قوله تعالى : { وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً لكن الراسخون في العلم منهم } ، يعني : ليس كل أهل الكتاب بهذه الصفة ، لكن الراسخون البالغون في العلم أولوا البصائر ، وأراد به : الذين أسلموا من علماء اليهود مثل عبد الله بن سلام وأصحابه . قوله تعالى : { والمؤمنون } ، يعني : المهاجرين والأنصار .
قوله تعالى : { يؤمنون بما أنزل إليك } ، يعني : القرآن .
قوله تعالى : { وما أنزل من قبلك } ، يعني : سائر الكتب المنزلة .
قوله تعالى : { والمقيمين الصلاة } ، اختلفوا في وجه انتصابه ، فحكي عن عائشة رضي الله عنها ، وأبان بن عثمان ، أنه غلط من الكاتب ، ينبغي أن يكتب : والمقيمون الصلاة ، وكذلك قوله في سورة المائدة : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون } [ المائدة :62 ] ، وقوله { إن هذان لساحران } [ طه :63 ] قالوا : ذلك خطأ من الكاتب . وقال عثمان : إن في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيره ؟ فقال : دعوه فإنه لا يحل حراماً ، ولا يحرم حلالاً . وعامة الصاحبة وأهل العلم على أنه صحيح ، واختلفوا فيه ، قيل : هو نصب على المدح ، وقيل : نصب على إضمار فعل تقديره : أعني المقيمين الصلاة ، وهم المؤتون الزكاة ، وقيل : موضعه خفض . واختلفوا في وجهه ، فقال بعضهم : معناه لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين الصلاة ، وقيل : معناه يؤمنون بما أنزل إليك ، وإلى المقيمين الصلاة .
قوله تعالى : { والمؤتون الزكاة } . رجوع إلى النسق الأول .
قوله تعالى : { والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً } ، قرأ حمزة : { سيؤتيهم } بالياء ، والباقون بالنون .
{ لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } .
وقوله { الراسخون } جمع راسخ . ورسوخ الشئ ثباته وتمكنه . يقال شجرة راسخة ، أى ثابتة قوية لا تزحزحها الرياح ولا العواصف . والراسخ فى العلم هو المتحقق فيه ، الذى لا تؤثر فيه الشبه المتقن لما يعلمه إتقانا يبعده عن الميل والانحراف عن الحق .
وقوله ، { لكن الراسخون فِي العلم } استدراك من قوله قبل ذلك { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } وبيان لكونه بعض أهل الكتاب على خلاف حال عامتهم فى العاجل والآجل .
والمعنى : إن حال اليهود على ما وصف لكم من سوء خلق فى الدنيا ، ومن سوء عاقبة فى الآخرة ، { لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ } أى الثابتون فيه ، المتقنون المستبصرون الذين أدركوا حقائقه وصدقوها وأذعنوا لها ، ورسخت فى نفوسهم رسوخا ليس معه شبهة تفسده ، أو هوى يعبث به ، أو ريب يزعزعه .
{ والمؤمنون } أى منهم . وقد وصفوا بالإِيمان بعد وصفهم بما يوجبه وهو الرسوخ فى العلم بطريق العطف المبنى على المغايرة المتعاطفين تنزيلا للاختلاف العنوانى منزلة الاختلاف الذاتى .
وقوله { يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ } خبر لقوله { الراسخون } . أى هؤلاء الراسخون فى العلم من أهل الكتاب والمؤمنين منهم بالحق ، يؤمنون بما أنزل إليك من قرآن ، ويؤمنون بما { أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } من كتب سماوية على أنبياء الله ورسله .
وقوله : { والمقيمين الصلاة } للعلماء فيه وجوه من الإعراب أشهرها أنه منصوب على المدح . أى : وأمدح المقيمين الصلاة .
قال صاحب الكشاف : وقوله { والمقيمين الصلاة } نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع . وقد كسره سيبويه على أمثله وشواهد . ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا فى خط المصحف : ورما التفت إليه من لم ينظر فى الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم فى النصب على الاختصاص من الافتنان وغبى عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإِنجيل ، كانوا أبعد همة فى الغيرة على الإِسلام ، وذب المطاعن عنه ، من أن يتكروا فى كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم . وخرقا يوفوه من يلحق بهم وقيل : هو عطف على { بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ } أى : يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء . وفى مصحف عبد الله : { والمقيمين } بالواو : وهى قراءة مالك بن دينار ، والجحدرى ، وعيسى الثقفى .
وقوله : { والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر } معطوف على { الراسخون } أو على الضمير المرفوع فى { يُؤْمِنُونَ } .
أو على أنه مبتدأ والخبر ما بعده وهو قوله . { أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } .
والمراد بالجميع مؤمنو أهل الكتاب الصادقون فى إيمانهم . فقد وصفهم - أولا - بالرسوخ فى العلم ، ثم وصفهم - ثانيا - بالإِيمان الكامل بما أوحاه الله على أنبيائه من كتب وهدايات ، ثم مدحهم - ثالثا - بإقامة الصلاة إقامة مستوفية لكل أركانها وسننها وآدابها وخشوعها ، ثم وصفهم - رابعاً - بإيتاء الزكاة لمستحقيها ، ثم وصفهم - خامسا - بالإِيمان بالله إيماناً حقاً ، وبالإِيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب .
وبعد هذا الوصف الكريم لهؤلاء المؤمنين الصادقين ، بين - سبحانه - حسن عاقبتهم فقال : { أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } .
أى : أولئك الموصفون بتلك الصفات الجليلة سنؤتيهم يوم القيامة أجرا عظيم لا يعلم كنهه إلا علام الغيوب ، لأنهم جمعوا بين الإِيمان الصحيح وبين العمل الصالح .
هذا . والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، يراها من أجمع الآيات التى تحدثت عن أحوال اليهود ، وعن أخلاقهم السيئة ، وعن فنون من راذئلهم وقبائحهم . . . . فأنت تراها - أولا - ستجل عليهم أسئلتهم المتعنتة وسوء أدبهم مع الله ، وعبادتهم للعجل من بعد أن قامت لديهم الأدلة على أن العبادة لا تكون إلا لله وحده ، وعصيانهم لأوامر الله ونواهيه ، ونقضهم للعهود والمواثيق ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقولهم قلوبنا غلف ، وبتهتهم لمريم القانتة العابدة الطاهرة ، وقولهم : إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله . . . إلى غير ذلك من الرذائل التى سجلها الله عليهم .
ثم تراها - ثانيا - تذكرهم وتذكر الناس جميعا ببعض مظاهر رحمة الله بهم ، وعفوه عنهم ، ونعمه عليهم ، كما تذكرهم - أيضا - وتذكر الناس جميعا ، ببعض العقوبات التى عاقبهم بها بسبب ظلمهم وبغيهم .
وكأن الآيات الكريمة تقول لهم وللناس إن نعم الله على عباده لا تحصى ورحمته بهم واسعة ، فاشكروه على نعمه ، وتوبوا إليه من ذنوبكم ، فإن الإِصرار على الماصى يؤدى إلى سوء العاقبة فى الدنيا والآخرة .
ثم تراها - ثالثاً - تدافع عن عيسى وأمه دفاعا عادلا مقنعاً وتبرئهما مما نسبه أهل الكتاب إليهما من زور وبهتان ، وتصرح بأن أهل الكتاب لا حجة عندهم فيما تقولوه على عيسى وعلى أمه مريم ، وأنهم فى أقوالهم ما يتبعون إلا الظن ، { وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً } ثم تسوق الحقيقة التى لا باطل معها في شأن عيسى ، بأن تبين بأن الذين زعموا أنهم قتلوه كاذبوم مفترون فإنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ، وسيؤمنون به عند نزوله فى آخر الزمان ، أو عندما يكونون فى اللحظات الأخيرة من حياتهم ، حين لا ينفع الإِيمان .
ثم تراها - رابعاً - لا تعمم فى أحكامها ، وإنما تحق الحق وتبطل الباطل فهى بعد أ ، تبين ما عليه اليهود من كفر وظلم وفسوق عن أمر الله ، وتتوعدهم بالعذاب الشديد فى الآخرة .
بعد كل ذلك تمدح الراسخين فى العلم منهم مدحا عظيما ، وتكرم المؤمنين الصادقين منهم تكريما عظيما ، وتبشرهم بالأجر الحزيل الذى يشرح صدورهم ، ويطمئن قلوبهم . { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } هذا جانب مما اشتملت عليه هذه الآيات من عبر وعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ } وبعد هذا الحديث المستفيض عن شبهات اليهود وسوء طباعهم
ثم قال تعالى : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ } أي : الثابتون في الدين لهم قدم راسخة في العلم النافع . وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران .
{ وَالْمُؤْمِنُونَ } عطف على الراسخين ، وخبره { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ }
قال ابن عباس : أنزلت في عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية . وأسد وزيد بن سعية وأسد بن عبيد ، الذين دخلوا في الإسلام ، وصدقوا بما أرسل الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } هكذا هو في جميع المصاحف الأئمة ، وكذا هو في مصحف أُبَيّ بن كعب . وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود : " والمقيمون الصلاة " ، قال : والصحيح قراءة الجميع . ثم رَدّ على من زعم أن ذلك من غلط الكُتَّاب{[8717]} ثم ذكر اختلاف الناس فقال بعضهم : هو منصوب على المدح ، كما جاء في قوله : { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } [ البقرة : 177 ] ، قالوا : وهذا سائغ في كلام العرب ، كما قال الشاعر{[8718]} :
لا يَبْعَدَن قومي الذين همُو *** سُمّ{[8719]} العداة وآفة الجُزرِ
النازلين بكل مُعَْتركٍ *** والطَّيّبُونَ مَعَاقِدَ الأزْرِ
وقال آخرون : هو مخفوض عطفا على قوله : { بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ } يعني : وبالمقيمين الصلاة .
وكأنه يقول : وبإقامة الصلاة ، أي : يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم ، أو أن المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة ، وهذا اختيار ابن جرير ، يعني : يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك ، وبالملائكة . وفي هذا نظر والله أعلم .
وقوله : { وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال ، ويحتمل زكاة النفوس ، ويحتمل الأمرين ، والله أعلم .
{ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : يصدقون بأنه لا إله إلا الله ، ويؤمنون بالبعث بعد الموت ، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها .
وقوله : { أُولَئِكَ } هو الخبر عما تقدم { سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } يعني : الجنة .
{ لكن الراسخون في العلم منهم } كعبد الله بن سلام وأصحابه . { والمؤمنون } أي منهم أو من المهاجرين والأنصار . { يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } خبر المبتدأ { والمقيمين الصلاة } نصب على المدح إن جعل يؤمنون الخبر لأولئك ، أو عطف على ما أنزل إليك والمراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي : يؤمنون بالكتب والأنبياء . وقرئ بالرفع عطفا على { الراسخون } أو على الضمير في { يؤمنون } أو على أنه مبتدأ والخبر { أولئك سنؤتيهم } . { والمؤتون الزكاة } رفعه لأحد الأوجه المذكورة . { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } قدم عليه الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع لأنه المقصود بالآية . { أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما } على جمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح وقرأ حمزة { سيؤتيهم } بالياء .
ثم استثنى الله تعالى من بني إسرائيل «الراسخين » في علم التوراة الذين قد تحققوا أمر محمد عليه السلام وعلاماته ، وهم : عبد الله بن سلام ، ومخيريق{[4369]} ، ومن جرى مجراهما ، { والمؤمنون } : عطف على الراسخين ، و «ما أنزل » إلى محمد هو القرآن ، والذي أنزل من قبله : هو التوراة والإنجيل ، واختلف الناس في معنى قوله { والمقيمين } وكيف خالف إعرابها إعراب ما تقدم وتأخر ، فقال أبان بن عثمان بن عفان{[4370]} وعائشة رضي الله عنها : ذلك من خطأ كاتب المصحف ، وروي أنها في مصحف أبيّ بن كعب «والمقيمون » وكذلك روى غصمة عن الأعمش ، وكذلك قرأ سعيد بن جبير ، وكذا قرأ عمرو بن عبيد والجحدري وعيسى بن عمر ومالك بن دينار ، وكذلك روى يونس وهارون عن أبي عمرو ، وقال آخرون : ليس ذلك من خطأ الكاتب ولا خطأ في المصحف ، وإنما هذا من قطع النعوت إذا كثرت على النصب ب( أعني ) والرفع بعد ذلك ب ( هم ) وذهب إلى هذا المعنى بعض نحويي الكوفة والبصرة ، وحكي عن سيبويه : أنه قطع على المدح ، وخبر { لكن } { يؤمنون } لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة الأولى ، وهذا كقول خرنق بنت هفان : [ الكامل ]
لاَ يَبْعَدَنْ قَومِي الّذِينَ هُمُ *** سُمُّ العُداةِ وَآفَةُ الجزْرِ
النَّازلينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكِ *** والطَّيّبُونَ مَعَاقِدَ الأزرِ{[4371]}
قال القاضي أبو محمد : وقد فرق بين الآية والبيت بحرف العطف الذي في الآية ، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل ، وفي هذا نظر{[4372]} .
وقال قوم : قوله تعالى { والمقيمين } ليس بعطف على قوله { والمؤمنون } ولكن على { ما } في قوله { وما أنزل من قبلك } والمعنى يؤمنون بالمقيمين الصلاة وهم الملائكة ، وقال بعضهم : بل من تقدم من الأنبياء ، قالوا : ثم رجع بقوله { والمؤتون } فعطف على قوله { والمؤمنون } وقال قوم { والمقيمين } عطف على { ما أنزل } ، والمراد بهم المؤمنون بمحمد ، أي يؤمن الراسخون بهم وبما هم عليه ، ويكون قوله { المؤتون } أي وهم المؤتون ، وقال قوم { والمقيمين } عطف على الضمير في منهم ، وقال آخرون : بل على الكاف في قوله { من قبلك } ويعني الأنبياء ، وقرأت فرقة «سنؤتيهم » بالنون ، و قرأت فرقة «سيؤتيهم » بالياء{[4373]} .