن مسلم؟
والحق أن الضمير في قوله {وما اختلف فيه} يعود إلى الكتاب وهو استدراك على ما عساه يقال: إذا كان الناس في جامعتهم مستعدين للتخالف بمقتضى فطرتهم إذا تركت وحدها، ولا غنى لهم عن هداية تعليمية تأتيهم من الله تعالى، ولهذا بعث الأنبياء ليكونوا قوادا للفطرة إلى ما هو خير الدنيا والآخرة، فما بال الناس بعد إنزال الكتب لا يزالون مختلفين ولا يرتفع من بينهم ذلك الخلاف الذي كان يخشى منه إفساد جماعتهم وهلاك خاصتهم؟ فقد كانوا يختلفون على جلب المنافع والتوسع في مطالب الشهوات، ولم تكن لديهم في ذلك آلة يستعملها كل منهم في نيل مطلبه من صاحبه سوى القوة أو الحيلة، وبعد إنزال الكتب قد انضم إلى تلك الآلات آلة أخرى ربما كانت أقوى من سواها وهي آلة الإقناع بالكتاب، فيتخذ الواحد منهم كلمة من الكتاب أو أثر مما جاء به وسيلة إلى تسخير غيره لما يريد، وذلك بقطع الكلمة أو الأثر عن بقية ما جاء بالكتاب والأثر الآخر، ولي اللسان به وتأويله بغير ما قصد منه، وما هم المؤول أن يعمل بالكتاب، وإنما كل ما يقصد هو أن يصل إلى مطلب لشهوته، أو عضد لسطوته، سواء عليه هدمت أحكام الله أم قامت، واعوجت السبيل أم استقامت.
ثم يأتي ضال آخر يريد أن ينال من هذا ما نال هذا من غيره، فيحرف ويؤول حتى يجد المخدوعين بقوله ويتخذهم عونا على ذلك الخادع الأول فيقع الخلاف والاضطراب، وآلة المختلفين في ذلك هي الكتاب، وقد شوهد ذلك في الأزمان الغابرة بين اليهود وبين من سبقهم وبين النصارى، ولا يزال الأمر على ما كان عليه عند هاتين الطائفتين إلى اليوم، وكم حروب وقعت بين المسلمين أنفسهم حتى قصمت ظهورهم، ودمرت ما كان من قومهم، وما كان آلة المبطلين في تلك المشاغب إلا دعوى الدين، وحمل الناس على الحق المبين. والله يعلم إنهم لكاذبون فيما يقولون. وإنهم لخاطئون فيما يفعلون، وما كلمة الدين ودعوى الكتاب إلا وسائل لإرضاء الشهوة، وتمكين الظالم من السطوة.
ثم هناك داع آخر للخلاف، وهو اختلاف القوم في فهم ما جاء في الكتاب فكل يذهب إلى أن الواجب أن يعتقد كذا وربما كان حسن النية فيما يقول، ويعد المخالف مخطئا فيما يزعم، وقد يعرض لكل منهم التعصب لرأيه فيذهب حسن النية ولا يبقى إلا الميل إلى تأييد المذهب، وتقرير المشرب، بدون رعاية للدليل ولا نظرٍ إلى البرهان، فلم يستفد النوع الإنساني من إرسال الرسل ونزول الكتب إلا حدوث سبب جديد للخلاف لم يكن، وإلا موضوعا للشقاق كان العالم في سلامة منه، فما فائدة إرسال الرسل وكيف يمن الله على الناس بأمر لم يزدهم إلا شقاء، ولم يكسب بصائرهم إلا عماء؟
أراد الله جل شأنه أن يستدرك على هذا الظن ويبين وجه الخطأ فيه، فقال {وما اختلف فيه} الخ وحاصل الاستدراك أن غرائز البشر وحدها ليست كافية في توجيه أعمالهم إلى ما فيه صلاحهم، فلا بد لهم من هداية أخرى تعليمية تتفق مع القوة المميزة لنوعهم، وهي قوة الفكر والنظر، تلك الهداية التعليمية هي هداية الرسل منهم، والكتب التي نزلها الله عليهم، مع الأدلة القائمة على عصمة الرسل من الكذب، وعصمة الكتب من الخطأ، فعلى الناس أن يستعملوا عقولهم في فهم الأدلة على الرسالة والعصمة أولا، وسطوع الأدلة يحمل المستعين منهم على التصديق حتما، فإذا عقلوا ما جاءت به الرسل وجب عليهم أن يقوموا عليه، ولا يعدلوا بعمل من أعمالهم عنه، ذلك كما وهب لهم السمع والبصر ليهتدوا بهما إلى ما يوفر لهم الفوائد، ويدفع عنهم الغوائل، ويتقوا بهما الوقوع في المكاره، وكما وهب لهم العقل ليهتدوا به فيما يتبع الأعمال من العوائق، وإنما عليهم أن ينظروا في فهم الأحكام الإلهية إلى جملتها ومجموع ما تفرق منها، لا يقصرون نظرهم على بعض ويغضون بصرهم عن بعض آخر.
ثم عليهم أن يقفوا على حكمة الله في تشريع شريعته، ووضع ما قرره من الأحكام فيها بحيث لا يحيدون عن تلك الحكمة التي أشارت إليها كتبه، بل صرحت بها نصوصها لا يمنة ولا يسرة، حتى يتم لهم الاهتداء بها، فإن الغفلة عن حكمة العمل غفلة عن فائدته، والغفلة عن فائدته انصرافٌ عن روحه التي لا يقوم إلا بها، غير أن عامة الخاطئين لا يمكنهم أن يصلوا إلى ذلك بأفهامهم على قصرها، وإنما ذلك فرض على الخاصة الذين قدموا الرسل للنيابة عنهم، وهؤلاء هم الذين أوتوه، وأعطاهم الله الكتاب على أن يقرروا ما فيه، ويراقبوا انطباق سير العامة عليه، ولذلك قال {من بعد ما جاءهم البينات} وفي آيات أخرى أن اختلافهم من بعد ما جاءهم العلم. والبينات هي الدلائل القائمة على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف، وعلى أنه ما جاء إلا لإسعاد الناس والتوفيق بينهم، لا لإشقائهم وتمزيق شملهم، وعلى أن الحكمة الإلهية فيه راجعة إلى جمع ما جاء به، فلا بد أن يكون فهم كل جزء منه مرتبطا بفهم بقية أجزائه، وعلى أن دعوة الرسول الذي جاء به إنما كانت إلى جملته، لا إلى الأنقاض المتفرقة منه.
وقال إن هذا الاختلاف الذي وقع منهم لم يكن إلا بغيا بينهم، وتعديا لحدود الشريعة التي أقامها حواجز بين الناس والخلاف داعية البغي. إن الحبر أو الكاهن أو العالم أو الرئيس أو أي واحد ممن تسميه من أهل النظر في الدين القائمين عليه الذين ينوبون عن الرسل في حفظه والدعوة إلى صيانته، الواحد من هؤلاء يرى الرأي ويفهم الفهم ويأخذ الحكم من نص يقف عنده ذهنه، أو أثر يصل إليه، وربما لم يكن وصل إليه ما هو أصح منه، وآخر يرى، ويزعم وصول أثر غير الذي وصل إلى صاحبه، فكان اتباع الكتاب يقضي عليهما بالاجتماع والتمحيص وتخليص النفس من كل هوى سوى الميل إلى تقرير الحق وتطبيق الواقعة عليه، ولو لم يتيسر لهما ذلك وجب على من يأتي بعدهما ما كان يجب عليهما، حتى يستمر الاتفاق بين هؤلاء الخاصة ويسود بهم بين العامة.
لكن قد يشوب طلب الحق شيء من الرغبة في عزة الرئاسة أو ميل مع أربابها أو خوف منهم أو شهوة خفية في منفعة أخرى، فيلج ذلك بصاحب الرأي حتى يكون شقاق، ويحدث افتراق، ولا ريب أن هذا الشوب، وإن كان قد يكون غير ملحوظ لصاحبه بل دخل على نفسه من حيث لا يشعر فهو من البغي على حق الله في عباده أولا، والبغي على حقوق العباد الذين جاء الكتاب لتعزيز الوفاق بينهم ثانيا، وأما العامة من الناس فلا جريمة لهم في هذا، ولذلك جاء بالحصر في قوله {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم}. فإذا كان الرؤساء قد جنوا هذه الجناية على أنفسهم وعلى الناس بسبب البغي الخاص بهم فهل هذا يقدح في هداية الكتاب إلى ما يتفق الناس عليه من الحق ويرتفع به النزاع فيما بينهم؟ كلا فقد رأينا كل دين في بدء نشأته يقرب البعيد ويجمع المتشتت ويلم الشعث ويمحق أسباب الخلاف من النفوس ويقرر بين الآخذين به أخوة لا تدانيها أخوة النسب في شيء. وهل يؤثر الأخ في النسب أخاه بماله على نفسه وهو في أشد الحاجة إليه كما كان يفعل أولئك الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟ وهل يبذل الأخ النسبي روحه دون أخيه ويؤثره بالحياة على نفسه كما آثره بالمال، كما كان يقع من أولئك الأبطال؟ هذا شأن الدين وهو باق على أصله، معروف بحقيقته لأهله، تبينه للناس رؤساؤه، ويمشي بنوره فيهم علماؤه، لا خلاف ولا اعتساف، ولا طرق ولا مشارب، ولا منازعات في الدين ولا مشاغب.
هذا هو الدين الإلهي الذي قدر الله أن يكون هداية للبشر فوق الهدايات التي وهبها لهم من الحواس والعقول، فإذا لم يهتد بها الذين أوتوها وهم علماء الدين، وبغوا بالتأويل، وكثرة القال والقيل، فهل يمس ذلك جانبها بعيب؟ ماذا يقول القائل في أولئك الذين يؤتيهم الله العقل ثم لا يستعملونه فيما أوتي لأجله؟ هل ينقص حالهم هذه من منزلة العقل وتدل على أن العقل ليس من نعم الله على الإنسان؟ ماذا يقول القائل في أولئك الذين لهم أبصار وأسماع ولكن يخبط الواحد منهم في سيره فلا يستعمل بصره في معرفة الطريق التي يسير فيها، أو في وقاية رجليه من الشوك الواقع عليها، أو التباعد عن حفرة يتردى فيها، وربما كانت نظرة واحدة تقيه من التهلكة لو وجهها نحوه. وقد يسمع من الأصوات التي تنذره بالخطر القريب منه ثم لا يبالي بما يسمع، حتى يصيبه ما ليس له مدفع فهل تحط حال هؤلاء الناس من قيمة السمع والبصر؟
هذه الآية الكريمة ترفع من شأن الدين وتعلو به إلى أرفع مقام من مقامات الهدايات الإلهية، وتدفع عنه مطاعن أولئك السفهاء الذين تغشى أعينهم حجب الظواهر، فتقف بهم دون معرفة السرائر، يناديهم الحق فلا يصل إليهم إلا صدى صوت الباطل، ثم يرفع النص الكريم مقام المؤمنين الصادقين، ويحلهم من الكرامة أعلى عليين، إذ يقول بعد ما ذكر أهل الخلاف {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} الإذن هنا التيسير والتوفيق والذين آمنوا هم أهل الإيمان الصادق في كل دين أو هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم. وعلى كل، فالله جل شأنه يخبرنا وهو أصدق القائلين بأن المؤمنين هم الذين يهتدون لما اختلف الناس فيه من الحق أي يصلون إلى الحق الذي تختلف مزاعم الناس فيه، فيزعم كل واحد أنه عليه، وهو إما بعيد عنه بعد الباطل عن الحق، وإما على شيء منه غير أنه على حكم المصادفة والاتفاق، والذي حمله على زعمه إنما هو الهوى والميل إلى الشقاق، وهو في الحالتين على الباطل لأن موافقة الحق على غير بصيرة لا تعد هداية إليه.
الإيمان الصحيح له نور يسطع في العقول فيهديها في ظلمات الشبه ويضيء لها السبيل إلى الحق الذي لا يخالطه باطل، فيسهل عليها أن تميط كل أذى يتعثر فيه السالك، وقد يسقط به في مهاو من المهالك. الإيمان الصحيح لا يسمح لصاحبه أن يأخذ بأمر قبل أن يتبصر فيه، ويمحص الدليل على أنه نافع له في دينه أو دنياه، ولا يدع أمرا حتى يشهده عنده والبرهان أو العيان بأنه ليس مما يجب عليه أن يأتيه بحكم إيمانه. الإيمان الصحيح يجعل من نفس صاحبه رقيبا عليها في كل خطرة تمر بباله، وكل نظرة تقع منه على ما بين يديه من آيات الله في خلقه، لا يطير الخيال بصاحب الإيمان الصحيح إلا إلى صور من الحق تنزل العبارة من معناها، فهو إذا اعتقد فإنما يعتقد ما هو مطابق للواقع، وإذا تخيل فإنما يتخيل صورا تمثل ذلك الواقع وتجليه في أقوى مظاهره.
بهذا يكون تيسير الله له الهداية إلى الحق الذي يختلف فيه الناس، فهو مطمئن ساكن القلب، وهو في اضطراب وحرب، تولوا عن هداية الله فحرموا توفيقه، وكفروا بنعمة العقل والدين، فعقبوا عليها بفشو الشر، وفساد الأمر، والله لا يصلح عمل المفسدين، ولا فساد أعظم من الاختلاف في الدين {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} (الأنعام: 159) {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} (الشورى: 13) {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم* صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} (البقرة: 137).
هذه آيات الله لا يعرض عنها إلا بعيد عن الله، "والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".
هذا ما اخترنا من التأويل، وهاك ما رمى إليه قول أبي مسلم الأصفهاني والقاضي أبي بكر فيما نقلناه عنهم سابقا وهو: أن الناس كانوا أمة واحدة على سنة الفطرة والتمسك بالشرائع العقلية فيما يعتقدون وما يعلمون وما يتركون، والدليل على ذلك أن الفاء توجب التعقيب فيعلم من ذلك أن تلك الوحدة كانت متقدمة على جميع الشرائع الإلهية فلا تكون إلا الاستفادة من العقل، ولا بد لبيان ما رمى إليه قول الشيخين من بيان يطمئن إليه الجنان:
ما جاءنا من أنباء الأمم وما رأيناه من آثارهم وما عرفناه من حال بعضهم اليوم يشهد شهادة لا يرتاب فيها من أديت إليه أن العناية الإلهية سارت بالإنسان في جماعته كما سارت به في أفراده؛ يخلق الله الفرد من البشر ضعيف القوة فاقد العلم لا يعرف شيئا من أمره كما جاء في التنزيل {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} (النحل: 78) ثم أبواه أو من يكفله سواهما يقوم عليه يقوي بنيته ويدفع عنه ما عساه يهدمها، ويعلمه كيف يسمع وكيف ينظر وكيف يتقي ببصره وسمعه ما تخشى عاقبة وقعه، إلى أن يبلغ من السن حدا معلوما يكون فيه الحس قد أعده لاستعمال قوة أخرى كانت لا تزال قاصرة فيه وهي قوة العقل، ويسهل عليه أن يفكر فيما مضى وينظر فيما حضر، ليعرف منها كيف يسلك في عمله لما يستقبل، فكمال استعداد العقل للنظر في شؤون الشخص هو منتهى نمو القوى المدركة كما أن وصول البنية إلى الحد المعروف في السن المعلومة هو منتهى نمو البدن، تلك السن هي المعروفة بسن الرشد.
لم يكن من متناول قوة الصبي في زمن الصبا الإحاطة بكنه الجمعية البشرية وما وضع الله فيها من الروابط المعنوية والمعاني الروحية التي تقوم بها بنية الاجتماع، ولم يكن من طوق مداركه أن تخترق هذا الكون المحسوس لتصل إلى معرفة مكونه، ويشرق عليها نور وجوده الباهر، وإنما كان كل هم الصبي منصرفا إلى تغذية جسمه ورياضة قواه البدنية، ولا يبالي بما وراء ذلك، وإذا ذكر له شيء من تلك المعاني العالية لم يتمثلها ذهنه إلا في صور من الخيال هي إلى الباطل أقرب منها إلى الحق. كل ذلك معروف لكل من كان طفلا ثم صار صبيا ثم بلغ سنا عرف نفسه فيها رجلا عاقلا، فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه.
على هذه السنة قادت العناية الإلهية جماعة البشر، لأن الحكمة قد قضت بأن يحيا الإنسان إلى أجله المحدود في جماعة من نوعه كما قدمنا لا مناص له عن ذلك.
هذه الجماعة هي التي تسمى أمة كما عرفت، ويمكنك أن تسميها بنية الاجتماع، وتسمي كل فرد منها عضوا من تلك البنية فكما ينشأ الفرد قاصرا في جميع قواه ضعيفا في جميع أعضائه. كذلك نشأت الجمعية البشرية على ضرب من السذاجة لا تبلغ بها إلى تناول الشؤون الرفيعة والمعاني العالية والمعارف السامية، غير أن الذي يربي الفرد ويسوس قواه إلى أن يبلغ رشده هو الأبوان أو من يقوم مقامهما، والذي يكفل الجمعية ويربي قواها، ويشد بناها، إنما هو الكون وما يمسها من حوادثه، والحاجات ووقعها، والضرورات ولذعها، وكما يؤدب الصبي أبواه يؤدب الجماعة شدة وقع الحوادث الكونية منها، وهي في هذا الطور لا هم لها إلا المحافظة على بنيتها الجسمية، وحاجتها البدنية، وليس عندها من الزمن ما تتفرغ فيه لأدنى من ذلك كما هو شأن الطفل في صباه.
والآثار التي عليها الباحثون في مبادئ ظهور الصناعة عند البشر وارتقائها من أدنى الأعمال إلى ما يظنه الناظر أعلاها اليوم تشهد شهادة كافية بأن البشر كانوا في بدء أمرهم من قصور القوى على حالة تشبه حالة الصبيان في الأفراد. فقد كانوا في بعض أطواره لا يهتدون إلى اصطناع المعادن القابلة للطرق كالنحاس والحديد، وإن آلاتهم للدفاع ونحوه كانت من الحجارة، ثم ارتقوا إلى استعمال النحاس، ثم ارتقوا بعد ذلك إلى استعمال الحديد وعلى هذا النحو كان رقي معرفتهم في جميع أبواب الصنعة، وما عليك إلا أن تنظر كيف ابتدأوا وضع حروف الكتابة من الخط المسماري ثم لم يزالوا يرتقون فيه إلى أن وصلوا إلى ما تعرف اليوم كل ذلك يدل على أن سنة الله في الجماعة هي بعينها سنته في الفرد منها في التدرج به من ضعف إلى قوة ومن قصور إلى كمال.
كانوا في طور القصور منغمسين في الحس والمحسوس، فإذا تخلصوا منه إلى شيء تخلصوا إلى وهم يثيره الحس، وإنما هو ظل له يظن شيئا وليس بشيء: إذا عجبوا كيف يموت الميت ولم يهتدوا إلى فهم معنى الموت ظنوا أنه يغيب عنهم غيبة ولكن لا يزال يتعهدهم بما يؤذيهم، كأن الموت يحدث بينه وبينهم عداوة، فظنوا أن أرواح الأموات من جملة العاديات الضارات، والمعينات النافعات، ولذلك كانوا يعدون لها ما يرضيها، وكانوا يخافون أن يذكروا أسماءها، وإذا سمعوا رعدا أو رأوا برقا أو أمطرتهم السماء أو ذعرتهم الأعاصير، تخيلوا أشباحا مثلهم ترسل ذلك كله عليهم، ويذهب بهم الخيال فيها إلى ما شاء من صور وتماثيل وهكذا كان شأنهم في كثير من الحيوان والنبات والنجوم إذا استعظموا منها شيئا لعظم مضرته أو لكثرة منفعته، توهموا فيها ما شاءوا من قدرة تفوق قدراتهم، وإرادة تقهر إرادتهم.
ولم يزالوا كذلك والتجارب تكشف فيما يتوهمون، والحوادث تأتيهم بعلم ما لم يكونوا يعلمون، حتى عقلوا كثيرا من أصول اجتماعهم وكشفوا شيئا من عناصر بنيته المعنوية، ووصلوا إلى منزلة الاستعداد لأن يفهموا باطن ما عقلوا وسر ما عرفوا، ولأن يخلصوا من هذا العالم الجسماني الذي كانوا فيه إلى عالم روحاني كانوا يسيرون في طلبه من حيث لا يشعرون.
هنالك تهيأ لهم أن ينتقلوا من طور قصور الصبي إلى أول سن الرشد، فجاءتهم النبوة تهديهم إلى ما يستقبلونه في ذلك الطور الجديد طور يكون واضع النظام لاجتماعهم فيه الله جل شأنه، ويكون المحدد لصلتهم بربهم تعالت أسماؤه هو الرحيم بهم العليم بمصالحهم، وهو مع ذلك مما لا تحدده عقولهم، ولا تسمو إلى اكتناه ذاته معارفهم، هذه هي الغاية التي لم يكن لهم أن يدركوها وهم في قصور الطور الأول قد انتهوا إليها عند دخولهم في الطور الثاني.
فهذا هو قول الشيخين: إن الأمة الواحدة هي الأمة الآخذة في اعتقادها وعملها بالعقل ومقتضى الفطرة قبل النبوات جميعها، لأن ظهور النبوة والاستعداد لقبولها طور من الأطوار البشرية لا يصل إليه النوع الإنساني إلا بعد التدرج في طريق طويلة تنتهي غايتها إلى هذا النوع من الكمال الإنساني.
الاستعداد لظهور النبوة وقبول دعوتها مرحلة من المراحل التي تسير فيها الجمعية البشرية عندما تبلغ العقول منزلة من القوة ومقاما من السلطة وتبلغ النفوس من قوة التصرف في المنافع والمضار، ما يخشى معه من ضلالها، أن يوقعها في خبالها، عندما تعظم مطامع العقول والشهوات وتتسع مجالاتها وتبعد مطامحها، هنالك يخشى على الجمعية البشرية من بعض أفرادها أو من كل واحد منهم على بقية أركانها، كما يخشى من قوى الشباب أن تهلكه عندما تبلغ البنية حد النمو وتبدو له الشهوات في أجلى صورها، فكما كان من حكمة الله أن يهب الشباب قوة العقل عند بلوغ السن التي تعظم فيها الشهوة، ويقوى فيها الإحساس بالحاجة إلى توفير الرغائب، حتى يقوده في تلك الغمار، كذلك فعل الله بالجمعية البشرية عند ما بلغت بمعارف أفرادها ذلك الحد الذي ذكرنا وهبها تلك الهداية الجديدة، وأيديها بالدلائل التي بلغ من قوة العقول أن تدركها، وأن تصل من مقدماتها إلى نتائجها.
تلك الآيات البينات التي جاء بها الأنبياء على اختلاف أزمانهم وأممهم جاءت إلى كل أمة بما يلائم حالتها النفسية ومكانتها العقلية، فكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأمم، بمنزلة الرأس من البدن. جاؤوهم يبينون لهم الخير، ويبشرونهم بحسن الجزاء لكاسبه، ويكشفون لهم مسالك السوء، وينذرونهم بسوء المصير لصاحبه.
ولما كان الاستعداد يتفاوت في الأمم، كانت أمة أولى من أمة بتقدم عهد النبوات فيها، وكانت تلك الأمة المتقدمة جديرة بأن تكون إماما للأمة المتأخرة، سنة الله في الخلق.
هذا الطور النوراني الجديد طور ظهور النبوة هو طور خير وسعادة، طور هداية ورشاد، وأخوة بين المهتدين فيه وسداد في أعمالهم، ونزوع إلى تكميل غيرهم بمثل ما كملت به أنفسهم، وإضاءة ما أظلم من جو غيرهم بمثل ما ضاء به جوهم، ولا يزالون كذلك ما قاموا على فهم ما جاء إليهم، وما قيدوا عقولهم ونفوسهم بالحدود التي وضعها لهم، وما وقفوا على سر ما حملوا عليه، ولزموا روح ما دعوا إليه، وما حدب كل واحد منهم على الآخر ليرده إذا نزغ عن الطريق المعبدة، ويقيمه على السنة المعروفة، فهذا قوله تعالى: {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} فقد قطع الإنسان في سيره إلى الكمال مرحلة أولى انتهت إلى ظهور النبوات، ثم هو يسير في هذه مرحلة أخرى إلى أن يصل إلى منزل آخر، ولكنه يا للأسف ليس بالمنزل المرتضى.
ذلك أنه طال الأمد على عهد النبوة وبعد الناس عن مبعث نورها، وينبوع نهرها، قست القلوب، وأظلمت الأنفس، وغلبت الشهوات، فضعف العلم بسر الدعوة، وأهملت الجمعية تقويم الطريقة، واستعمال أهل العلم بالدين، نصوص الدين فيما يضيع حكمة الدين، ويذهب بأثره في الناس، فيقع الاختلاف والاضطراب، وينقلب سبب السعادة الأولى، عاملا للشقاء في الأخرى، وذلك باتباع خطوات شيطان الرئاسة، والانقياد لغوايات السياسة، فهذا قوله تعالى: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم}.
هذا طور ثالث للجمعية البشرية، ومرحلة تسير فيها ما شاء الله أن تسير حتى تذوق وبال أمرها، وحتى تبصر عواقب الخلاف بما كان من فوائد الألفة، وحتى تردها الضرورات إلى النظر فيما أغمضت عنه، وإلى الرجوع إلى ما خرجت منه، فتعود إلى محو ما عرض من العادات، وتنقية القلوب من فاسد الاعتقادات، وتطهير النفس من رديء الملكات، فتشرق لها شمس الحق الأول، وتقوم على الطريق الأمثل، وتعود الطمأنينة إلى النفوس، ويتساوى في الحق الرئيس والمرؤوس، وهذا قوله تعالى: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه}.
تلك الأطوار التي لا بد للبشرية أن تمر فيها حتى تبلغ كمالها، وتنال تفصيلها وإجمالها، وتأويل الآية على طريقة الشيخين المذكورين لا يضايق ما اخترناه، ولا يبعد عما قررناه، ومكانة آدم عليه السلام من الرسالة لا تزعج صاحب هذا التأويل، ولا تلصق به شذوذا أبعد من شذوذ من قال كان الناس على الحق متفقين، ثم كان الخلاف إثر بعثة النبيين، ولا شذوذ من قال إن الناس هم آدم كما علمت. فإنه يقول إن رسالة آدم لم تعلم بما كانت وإلى من كانت، فيجوز أن تكون بأمر تتفق مع تلك السذاجة الأولى إلى واحد أو أكثر من أبنائه، ثم نسي ما كان من ذلك عند من بلغه، وجهل عند من لم يبلغه. على أن ما سبق في تأويل قوله تعالى: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} (البقرة: 30) من رأي ابن عباس وأناس معه من أن الأرض كان فيها عمار يعملون فيها ما يعمل بنو آدم، يسمح لصاحب التأويل أن يقول إن آدم عليه السلام مع بنيه كانوا في عمارة الأرض كولد نوح، وإن الأرض كانت معمورة من قبله بأقوام فيهم تلك الصفات البشرية ثم انقرضوا وخلفهم آدم، كما تنقرض أمة وتخلفها أمة، يهلك الله صنفا وينشئ آخر والنوع واحد، ولا يزال الهالك يترك أثرا للباقي يحدث فيه فكرة، ويثير في نفسه عبرة، ويكون ذلك سلما له إلى رقي كان من قبل دونه.
وإن مثال هذه الاعتراضات التي تكاد تكون ضروبا من إنكار المشهود قائل إنه غير موجود. لا تقف دون العقلاء من أهل الدين خصوصا علماء الدين الإسلامي الذي لم يحدد تاريخا خاصا يبتدئ منه الوجود الإنساني في هذه الأرض. فهم أحرار فيما ينظرون ما داموا لم يخالفوا نصا قاطعا من نصوص الكتاب، ولا سنة خلا نقلها من الريب والاضطراب. والله أعلم بما أودع كتابه من أسرار وحكمة، نسأله سبحانه أن يتم علينا هذه النعمة، فهو حسبنا ونعم الوكيل، وهو يقول الحق ويهدي السبيل (انتهى ما كتبه الأستاذ الإمام).
وأقول: إن المتبادر من الآية عند العرب الأميين في عصر التنزيل الذين لم يعرفوا شيئا من تاريخ البشر وأطوارهم يحملونها عليه يتفق مع هذا التفصيل في جملته، وهو أن الناس كانوا بمقتضى الفطرة أمة واحدة أي لوحدة مداركهم وحاجات معيشتهم وقلة رغائبهم وسهولة تعاونهم على مطالبهم ولكن عرض لهم الاختلاف بالتفرق والانقسام إلى عشائر فقبائل فشعوب تختلف حاجاتها وتتعدد رغائبها، ويلجئها ذلك إلى تعاون كل عشيرة فقبيلة فشعب فيما تختلف فيه أفرادها أو تختلف هي وغيرها. فاشتدت حاجتهم إلى تشريع رباني وهداية إلهية يذعن لها الأفراد والجماعات فبعث الله النبيين فيهم مبشرين من أطاعهم بالسعادة والثواب، ومنذرين من عصاهم بالشقاء والعذاب. وأنزل معهم الكتاب المفصل لما يحتاجون إليه من التشريع الديني والمدني بالحق، ليحكم الكتاب نفسه بمعنى يبين الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحقوق الشخصية وغيرها، وما اختلفوا فيه أي الكتاب بعد الإنعام به إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءهم البينات فيه وفي تنفيذ نبيهم له بغيا بينهم. من بعضهم على بعض. ثم يظهر فيهم مصلحون يهديهم الله بإيمانهم للمخرج مما اختلفوا من الحق بإذنه مشيئته، كما وقع لأهل الكتاب ثم للمسلمين الذين حذرهم الله تعالى أن يكونوا مثلهم بقوله: {ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} (الحديد: 16) وهم الآن أحوج إلى هذا الإصلاح من كل زمان مضى.
هذا المعنى لا يخالف النصوص في شيء، وظواهر القرآن توافق نص حديث الشفاعة المتفق عليه في أن نوحا عليه السلام كان أول رسول أرسله إلى أهل الأرض، وقد حققت مسألة نبوة آدم في الكلام على عدد الرسل من تفسير سورة الأنعام.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{كان الناس} [أي: كانوا مجتمعين على الهدى، وذلك عشرة قرون بعد نوح عليه السلام، فلما اختلفوا في الدين فكفر فريق منهم وبقي الفريق الآخر على الدين، وحصل النزاع وبعث الله الرسل ليفصلوا بين الخلائق ويقيموا الحجة عليهم، وقيل بل كانوا] مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء، ليس لهم نور ولا إيمان، فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم د مُبَشِّرِينَ} من أطاع الله بثمرات الطاعات، من الرزق، والقوة في البدن والقلب، والحياة الطيبة، وأعلى ذلك، الفوز برضوان الله والجنة. {وَمُنْذِرِينَ} من عصى الله، بثمرات المعصية، من حرمان الرزق، والضعف، والإهانة، والحياة الضيقة، وأشد ذلك، سخط الله والنار.
{وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} وهو الإخبارات الصادقة، والأوامر العادلة، فكل ما اشتملت عليه الكتب، فهو حق، يفصل بين المختلفين في الأصول والفروع، وهذا هو الواجب عند الاختلاف والتنازع، أن يرد الاختلاف إلى الله وإلى رسوله، ولولا أن في كتابه، وسنة رسوله، فصل النزاع، لما أمر بالرد إليهما. ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب، وكان هذا يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم، فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض، وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف. فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه، وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه بالآيات البينات، والأدلة القاطعات، فضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} من هذه الأمة {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ} فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب، وأخطأوا فيه الحق والصواب، هدى الله للحق فيه هذه الأمة {بِإِذْنِهِ} تعالى وتيسيره لهم ورحمته.
{وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فعمَّ الخلق تعالى بالدعوة إلى الصراط المستقيم، عدلا منه تعالى، وإقامة حجة على الخلق، لئلا يقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ وهدى -بفضله ورحمته، وإعانته ولطفه- من شاء من عباده، فهذا فضله وإحسانه، وذاك عدله وحكمته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعلى ذكر الموازين والقيم؛ وظن الذين كفروا بالذين آمنوا؛ وحقيقة مكان هؤلاء ووزنهم عند الله.. ينتقل السياق إلى قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد، والموازين والقيم؛ وينتهي بتقرير الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه المختلفون؛ وإلى الميزان الأخير الذي يحكم فيما هم فيه مختلفون:
{كان الناس أمة واحدة؛ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين؛ وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه -وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم- فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه؛ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}..
هذه هي القصة.. كان الناس أمة واحدة. على نهج واحد، وتصور واحد. وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات. فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد. وهم أبناء الأسرة الأولى: أسرة آدم وحواء. وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعا نتاج أسرة واحدة صغيرة، ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم، وليجعلها هي اللبنة الأولى. وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى.
حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها، وتفرقوا في المكان، وتطورت معايشهم؛ وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة، التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات. عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر، وتعددت المناهج، وتنوعت المعتقدات.. وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.. {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}.. وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى.. إن من طبيعة الناس أن يختلفوا؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم؛ يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض.. إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة، و استعدادات شتى من الوان متعددة؛ كي تتكامل جميعها وتتناسق، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله. فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف؛ ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات.. {ولا يزالون مختلفين -إلا من رحم ربك- ولذلك خلقهم}..
ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون؛ وحكم عدل يرجع إليه المختصمون؛ وقول فصل ينتهي عنده الجدل، ويثوب الجميع منه إلى اليقين: {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}. ولا بد أن نقف عند قوله تعالى {بالحق}.. فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب؛ وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل، والقول الفصل، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم.. لا حق غيره. ولا حكم معه. ولا قول بعده. وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد؛ وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس؛ وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض.. بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة؛ ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة؛ ولا يقوم على الأرض السلام؛ ولا يدخل الناس في السلم بحال. ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم؛ والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف.. إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق؛ وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.. وهو كتاب واحد في حقيقته، جاء به الرسل جميعا. فهو كتاب واحد في أصله، وهي ملة واحدة في عمومها، وهو تصور واحد في قاعدته: إله واحد، ورب واحد، ومعبود واحد، ومشرع واحد لبني الإنسان.. ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال؛ ووفق أطوار الحياة والارتباطات؛ حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق. بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير.
وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد.. كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله، يقوم على القاعدة الأصيلة: قاعدة التوحيد المطلق.. ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة، وتتراكم الخرافات والأساطير، حتى يبعد الناس نهائيا عن ذلك الأصل الكبير. وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة، وتنفي ما علق بها من الانحرافات، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات.. وهذه النظرية أولى بالاتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون، وهم لا يشعرون، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين! وإقامة ذلك الميزان الثابت تقتضي علما غير محدود. علم ما كان وما هو كائن وما سيكون. علمه كله لا مقيدا بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإلى مستيقن ومظنون ومجهول، وإلى حاضر مشهود ومغيب مخبوء.. ولا مقيدا بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلى قريب وبعيد، ومنظور ومحجوب، ومحسوس وغير محسوس.. في حاجة إلى إله يعلم ما خلق، ويعلم من خلق.. ويعلم ما يصلح وما يصلح حال الجميع. وإقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة، واستعلاء على النقص، واستعلاء على الفناء، واستعلاء على الفوت، واستعلاء على الطمع، واستعلاء على الرغبة والرهبة.. واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه.. في حاجة إلى إله، لا أرب له، ولا هوى، ولا لذة، ولا ضعف في ذاته -سبحانه- ولا قصور! أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة، والظروف المتغيرة، والحاجات المتجددة؛ ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت. على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه، فيدرك خطأه وصوابه، وغيه ورشاده، وحقه وباطله، من ذلك الميزان الثابت.. وبهذا وحده تستقيم الحياة. ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله!
إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل. إنما جاء ليحتكم الناس إليه.. وإليه وحده.. حين يختلفون.. ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشئ حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية: إن الإسلام يضع (الكتاب) الذي أنزله الله "بالحق "ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.. يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية. ثم تمضي الحياة. فإما اتفقت مع هذه القاعدة، وظلت قائمة عليها، فهذا هو الحق. وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى، فهذا هو الباطل.. هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعا. في فترة من فترات التاريخ. فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل. وليس الذي يقرره الناس هو الحق، وليس الذي يقرره الناس هو الدين. إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء، وقولهم لشيء، وإقامة حياتهم على شيء.. لا تحيل هذا الشيء حقا إذا كان مخالفا للكتاب؛ ولا تجعله أصلا من أصول الدين؛ ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين؛ ولا تبرره لأن أجيالا متعاقبة قامت عليه..
وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس! وفي التاريخ الإسلامي مثلا وقع انحراف، وظل ينمو وينمو.. فلا يقال: إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام! كلا! إن الإسلام يظل بريئا من هذا الواقع التاريخي. ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافا لا يصلح حجة ولا سابقة؛ ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله، وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.. ولقد جاء الكتاب.. ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هناك ومن هناك؛ وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب، والرجوع إلى الحق الذي يردهم إليه: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات.. بغيا بينهم}.. فالبغي.. بغي الحسد. وبغي الطمع. وبغي الحرص. وبغي الهوى.. هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج؛ والمضي في التفرق واللجاج والعناد. وهذه حقيقة.. فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب، القوي الصادع المشرق المنير.. ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى، أو في نفسيهما جميعا.. فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه}.. هداهم بما في نفوسهم من صفاء، وبما في أرواحهم من تجرد، وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق. وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة:
{والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.. هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب. وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق. ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات، ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات.. والله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء، ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط؛ أولئك يدخلون في السلم، وأولئك هم الأعلون، ولو حسب الذين لا يزنون بميزان الله أنهم محرومون، ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من المؤمنين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف لبيان أن اختلاف الأديان أمر كان في البشر لحكمة اقتضته وأنه قد ارتفع ذلك ورجع الله بالناس إلى وِحْدة الدين بالإسلام. والظاهر عندي أن موقع هذه الآية هنا جامع لموقع تذييل لما قبلها ومقدمة لما بعدها.
فأما الأول فلأنها أفادت بيان حالة الأمم الماضية كيف نشأ الخلاف بينهم في الحق مما لأجله تداركهم الله ببعثات الرسل في العصور والأجيال التي اقتضتها حكمة الله ولطفه مما يماثل الحالة التي نشأت فيها البعثة المحمدية وما لقيه الرسول والمسلمون من المشركين.
وأما الثاني فلأنها مقدمة لما يرد بعدها من ذكر اختصاص الإسلام بالهداية إلى الحق الذي اختلفت فيه الأمم وهو مضمون قوله تعالى: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه} إلى قوله: {إلى صراط المستقيم} وذلك من خصائص كون الإسلام مهيمناً على ما سبقه من الشرائع الإلهية وتفضيله على جميع الأديان وأن هذه المزية العظمى يجب الاعتراف بها وألا تكون مثار حسد للنبيء وأمته، رداً على حسد المشركين، إذ يسخرون من الذين آمنوا وعلى حسد أهل الكتاب الذي سبق التنبيه عليه في قوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم} إلى قوله {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 142].
وحصل من عموم ذلك تعليم المسلمين تاريخ أطوار الدين بين عصور البشر بكلمات جامعة ختمت بقوله: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} فإن كان المراد من كونهم أمة واحدة الوحدة في الخير والحق وهو المختار كما سيأتي فقد نبه الله أن الناس اختلفوا فبعث لهم أنبياء متفرقين لقصد تهيئة الناس للدخول في دين واحد عام، فالمناسبة حاصلة مع جملة {ادخلوا في السلم كافة} [البقرة: 208] بناء على أنها خطاب لأهل الكتاب أي ادخلوا في دين الإسلام الذي هدى الله به المسلمين. وإن كان المراد من كون الناس أمة واحدة الوحدة في الضلال والكفر يكون الله قد نبههم أن بعثة الرسل تقع لأجل إزالة الكفر والضلال الذي يحدث في قرون الجهالة، فكذلك انتهت تلك القرون إلى القرن الذي أعقبته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الآية تثبيتاً للمؤمنين فالمناسبة حاصلة مع قوله: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا} [البقرة: 212]. فالمعنى أن الإسلام هدى إلى شريعة تجمع الناس كلهم تبييناً لفضيلة هذا الدين واهتداء أهله إلى ما لم يهتد إليه غيرهم، مع الإشارة إلى أن ما تقدمه من الشرائع تمهيد له وتأنيس به كما سنبينه عند قوله: {فهدى الله الذين آمنوا}.
والناس اسم جمع ليس له مفرد من لفظه، و (أل) فيه للاستغراق لا محالة وهو هنا للعموم أي البشر كلهم، إذ ليس ثمة فريق معهود ولكنه عموم عرفي مبني على مراعاة الغالب الأغلب وعدم الاعتداد بالنادر لظهور أنه لا يخلو زمن غلب فيه الخير عن أن يكون بعض الناس فيه شريراً مثل عصر النبوة ولا يخلو زمن غلب فيه الشر من أن يكون بعض الناس فيه خيراً مثل نوح {وما آمن معه إلاّ قليل} [هود: 4].
والأمة بضمة الهمزة: اسم للجماعة الذين أمرهم واحد، مشتقة من الأم بفتح الهمزة وهو القصد أي يؤمون غاية واحدة، وإنما تكون الجماعة أمة إذا اتفقوا في الموطن أو الدين أو اللغة أو في جميعها.
والوصف بـ (واحدة) في الآية لتأكيد الإفراد في قوله (أمة) لدفع توهم أن يكون المراد من الأمة القبيلة، فيظن أن المراد كان الناس أهل نسب واحد، لأن الأمة قد تطلق على من يجمعهم نسب متحد. والمقصود من الآية على هذا الوجه التنبيه على أن التوحيد والهدى والصلاح هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها حين خلقهم كما دلت عليه آية {ألست بربكم} [الأعراف: 172]، وأنها ما غشَّاها إلاّ تلقين الضلال وترويج الباطل وأن الله بعث النبيئين لإصلاح الفطرة إصلاحاً جزئياً فكان هديهم مختلف الأساليب على حسب اختلاف المصالح والأهلية وشدة الشكائم، فكان من الأنبياء الميسر ومنهم المغلظ وأنه بعث محمداً لإكمال ذلك الإصلاح، وإعادة الناس إلى الوحدة على الخير والهدى وذلك معنى قوله: {فهدى الله الذين آمنوا} الخ.
الناس أبناء أب واحد وأم واحدة فلا جرم أن كانوا في أول أمرهم أمة واحدة لأن أبويهم لما ولدا الأبناء الكثيرين وتوالد أبناؤهما تألفت منهم في أمد قصير عائلة واحدة خلقت من مزاج نقي فكانت لها أمزجة متماثلة ونشأوا على سيرة واحدة في أحوال الحياة كلها وما كانت لتختلف إلاّ اختلافاً قليلاً ليس له أثر يؤبه به ولا يحدث في العائلة تنافراً ولا تغالباً. ثم إن الله تعالى لما خلق نوع الإنسان أراده ليكون أفضل الموجودات في هذا العالم الأرضي فلا جرم أن يكون خلقه على حالة صالحة للكمال والخير قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4].
فآدم خلق في أحسن تقويم يليق بالذكر جسماً وعقلاً وألهمه معرفة الخير واتباعه ومعرفة الشر وتجنبه فكانت آراؤه مستقيمة تتوجه ابتداء لما فيه النفع وتهتدي إلى ما يحتاج للاهتداء إليه، وتتعقل ما يشار به عليه فتميز النافع من غيره ويساعده على العمل بما يهتدي إليه فكره جسد سليم قوي متين
وحواءُ خلقت في أحسن تقويم يليق بالأنثى خلقاً مشابهاً لخلق آدم، إذ إنها خلقت كما خلق آدم، قال تعالى: {خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} [النساء: 1] فكانت في انسياق عقلها واهتدائها وتعقلها ومساعدة جسدها على ذلك على نحو ما كان عليه آدم.
ولا شك أن أقوى عنصر في تقويم البشر عند الخلقة هو العقل المستقيم فبالعقل تأتَّى للبشر أن يتصرف في خصائصه، وأن يضعها في مواضع الحاجة إليها. فقوله تعالى: {فبعث الله النبيئين} هو على الوجه الأول مفرع على ما يؤذن به قوله: {كان الناس أمة واحدة} مع تحقق وجود الخلاف بينهم بالمشاهدة من إرادة أن كونهم
{أمة واحدة} دام مدة ثم انقضى، فيكون مفرعاً على جملة مقدرة تقديرها فاختلفوا فبعث الله النبيئين، وعلى الوجه الآخر مفرعاً على الكون أمة واحدة في الباطل فعلى الأول يكون أول النبيين المبعوثين نوحاً، لأنه أول الرسل لإصلاح الخلق. وعلى الثاني: يكون أولهم آدم بعث لبنيه لما قتل أحدهم أخاه؛ فإن الظاهر أن آدم لم يبعث بشريعة لعدم الدواعي إلى ذلك، وإنما كان مرشداً كما يرشد المربي عائلته.
والبعث: الإرسال والإنهاض للمشي ومنه بعث البعير إذا أنهضه بعد أن برك والبعث هنا مجاز مستعمل في أمر الله النبي بتبليغ الشريعة للأمة.
و (النبيئين) جمع نبيء وهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من النبأ وهو الخبر المهم، لأن الله أخبره بالوحي وعلم ما فيه صلاح نفسه وصلاح من ينتسب إليه، فإن أمره بتبليغ شريعة الأمة فهو رسول فكل رسول نبيء، والقرآن يذكر في الغالب النبي مراداً به الرسول، وقد ورد أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً لا يعلم تفصيلهم وأزمانهم إلاّ الله تعالى قال تعالى: {وقروناً بين ذلك كثيراً} [الفرقان: 38] وقال: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} [الإسراء: 17]. وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر. والمراد بالنبيين هنا خصوص الرسل منهم بقرينة قوله {بعث} وبقرينة الحال في قوله: {مبشرين ومنذرين}، لأن البشارة والإنذار من خصائص الرسالة والدعوة وبقرينة ما يأتي من قوله: {وأنزل معهم الكتاب بالحق} الآية. فالتعريف في (النبيين) للاستغراق وهو الاستغراق الملقب بالعرفي في اصطلاح أهل المعاني.
والبشارة: الإعلام بخير حصل أو سيحصل، والنذارة بكسر النون الإعلام بشر وضر حصل أو سيحصل، وذلك هو الوعد والوعيد الذي تشتمل عليه الشرائع. فالرسل هم الذين جاءوا بالوعد والوعيد، وأما الأنبياء غير الرسل فإن وظيفتهم هي ظهور صلاحهم بين قومهم حتى يكونوا قدوة لهم، وإرشاد أهلهم وذويهم ومريديهم للاستقامة من دون دعوة حتى يكون بين قومهم رجال صالحون، وإرشاد من يسترشدهم من قومهم، وتعليم من يرونه أهلاً لعلم الخير من الأمة.
{وأنزل معهم الكتاب}، الإنزال: حقيقته تدلية الجسم من علو إلى أسفل، وهو هنا مجاز في وصول الشيء من الأعلى مرتبة إلى من هو دونه، وذلك أن الوحي جاء من قبل الله تعالى ودال على مراده من الخلق فهو وارد للرسل في جانب له علو منزلة.
وأضاف مع إلى ضمير النبيئين إضافة مجملة واختير لفظ مع دون عليهم ليصلح لمن أنزل عليه كتاب منهم مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ولمن جاء مؤيداً لمن قبله مثل أنبياء بني إسرائيل بين موسى وعيسى.
والكتاب هو المكتوب، وأطلق في اصطلاح الشرع على الشريعة لأن الله يأمر الناس بكتابتها لدوام حفظها والتمكن من مدارستها، وإطلاق الكتاب عليها قد يكون حقيقة إن كانت الشريعة في وقت الإطلاق قد كتبت أو كتب بعضها كقوله تعالى: {الم ذلك الكتاب} [البقرة: 1 2] على أحد الوجهين المتقدمين هنالك، وقد يكون مجازاً على الوجه الآخر، وما هنا يحمل على الحقيقة لأن الشرائع قد نزلت وكتبت وكتب بعض الشريعة المحمدية.
والتعريف في الكتاب للاستغراق، أي وأنزل مع النبيئين الكتب التي نزلت كلها وهو من مقابلة الجمع بالجمع على معنى التوزيع، فالمعنى أنزل مع كل نبي كتابه وقرينة التوزيع موكولة لعلم السامعين لاشتهار ذلك. وإنما أفرد الكتاب ولم يقل الكتب، لأن المفرد والجمع في مقام الاستغراق سواء، وقد تقدم مع ما في الإفراد من الإيجاز ودفع احتمال العهد إذ لا يجوز أن ينزل كتاب واحد مع جمع النبيئين؛ فتعين أن يكون المراد الاستغراق لا العهد، وجوز صاحب « الكشاف» كون اللام للعهد والمعنى أنزل مع كل واحد كتابه.
والضمير في {ليحكم} راجع إلى الكتاب فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز عقلي، لأنه مبين ما به الحكم، أو فعل يحكم مجاز في البيان. ويجوز رجوع الضمير إلى اسم الجلالة أي أنزل الله الكتاب ليحكم بينهم إسناد الحكم مجاز عقلي، لأنه المسبب له والأمر بالقضاء به،
وتعدية (يحكم) ببين لأنه لم يعين فيه محكوم له أو عليه. وحكم الكتاب بين الناس بيان الحق والرشد والاستدلال عليه،
وكونه فيما اختلفوا فيه كناية عن إظهاره الحق، لأن الحق واحد لا يختلف فيه إلاّ عن ضلال أو خطأ، ولهذا قال جمهور علمائنا إن المصيب في الاجتهاديات واحد. [و] عطف على جملة {أنزل معهم الكتاب بالحق} لبيان حقيقة أخرى من أحوال اختلاف الأمم وهو الاختلاف بين أهل الكتاب بعضهم مع بعض وبين أهل الكتاب الواحد مع تلقيهم ديناً واحداً، والمعنى وأنزل معهم الكتاب بالحق فاختلف فيه كما قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} [هود: 110]. والمعنى وما اختلف فيه إلا أقوامهم الذين أوتوا كتبهم فاستغنى بجملة القصر عن الجملة الأخرى لتضمن جملة القصر إثباتاً ونفياً.
فاللَّه بعث الرسل لإبطال الضلال الحاصل من جهل البشر بصلاحهم فجاءت الرسل بالهدى، اتبعهم من اتبعهم فاهتدى وأعرض عنهم من أعرض فبقي في ضلالة، فإرسال الرسل لإبطال الاختلاف بين الحق والباطل، ثم أحدث اتباع الرسل بعدهم اختلافاً آخر وهو اختلاف كل قوم في نفس شريعتهم.
والمقصود من هذا بيان عجيب حال البشر في تسرعهم إلى الضلال، وهي حقيقة تاريخية من تاريخ الشرائع، وتحذير المسلمين من الوقوع في مثل ذلك. والتعريض بأهل الكتاب وهم أشهر أهل الشرائع يومئذٍ فيما صنعوا بكتبهم من الاختلاف فيها، وهذا من بديع استطراد القرآن في توبيخ أهل الكتاب وخاصة اليهود وهي طريقة عربية بليغة
والضمير من قوله: {فيه} يجوز أن يعود إلى الكتاب وأن يعود إلى الحق الذي تضمنه الكتاب، والمعنى على التقديرين واحد، لأن الكتاب أنزل ملابساً للحق ومصاحباً له فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق.
والاختلاف في الكتاب ذهاب كل فريق في تحريف المراد منه مذهباً يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في الفروع، فإن الاختلاف في أصوله يعطل المقصود منه. وجيء بالموصول دون غيره من المعرفات لما في الصلة من الأمر العجيب وهو أن يكون المختلفون في مقصد الكتاب هم الذين أعطوا الكتاب ليزيلوا به الخلاف بين الناس فأصبحوا هم سبب خلاف فيه، ولا شك أن ذلك يبطل المراد منه. والمعنى تشنيع حال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالاً من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع، لأن أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم.
وقوله: {من بعد ما جاءتهم البينات} متعلق باختلف، والبينات جمع بينة وهي الحجة والدليل. والمراد بالبينات هنا الدلائل التي من شأنها الصدّ عن الاختلاف في مقاصد الشريعة، وهي النصوص التي لا تحتمل غير مدلولاتها أعني قواطع الشريعة، والظواهر المتعاضدة التي التحقت بالقواطع. والظواهر التي لم يدع داع إلى تأويلها ولا عارضها معارض. والظواهر المتعارضة التي دل تعارضها على أن محمل كل منها على حالة لا تعارض حالة محمل الآخر وهو المعبر عنه في الأصول بالجمع بين الأدلة وتواريخ التشريع الدالة على نسخ حكم حكماً آخر، أو ما يقوم مقام التاريخ من نحو هذا ناسخ، أو كان الحكم كذا فصار كذا، فهذه بينات مانعة من الاختلاف لو كان غرض الأمم اتباع الحق ومجىء البينات بلوغ ما يدل عليها وظهور المراد منها.
والبعدية هنا: بعدية اعتبار لم يقصد منها تأخر زمان الاختلاف عن مجيء البينات، وإن كان هو كذلك في نفس الأمر، أي إن الخلاف كان في حالة تقررت فيها دلائل الحق في نفوس المختلفين.
وقوله: {بغياً بينهم} مفعول لأجله لاختلفوا، والبغي: الظلم وأصل البغي في كلام العرب الطلب، ثم شاع في طلب ما للغير بدون حق فصار بمعنى الظلم معنى ثانياً وأطلق هنا على الحسد لأن الحسد ظلم. والمعنى أن داعي الاختلاف هو التحاسد وقصد كل فريق تغليط الآخر فيحمل الشريعة غير محاملها ليفسد ما حملها عليه الآخر فيفسد كل فريق صواب غيره وأما خطؤه فأمره أظهر. وقوله: {بينهم} متعلق بقوله: {بغياً} للتنصيص على أن البغي بمعنى الحسد، وأنه ظلم في نفس الأمة وليس ظلماً على عدوها.
والآية تقتضي تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف في الدين أي في أصول الإسلام، فالخلاف الحاصل بين علماء الإسلام ليس اختلافاً في أصول الشريعة، فإنها إجماعية، وقد أجمعوا على أنهم يريدون تحقيقها، ولذلك اتفقت أصولهم في البحث عن مراد الله تعالى وعن سنة رسوله للاستدلال عن مقصد الشارع وتصرفاته، واتفقوا في أكثر الفروع، وإنما اختلفوا في تعيين كيفية الوصول إلى مقصد الشارع، وقد استبرأوا للدِّين فأعلنوا جميعاً أن لله تعالى حكماً في كل مسألة، وأنه حكم واحد، وأنه كلف المجتهدين بإصابته وأن المصيب واحد، وأن مخطئه أقل ثواباً من مصيبه، وأن التقصير في طلبه إثم. فالاختلاف الحاصل بين علمائنا اختلاف جليل المقدار موسع للأنظار.
والمراد من الذين آمنوا المسلمون لا محالة، والضمير في {اختلفوا} عائد للمختلفين كلهم، سواء الذين اختلفوا في الحق قبل مجيء الرسل والذين اختلفوا في الشرائع بعد مجيء الرسل والبينات ولذلك بينه بقوله: {من الحق} وهو الحق الذي تقدم ذكره في قوله: {وأنزل معهم الكتاب بالحق}
[إن] اختلاف الفريقين راجع إلى الاختلاف في تعيين الحق إما عن جهل أو عن حسد وبغي. والإذن: الخطاب بإباحة فعل وأصله مشتق من فعل أذنَ إذا أصغى أُذُنه إلى كلام مَن يكلمه، ثم أطلق على الخطاب بإباحة فعل على طريقة المجاز بعلاقة اللزوم لأن الإصغاء إلى كلام المتكلم يستلزم الإقبال عليه وإجابةَ مطلبه، وشاع ذلك حتى صار الإذن أشْيَع في معنى الخطاب بإباحة الفعل، وبذلك صار لفظ الإذن قابلاً لأن يستعمل مجازاً في معان من مشابهات الخطاب بالإباحة، فأطلق في هذه الآية على التمكين من الاهتداء وتيسيره بما في الشرائع من بيان الهُدى والإرشاد إلى وسائل الاهتداء على وجه الاستعارة، لأن من ييسر لك شيئاً فكأنه أباح لك تناوله. وفي هذا إيماء إلى أن الله بعث بالإسلام لإرجاع الناس إلى الحق وإلى التوحيد الذي كانوا عليه، أو لإرجاعهم إلى الحق الذي جاءت الرسل لتحصيله، فاختلف أتباعهم فيه بدلاً من أن يحققوا بأفهامهم مقاصد ما جاءت به رسلهم، فحصل بما في الإسلام من بيان القرآنِ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وضوحُ الحق والإرشاد إلى كيفية أخذه، فحصل بمجيء الإسلام إتمام مراد الله مما أنزل من الشرائع السالفة.
وقوله: {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} تذييل لبيان أن فضل الله يعطيه من يشاء، وهذا إجمال، وتفصيله أن حكمة الله اقتضت أن يتأخر تمام الهدى إلى وقت مجيء شريعة الإسلام لمَّا تهيأَ البشر بمجيء الشرائع السابقة لقبول هذه الشريعة الجامعة، فكانت الشرائع السابقة تمهيداً وتهيئة لقبول دين الإسلام، ولذلك صدرت هذه الآية بقوله: {كان الناس أمة واحدة}، فكما كان البشر في أول أمره أمة واحدة على هدى بسيط ثم عرضت له الضلالات عند تحرك الأفكار البشرية، رجع البشر إلى دين واحد في حالة ارتقاء الأفكار، وهذا اتحاد عجيب، لأنه جاء بعد تشتت الآراء والمذاهب، ولذا قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم}، وفي الحديث: « مَثَل المسلمين واليهود والنصارى كمثلِ رجلٍ استأْجَر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطتَ لنا وما عَمِلنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أَكمِلوا بقيةَ عملكم وخُذُوا أجركم كاملاً فأَبَوْا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال لهم: أَكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطتُ لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلتَ لنا فيه، فقال لهم أَكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأَبَوْا، واستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثَلُهم ومثَلُ ما قبلوا من هذا النور، فقالت اليهود والنصارى ما لَنا أكثرُ عملاً وأقَلُّ عطاء، قال هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء».
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الناس فريقان: فريق يسعى في الأرض فسادا، ويضل الناس بخلابة لسانه، وفريق باع نفسه للحق يفتديه، ولربه يبتغي رضاه، ولا يرجو سواه، وإن النضال بين الفريقين قائم، على مقتضى سنة هذا الوجود، من التنازع بين الخير والشر، وبين أهل الحق والضلال، وإنه من أجل ذلك سوغ سبحانه وتعالى لأهل الخير أن يحملوا السيف مناضلين مدافعين، وإن كان أصل الفضيلة في الأمن والسلام، ولكن إن كانت الحرب سبيل السلام الفاضل فهي مطلوبة لأجل السلم، وإن كانت شجرة السلام التي تظل أهل الحق لا تقوم إلا إذا سقيت بالدماء، وجب القتال، لأن ما لا يتحقق الواجب إلا به فهو واجب، والسلام واجب على بني الإنسان. و في هذه الآية يشير سبحانه إلى أن الاختلاف بين الناس ما بين محق فاضل ومبطل شرير، مستكن في أصل الوجود قائم على أصل من الفطرة التي ألهمت فيها النفوس فجورها وتقواها، وهداها الله النجدين، وأن الله العليم الحكيم بعث الرسل مبشرين بحسن العقبى لأهل الخير وسوء العقبى للأشرار، وليكون من ضل إنما يضل عن بينة، ومن اهتدى فعن بينة، ولتتحقق التبعة على الأفعال بالعقاب والثواب، وليكون الجزاء العادل على العمل إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وليخفف بعث النبيين الخلاف وإن كان لا يمحوه، فإن المماراة واللدد في الخصومة التي اختص بها أهل الشر يمنعانهم من أن يسلموا بالحق رغبا، وإن كانوا أحيانا يسلمون به رهبا، وبعضهم يطمس الله على بصيرته فلا يجديه ترغيب، ولا يؤثر فيه ترهيب، بل هو ضال مضل إلى يوم الدين. و أسندت الهداية إلى الله سبحانه وتعالى لأنه مقلب القلوب، وهو علام الغيوب، المسيطر على كل شيء. وللعبد إرادة أيضا، فمن كان له قصد إلى الخير، واتجاه إلى الفضيلة وسار في الطريق المستقيم، قذف الله في قلبه بنور مشرق، وسار به مهديا في مضطرب الخلاف، ومعترك النزاع، فالمؤمن باتجاهه المستقيم وإذعانه لليقين، وهداية رب العالمين يصل إلى الحق في موضوع الخلاف، والصواب في متنازع الآراء، لأن الذي يفسد الرأي الهوى، وتسلط الشهوات، فهي إذا استحكمت أضلت ذا اللب، وطمست البصيرة إذ أصبح محكوما بالأهواء والشهوات، يسير في مسارها، وهو يحسب أنه يسير وراء العقل، وذلك هو الضلال المبين، فإذا خلص المؤمن من أدران الهوى ولم تتحكم فيه الشهوات فسيصل إلى الحق لا محالة، لأن الذي يضل العقول رين الشهوات.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{كَانَ النّاس أُمَّةً وَاحِدَةً}. كان النّاس أمّة واحدة في ما يحملون من فكر، فلم تكن لهم أفكار متعدّدة في شؤون الكون والحياة ليختلفوا فيها؛ ولم تكن لديهم اهتمامات في نظام الحياة وقانونها ليتنازعوا فيها، بل كانوا يعيشون مشاكلهم الخاصة في حاجاتهم في الحياة اليومية؛ فيتنازعون في ما يأخذه بعضهم أو يدعه، أو ما تتصرّف به جماعة لا توافقها عليه الجماعة الأخرى، الأمر الذي يؤدي إلى وقوع الاختلافات بينهم، ويوجب انتشار الظلم عندهم، وابتعاد الواقع عن خطّ العدل.. فكانت الرسالات الإلهية التي اتخذت أسلوب التبشير والإنذار، السبيل الوحيد لحل هذه المشاكل والاختلافات، من أجل تركيز الحياة في قضاياها اليومية على قاعدة ثابتة من العدل الإلهي، ليشعر الإنسان بقداسة الحلول وواقعيتها، فيستسلم لها في خضوع واقتناع. ولكنَّ بعض النّاس الذين أوتوا الكتاب بالحقّ لم يستريحوا إلى ذلك، لأنهم كانوا يعيشون على حساب تلك الخلافات، فنقلوها إلى الكتاب نفسه بما أثاروه من تأويلات وتفسيرات وتطبيقات، ما جعل القضية في حياتهم موضع خلاف فكري في أمر الكتاب، فيأخذ جماعة بتأويلٍ يختلف عمّا يأخذه الآخرون، ويتعصب فريق لتفسيرٍ يختلف عمّا يتعصب له الفريق الآخر.
ولم يكن اختلافهم نتيجة اختلاف في الاجتهادات، في ما تنطلق فيه من سُبُل الوصول إلى الحقّ التي قد تتنوّع تبعاً لتنوّع الثقافة أو النظرة إلى الأمور، بل كان اختلافهم نتيجة البغي والحقد والعداوة فيما بينهم كنتيجة طبيعية للعلاقات المتأزمة الخاضعة لأسباب غير شرعية. وهكذا امتد هؤلاء في خلافاتهم حتى حولوا الساحة البشرية إلى قاعدة للتنازع والتجاذب والخصام. أمّا المؤمنون، فلم يستسلموا للخلافات ولم يركنوا إليها، بل عملوا بكلّ ما لديهم من جهد وقوّة على اكتشاف الحقّ من خلال علاماته التي هداهم اللّه إليها في ما أنزله من الحقّ والهدى، فساروا في طريقه، واستسلموا له، وتركوا كلّ فئات البغي والفساد تتخبط في ضلالها، بعدما حاولوا القضاء عليها فلم يتمكنوا من ذلك، فأقبلوا على ما هم فيه مما أوكله اللّه لهم من شؤون المسؤولية في طاعته في ما يتعلّق بقضاياهم وقضايا النّاس، وذلك هو شأن اللّه قي هدايته للنّاس لمن يشاء هدايته إلى الصراط المستقيم، فإنه يهيّىء لهم كلّ وسائل الهداية من داخل أنفسهم ومن خارجها ليختاروا السير معها من موقع قناعتهم القائمة على الوعي والإيمان والإرادة.
وهكذا {كَانَ النّاس أُمَّةً وَاحِدَةً} أي على ملة واحدة، أو جماعة واحدة مرتبطة بالفطرة التي لا تنطلق في خطّ التفاصيل الفكرية المنفتحة على المنهج العملي في الخطّ الواحد، بل كانت تتحرّك من خلال العفوية الطبيعية في حركة الفعل ورد الفعل، فلم يكونوا مهتدين أو ضالين في مصطلح الهدى والضلال في الرسالات، لأنهم لم يكونوا قد التقوا بها؛ فلم تكن هناك نبوّات تحمل كتباً سماوية لأنَّ آدم (ع) لم يكن صاحب رسالةٍ تفصيلية في نبوّته، لكنَّهم كانوا ضلالاً بالمعنى السلبي، بمعنى فقدانهم للهداية الرسالية التفصيلية التي تنظم لهم القواعد والمفاهيم والشرائع والمناهج، وتخطّط لهم الوسائل والأهداف، على طريقة قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى} [الضحى: 7] فإنَّ المراد من الضلالة هو عدم الاهتداء لفقدان الهدى الرسالي في التفاصيل، لا الضلال بالمعنى الإيجابي المضاد، لأنَّ النبيّ محمَّد (ص) لم يكن ضالاً بهذا المعنى،
{فَبَعَثَ اللّه النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ} المؤمنين الطائعين بالجنّة، {وَمُنذِرِينَ} الكافرين والعاصين بالنّار.
{وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} الذي يعطي للأشياء حدودها، وللقضايا مناهجها، وللمشاكل حلولها، وللمنازعات والخلافات خطوطها التي يتميّز فيها الحقّ عن الباطل، فيكون الكتاب هو المنهج الواضح الذي ينهج بالنّاس إلى الصواب في أمورهم، والحكم العدل الذي يسير بالمجتمع إلى ساحة العدل في ميزان القضاء،
{لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاس فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} من الحقّ قبل إنزال الكتاب، لأنهم كانوا لا يرتكزون في أحكامهم على قاعدة، ما جعلهم لا يقفون على أساس واضح للوصول إلى النتائج الحاسمة التي تحدّد لهم الحقّ والباطل. وهنا يأتي الكتاب بالحقّ النازل من اللّه الذي لا يقترب إليه الباطل في عملية اختراق وامتزاج. وهكذا أراد اللّه للحقّ الرسالي الكتابي أن يكون هو المرجح للنّاس كافة، لأنه الذي قرّره اللّه، وما يقرّره اللّه ربّ العالمين لا يجوز لأي إنسان أن يناقشه أو يعارضه أو يتمرّد عليه. ولكن المشكلة التي واجهت هذا الحقّ، أنَّ نقاط الضعف الإنساني قد اندفعت إليه لتثير حوله الضباب النفسي الذي يغطي الحقيقة، ويمنع الوضوح، ويبتعد بالفهم عن منهجه الصحيح؛ فبدأ الاختلاف في الحقّ الذي جاء به الكتاب
{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ} أي: ما اختلف في الحقّ الذي أنزل الكتاب به إلاَّ الذين أتاهم اللّه الكتاب وأنزله عليهم ليهتدوا به. ولم يكن ذلك عن شبهة أو اجتهاد مختلف، بل كان ذلك بعد الوضوح الكامل
{مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وهي الأدلة والبراهين الواضحة التي لا مجال فيها لإنكار منكر أو لاعتذار معتذر،
{بَغْيًا بَيْنَهُمْ} مما يمثّله البغي من خلفيات نفسية سلبية كالحسد والعداوة الذاتية، وحبّ الرئاسة وغيرها مما يجعل الإنسان يحرّف الكلم عن مواضعه، فيؤوّل ما لا يقبل التأويل، ويثير الشبهة في ما لا مجال فيه للاشتباه، ويجتهد في ما لا موقع فيه للاجتهاد على طريقة الاجتهاد في مقابل النص. وهذا هو شأن المنافقين الذين لم يتعمّق الإيمان في قلوبهم إخلاصاً.
ويمكن أن نستوحي من هذه الآية عدّة نقاط:
التشريع يشمل كلّ مجالات الحياة:
إنَّ الرسالات الإلهية لم تنزل لتعرّف النّاس شؤون العبادة والأخلاق العامة، بل نزلت لتكون حكماً بين النّاس في ما اختلفوا فيه من أمور الحياة الخاصة والعامة، سواء [أكان] ذلك في نطاق العلاقات الشخصية [أم] في نطاق العلاقات الاجتماعية [أم] الاقتصادية [أم] السياسية [أم] غيرها، ما يدحض الفكرة القائلة بأنَّ الدِّين علاقة شخصية بين العبد وربّه، فلا تتحرّك في حياة النّاس العامة، بل تنحصر في نطاق الذات وفي أجواء المعبد. فإنَّ طبيعة الدور الذي تتحدّث عنه الآية يفرض أن يشمل التشريع كلّ جوانب الحياة التي تكون مثاراً للاختلاف، وأن يكون لكلّ مشكلة حلّها العادل الذي تستقيم له الحياة وتخضع له.
إنَّ الاختلاف الحاصل بين النّاس، لا سيما في نطاق الاختلافات الدينية، لم ينطلق غالباً من اختلافٍ في الاجتهاد، بل من البغي الذي يعيش في نفوس النّاس، ممّا يدفعهم إلى استغلال الغموض في بعض المفاهيم أو المواقف الدينية لخدمة مصالحهم الخاصة، ما يجعل من هذه الخلافات حالة مَرَضيّة، لا حالة صحيّة.
الذين يحبون الحقيقة ينفتحون على الحوار:
إنَّ الآية الكريمة تقرّر أنَّ الذين يواجهون الحقيقة من موقع إخلاصهم لها، يعملون بكلّ قوّة من أجل الوصول إليها، فينفتحون على أجواء الحوار، ويستمعون لوجهة النظر المعارضة، ويدفعون الفكر في اتجاه التعمّق في دراسة الفكرة لمعرفة كلّ سلبياتها أو إيجابياتها، ويتحملون كلّ الجهد اللازم من أجل ذلك حتى يصلوا إليها ليرتبطوا بها، وهذا ما عبّرت عنه الآية بقوله تعالى: {فَهَدَى اللّه الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}. فإنَّ طبيعة الإيمان تفرض على الإنسان أن لا يستسلم إلى حالات الاسترخاء الفكرية التي تتقبل الأفكار الموروثة من دون أن تكلّف نفسها عناء التعب في إعادة النظر فيها من موقع الفكر والمعاناة، لأنه يعتبر الإيمان بالحقّ مسؤولية الإنسان المؤمن بالبحث عن قواعده وآفاقه، كما أنه يجد في الفكر الذي يحمله منطلق المسؤولية في كلّ قناعاته وأفكاره.
أمّا معنى «إذن اللّه» في الهداية، فلعلّه السنن الإلهية في أسباب الهداية وعواملها، ممّا إذا أخذ به الإنسان اهتدى إلى الحقّ، ككلّ سبب يحصل بحصول مسببه، ولا ينافي ذلك الاختيار، لأنَّ إرادة الإنسان ووعيه وإقباله على الأخذ بهذه العوامل، هو أحد مظاهر هذه السنن الإلهية في عالم الهداية.
وفي ضوء ذلك، يمكننا أن نستوحي الفكرة التالية، وهي أنَّ استمرار الخلافات يرجع إلى ابتعاد النّاس عن الأخذ بأسباب الهداية، والتزامهم موقف التزمت والتعصب في ما يعتقدون، وعدم إقبالهم على أجواء الحوار لمصلحة الحقّ، الأمر الذي يمثّل حاجزاً نفسياً ضدّ الالتقاء بالحقّ، لأنَّ للحقّ دلائل وعلامات لا بُدَّ للإنسان من أن يذعن لها إذا التقى بها أو بحث عنها في الطريق. ولا يمكن للإنسان أن يدعي عدم التمكن من الوصول إليه من موقع فقدان الوسائل، بل لا بُدَّ له من أن يبحث عن ذلك في تجميده لطاقاته عن الحركة، وفي إغفال وعيه عن البحث والدخول في مجالات الحوار، فقد تكفّل اللّه بهداية الذين يتحرّكون في خطّ الهداية من خلال وسائلها الطبيعية.
اختلاف في أمر الدِّين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم،
واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسببٌ لتشريع الدِّين. ثُمَّ هدى اللّه سبحانه المؤمنين إلى الحقّ المختلف فيه بإذنه.