قوله تعالى : { وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين } ، عامة أهل العلم قالوا : إنه موسى بن عمران . وقال بعضهم : هو موسى بن ميشا من أولاد يوسف ، والأول أصح .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا الحميدي ، ثنا سفيان ، ثنا عمرو بن دينار ، أخبرني سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل ، فقال ابن عباس : كذب عدو الله ، حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل ، فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا ، فعتب الله عليه ، إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبداً بمجمع البحرين ، هو أعلم منك ، قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال : تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثمة . فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق ، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون ، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما ، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر ، فاتخذ سبيله في البحر سرباً ، وأمسك الله تعالى عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق ، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد ، قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ، قال : ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به ، وقال له فتاه : ( أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ، واتخذ سبيله في البحر عجباً ) ، قال : فكان للحوت سرباً ولموسى ولفتاه عجباً ، وقال موسى : ذلك ما كنا نبغ . قال : رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجي بثوب ، فسلم عليه موسى ، فقال الخضر عليه السلام : وأنى بأرضك السلام ، فقال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً ، قال : إنك لن تستطيع معي صبراً يا موسى ، إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمك الله ، لا أعلمه ، فقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً ، فقال له الخضر : فإن اتبعتني ( فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً فانطلقا ) يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، فحملوهم بغير نول حتى إذا ركب في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قد حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ؟ لقد جئت شيئاً إمراً ! قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً ؟ قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً ، فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فكانت الأولى من موسى نسياناً والوسطى شرطاً والثالثة عمداً ، قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرةً فقال له الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله ، فقال له موسى : ( أقتلت نفساً زكية بغير نفس ؟ لقد جئت شيئاً نكراً ، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً ) ؟ قال : وهذه أشد من الأولى ، قال : ( إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني ، قد بلغت من لدني عذراً ، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما ، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض ) قال : كان مائلا ، فقال الخضر بيده فأقامه ، قال : كان مائلاً ، فقال الخضر بيده فأقامه ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ، ولم يضيفونا ، ( لو شئت لاتخذت عليه أجراً ، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً ) . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما " . قال سعيد بن جبير : فكان ابن عباس يقرأ : وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً ، وكان يقرأ : وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين . وعن سعيد بن جبير في رواية أخرى عن ابن عباس عن أبي بن كعب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قام موسى رسول الله فذكر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال : أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك ؟ قال لا - فعتب الله عليه ، إذ لم يرد العلم إلى الله - قيل : - بلى عبدنا الخضر قال : يا رب وأين ؟ قال : بمجمع البحرين ، قال : خذ حوتاً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح ، وفي رواية قيل له : تزود حوتاً مالحاً فإنه حيث تفقد الحوت ، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل " . رجعنا إلى التفسير ، قوله : { وإذ قال موسى لفتاه } ، يوشع بن نون ، { لا أبرح } أي لا أزال أسير { حتى أبلغ مجمع البحرين } ، قال قتادة : بحر فارس ، وبحر الروم ، مما يلي المشرق . وقال محمد بن كعب : طنجة . وقال أبي بن كعب : أفريقية . { أو أمضي حقباً } أي : وإن كان حقباً أي : دهراً طويلاً وزمانا ، وجمعه أحقاب ، والحقب : جمع الحقب . قال عبد الله بن عمر : والحقب ثمانون سنة ، فحملا خبزاً وسمكة مالحة حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ليلاً وعندها عين تسمى ماء الحياة لا يصيب ذلك الماء شيئاً إلا حيي ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وعاشت ودخلت البحر .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : اعلم أن هذا ابتداء قصة ثالثة ذكرها الله - تعالى - فى هذه السورة ، وهى أن موسى - عليه السلام - ذهب إلى الخضر ليتعلم منه ، وهذا وإن كان كلاما مستقلا فى نفسه إلا أنه يعين على ما هو المقصود فى القصتين السابقتين : أما نفع هذه القصة فى الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين ، فهو أن موسى مع كثرة علمه وعمله . . ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له .
وأما نفع هذه القصة فى قصة أصحاب الكهف ، فهو أن اليهود قالوا لكفار مكة : " إن أخبركم محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه القصة فهو نبى وإلا فلا ؛ وهذا ليس بشىء . لأنه لا يلزم من كونه نبيا أن يكون عالما بجميع القصص كما أن كون موسى نبيا لم يمنعه من الذهاب ليتعلم منه " .
وموسى - عليه السلام - هو ابن عمران ، وهو أحد أولى العزم من الرسل ، وينتهى نسبه إلى يعقوب - عليه السلام - .
وفتاه : هو يوشع بن نون ، وسمى بذلك لأنه كان ملازما لموسى - عليه السلام - ويأخذ عنه العلم .
وقوله : { لا أبرح } أى : لا أزال سائرا . ومنه قوله - تعالى - { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ } من برح الناقص .
قال الجمل : " واسمها مستتر وجوبا ، وخبرها محذوف ، تقديره : لا أبرح سائرا ، وقوله { حتى أبلغ } . . غاية لهذا المقدر . ويحتمل أنها تامة فلا تستدعى خبرا ، بمعنى : لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه حتى أبلغ . . " .
و { مجمع البحرين } : المكان الذى فيه يلتقى البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط .
قال الآلوسى : " والمجمع : الملتقى ، وهو اسم مكان . . والبحران : بحر فارس والروم ، كما روى عن مجاهد وقتادة وغيرهما وملتقاهما : مما يلى المشرق ولعل المراد مكان يقرب فيه التقاؤهما . . وقيل البحران : بحر الأردن وبحر القلزم . . " .
وقال بعض العلماء : " والأرجح - والله أعلم - أن مجمع البحرين : بحر الروم وبحر القلزم .
أى : البحر الأبيض والبحر الأحمر . ومجمعهما مكان التقائهما فى منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح . أو أنه مجمع خليجى العقبة والسويس فى البحر الأحمر . فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر ، وعلى أية حال فقد تركها القرآن مجملة فنكتفى بهذه الإِشارة " .
والمعنى : واذكر - أيها الرسول الكريم - لقومك لكى يعتبروا ويتعظوا وقت أن قال أخوك موسى - عليه السلام - لفتاه يوشع بن نون ، اصحبنى فى رحلتى هذه فإنى لا أزال سائرا حتى أصل إلى مكان التقاء البحرين ، فأجد فيه بغيتى ومقصدى ، { أو أمضى } فى سيرى { حقبا } أى : زمنا طويلا ، إن لم أجد ما أبتغيه هناك .
والحقب - بضم الحاء والقاف - جمعه أحقاب ، وفى معناه : الحقبة - بكسر الحاء - وجمعها حقب - كسدرة وسدر - والحقبة - بضم الحاء - وجمعها : حقب كغرفة وغرف - قيل : مدتها ثمانون عاما . وقيل سبعون . وقيل : زمان من الدهر مبهم غير محدد .
والآية الكريمة تدل بأسلوبها البليغ ، على أن موسى - عليه السلام - كان مصمما على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة فى سبيل ذلك ، ومهما يكن الزمن الذى يقطعه فى سبيل الوصول إلى غايته وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه عنه القرآن بقوله : { أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } .
وقد أشار الآلوسى - رحمه الله - إلى سبب تصميم موسى على هذه الرحلة فقال : وكأن منشأ عزيمة موسى - عليه السلام - على ما ذكره ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبى بن كعب ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن موسى - عليه السلام - قام خطيبا فى بنى إسرائيل فسئل : أى الناس أعلم ؟ فقال : أنا . فعاتبه الله - تعالى - عليه ، إذ لم يرد العلم إليه - سبحانه - فأوحى الله - تعالى - إليه : إن لى عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك " .
وفى رواية أخرى عنه عن أبى - أيضا - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن موسى - عليه السلام - سأل ربه فقال : أى رب إن كان فى عبادك أحد هو أعلم منى فدلنى عليه فقال له : " نعم فى عبادى من هو أعلم منك ، ثم نعت له مكانه وأذن له فى لقائه " " .
الواحدة الرابعة : 60 - 82 الموضوع : قصة موسى مع الخضر
هذه الحلقة من سيرة موسى - عليه السلام - لا تذكر في القرآن كله إلا في هذا الموضع من هذه السورة . والقرآن لا يحدد المكان الذي وقعت فيه إلا بأنه ( مجمع البحرين ) ولا يحدد التاريخ الذي وقعت فيه من حياة موسى ، هل كان ذلك وهو في مصر قبل خروجه ببني إسرائيل أم بعد خروجه بهم منها ? ومتى بعد الخروج : قبل أن يذهب بهم إلى الأرض المقدسة ، أم بعد ما ذهب بهم إليها فوقفوا حيالها لا يدخلون لأن فيها قوما جبارين ? أم بعد ذهابهم في التيه ، مفرقين مبددين ?
كذلك لا يذكر القرآن شيئا عن العبد الصالح الذي لقيه موسى . من هو ? ما اسمه ? هل هو نبي أو رسول ? أم عالم ? أم ولي ?
وهناك روايات كثيرة عن ابن عباس وعن غيره في هذه القصة . ونحن نقف عند نصوص القصة في القرآن . لنعيش " في ظلال القرآن " ونعتقد أن لعرضها في القرآن على النحو الذي عرضت به ، دون زيادة ، ودون تحديد للمكان والزمان والأسماء ، حكمة خاصة . فنقف نحن عند النص القرآني نتملاه . .
( وإذ قال موسى لفتاه : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) . .
والأرجح - والله أعلم - أنه مجمع البحرين : بحر الروم وبحر القلزم . أي البحر الأبيض والبحر الأحمر . . ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح . أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر . فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر . وعلى أي فقد تركها القرآن مجملة فنكتفي بهذه الإشارة .
ونفهم من سياق القصة فيما بعد - أنه كان لموسى - عليه السلام - هدف من رحلته هذه التي اعتزمها ، وأنه كان يقصد من ورائها أمرا ، فهو يعلن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة ، ومهما يكن الزمن الذي ينفقه في الوصول . وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه القرآن من قوله : ( أو أمضي حقبا )والحقب قيل عام ، وقيل ثمانون عاما . على أية حال فهو تعبير عن التصميم ، لا عن المدة على وجه التحديد .
وقوله { وإذ قال موسى } الآية ابتداء قصة ليست من الكلام الأول ، المعنى : اذكر واتل ، و { موسى } هو موسى بن عمران بمقتضى الأحاديث والتواريخ وبظاهر القرآن ، إذ ليس في القرآن موسى غير واحد ، وهو ابن عمران ولو كان في هذه الآية غيره لبينه ، وقالت فرقة منها نوف البكالي أنه ليس موسى بن عمران ، وهو موسى بن مشنى ، ويقال ابن منسى ، وأما «فتاه » فعلى قول من قال موسى بن عمران ، فهو يوشع بن نون بن إفراييل بن يوسف بن يعقوب ، وأما من قال هو موسى بن مشنى فليس الفتى يوشع بن نون ، ولكنه قول غير صحيح ، رده ابن عباس وغيره و «الفتي » في كلام العرب الشاب ، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتياناً ، قيل للخادم فتى ، على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم :
«لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي »{[7841]} ، فهذا اندب إلى التواضع ، و «الفتى » في الآية هو الخادم ، ويوشع بن نون يقال هو ابن أخت موسى عليه السلام ، وسبب هذه القصة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى جلس يوماً في مجلس لبني إسرائيل ، وخطب فأبلغ ، فقيل له هل تعلم أحداً أعلم منك قال لا ، فأوحى الله إليه بلى : عبدنا خضر{[7842]} ، فقال يا رب دلني على السبيل إلى لقيه{[7843]} ، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ { مجمع البحرين } فإذا فقدت الحوت فإنه هنالك ، وأمر أن يتزود حوتاً ، ويرتقب زواله عنه ، ففعل موسى ذلك وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة { لا أبرح } أسير ، أي لا أزال ، وإنما قال هذه المقالة وهو سائر ، ومن هذا قول الفرزدق : [ الطويل ]
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم . . . ببطحاء ذي قار عياب اللطائم{[7844]}
وذكر الطبري عن ابن عباس : قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر ، أنزل قومه بمصر ، فلما استقرت الحال خطب يوماً ، فذكر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل ، ثم ذكر نحو ما تقدم ، وما مر بي قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام ، وما أراه يصح ، بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين ، وفي هذه القصة من الفقه الرحلة في طلب العلم ، والتواضع للعالم ، وقرأ الجمهور «مَجمَع » بفتح الميمين ، وقرأ الضحاك «مَجمِع » بكسر الميم الثانية ، واختلف الناس في { مجمع البحرين } أين هو ؟ فقال مجاهد وقتادة هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم .
قال القاضي أبو محمد : وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى الجنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام ، هو { مجمع البحرين } هو عند طنجة وهو حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه السائر من دبور إلى صبا . وروي عن أبي بن كعب أنه قال { مجمع البحرين } بإفريقية ، وهذا يقرب من الذي قبله ، وقال بعض أهل العلم هو بحر الأندلس من البحر المحيط ، وهذا كله واحد حكاه النقاش وهذا مما يذكر كثيراً ، ويذكر أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء ، وقالت فرقة { مجمع البحرين } يريد بحراً ملحاً وبحراً عذباً ، فعلى هذا إنما كان الخضر عند موقع نهر عظيم في البحر ، وقالت فرقة البحران إنما هما كناية عن موسى والخضر ، لأنهما بحرا علم ، وهذا قول ضعيف والأمر بين من الأحاديث أنه إنما رسم له ماء بحر ، وقوله { أو أمضي حقباً } معناه أو أمضي على وجهي زماناً ، واختلف القراء ، فقرأ الحسن والأعمش وعاصم «حقباً » بسكون القاف{[7845]} ، وقرأ الجمهور «حقباً » بضمه ، وهو تثقيل حقب ، وجمع الحقب أحقاب ، واختلف في الحقب ، فقال عبد الله بن عمرو ثمانون سنة ، وقال مجاهد سبعون ، وقال الفراء «الحقب » سنة واحدة وقال ابن عباس وقتادة أزمان غير محدودة وقالت فرقة «الحقب » جمع حقبة ، وفي السنة كأنه قال أو أمضي سنين .
لما جرى ذكر قصة خلق آدم وأمر الله الملائكة بالسجود له ، وما عرض للشيطان من الكبر والاعتزاز بعنصره جهلاً بأسباب الفضائل ومكابرةً في الاعتراف بها وحسداً في الشرف والفضل ، فَضرب بذلك مثلاً لأهل الضلال عبيد الهوى والكبر والحسد ، أعقبَ تلك القصة بقصة هي مَثل في ضدها لأن تطلب ذي الفضل والكمال للازدياد منهما وسعيه للظفر بمن يبلغه الزيادة من الكمال ، اعترافاً للفاضل بفضيلته . وفي ذلك إبداء المقابلة بين الخُلُقين وإقامة الحجة على المماثلة والمخالفة بين الفريقين المؤمنين والكافرين ، وفي خلال ذلك تعليم وتنويه بشأن العلم والهدى ، وتربية للمتقين .
ولأن هذه السورة نزلت بسبب ما سأل المشركون والذين أمْلَوا عليهم من أهل الكتاب عن قصتين قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين . وقد تقضى الجواب عن القصة الأولى وما ذيلت به ، وآن أن ينتقل إلى الجواب عن القصة الثانية فتختم بذلك هذه السورة التي أنزلت لبيان القصتين . قدمت لهذه القصة الثانية قصة لها شبه بها في أنها تَطواف في الأرض لطلب نفع صالح ، وهي قصة سفر موسى عليه السلام لطلب لقاء من هو على علم لا يعلمه موسى . وفي سوق هذه القصة تعريض بأهل الكتاب بأن الأولى لهم أن يدُلوا الناس على أخبار أنبياء إسرائيل وعلى سفر لأجل تحصيل العلم والحكمة لا سفر لأجل بسط الملك والسلطان .
فجملة { وإذ قال موسى } معطوفة على جملة { وإذ قلنا للملائكة } [ الكهف : 50 ] عطف القصة على القصة . والتقدير : واذكر إذ قال موسى لفتاه ، أي اذكر ذلك الزمن وما جرى فيه . وناسبها تقدير فعل اذكر لأن في هذه القصة موعظة وذكرى كما في قصة خلق آدم .
فانتصب ( إذ ) على المفعولية به .
والفتى : الذكَر الشاب ، والأنثى فتاة ، وهو مستعمل مجازاً في التابع والخادم . وتقدم عند قوله تعالى : { تراود فتاها } في سورة [ يوسف : 30 ] .
وفتى موسى : خادمه وتابعه ، فإضافة الفتى إلى ضمير موسى على معنى الاختصاص ، كما يقال : غُلامه . وفتى موسى هو يوشع بن نون من سبط أفرايم . وقد قيل : إنه ابن أخت موسى ، كان اسمه الأصلي هُوشع فدعاه موسى حين بعثه للتجسس في أرض كنعان يوشع . ولعل ذلك التغير في الاسم تلطف به ، كما قال رسول الله لأبي هريرة يا أبا هِرّ . وفي التوراة : أن إبراهيم كان اسمه أبرام فلما أمره الله بخصال الفطرة دعاه إبراهَام .
ولعل هذه التغييرات في العبرانية تفيد معاني غير معاني الأسماء الأولى فتكون كما دعا النبي زيْد الخَيل زيدَ الخير .
ويوشع أحد الرجال الإثني عشر الذين بعثهم موسى عليه السلام ليتجسسوا في أرض كنعان في جهات حلب وحبرون ويختبروا بأس أهلها وخيرات أرضها ومكثوا أربعين يوماً في التجسس .
وهو أحد الرجلين اللذين شجعا بني إسرائيل على دخول أرض كنعان اللذين ذكرهما القرآن في آية { قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } [ المائدة : 23 ] .
كان ميلاد يوشع في حدود سنة 1463 قبل المسيح ووفاته في حدود سنة 1353 وعمَّر مائة وعشر سنين ، وكان موسى عليه السلام قد قربه إلى نفسه واتخذه تلميذاً وخادماً ، ومثل ذلك الاتخاذ يوصف صاحبه بمثِل فتى أو غلام . ومنه وصفهم الإمام محمد بن عبد الواحد المطرز النحْوي اللغوي غلامَ ثعلب ، لشدة اتصاله بالإمام أحمد بن يحيى الشيباني الملقب بثعلب .
وكان يوشع أحد الرجلين اللذين عهد إليهما موسى عليه السلام بأن يقسما الأرض بين أسباط بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام . وأمر الله موسى بأن يعهد إلى يوشع بتدبير أمر الأمة الإسرائيلية بعد وفاة موسى عليه السلام فعهد إليه موسى بذلك فصار نبيئاً من يومئذٍ . ودبر أمر الأمة بعد موسى سبعاً وعشرين سنة . وكتاب يوشع هو أول كتب الأنبياء بعد موسى عليه السلام .
وابتدئت القصة بحكاية كلام موسى عليه السلام المقتضي تصميماً على أن لا يزول عما هو فيه ، أي لا يشتغل بشيء آخر حتى يبلغ مجمع البحرين ، ابتداء عجيباً في باب الإيجاز ، فإن قوله ذلك يدل على أنه كان في عَمل نهايته البلوغ إلى مكان ، فعلم أن ذلك العلم هو سَيْرُ سَفر .
ويدل على أن فتاهُ استعظم هذه الرحلة وخشي أن تنالهما فيها مشقة تعوقهما عن إتمامها ، أو هو بحيث يستعظمها للعلم بأنها رحلة بعيدة ، وذلك شأن أسباب الأمور المهمة ، ويدل على أن المكان الذي يسير إليه مكان يجد عنده مطلبه .
و{ أبرح } مضارع بَرِح بكسر الراء ، بمعنى زال يزول . وتقدم في سورة يوسف عليه السلام . واستعير { لا أبرح } لِمعنى : لا أترك ، أو لا أكف عن السير حتى أبلغ مجمع البحرين . ويجوز أن يكون مضارع بَرح الذي هو فعل ناقص لا يستعمل ناقصاً إلا مع النفي ويكون الخبر محذوفاً بقرينة الكلام ، أي لا أبرح سائراً . وعن الرضيّ أن حذف خبرها قليل .
وحُذف ذكر الغرض الذي سار لأجله موسى عليه السلام لأنه سيُذكر بعدُ ، وهو حذف إيجاز وتشويق ، له موقع عظيم في حكاية القصة ، لإخراجها عن مطروق القصص إلى أسلوب بديع الحِكم والأمثال قضاء لِحق بلاغة الإعجاز .
وتفصيل هذه القصة وارد في « صحيح البخاري » من حديث : « عمرو بن دينار ويعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبَيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل فسُئل : أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا . فعتَب الله عليه إذ لمْ يَردّ العلمَ إليه . فأوحى الله إليه : بلى عبدُنا خَضِرٌ هو أعلم منك .
قال : فأين هو ؟ قال : بمجمع البحرين . قال موسى عليه السلام : يا رب اجعل لي علَماً أعلم ذلك به . قال : تَأخذ معك حُوتاً في مِكَتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثَمّ ، فأخذ حوتاً فجعله في مِكتل وقال لفتاه يوشع بن نون : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ، قال ( أي فتاه ) : ما كلّفتَ كثيراً . ثم انطلق وانطلق بفتاه حتى إذا أتيا الصخرة وضعَا رؤوسهما فنامَا واضطرب الحوت في المِكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سَربَا وموسى نائم ، فقال فتاه ( وكان لم ينم ) : لا أوقظه وأمسك اللّهُ عن الحوت جَرية الماء فصار الماء عليه مثلَ الطاق ، فلما استيقظ ( موسى ) نسي صاحبُه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى عليه السلام لفتاه : آتنا غداءنَا لقد لَقينا من سفرنا هذا نصبَاً . قال : ولم يجد موسى النصَب حتى جاوزَ المكان الذي أمره الله به ( أي لأن الله ميسر أسباب الامتثال لأوليائه : فقال له فتاه : أرأيتَ إذ أَوَيْنا إلى الصخرة فإني نسيِتُ الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وأتخذ سبيله في البحر عجباً . قال : فكان للحوت سرباً ولموسى ولفتاه عجباً . فقال موسى : ذلك ما كنا نبغي ، فارتدا على آثارهما قصصاً ، قال : رجعا يَقُصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى ثوباً فسَلّم عليه موسى . فقال الخَضر : وأنى بأرضك السلام . . . الحديث .
قوله : « وأنى بأرضك السلام » استفهام تعجب ، والكاف خطاب للذي سلم عليه فكانَ الخضر يظن ذلك المكان لا يوجد به قوم تحيتهم السلام ، إما لكون ذلك المكان كان خلاء وإما لكونه مأهولاً بأمة ليست تحيتهم السلام .
وإنما أمسك الله عن الحوت جَرية الماء ليكون آية مشهودة لموسى عليه السلام وفتاه زيادة في أسباب قوة يقينهما ، ولأن المكان لما كان ظرفاً لظهور معجزات عِلم النبوءة ناسب أن يحف به ما هو خارق للعادة إكراماً لنزلاء ذلك المكان .
ومجمع البحرين لا ينبغي أن يختلف في أنه مكان من أرض فلسطين . والأظهر أنه مصب نهر الأردن في بحيرة طبرية فإنه النهر العظيم الذي يمر بجانب الأرض التي نزل بها موسى عليه السلام وقومه . وكانت تسمى عند الإسرائيليين بحر الجليل ، فإن موسى عليه السلام بلغ إليه بعد مسير يوم وليلة راجلاً فعلمنا أنه لم يكن مكاناً بعيداً جداً . وأراد موسى أن يبلغ ذلك المكان لأن الله أوحى إليه أن يجد فيه العبد الذي هو أعلم منه فجعله ميقاتاً له .
ومعنى كون هذا العبد أعلم من موسى عليه السلام أنه يعلم علوماً من معاملة الناس لم يعلّمها الله لموسى .
فالتفاوت في العلم في هذا المقام تفاوت بفنون العلوم ، وهو تفاوت نسبي .
والخضر : اسم رجل صالح . قيل : هو نبيء من أحفاد عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام . فهو الخضر بن ملكان بن فالغ بن عابر ، فيكون ابن عم الجد الثاني لإبراهيم عليه السلام . وقيل : الخضر لقبه . وأما اسمه فهو ( بليا ) بموحِدة أو إيليا بهمزة وتحتية .
واتفق الناس على أنه كان من المعمرين ، ثم اختلفوا في أنه لم يزل حياً اختلافاً لم يبن على أدلة مقبولة متعارفة ولكنه مستند إلى أقوال بعض الصوفية ، وهي لا ينبغي اعتمادها لكثرة ما يقع في كلامهم من الرموز والخلط بين الحياتين الروحية والمادية ، والمشاهدات الحسية والكشفية ، وقد جعلوه رمز العلوم الباطنية كما سيأتي .
وزعم بعض العلماء أن الخضر هو جرجس : وقيل : هو من ذرية عيسو بن إسحاق . وقيل : هو نبيء بعث بعد شعيب .
وجرجس المعني هو المعروف باسم مَار جرجس . والعرب يسمونه : مارَ سَرجس كما في « كتاب سيبويه » . وهو من أهل فلسطين ولد في الرملة في النصف الآخر من القرن الثالث بعد مولد عيسى عليه السلام وتوفي سنة 303 وهو من الشهداء . وهذا ينافي كونه في زمن موسى عليه السلام .
والخضر لقب له ، أي الموصوف بالخضرة ، وهي رمز البركة ، قيل : لقب خضراً لأنه كان إذا جلس على الأرض اخضرَّ ما حوله ، أي اخضرَّ بالنبات من أثر بركته . وفي « دائرة المعارف الإسلامية » ذكرت تخرصات تُلصق قصة الخضر بقصص بعضها فارسية وبعضها رومانية وما رَائدهُ في ذلك إلا مجرد التشابه في بعض أحوال القصص ، وذلك التشابه لا تخلو عنه الأساطير والقصص فلا ينبغي إطلاق الأوهام وراء أمثالها .
والمحقق أنّ قصة الخضر وموسى يهودية الأصل ولكنّها غير مسطورة في كتب اليهود المعبر عنها بالتوراة أو العهد القديم . ولعل عدم ذكرها في تلك الكتب هو الذي أقدم نَوفاً البِكالي على أن قال : إن موسى المذكور في هذه الآيات هو غير موسى بني إسرائيل كما ذكر ذلك في « صحيح البخاري » وأن ابن عباس كذب نَوفاً ، وسَاق الحديث المتقدم .
وقد كان سبب ذكرها في القرآن سؤال نفر من اليهود أو من لقنهم اليهودُ إلقاء السؤال فيها على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } [ الإسراء : 85 ] .
واختلف اليهود في أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران الرسول وأن فتاه هو يوشع بن نون ، فقيل : نعم ، وقد تأيد ذلك بما رواه أبي بن كعب عن النبي وقيل : هو رجل آخر اسمه موسى بن ميشا ( أو مِنسه ) ابن يوسف بن يعقوب . وقد زعم بعض علماء الإسلام أن الخضر لقي النبي وعُدّ من صحابته . وذلك توهم وتتبع لخيال القصاصين .
وسمي الخضر بليا بن ملكان أو إيليا أو إلياس ، فقيل : إن الخضر هو إلياس المذكور في سورة يس .
ولا يصح أن يكون الخضر من بني إسرائيل إذ لا يجوز أن يكون مكلفاً بشريعة موسى ويقره موسى على أفعال لا تبيحها شريعته . بل يتعين أن يكون نبيئاً موحى إليه بوحي خاص ، وعَلِم موسى أنه من أمة غير مبعوث موسى إليها . ولما علم موسى ذلك مما أوحى الله إليه من قوله : بلَى عبدنا خضر هو أعلم منك . كما في حديث أبَي بن كعب ، لم يَصرفه عنه ما رأى من أعماله التي تخالف شريعة التوراة لأنه كان على شريعة أخرى أمةً وحده . وأما وجوده في أرض بني إسرائيل فهو من السياحة في العبادة ، أو أمره الله بأن يحضر في المكان الذي قدره للقاء موسى رفقاً بموسى عليه السلام .
ومعنى { أو أمضي } أو أسير . والمضي : الذهاب والسير .
والحُقُب بضمتين اسم للزمان الطويل غير منحصر المقدار ، وجمعه أحقاب .
وعطف { أمضي } على { أبلغ } ب ( أو ) فصار المعطوف إحدى غايتين للإقلاع عن السير ، أي إما أن أبلغ المكان أو أمضي زمناً طويلاً . ولما كان موسى لا يخامره الشك في وجود مكان هو مجمع للبحرين وإلفاء طلبته عنده ، لأنه علم ذلك بوحي من الله تعالى ، تعين أن يكون المقصود بحرف الترديد تأكيد مضيه زمناً يتحقق فيه الوصول إلى مجمع البحرين . فالمعنى : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين بسير قريب أو أسير أزماناً طويلة فإني بالغ مجمع البحرين لا محالة ، وكأنه أراد بهذا تأييس فتاه من محاولة رجوعهما ، كما دل عليه قوله بعد { لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصباً } [ الكهف : 62 ] .
أو أراد شحْذ عزيمة فتاه ليساويه في صحة العزم حتى يكونا على عزم متحد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ قال موسى لفتاه}، يوشع بن نون... {لا أبرح}، يعني: لا أزال أطلب الخضر... {حتى أبلغ مجمع البحرين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد إذ قال موسى بن عمران لفتاه يوشع:"لا أَبْرَحُ" يقول: لا أزال أسير "حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْن."...
وقوله: "أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا "يقول: أو أسير زمانا ودهرا...
وذكر بعض أهل العلم بكلام العرب، أن الحقب في لغة قيس: سنة، فأما أهل التأويل فإنهم يقولون في ذلك ما أنا ذاكره، وهو أنهم اختلفوا فيه؛ فقال بعضهم: هو ثمانون سنة... وقال آخرون: هو سبعون سنة... عن ابن عباس، قوله: "أوْ أمْضِيَ حُقُبا" قال: دهرا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أهل التأويل: {لا أبرح} أي لا أزال حتى أبلغ كذا. فإن كان على هذا فهو ظاهر، ولا حرف البراح عن المكان، أي لا أبرح المكان {حتى أبلغ مجمع البحرين} وهو كأنه على الإضمار، أي لا أبرح أسير معك حتى أبلغ كذا... وقال بعضهم: سماه فتى لأنه كان خادمه يخدمه. وقال بعضهم: سماه فتى لأنه يتبعه ويصحبه، ليتعلم منه العلم. وقوله تعالى: {مجمع البحرين} أي: ملتقى البحرين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لِفَتَاهُ... وهو اسمُ كرامةٍ لا اسمُ علامةٍ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... فإن قلت: {لا أَبْرَحُ} إن كان بمعنى لا أزول -من برح المكان- فقد دلّ على الإقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى: لا أزال، فلا بدّ من الخبر، قلت: هو بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر؛ لأنّ الحال والكلام معاً يدلان عليه. أمّا الحال فلأنها كانت حال سفر. وأمّا الكلام فلأن قوله: {حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} غاية مضروبة وتستدعي ما هي غاية له، فلا بدّ أن يكون المعنى: لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى: لا يبرح مسيري حتى أبلغ، على أن حتى أبلغ هو الخبر، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم، وهو وجه لطيف. ويجوز أن يكون. المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى: ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ، كما تقول: لا أبرح المكان. ومجمع البحرين: المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام... {أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً} أو أسير زماناً طويلاً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {وإذ قال موسى} الآية ابتداء قصة ليست من الكلام الأول، المعنى: اذكر واتل، و {موسى} هو موسى بن عمران بمقتضى الأحاديث والتواريخ وبظاهر القرآن، إذ ليس في القرآن موسى غير واحد، وهو ابن عمران ولو كان في هذه الآية غيره لبينه،... و «الفتي» في كلام العرب الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتياناً، قيل للخادم فتى، على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي»، فهذا اندب إلى التواضع، و «الفتى» في الآية هو الخادم،...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
وفي الحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أن موسى عليه السلام جَلَسَ يَوْماً في مَجْلِسٍ لَبني إِسْرَائيلَ، وخَطَبَ، فأَبْلَغَ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لاَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، دُلَّنِي عَلَى السَّبِيلِ إِلى لقيه، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ بطُوِلِ سَيْفِ البَحْرِ، حَتَّى يَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، فَإِذَا فَقَدَ الحُوتَ، فإِنَّهُ هُنَالِكَ، وأُمِرَ أَنْ يَتَزَوَّدَ حُوتاً، وَيَرْتَقِبَ زَوَالَهُ عَنْهُ، فَفَعَلَ مُوسى ذَلِكَ، وَقَالَ لِفَتَاهُ على جِهَةِ إِمْضَاءِ العَزِيمَةِ: لاَ أَبْرَحُ أَسِيرُ، أي: لاَ أَزَالُ، وإِنما قال هذه المقالَةَ، وهو سائرٌ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قدم الكلام على البعث، واستدل عليه بابتداء الخلق، ثم ذكر بعض أحواله، ثم عقبه بما ضرب لذلك وغيره من الأمثال، وصرف من وجوه الاستدلال، وختم ذلك بأنه يمهل عند المساءة، عقب ذلك بأنه كذلك يفعل عند المسرة، فلكل شيء عنده كتاب، وكل قضاء بقدر وحساب، فذكر قصة موسى مع الخضر عليهما السلام وما اتفق له في طلبه، وجعله سبحانه له الحوت آية وموعداً للقائه، ولو أراد سبحانه لقرب المدى ولم يحوج إلى عناء، مع ما فيها من الخارق الدال على البعث، ومن الدليل على أن من ثبت فضله وعلمه لا يجوز أن يعترض عليه إلا من كان على ثقة مما يقوله من ربه ولا أن يمتحن، ومن الإرشاد إلى ذم الجدل بغير علم، ووجوب الانقياد للحق عند بيانه، وظهور برهانه، ومن إرشاد من استنكف أن يجالس فقراء المؤمنين بما اتفق لموسى عليه السلام من أنه -وهو كليم الله- أتبع الخضر عليه السلام ليقتبس من علمه، ومن تبكيت اليهود بقولهم لقريش لما أمروهم بسؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إن لم يخبركم فليس بنبي "الموهم للعرب الذين لا يعلمون شيئاً أن من شرط النبي أن لا يخفى عليه شيء، مع ما يعلمون من أن موسى عليه السلام خفي عليه جميع ما فعله الخضر عليه السلام، وإلى نحو هذا أشار الخضر عليه السلام بقوله إذ وقع العصفور على حرف السفينة ونقر من البحر نقرة أو نقرتين "ما نقص علمي وعلمك يا موسى من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر "
وبإعلامهم بما يعلمونه من أن موسى عليه السلام جعل نفسه تابعاً للخضر عليه السلام، تكذيباً لهم في ادعائهم أنه ليس أحد أعلى من موسى عليه السلام في وصف من الأوصاف، وأنه لا ينبغي لأحد اتباع غيره، ومن جوابهم عما لعلهم يقولون للعرب بهتاً وحسداً" لو كان نبياً ما قال: أخبركم غداً، وتأخر عن ذلك "بما اتفق لموسى في وعده الخضر عليهما السلام بالصبر، وبما خفي عليه مما اطلع عليه الخضر عليهما السلام، فقال تعالى عاطفاً على قوله سبحانه {وإذ قلنا للملائكة}: {وإذ} أي واذكر لهم حين {قال موسى} أي ابن عمران المرسل إلى بني إسرائيل، أي قوله الذي كان في ذلك الحين {لفتاه} يوشع بن نون عليهما السلام: {لا أبرح} أي لا أزال سائراً في طلب العبد الذي أعلمني ربي بفضله -كما دل عليه ما يأتي {حتى أبلغ مجمع البحرين} أي ملتقاهما وموضع اختلاطهما الذي سبق إليه فهمي، فتعينت البداءة به فألقاه ثَمّ {أو أمضي حقباً} إن لم أظفر بمجمع البحرين الذي جعله ربي موعداً لي في لقائه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
قصة موسى مع الخضر: هذه الحلقة من سيرة موسى -عليه السلام- لا تذكر في القرآن كله إلا في هذا الموضع من هذه السورة. والقرآن لا يحدد المكان الذي وقعت فيه إلا بأنه (مجمع البحرين) ولا يحدد التاريخ الذي وقعت فيه من حياة موسى، هل كان ذلك وهو في مصر قبل خروجه ببني إسرائيل أم بعد خروجه بهم منها؟ ومتى بعد الخروج: قبل أن يذهب بهم إلى الأرض المقدسة، أم بعد ما ذهب بهم إليها فوقفوا حيالها لا يدخلون لأن فيها قوما جبارين؟ أم بعد ذهابهم في التيه، مفرقين مبددين؟ كذلك لا يذكر القرآن شيئا عن العبد الصالح الذي لقيه موسى. من هو؟ ما اسمه؟ هل هو نبي أو رسول؟ أم عالم؟ أم ولي؟ وهناك روايات كثيرة عن ابن عباس وعن غيره في هذه القصة. ونحن نقف عند نصوص القصة في القرآن. لنعيش "في ظلال القرآن "ونعتقد أن لعرضها في القرآن على النحو الذي عرضت به، دون زيادة، ودون تحديد للمكان والزمان والأسماء، حكمة خاصة. فنقف نحن عند النص القرآني نتملاه.. (وإذ قال موسى لفتاه: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا).. والأرجح -والله أعلم- أنه مجمع البحرين: بحر الروم وبحر القلزم. أي البحر الأبيض والبحر الأحمر.. ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح. أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر. فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر. وعلى أي فقد تركها القرآن مجملة فنكتفي بهذه الإشارة. ونفهم من سياق القصة فيما بعد -أنه كان لموسى- عليه السلام -هدف من رحلته هذه التي اعتزمها، وأنه كان يقصد من ورائها أمرا، فهو يعلن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن الزمن الذي ينفقه في الوصول. وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه القرآن من قوله: (أو أمضي حقبا) والحقب قيل عام، وقيل ثمانون عاما. على أية حال فهو تعبير عن التصميم، لا عن المدة على وجه التحديد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفي سَوْقِ هذه القصة تعريضٌ بأهل الكتاب بأن الأَوْلَى لهم أن يَدُلّوا الناس على أخبار أنبياء إسرائيل وعلى سَفَرٍ لأجل تحصيل العلم والحكمة لا سفرٍ لأجل بَسْط الملك والسلطان...
فجملة {وإذ قال موسى} معطوفة على جملة {وإذ قلنا للملائكة} [الكهف: 50] عطف القصة على القصة. والتقدير: واذكرْ إذ قال موسى لفتاه، أي اذكرْ ذلك الزمن وما جرى فيه. وناسَبها تقديرُ فِعل "اذْكُر "لأن في هذه القصة موعظةً وذكرى كما في قصة خَلْق آدم...
واستُعير {لا أَبْرَحُ} لِمعنى: لا أَتْرُكُ، أو لا أكُفُّ عن السَّير حتى أبلغ مجمع البحرين... ومَجْمَع البحرين لا ينبغي أن يُختَلَف في أنه مكانٌ من أرض فلسطين. والأظهَر أنه مصبُّ نهر الأردن في بحيرة طبرية فإنه النهر العظيم الذي يمر بجانب الأرض التي نزل بها موسى عليه السلام وقومه. وكانت تسمى عند الإسرائيليين بحر الجليل...
والخضر: اسم رجل صالح... {أو أمضي}... المقصود بحرف الترديد تأكيد مُضِيِّه زمناً يتحقق فيه الوصول إلى مجمع البحرين. فالمعنى: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين بِسَيْرٍ قريب أو أسير أزماناً طويلة فإني بالِغ مجمع البحرين لا محالة، وكأنه أراد بهذا تأييس فتاه من محاولة رجوعهما، كما دَلّ عليه قوله بعدُ {لقد لَقِينا من سفرنا هذا نَصَباً} [الكهف: 62]. أو أراد شَحْذَ عزيمةِ فتاه ليُساويَه في صحة العزم حتى يكونا على عزْمٍ متّحِدٍ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه قصة غريبة في طبيعتها، إذ تشتمل على حوادث غير مألوفة، كرجوع الحوت إلى الحياة، واتباع موسى النبي المرسل إلى الناس عبداً صالحاً عالماً، ليتعلم منه ما يملكه من علم بواطن الأشياء التي لم يعلّمها الله لموسى (عليه السلام)، وصرامة هذا العالم الصالح في حالة الانضباط الذي يجب أن يفرضه موسى على نفسه، بالصبر وترك السؤال في الأمور التي يحاول فيها إثارة فضوله بأعلى الدرجات، في ما لا يمكن الصبر عليه، لا لغرابته، بل لمخالفته للقوانين المألوفة في شريعة موسى (عليه السلام). ثم يحسم الأمر مع موسى (عليه السلام)، فيصر على مفارقته لأنه لم يلتزم بما شرطه عليه من الصبر القاسي، بعد أن يفسر له ما أبهم عليه من القضايا المثيرة للفضول. أسئلة تثار حول القصة وربما كانت هذه القصة مثيرةً لأكثر من سؤالٍ على مستوى التفاصيل العقيدية لما يجب أن تكون شخصية النبي. فكيف يمكن أن يكون النبي موسى (عليه السلام) محتاجاً إلى التعلم من شخص آخر، مع أن الفكرة المطروحة لدى الكثيرين أن النبي لا بد من أن يكون أعلم الناس، لا سيما في القضايا المتصلة بالجوانب العملية التي تتحرك فيها الرسالة؟ وكيف نفسر نسيان موسى (عليه السلام) للحوت، أمام الفكرة التي تقول إن النبي معصوم عن الخطأ والنسيان، حتى في القضايا الحياتية؟ وكيف نواجه مسألة هذا الصبر النبويّ الذي ينفد أمام أيّة حالة غموض، بعد أن أعطى كلمته للعبد الصالح أن يتبعه من دون أيّ سؤال؟ إنها علامات استفهام ترتسم أمام القارئ العادي للقرآن، من خلال ما يملك من تفاصيل معينة في النظرة الإسلامية للشخصية النبوية...