34- الرجال لهم حق الرعاية للنساء ، والقيام بشؤونهن بما أعطاهم الله من صفات تهيئهم للقيام بهذا الحق ، وبسبب أنهم هم الذين يكدِّون ويكدحون لكسب المال الذي ينفقونه على الأسرة ، فالصالحات مطيعات لله ولأزواجهن ، حافظات لكل ما يغيب عن أزواجهن بسبب أمر الله بهذا الحفظ وتوفيقه لهن . والزوجات اللاتي تظهر منهن بوادر العصيان ، فانصحوهن بالقول المؤثِّر ، واعتزلوهن في الفراش ، وعاقبوهن بضرب خفيف غير مبرح ولا مُهين عند التمرد ، فإن رجعن إلى طاعتكم في أي سبيل من هذه السبل الثلاث ، فلا تتطلبوا السبيل التي هي أشد منها بغياً عليهن ، إن الله فوقكم وينتقم منكم إذا آذيتموهن أو بغيتم عليهن .
قوله تعالى : { الرجال قوامون على النساء } .
الآية نزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء ، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، قاله مقاتل ، وقال الكلبي : امرأته حبيبة بنت محمد بن مسلمة ، وذلك إنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفرشته كريمتي ؟ فلطمها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لتقتص من زوجها ) ، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فجاء جبريل عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ارجعوا ، هذا جبريل أتاني بشيء ) . فأنزل الله هذه الآية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أردنا أمراً ، وأراد الله أمراً ، والذي أراد الله خير ) . ورفع القصاص .
قوله تعالى : { الرجال قوامون على النساء } أي : مسلطون على تأديبهن ، والقوام والقيم بمعنى واحد ، والقوام أبلغ وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب .
قوله تعالى : { بما فضل الله بعضهم على بعض } ، يعني فضل الرجال على النساء بزيادة العقل والدين والولاية ، وقيل : بالشهادة ، لقوله تعالى : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } [ البقرة : 282 ] وقيل : بالجهاد ، وقيل : بالعبادات ، من الجمعة والجماعة ، وقيل : هو أن الرجل ينكح أربعاً ولا يحل للمرأة إلا زوج واحد ، وقيل : بأن الطلاق بيده ، وقيل : بالميراث ، وقيل : بالدية ، وقيل : بالنبوة .
قوله تعالى : { وبما أنفقوا من أموالهم } . يعني : إعطاء المهر ، والنفقة .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، أنا أحمد بن محمد ابن عيسى البرني ، أنا أبو حذيفة ، أنا سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) .
قوله تعالى :{ فالصالحات قانتات } ، أي : مطيعات .
قوله تعالى : { حافظات للغيب } . أي : حافظات للفروج في غيبة الأزواج ، وقيل : حافظات لسرهم .
قوله تعالى : { بما حفظ الله } ، قرأ أبو جعفر { بما حفظ الله } بالنصب ، أي : يحفظن الله في الطاعة ، وقراءة العامة بالرفع ، أي : بما حفظهن الله بإيصاء الأزواج بحقهن ، وأمرهم بأداء المهر والنفقة ، وقيل : ( حافظات للغيب ) . بحفظ الله .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عبد الله بن فنجويه ، أخبرنا عمر بن الخطاب ، أنا محمد بن إسحاق المسوحي ، أنا الحارث بن عبد الله ، أنا أبو معشر ، عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك ، وإن أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها ) ، ثم تلا : ( الرجال قوامون على النساء ) الآية . قوله تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن } ، عصيانهن ، وأصل النشوز : التكبر والارتفاع ، ومنه النشز للموضع المرتفع .
قوله تعالى : { فعظوهن } ، بالتخويف من الله والوعظ بالقول .
قوله تعالى : { واهجروهن } ، يعني : إن لم ينزعن عن ذلك بالقول فاهجروهن .
قوله تعالى : { في المضاجع } ، قال ابن عباس : يوليها ظهره في الفراش ، ولا يكلمها . وقال غيره : يعتزل عنها إلى فراش آخر .
قوله تعالى : { واضربوهن } يعني :إن لم ينزعن مع الهجران فاضربوهن ضرباً غير مبرح ولا شائن ، وقال عطاء : ضرباً بالسواك . وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( حق المرأة أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت ) .
قوله تعالى : { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً } ، أي : لا تتجنوا عليهن الذنوب ، وقال ابن عيينة : لا تكلفوهن محبتكم فإن القلب ليس بأيديهن .
قوله تعالى : { إن الله كان علياً كبيراً } ، متعالياً من أن يكلف العباد ما لا يطيقونه ، وظاهر الآية يدل على أن الزوج يجمع عليها بين الوعظ والهجران والضرب ، فذهب بعضهم إلى ظاهرها ، وقال : إذا ظهر منها النشوز جمع بين هذه الأفعال ، وحمل الخوف في قوله : { واللاتي تخافون نشوزهن } ، على العلم كقوله تعالى : { فمن خاف من موص جنفاً } [ البقرة :182 ] أي : علم ، ومنهم من حمل الخوف على الخشية لا على حقيقة العلم ، كقوله تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانةً } . [ الأنفال :58 ] وقال : هذه الأفعال على ترتيب الجرائم ، فإن خاف نشوزها بأن ظهرت أمارته منها من المخاشنة وسوء الخلق وعظها ، فإن أبدت النشوز هجرها ، فإن أصرت على ذلك ضربها .
ثم بين - سبحانه حقوق الرجال وحقوق النساء ، وما يجب لكل فريق نحو الآخر ، ودعا أهل الخير إلى محاولة الإِصلاح بين الزوجين إذا مادب الخلاف بينهما فقال - تعالى - : { الرجال . . . خَبِيراً } .
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ( 34 ) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ( 35 )
روى المفسرون روايات فى سبب نزول قوله - تعالى - { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء } الآية .
ومن هذه الروايات ما ذكره القرطبى من أنها " نزلت فى سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن خارجة بن أبى زهير فلطمها ؛ فقال أبوها : يا رسول الله ، أفرشته كريمتى فلطمها . فقال صلى الله عليه وسلم " لتقتص من زوجها " . فانصرفت مع أبيها لتقتص منه . فقال - عليه الصلاة والسلام - " ارجعوا هذا جبريل أتانى " فأنزل الله هذه الآية .
وقوله { قَوَّامُونَ } جمع قوام على وزن فعال للمبالغة من القيام على الشئ وحفظه . يقال : قال فلان على الشئ وهو قائم عليه وقوام عليه ، إذا كان يرعاه ويحفظه ويتولاه . ويقال : هذا قيم المرأة وقوامها للذى يقوم بأمرها ويهتم بحفظها وإصلاحها ورعاية شئونها . أي : الرجال يقومون على شئون النساء بالحفظ والرعاية والنفقة والتأديب وغير ذلك مما تقتضيه مصلحتهن .
ثم ذكر - سبحانه - سببين لهذه القوامة .
أولهما : وهبى وقد بينه بقوله : { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } .
أى أن حكمة الله اقتضت أن يكون الرجال قوامين على النساء بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من قوة فى الجسم ، وزيادة فى العلم ، وقدرة على تحمل أعباء الحياة وتكاليفها وما يستتبع من دفاع عنهن إذا ما تعرضن لسوء .
قال الفخر الرازى : واعلم أن فضل الرجال على النساء حاصل من وجوه كثيرة : بعضها صفات حقيقية وبعضها أحكام شرعية . أما الصفات الحقيقة فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها إلى أمرين . إلى العلم وإلى القدرة .
ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر . ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل ، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء فى العقل والحزم والقوة . وإن منهم الأنبياء والعلماء ، وفيهم الإِمامة الكبرى والصغرى والجهاد ، والأذان ، والخطبة ، والولاية فى النكاح . فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء .
والمراد بالتفضيل فى قوله { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } تفضيل الجنس على الجنس لا تفضيل الآحاد على الآحاد . فقد يوجد من النساء من هى أقوى عقلا وأكثر معرفة من بعض الرجال .
والباء للسببية ، وما مصدرية ، والبعض الأول المقصود به الرجال والبعض الثانى المقصود به النساء . والضمير المضاف إليه البعض الأول يقع على مجموع الفريقين على سبيل التغليب .
وقال - سبحانه - { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } ولم يقل - مثلا - : بما فضلهم الله عليهن ، للإِشعار بأن الرجال من النساء والنساء من الرجال كما قال فى آية أخرى { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } وللإِشارة إلى أن هذا التفضيل هو لصالح الفريقين ، فعلى كل فريق منهم أن يتفرغ لأداء المهمة التى كلفه الله بها بإخلاص وطاعة حتى يسعد الفريقان .
وأما السبب الثاني : فهو كسبى وقد بينه - سبحانه - بقوله : { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } .
أى أن الله - تعالى - جعل الرجال قوامين على النساء بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من علم وقدرة . وبسبب ما ألزم به الرجال من إنفاق على النساء ومن تقديم المهور لهن عند الزواج بهن ، ومن القيام برعايتهن وصيانتهن .
قال الآلوسى : واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج . وأن عليها طاعته إلا فى معصية الله - تعالى - . وفى الخبر " لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " واستدل بها أيضا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة . وهو مذهب مالك والشافعى ، لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح . وعندنا لا فسخ لقوله - تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } . واستدل بها أيضا من جعل للزوج الحجر على زوجته فى نفسها وما لها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه ، لأنه - سبحانه - جعل الرجل قواما بصيغة المبالغة . وهو الناظر على الشئ الحافظ له .
ثم شرع - سبحانه - فى تفصيل أحوال النساء . وفى بيان كيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن ، فقسمهن إلى قسمين :
فقال فى شأن القسم الأول : { فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله } .
أى : فالصالحات من النساء من صفاتهن أنهن { قَانِتَاتٌ } أى مطيعات لله - تعالى ولأزواجهن عن طيب نفس واطمئنان قلب ، ومن صفاتهن كذلك أنهن { حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله } .
قال صاحب الكشاف : الغيب خلاف الشهادة . أى حافظات لمواجب الغيب . إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن ، حفظن ما يجب عليهن حفظه فى حال الغيبة من الفروج والأموال والبيوت . وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال . " خير النساء أمرأة إن نظرت إليها سرتك ، وأن أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك فى مالها ونفسها " ، ثم تلا الآية الكريمة .
و " ما " فى قوله { بِمَا حَفِظَ الله } يحتمل أن تكون مصدرية فيكون المعنى : أن هؤلاء النساء الصالحات المطيعات من صفاتهن أنهن يحفظن فى غيبة أزواجهن ما يجب حفظه بسبب حفظ الله لهن ورعايته إياهن بالتوفيق للعلم الذى يحبه ويرضاه .
ويحتمل أن تكون موصولة فيكون المعنى : أنهن حافظات لغيبة أزواجهن فى النفس والعرض والمال وكل ما يجب حفظه بسبب الأمر الذى حفظه الله لهن على أزواجهن حيث كلف الأزواج بالانفاق عليهن وبالإِحسان إليهن ، فعليهن أن يحفظن حقوق أزاوجهن فى مقابلة الذى حفظه الله لهن من حقوق على أزواجهن .
فالجملة الكريمة تمدح النساء الصالحات المطيعات الحافظات لأسرار أزواجهن ولكل ما يجب حفظه من عرض أو مال أو غير ذلك مما تقتضيه الحياة الزوجية .
هذا هو القسم الأول من النساء ، أما القسم الثانى فقد قال - سبحانه - فى شأنه : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن } والمراد بقوله { نُشُوزَهُنَّ } عصيانهن وخروجهن عما توجيه الحياة الزوجية من طاعة الزوجة لزوجها . يقال : نشزت الزوجة نشوزا أى : عصت زوجها وامتنعت عليه . وأصل النشوز مأخوذ من النشز بمعنى الارتفاع فى وسط الأرض السهلة المنبسطة ويكون شاذا فيها . فشبهت المرأة المتعالية على طاعة زوجها بالمرتفع من الأرض .
والمعنى : هذا شأن النساء الصالحات القانتات الحافظات للغيب بسبب حفظ الله لهن ، أما النساء اللاتى تخافون { نُشُوزَهُنَّ } أى عصيانهن لكم ، وترفعهن عن مطاوعتكم ، وسوء عشرتهن { فَعِظُوهُنَّ } بالقول الذى يؤثر فى النفس ، ويوجههن نحو الخير والفضيلة ، بأن تذكروهن بحسن عاقبة الطاعة للزوج . وسوء عاقبة النشوز والمعصية ، وبأن تسوقوا لهن من تعاليم الإِسلام وآدابه وتوجيهاته ما من شأنه أن يشفى الصدور ، ويهدى النفوس إلى الخير .
قال ابن كثير : وقوله - تعالى - : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } أى النساء تخافون أن ينشزن على أزواجهن فعظوهن . والنشوز هو الارتفاع فالمرأة الناشز هى المرتفعة على زوجها التاركة لأمره ، المعرضة عنه المبغضة له ، فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله ، فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته ، وحرم عليها معصيته لماله عليها من الفضل ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " .
وقوله { واهجروهن فِي المضاجع } أى وعليكم إذا لم تنفع الموعظة والنصيحة معهن أن تتركوهن منفردات فى أماكن نومهن .
فالمضاجع جمع مضجع - وهو مكان النوم والاضطجاع .
قال القرطبى : والهجر فى المضجع هو أن يضاجعها - أى ينام معها فى فراش واحد - ويوليها ظهره ولا يجامعها . وقال مجاهد : { واهجروهن فِي المضاجع } أى تجنبوا مضاجعهن أى - اهجروا أماكن نومهن بأن تناموا بعيدا عنهن - .
روى أبو داود بسند " عن معاوية بن حيدة القشيرى أنه قال : يا رسول الله : ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه . ولا تقبح . ولا تهجر إلا فى البيت " .
وقوله { واضربوهن } معطوف على ما قبله . أى إن لم ينفع ما فعلتم من العظة والهجران فاضربوهن ضربا غير مبرح - أى غير شديد ولا مشين - فقد ثبت فى صحيح مسلم عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى حجة الوداع : " واتقوا الله فى النساء فانهن عوان عندكم - أى أسيرات عندكم - ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا كرهونه . فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح " .
وقد فسر العلماء الضرب غير المبرح بأنه الذى لا يكسر عظما ، ولا يشين جارحة ، وأن يتقى الوجه فإنه مجمع المحاسن ولا يلجأ إليه إلا عند فشل العلاجين السابقين .
وقد قال - سبحانه - { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } ولم يقل : واللائى ينشزن ، للإِشعار بأن يبدأ الزوج بعلاج عيوب زوجته عندما تظهر أمارات هذه العيوب وعلاماتها وأن لا يتركها حتى تشترى وتشتد ، بل عليه عندما يخشى النشوز أن يعالجة قبل أن يقع ، وأن يكون علاجه بطريقة حكيمة من شأنها أن تقنع وتفيد .
وبعضهم فسر الخوف ، بالعلم أى واللاتى تعلمون نشوزهن فعظوهن . . . إلخ .
وبعضهم قدر مضافا فى الكلام أى : واللاتى تخافون دوام نشوزهن ، فعظوهن واهجروهن فى المضاجع . . الخ .
وجمهور العلماء على أن من الواجب على الزوج أن يسلك فى معالجته لزوجته تلك الأنوار الثلاثة على الترتيب بأن يبدأ بالوعظ ثم بالهجر ثم بالضرب ، لأن الله - تعالى - قد أمر بذلك ، ولأنه قد رتب هذه العقوبات بتلك الطريقة الحكيمة التى تبدأ بالعقوبة الخفيفة ثم تتدرج إلى العقوبة الشديدة ثم إلى الأكثر شدة .
قال الفخر الرازى : وبالجملة فالتخفيف مراعى فى هذا الباب على أبلغ الوجوه . والذى يدل عليه اللفظ أنه - تعالى - ابتدأ بالوعظ . ثم ترقى منه إلى الضرب . وذلك تنبيه يجرى مجرى التصريح فى أنه متى حصل الغرض بالطريق الأخف ، وجب الاكتفاء به ، ولم يجز الإِقدام على الطريق الأشق . وهذه طريقة من قال : حكم هذه الآية مشروع على الترتيب .
وقال بعض أصحابنا : " تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها ، وهل له أن يهجرها ؟ فيه احتمال . وله عند إيداء النشوز من يعظها أو يهجرها ، أو يضربها .
ثم بين - سبحانه - ما يجب على الرجال نحو النساء إذا ما أطعنهم وتركن النشوز والعصيان فقال - تعالى - : { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } .
أى فإن رجعن عن النشوز إلى الطاعة وانقدن لما أوجب الله عليهن نحوكم أيها الرجال ، فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدى عليهن ، أو فلا تظلموهن بأى طريق من طرق الظلم كأن تؤذوهن بألسنتكم أو بأيدكم أو بغير لك ، بل اجعلوا ما كان منهن كأنه لم يكن ، وحاولوا التقرب إليهن بألوان المودة والرحمة .
{ إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } فاحذروا مخالفة أمره ، فإن قدرته - سبحانه - عليكم أعظم من قدرتكم على نسائكم .
فالجملة الكريمة تذييل قصد به حث الأزواج على قبول توبة النساء ، وتحذيرهم من ظلمهن إذا ما تركن النشوز ، وعدن إلى طريق الطاعة والإِنابة .
قال بعضهم : وذكر هاتين الصفتين فى هذا الموضع فى غاية الحسن ، وبيانه من وجوه :
الأول : أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النساء . والمعنى : أنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم ، فالله - سبحانه - ينتصف لهن منكم لأنه علىٌّ قاهر كبير .
الثانى : لا تبغوا إذا أطعنكم لعلو أيديكم ، فإن الله أعلى منكم وأكبر من كل شئ .
الثالث : أنه - سبحانه - مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ العاصى إذا تاب ، بل يغفر له ، فإذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تتركوا عقوبتها وتقبلوا توبتها .
الخامس : أنه - تعالى مع علوه وكبريائه اكتفى من العبد بالظواهر ولم يهتك السرائر فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة ، وأن تقعوا فى التفتيش عما فى قلبها وضميرها من الحب والبغض .
والموضوع الأخير في هذا الدرس ، هو تنظيم مؤسسة الأسرة ؛ وضبط الأمور فيها ؛ وتوزيع الاختصاصات ، وتحديد الواجبات ؛ وبيان الإجراءات التي تتخذ لضبط أمور هذه المؤسسة ؛ والمحافظة عليها من زعازع الأهواء والخلافات ؛ واتقاء عناصر التهديم فيها والتدمير ، جهد المستطاع :
الرجال قوامون على النساء ، بما فضل الله بعضهم على بعض ، وبما أنفقوا من أموالهم ، فالصالحات قانتات ، حافظات للغيب بما حفظ الله . واللاتي تخافون نشوزهن ، فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن . فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا . إن الله كان عليًا كبيرًا . وإن خفتم شقاق بينهما ، فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها ، إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما . إن الله كان عليمًا خبيرًا . .
ولا بد - قبل الدخول في تفسير هذه النصوص القرآنية ، وبيان أهدافها النفسية والاجتماعية - من بيان مجمل لنظرة الإسلام إلى مؤسسة الأسرة ، ومنهجه في بنائها والمحافظة عليها ، وأهدافه منها . . بيان مجمل بقدر الإمكان ، إذ أن التفصيل فيه يحتاج إلى بحث مطول خاص :
إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته " الزوجية " شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجود : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) . .
ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ) . .
وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة - بعد ذلك - فيما أراد ، أن يكون هذا اللقاء سكنًا للنفس ، وهدوءًا للعصب ، وطمأنينة للروح ، وراحة للجسد . . ثم سترًا وإحصانًا وصينانة . . ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة ، مع ترقيها المستمر ، في رعاية المحضن الساكن الهادى ء المطمئن المستور المصون :
( من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) . .
( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) . .
( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، وقدموا لأنفسكم ، واتقوا الله ) . .
( أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة ) . .
( والذين آمنوا ، واتبعتهم ذريتهم بإيمان ، ألحقنا بهم ذريتهم ، وما ألتناهم من عملهم من شيء ) . .
ومن تساوي شطري النفس الواحدة في موقفهما من الله ، ومن تكريمه للإنسان ، كان ذلك التكريم للمرأة ، وتلك المساواة في حقوق الأجر والثواب عند الله ، وفي حقوق التملك والإرث ، وفي استقلال الشخصية المدنية . . التي تحدثنا عنها في الصفحات السابقة من هذا الدرس .
ومن أهمية التقاء شطري النفس الواحدة ، لإنشاء مؤسسة الأسرة . ومن ضخامة تبعة هذه المؤسسة أولًا : في توفير السكن والطمأنينة والستر والإحصان للنفس بشطريها ، وثانيًا : في إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي . . . كانت تلك التنظيمات الدقيقة المحكمة التي تتناول كل جزئية من شئون المؤسسة . . وقد احتوت هذه السورة جانبًا من هذه التنظيمات هو الذي استعرضناه في الصفحات السابقة من أول هذا الجزء ؛ تكملة لما استعرضناه منها في الجزء الرابع . . واحتوت سورة البقرة جانبًا آخر ، هو الذي استعرضناه في الجزء الثاني . واحتوت سور أخرى من القرآن ، وعلى الأخص سورة النور في الجزء الثامن عشر وسورة الأحزاب في الجزءين الحادي والعشرين والثاني والعشرين وسورة الطلاق وسورة التحريم في الجزء الثامن والعشرين . . ومواضع أخرى متفرقة في السور ، جوانب أخرى تؤلف دستورًا كاملًا شاملًا دقيقًا لنظام هذه المؤسسة الإنسانية ؛ وتدل بكثرتها وتنوعها ودقتها وشمولها ، على مدى الأهمية التي يعقدها المنهج الإسلامي للحياة الإنسانية على مؤسسة الأسرة الخطيرة !
ونرجو أن يكون قارى ء هذه الصفحة على ذكر مما سبق في صفحات هذا الجزء نفسه ؛ عن طفولة الطفل الإنساني ، وطولها ، وحاجته في خلالها إلى بيئة تحميه أولًا حتى يستطيع أن يكسب رزقه للمعاش ؛ وأهم من هذا أن تؤهله ، بالتربية ، إلى وظيفته الاجتماعية ؛ والنهوض بنصيبه في ترقية المجتمع الإنساني ، وتركه خيرًا مما تسلمه ، حين جاء إليه ! فهذا الكلام ذو أهمية خاصة في بيان قيمة مؤسسة الأسرة ؛ ونظرة المنهج الإسلامي إلى وظائفها ، والغاية منها ؛ واهتمامه بصيانتها ، وحياطتها من كل عوامل التدمير من قريب ومن بعيد . .
وفي ظل هذه الإشارات المجملة إلى طبيعة نظرة الإسلام للأسرة وأهميتها ؛ ومدى حرصه على توفير ضمانات البقاء والاستقرار والهدوء في جوها . . إلى جانب ما أوردناه من تكريم هذا المنهج للمرأة ؛ ومنحها استقلال الشخصية واحترامها ؛ والحقوق التي أنشأها لها إنشاء - لا محاباة لذاتها ولكن لتحقيق أهدافه الكبرى من تكريم الإنسان كله ورفع الحياة الإنسانية - نستطيع أن نتحدث عن النص الأخير في هذا الدرس ، الذي قدمنا للحديث عنه بهذا الإيضاح :
إن هذا النص - في سبيل تنظيم المؤسسة الزوجية وتوضيح الاختصاصات التنظيمية فيها لمنع الاحتكاك فيها بين أفرادها ، بردهم جميعًا إلى حكم الله لا حكم الهوى والانفعالات والشخصيات - يحدد أن القوامة في هذه المؤسسة للرجل ؛ ويذكر من أسباب هذه القوامة : تفضيل الله للرجل بمقومات القوامة ، وما تتطلبه من خصائص ودربة ، و . . تكليف الرجل الإنفاق على المؤسسة . وبناء على إعطاء القوامة للرجل ، يحدد كذلك اختصاصات هذه القوامة في صيانة المؤسسة من التفسخ ؛ وحمايتها من النزوات العارضة ؛ وطريقة علاج هذه النزوات - حين تعرض - في حدود مرسومة - وأخيرًا يبين الإجراءات - الخارجية - التي تتخذ عندما تفشلالاجراءات الداخلية ، ويلوح شبح الخطر على المؤسسة ، التي لا تضم شطري النفس الواحدة فحسب ، ولكن تضم الفراخ الخضر ، الناشئة في المحضن . المعرضة للبوار والدمار . فلننظر فيما وراء كل إجراء من هذه الإجراءات من ضرورة ، ومن حكمة ، بقدر ما نستطيع :
( الرجال قوامون على النساء . بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم )
إن الأسرة - كما قلنا - هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية . الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق . والأولى من ناحية الأهمية لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني ، وهو أكرم عناصر هذا الكون ، في التصور الإسلامي .
وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأنًا ، والأرخص سعرًا : كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية . . وما إليها . . لا يوكل أمرها - عادة - إلا لأكفأ المرشحين لها ؛ ممن تخصصوا في هذا الفرع علميًا ، ودربوا عليه عمليًا ، فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة . .
إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأنًا والأرخص سعرًا . . فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة ، التي تنشئ أثمن عناصر الكون . . العنصر الإنساني . .
والمنهج الرباني يراعي هذا . ويراعي به الفطرة ، والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه الاستعدادات ، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها ، المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزه المتفردة . .
والمسلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله . وأن الله - سبحانه - لا يريد أن يظلم أحدًا من خلقه ، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة ، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة !
وقد خلق الله الناس ذكرًا وأنثى . . زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون . . وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل . . وهي وظائف ضخمة أولًا وخطيرة ثانيًا . وليست هينة ولا يسيرة ، بحيث تؤدى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى ! فكان عدلًا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني - الرجل - توفير الحاجات الضرورية . وتوفير الحماية كذلك للأنثى ؛ كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة ؛ ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل . . ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد ! وكان عدلًا كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه . وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك .
وكان هذا فعلا . . ولا يظلم ربك أحدًا . .
ومن ثم زودت المرأة - فيما زودت به من الخصائص - بالرقة والعطف ، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة - بغير وعي ولا سابق تفكير - لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها - حتى في الفرد الواحد - لم تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه ، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية ! لتسهل تلبيتها فورًا وفيما يشبه أن يكون قسرًا . ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج ؛ ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك ، لتكوين الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من جهة أخرى - مهما يكن فيها من المشقة والتضحية ! صنع الله الذي أتقن كل شيء .
وهذه الخصائص ليست سطحية . بل هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة . . بل يقول كبار العلماء المختصين : إنها غائرة في تكوين كل خلية . لأنها عميقة في تكوين الخلية الأولى ، التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين ، بكل خصائصه الأساسية !
وكذلك زود الرجل - فيما زود به من الخصائص - بالخشومنة والصلابة ، وبطء الانفعال والاستجابة ؛ واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة . لأن وظائفه كلها من أول الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة إلى القتال الذي يمارسه دائمًا لحماية الزوج والأطفال . إلى تدبير المعاش . . إلى سائر تكاليفه في الحياة . . لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام ؛ وإعمال الفكر ، والبطء في الاستجابة بوجه عام ! . . وكلها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها . .
وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة ، وأفضل في مجالها . . كما أن تكليفه بالإنفاق - وهو فرع من توزيع الاختصاصات - يجعله بدوره أولى بالقوامة ، لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة ؛ والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة وظيفته فيها . .
وهذان هما العنصران اللذان أبرزهما النص القرآني ، وهو يقرر قوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي . قوامة لها أسبابها من التكوين والاستعداد . ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات . ولها أسبابها من العدالة في التوزيع من ناحية ؛ وتكليف كل شطر - في هذا التوزيع - بالجانب الميسر له ، والذي هو معان عليه من الفطرة .
وأفضليته في مكانها . . في الاستعداد للقوامة والدربة عليها . . والنهوض بها بأسبابها . . لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة - كسائر المؤسسات الأقل شأنًا والأرخص سعرًا - ولأن أحد شطري النفس البشرية مهيأ لها ، معان عليها ، مكلف تكاليفها . وأحد الشطرين غير مهيأ لها ، ولا معان عليها . . ومن الظلم أن يحملها ويحمل تكاليفها إلى جانب أعبائه الأخرى . . وإذا هو هيء لها بالاستعدادات الكامنة ، ودرب عليها بالتدريب العلمي والعملي ، فسد استعداده للقيام بالوظيفة الأخرى . . وظيفة الأمومة . . لأن لها هي الأخرى مقتضياتها واستعداداتها . وفي مقدمتها سرعة الانفعال ، وقرب الاستجابة . فوق الاستعدادات الغائرة في التكوين العضوي والعصبي ؛ وآثارها في السلوك والاسجابة !
إنها مسائل خطيرة . . أخطر من أن تتحكم فيها أهواء البشر . . وأخطر من أن تترك لهم يخبطون فيها خبط عشواء . . وحين تركت لهم ولأهوائهم في الجاهليات القديمة والجاهليات الحديثة ، هددت البشرية تهديدًا خطيرًا في وجودها ذاته ؛ وفي بقاء الخصائص الإنسانية ، التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميز .
ولعل من الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها ؛ ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان ، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها .
لعل من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشرية من تخبط وفساد ، ومن تدهور وانهيار ؛ ومن تهديد بالدمار والبوار ، في كل مرة خولفت فيها هذه القاعدة . فاهتزت سلطة القوامة في الأسرة . أو اختلطت معالمها . أو شذت عن قاعدتها الفطرية الأصلية !
لعل من هذه الدلائل توقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الأسرة . وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلة السعادة ؛ عندما تعيش مع رجل ، لا يزاول مهام القوامة ؛ وتنقصه صفاتها اللازمة ؛ فيكل إليها هي القوامة ! وهي حقيقة ملحوظة تسلم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام !
ولعل من هذه الدلائل أن الأطفال - الذين ينشأون في مؤسسة عائلية القوامة فيها ليست للأب . إما لأنهضعيف الشخصية ، بحيث تبرز عليه شخصية الأم وتسيطر . وإما لأنه مفقود : لوفاته - أو لعدم وجود أب شرعي ! - قلما ينشأون أسوياء . وقل ألا ينحرفوا إلى شذوذ ما ، في تكوينهم العصبي والنفسي ، وفي سلوكهم العملي والخلقي .
فهذه كلها بعض الدلائل ، التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها ، ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان ، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها !
ولا نستطيع أن نستطرد أكثر من هذا - في سياق الظلال - عن قوامة الرجال ومقوماتها ومبرراتها ، وضرورياتها وفطريتها كذلك . . ولكن ينبغي أن نقول : إن هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني ؛ ولا إلغاء وضعها " المدني " - كما بينا ذلك من قبل - وإنما هي وظيفة - داخل كيان الأسرة لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة ، وصيانتها وحمايتها : ووجود القيم في مؤسسة ما ، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها ، والعاملين في وظائفها . فقد حدد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية ، وصيانة وحماية ، وتكاليف في نفسه وماله ، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله .
وبعد بيان واجب الرجل وحقه والتزاماته وتكاليفه في القوامة ، يجيء بيان طبيعة المرأة المؤمنة الصالحة وسلوكها وتصرفها الإيماني في محيط الأسرة :
( فالصالحات قانتات ، حافظات للغيب بما حفظ الله ) . .
فمن طبيعة المؤمنة الصالحة ، ومن صفتها الملازمة لها ، بحكم إيمانها وصلاحها ، أن تكون . . قانتة . . مطيعة . والقنوت : الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة ، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومعاظلة ! ومن ثم قال : قانتات . ولم يقل طائعات . لأن مدلول اللفظ الأول نفسي ، وظلاله رخية ندية . . وهذا هو الذي يليق بالسكن والمودة والستر والصيانة بين شطري النفس الواحدة . في المحضن الذي يرعى الناشئة ، ويطبعهم بجوه وأنفاسه وظلاله وإيقاعاته !
ومن طبيعة المؤمنة الصالحة ، ومن صفتها الملازمة لها ، بحكم إيمانها وصلاحها كذلك ، أن تكون حافظة لحرمة الرباط المقدس بينها وبين زوجها في غيبته - وبالأولى في حضوره - فلا تبيح من نفسها في نظرة أو نبرة - بله العرض والحرمة - مالا يباح إلا له هو - بحكم أنه الشطر الآخر للنفس الواحدة .
وما لا يباح ، لا تقرره هي ، ولا يقرره هو : إنما يقرره الله سبحانه : ( بما حفظ الله ) . .
فليس الأمر أمر رضاء الزوج عن ان تبيح زوجته من نفسها - في غيبته أو في حضوره - ما لا يغضب هو له أو ما يمليه عليه وعليها المجتمع ! إذا انحرف المجتمع عن منهج الله . .
إن هنالك حكمًا واحدًا في حدود هذا الحفظ ؛ فعليها أن تحفظ نفسها ( بما حفظ الله ) . . والتعبير القرآني لا يقول هذا بصيغة الأمر . بل بما هو أعمق وأشد توكيدًا من الأمر . إنه يقول : إن هذا الحفظ بما حفظ الله ، هو من طبيعة الصالحات ، ومن مقتضى صلاحهن !
وعندئذ تتهاوى كل أعذار المهزومين والمهزومات من المسلمين والمسلمات . أمام ضغط المجتمع المنحرف . وتبرز حدود ما تحفظه الصالحات بالغيب : ( بما حفظ الله )مع القنوت الطائع الراضي الودود . .
فأما غير الصالحات . . فهن الناشزات . [ من الوقوف على النشز وهو المرتفع البارز من الأرض ] وهي صورة حسية للتعبير عن حالة نفسية . فالناشز تبرز وتستعلي بالعصيان والتمرد . .
والمنهج الإسلامي لا ينتظر حتى يقع النشوز بالفعل ، وتعلن راية العصيان ؛ وتسقط مهابة القوامة ؛ وتنقسم المؤسسة إلى معسكرين . . فالعلاج حين ينتهي الأمر إلى هذا الوضع قلما يجدي . ولا بد من المبادرة في علاج مبادى ء النشوز قبل استفحاله . لأن مآله إلى فساد في هذه المنظمة الخطيرة ، لا يستقر معه سكن ولا طمأنينة ، ولا تصلح معه تربية ولا إعداد للناشئين في المحضن الخطير . ومآله بعد ذلك إلى تصدع وانهيار ودمار للمؤسسة كلها ؛ وتشرد للناشئين فيها ؛ أو تربيتهم بين عوامل هدامة مفضية إلى الأمراض النفسية والعصبية والبدنية . . وإلى الشذوذ . .
فالأمر إذن خطير . ولا بد من المبادرة باتخاذ الإجراءات المتدرجة في علاج علامات النشوز منذ أن تلوح من بعيد . . وفي سبيل صيانة المؤسسة من الفساد ، أو من الدمار ، أبيح للمسئول الأول عنها أن يزاول بعض أنواع التأديب المصلحة في حالات كثيرة . . لا للانتقام ، ولا للإهانة ، ولا للتعذيب . . ولكن للإصلاح ورأب الصدع في هذه المرحلة المبكرة من النشوز :
واللاتي تخافون نشوزهن ، فعظوهن . واهجروهن في المضاجع . واضربوهن . فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا . إن الله كان عليًا كبيرًا . .
واستحضار ما سبق لنا بيانه من تكريم الله للإنسان بشطريه . ومن حقوق للمرأة نابعة من صفتها الإنسانية . . ومن احتفاظ للمرأة المسلمة بشخصيتها المدنية بكامل حقوقها . . بالإضافة إلى أن قوامة الرجل عليها لا تفقدها حقها في اختيار شريك حياتها ؛ والتصرف في أمر نفسها والتصرف في أمر مالها . . إلى آخر هذه المقومات البارزة في المنهج الإسلامي . .
استحضار هذا الذي سبق كله ؛ واستحضار ما قيل عن أهمية مؤسسة الأسرة كذلك . . يجعلنا نفهم بوضوح - حين لا تنحرف القلوب بالهوى والرءوس بالكبر ! - لماذا شرعت هذه الإجراءات التأديبية أولًا . والصورة التي يجب أن تؤدي بها ثانيًا . .
إنها شرعت كإجراء وقائي - عند خوف النشوز - للمبادرة بإصلاح النفوس والاوضاع ، لا لزيادة إفساد القلوب ، وملئها بالبغض والحنق ، أو بالمذلة والرضوخ الكظيم !
إنها . . أبدًا . . ليست معركة بين الرجل والمرأة . يراد لها بهذه الإجراءات تحطيم رأس المرأة حين تهم بالنشوز ؛ وردها إلى السلسلة كالكلب المسجور !
إن هذا قطعًا . . ليس هو الإسلام . . إنما هو تقاليد بيئية في بعض الأزمان . نشأت مع هو ان " الإنسان " كله . لا هون شطر منه بعينه . . فأما حين يكون هو الإسلام ، فالأمر مختلف جدًا في الشكل والصورة . وفي الهدف والغاية . .
( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ) . .
هذا هو الإجراء الأول . . الموعظة . . وهذا هو أول واجبات القيم ورب الأسرة . عمل تهذيبي . مطلوب منه في كل حالة : ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا ، وقودها الناس والحجارة ) . . ولكنه في هذهالحالة بالذات ، يتجه اتجاهًا معينًا لهدف معين . هو علاج أعراض النشوز قبل أن تستفحل وتستعلن .
ولكن العظة قد لا تنفع . لأن هناك هوى غالبًا ، أو انفعالًا جامحًا ، أو استعلاء بجمال . أو بمال . أو بمركز عائلي . . أو بأي قيمة من القيم . تنسي الزوجة أنها شريكة في مؤسسة ، وليست ندًا في صراع أو مجال افتخار ! . . هنا يجيء الإجراء الثاني . . حركة استعلاء نفسية من الرجل على كل ما تدل به المرأة من جمال وجاذبية أو قيم أخرى ، ترفع بها ذاتها عن ذاته ، أو عن مكان الشريك في مؤسسة عليها قوامة .
والمضجع موضع الإغراء والجاذبية ، التي تبلغ فيها المرأة الناشز المتعالية قمة سلطانها . فإذا استطاع الرجل أن يقهر دوافعه تجاه هذا الإغراء ، فقد أسقط من يد المرأة الناشز أمضى أسلحتها التي تعتز بها . وكانت - في الغالب - أميل إلى التراجع والملاينة ، أمام هذا الصمود من رجلها ، وأمام بروز خاصية قوة الإرادة والشخصية فيه ، في أحراج مواضعها ! . . على أن هناك أدبًا معينًا في هذا الإجراء . . إجراء الهجر في المضاجع . . وهو ألا يكون هجرًا ظاهرًا في غير مكان خلوة الزوجين . . لا يكون هجرًا أمام الأطفال ، يورث نفوسهم شرًا وفسادًا . . ولا هجرًا أمام الغرباء يذل الزوجة أو يستثير كرامتها ، فتزداد نشوزًا . فالمقصود علاج النشوز لا إذلال الزوجة ، ولا إفساد الأطفال ! . . وكلا الهدفين يبدو أنه مقصود من هذا الإجراء . .
ولكن هذه الخطوة قد لا تفلح كذلك . . فهل تترك المؤسسة تتحطم ؟ إن هناك إجراء ولو أنه أعنف - ولكنه أهون وأصغر من تحطيم المؤسسة كلها بالنشوز :
واستصحاب المعاني السابقة كلها ، واستصحاب الهدف من هذه الإجراءات كلها يمنع أن يكون هذا الضرب تعذيبًا للانتقام والتشفي . ويمنع أن يكون إهانة للاذلال والتحقير . ويمنع أن يكون أيضًا للقسر والإرغام على معيشة لا ترضاها . . ويحدد أن يكون ضرب تأديب ، مصحوب بعاطفة المؤدب المربي ، كما يزاولة الأب مع أبنائه وكما يزاوله المربي مع تلميذه . .
ومعروف - بالضرورة - أن هذه الإجراءات كلها لا موضع لها في حالة الوفاق بين الشريكين في المؤسسة الخطيرة ، وإنما هي لمواجهة خطر الفساد والتصدع . فهي لا تكون إلا وهناك انحراف ما هو الذي تعالجه هذه الإجراءات . .
وحين لا تجدي الموعظة ، ولا يجدي الهجر في المضاجع . . لا بد أن يكون هذا الانحراف من نوع آخر ، ومن مستوى آخر ، لا تجدي فيه الوسائل الأخرى . . وقد تجدي فيه هذه الوسيلة !
وشواهد الواقع ، والملاحظات النفسية على بعض أنواع الانحراف ، تقول : إن هذه الوسيلة تكون أنسب الوسائل لإشباع انحراف نفسي معين ، وإصلاح سلوك صاحبه . . وإرضائه . . في الوقت ذاته !
على أنه من غير أن يكون هناك هذا الانحراف المرضي ، الذي يعينه علم النفس التحليلي بالاسم ؛ إذ نحن لا نأخذ تقريرات علم النفس مسلمات " علمية " ، فهو لم يصبح بعد " علمًا " بالمعنى العلمي ، كما يقول الدكتور " الكسيس كاريل " ، فربما كان من النساء من لا تحس قوة الرجل الذي تحب نفسها أن تجعله قيمًا وترضي به زوجًا ، إلا حين يقهرها عضليًا ! وليست هذه طبيعة كل امرأة . ولكن هذا الصنف من النساء موجود . وهو الذي قد يحتاج إلى هذه المرحلة الأخيرة . . ليستقيم . ويبقي على المؤسسة الخطيرة . . في سلم وطمأنية !
وعلى أية حال ، فالذي يقرر هذه الإجراءات ، هو الذي خلق . وهو أعلم بمن خلق . وكل جدال بعد قول العليم الخبير مهاترة ؛ وكل تمرد على اختيار الخالق وعدم تسليم به ، مفض إلى الخروج من مجال الإيمان كله . .
وهو - سبحانه - يقررها ، في جو وفي ملابسات تحدد صفتها ، وتحدد النية المصاحبة لها ، وتحدد الغاية من ورائها . بحيث لا يحسب على منهج الله تلك المفهومات الخاطئة للناس في عهود الجاهلية ؛ حين يتحول الرجل جلادًا - باسم الدين ! - وتتحول المرأة رقيقًا - باسم الدين ! - أو حين يتحول الرجل امرأة ؛ وتتحول المرأة رجلًا ؛ أو يتحول كلاهما إلى صنف ثالث مائع بين الرجل والمرأة - باسم التطور في فهم الدين - فهذه كلها أوضاع لا يصعب تمييزها عن الإسلام الصحيح ومقتضياتة في نفوس المؤمنين !
وقد أبيحت هذه الإجراءات لمعالجة أعراض النشوز - قبل استفحالها - وأحيطت بالتحذيرات من سوء استعمالها ، فور تقريرها وإباحتها . وتولى الرسول [ ص ] بسنته العملية في بيته مع أهله ، وبتوجيهاته الكلامية علاج الغلو هنا وهناك ، وتصحيح المفهومات في أقوال كثيرة :
ورد في السنن والمسند : عن معاوية بن حيدة القشيري ، أنه قال : يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه ؟ قال : " أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت . ولا تضرب الوجه . ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت " . .
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه : قال النبي [ ص ] " لا تضربوا إماء الله " . . فجاء عمر - رضي الله عنه - إلى رسول الله [ ص ] فقال : ذئرت النساء على أزواجهن ! فرخص رسول الله [ ص ] في ضربهن . فأطاف بآل رسول الله [ ص ] نساء كثير يشتكين أزواجهن ! فقال رسول الله [ ص ] " لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن . . ليس أولئك بخياركم " ! !
وقال [ ص ] " لا يضرب أحدكم امرأته كالبعير يجلدها أول النهار . ثم يضاجعها آخره " .
وقال : " خيركم خيركم لأهله . وأنا خيركم لأهلي " . .
ومثل هذه النصوص والتوجيهات ؛ والملابسات التي أحاطت بها ؛ ترسم صورة لصراع الرواسب الجاهلية مع توجيهات المنهج الإسلامي ، في المجتمع المسلم في هذا المجال . وهي تشبه صورة الصراع بين هذه الرواسب وهذه التوجيهات في شتى مجالات الحياة الأخرى . قبل أن تستقر الأوضاع الإسلامية الجديدة ، وتعمق جذورها الشعورية في أعماق الضمير المسلم في المجتمع الإسلامي . .
وعلى أية حال فقد جعل لهذه الإجراءات حد تقف عنده - متى تحققت الغاية - عند مرحلة من مراحل هذه الإجراءات . فلا تتجاوز إلى ما وراءها :
( فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً ) . .
فعند تحقق الغاية تقف الوسيلة . مما يدل على أن الغاية - غاية الطاعة - هي المقصودة . وهي طاعة الاستجابة لا طاعة الإرغام . فهذه ليست طاعة تصلح لقيام مؤسسة الأسرة ، قاعدة الجماعة .
ويشير النص إلى أن المضي في هذه الإجراءات بعد تحقق الطاعة بغي وتحكم وتجاوز .
( فلا تبغوا عليهن سبيلاً ) . .
ثم يعقب على هذا النهي بالتذكير بالعلي الكبير . . كي تتطامن القلوب ، وتعنو الرؤوس ، وتتبخر مشاعر البغي والاستعلاء ، إن طافت ببعض النفوس : على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب .
وقوله تعالى : { الرجال قوامون } الآية ، قوام فعال : بناء مبالغة ، وهو من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد ، فقيام الرجل على النساء هو على هذا الحد{[3995]} ، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء وملكاً ما{[3996]} ، قال ابن عباس : الرجال أمراء على النساء ، وعلى هذا قال أهل التأويل و «ما » في قوله : { بما فضل الله } مصدرية ، ولذلك استغنت عن العائد ، وكذلك { بما أنفقوا } والفضلة : هي الغزو وكمال الدين والعقل وما أشبهه{[3997]} ، والإنفاق : هو المهر والنفقة المستمرة على الزوجات ، وقيل : سبب هذه الآية أن سعد بن الربيع{[3998]} لطم زوجه حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، فجاءت مع أبيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر أن تلطمه كما لطمها ، فنزلت الآية مبيحة للرجال تأديب نسائهم ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض الحكم الأول وقال : أردت شيئاً وما أراد الله خير{[3999]} ، وفي طريق آخر أردت شيئاً وأراد الله غيره ، وقيل : إن في هذا الحكم المردود نزلت { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه }{[4000]} وقيل سببها قول أم سلمة المتقدم ، أي : لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة{[4001]} .
والصلاح في قوله { فالصالحات } هو الصلاح في الدين ، و«و القانتات » معناه : مطيعات ، والقنوت الطاعة ، ومعناه لأزواجهن ، أو لله في أزواجهن ، وغير ذلك ، وقال الزجّاج : إنها الصلاة ، وهذا هنا بعيد و { للغيب } معناه : كل ما غاب عن علم زوجها مما استرعته ، وذلك يعم حال غيب الزوج وحال حضوره ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «خير النساء امرأة اذا نظرتَ إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية{[4002]} ، وفي مصحف ابن مسعود «فالصوالح قوانت حوافظ » وهذا بناء يختص بالمؤنث ، وقال ابن جني : والتكسير أشبه لفظاً بالمعنى ، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هنا ، و { بما حفظ الله } الجمهور على رفع اسم الله بإسناد الفعل إليه ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «اللهَ » بالنصب على إعمال { حفظ } فأما قراءة الرفع «فما » مصدرية تقديره : يحفظ الله ، ويصح أن تكون بمعنى «الذي » ويكون العائد الذي في { الذي } وفي { حفظ } ضمير مرفوع ، وأما قراءة ابن القعقاع بما حفظ الله ، فالأولى أن تكون «ما » بمعنى «الذي » وفي { حفظ } ضمير مرفوع ، والمعنى حافظات للغيب بطاعة وخوف وبر ودين حفظن الله في أوامره حين امتثلنها ، وقيل : يصح أن تكون «ما » مصدرية ، على أن تقدير الكلام بما حفظن الله وينحذف الضمير ، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر ، كما قال [ الأعشى ] : [ المتقارب ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَإنَّ الحوادِثَ أَوْدَى بِها{[4003]}
يريد أَوْدَين ، والمعنى : يحفظن الله في أمره حين امتثلنه ، وقال ابن جني : الكلام على حذف مضاف تقديره : بما حفظ دين الله وأمر الله ، وفي مصحف ابن مسعود «بما حفظ الله فأصلحوا إليهن » .
{ واللاتي } في موضع رفع بالابتداء والخبر { فعظوهن } ، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مضمر تقديره : وعظوا اللاتي تخافون نشوزهن ، كقوله : { والسارق والسارقة }{[4004]} على قراءة من قرأها بالنصب ، قال سيبويه : النصب القياس ، إلا أن الرفع أكثر في كلامهم ، وحكي عن سيبويه : أن تقدير الآية عنده : وفيما يتلى عليكم اللاتي ، قالت فرقة معنى { تخافون } تعلمون وتتيقنون ، وذهبوا في ذلك إلى أن وقوع النشوز هو الذي يوجب الوعظ ، واحتجوا في جواز وقوع الخوف بمعنى اليقين بقول أبي محجن :
ولا تَدْفُنَّنِيِ بالفلاةِ فإنَّني . . . أخافُ إذا ما مِتُّ أنْ لا أذوقُها{[4005]}
وقالت فرقة : الخوف هاهنا على بابه في التوقع ، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف{[4006]} ، «والنشوز » : أن تتعوج{[4007]} المرأة وترتفع في خلقها ، وتستعلي على زوجها ، وهو من نشز الأرض ، يقال ناشز وناشص ومنه بيت الأعشى : [ الطويل ]
تَجَلَّلَها شَيْخٌ عِشَاءً فأصْبَحَتْ . . . قَضَاعِيّةً تأتي الكواهِن ناشصا{[4008]}
و { عظوهن } معناه : ذكروهن أمر الله ، واستدعوهن إلى ما يجب عليهن بكتاب الله وسنة نبيه{[4009]} ، وقرأ إبراهيم النخعي «في المضجع » ، وهو واحد يدل على الجمع ، واختلف المتأولون في قوله : { اهجروهن } فقالت فرقة معناه جنبوا جماعهن ، وجعلوا { في } للوعاء على بابها دون حذف قال ابن عباس : يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها وقال مجاهد : جنبوا مضاجعتهن فيتقدر على هذا القول حذف تقديره : واهجروهن برفض المضاجع أو بترك المضاجع وقال سعيد بن جبير : هي هجرة الكلام أي لا تكلموهن وأعرضوا عنهن فيقدر حذف تقديره : واهجروهن في سبب المضاجع حتى يراجعنها ، وقال ابن عباس أيضاً : معناه وقولوا لهن هجراً من القول أي إغلاظاً حتى يراجعن المضاجع وهذا لا يصح تصريفه إلا على من حكى هجر وأهجر بمعنى واحد ، وقال الطبري : معناه اربطوهن بالهجار ، كما يربط البعير به ، وهو حبل يشد به البعير ، فهي في معنى اضربوهن ونحوها ، ورجح الطبري منزعه هذا وقدح في سائر الأقوال ، وفي كلامه في هذا الموضع نظر ، والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح ، وهو الذي لا يكسر عظماً ولا يشين جارحة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
«اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضرباً غير مبرح » وقال عطاء : قلت لابن عباس : ما الضرب غير المبرح ؟ قال بالشراك ونحوه ، وروي عن ابن شهاب أنه قال : لا قصاص بين الرجل وامرأته إلا في النفس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تجاوز ، قال غيره : إلا في النفس والجراح ، وهذه العظة والهجر والضرب مراتب ، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها . و { تبغوا } معناه تطلبوا ، و { سبيلاً } عليهن والتمكين من أدبهن ، وحسن معه الاتصاف بالعلو والكبر ، أي قدره فوق كل قدر ويده بالقدرة فوق كل يد ، فلا يستعمل أحد على امرأته ، فالله بالمرصاد ، وينظر هذا إلى حديث أبي مسعود فصرفت وجهي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد »{[4010]} .
استئناف ابتدائي لذكر تشريع في حقوق الرجال وحقوق النساء والمجتمع العائلي . وقد ذُكر عقب ما قبلَه لمناسبة الأحكام الراجعة إلى نظام العائلة ، لا سيما أحكام النساء ، فقوله : { الرجال قوامون على النساء } أصل تشريعي كُلِّيّ تتفرّع عنه الأحكام التي في الآيات بعده ، فهو كالمقدّمة .
وقوله : { فالصالحات } تفريع عنه مع مناسبته لما ذكر من سبب نزول { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] فيما تقدّم .
والحكم الذي في هذه الآية حكم عامّ جيء به لتعليل شرع خاصّ .
فلذلك فالتعريف في { الرجال } و{ النساء } للاستغراق ، وهو استغراق عرفي مبني على النظر إلى الحقيقة ، كالتعريف في قول الناس « الرجل خير من المرأة » ، يؤول إلى الاستغراق العرفي ، لأنّ الأحكام المستقراة للحقائق أحكام أغلبية ، فإذا بني عليها استغراق فهو استغراق عرفي . والكلام خبر مستعمل في الأمر كشأن الكثير من الأخبار الشرعية .
والقَوَّام : الذي يقوم على شأن شيءٍ ويليه ويصلحه ، يقال : قَوَّام وقَيَّام وقَيُّوم وقَيِّم ، وكلّها مشتقّة من القيام المجازي الذي هو مجاز مرسل أو استعارة تمثيلية ، لأنّ شأن الذي يهتمّ بالأمر ويعتني به أن يقف ليدير أمره ، فأطلق على الاهتمام القيامُ بعلاقة اللزوم . أو شُبِّه المهتم بالقائم للأمر على طريقة التمثيل . فالمراد من الرجال من كان من أفراد حقيقة الرجل ، أي الصنف المعروف من النوع الإنساني ، وهو صنف الذكور ، وكذلك المراد من النساء صنف الإناث من النوع الإنساني ، وليس المراد الرجال جمعَ الرجل بمعنى رَجُل المرأة ، أي زوجها ؛ لعدم استعماله في هذا المعنى ، بخلاف قولهم : امرأةُ فلان ، ولا المراد من النساء الجمعُ الذي يطلق على الأزواج الإناث وإن كان ذلك قد استعمل في بعض المواضع مثل قوله تعالى : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ، بل المراد ما يدلّ عليه اللفظ بأصل الوضع كما في قوله تعالى : { وللنساء نصيب مما اكتسبن } [ النساء : 32 ] ، وقول النابغة :
ولا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرا *** يريد أزواجه وبناته وولاياه .
فموقع { الرجال قوامون على النساء } موقُع المقدّمة للحكم بتقديم دليله للاهتمام بالدليل ، إذ قد يقع فيه سوء تأويل ، أو قد وقع بالفعل ، فقد روي أنّ سبب نزول الآية قول النساء « ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشَرَكْناهم في الغزو » .
وقيام الرجال على النساء هو قيام الحفظ والدفاع ، وقيام الاكتساب والإنتاج المالي ، ولذلك قال : { بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } أي : بتفضيل الله بعْضهم على بعض وبإنفاقهم من أموالهم ، إن كانت ( ما ) في الجملتين مصدرية ، أو بالذي فضّل الله به بعضهم ، وبالذي أنفقوه من أموالهم ، إن كانت ( ما ) فيهما موصولة ، فالعائدان من الصلتين محذوفان : أمّا المجرور فلأنّ اسم الموصول مجرور بحرف مثل الذي جُرَّ به الضمير المحذوف ، وأمّا العائد المنصوب من صلة { وبما أنفقوا } فلأنَّ العائد المنصوب يكثر حذفه من الصلة .
والمراد بالبعض في قوله تعالى : { فضل الله بعضهم } هو فريق الرجال كما هو ظاهر من العطف في قوله : { وبما أنفقوا من أموالهم } فإنّ الضميرين للرجال .
فالتفضيل هو المزايا الجبلية التي تقتضي حاجة المرأة إلى الرجل في الذبّ عنها وحراستها لبقاء ذاتها ، كما قال عَمرو بن كلثوم :
يَقُتْنَ جيادَنا ويقُلْن لستم *** بُعُولتنا إذا لَمْ تمنعونا
فهذا التفضيل ظهرت آثاره على مرّ العصور والأجيال ، فصار حقّا مكتسبا للرجال ، وهذه حجّة بُرهانية على كون الرجال قوّامين على النساء فإنّ حاجة النساء إلى الرجال من هذه الناحية مستمرّة وإن كانت تقوى وتضعف .
وقوله : { وبما أنفقوا } جيء بصيغة الماضي للإيماء إلى أنّ ذلك أمر قد تقرّر في المجتمعات الإنسانية منذ القدم ، فالرجال هم العائلون لنساء العائلة من أزواج وبنات . وأضيفت الأموال إلى ضمير الرجال لأنّ الاكتساب من شأن الرجال ، فقد كان في عصور البداوة بالصيد وبالغارة وبالغنائم والحرث ، وذلك من عمل الرجال ، وزاد اكتساب الرجال في عصور الحضارة بالغرس والتجارة والإجارَة والأبنية ، ونحو ذلك ، وهذه حجّة خَطابية لأنّها ترجع إلى مصطلَح غالب البشر ، لا سيما العرب . ويَنْدُر أن تتولّى النساء مساعي من الاكتساب ، لكن ذلك نادر بالنسبة إلى عمل الرجل مثل استئجار الظئر نفسَها وتنمية المرأة مالاً ورثتْه من قرابتها .
ومن بديع الإعجاز صوغ قوله : { بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } في قالب صالح للمصدرية وللموصولية ، فالمصدرية مشعرة بأنّ القيامية سببها تفضيل من الله وإنفاق ، والموصولية مشعرة بأنّ سببها ما يعلمه الناس من فضل الرجال ومن إنفاقهم ليصلح الخطاب للفريقين : عالمهم وجاهلهم ، كقول السموأل أو الحارثي :
سَلِي إن جَهِلْتِ الناس عنّا وعنهم **** فليس سواء عالم وجهـول
ولأنّ في الإتيان ب ( بما ) مع الفعل على تقدير احتمال المصدرية جَزَالةً لا توجد في قولنا : بتفضيل الله وبالإنفاقِ ، لأنّ العرب يرجّحون الأفعال على الأسماء في طرق التعْبير .
وقد روي في سبب نزول الآية : أنّها قول النساء ، ومنهن أمّ سلمة أمّ المؤمنين : « أتغزو الرجال ولا نغزو وإنّما لنا نصف الميراث » فنزل قوله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] إلى هذه الآية ، فتكون هذه الآية إكمالا لما يرتبط بذلك التمنّي . وقيل : نزلت هذه الآية بسبب سعد بن الربيع الأنصاري : نشزت منه زوجه حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فشكاه أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تلطمه كما لطمها ، فنزلت الآية في فور ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أردتُ شيئاً وأراد الله غيره ، ونقض حكمه الأول ، وليس في هذا السبب الثاني حديث صحيح ولا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنّه ممّا رُوي عن الحسن ، والسدّي ، وقتادة .
والفاء في قوله : { فالصالحات } للفصيحة ، أي إذا كان الرجال قوّامين على النساء فمن المهمّ تفصيل أحوال الأزواج منهنّ ومعاشرتهنّ أزواجهنّ وهو المقصود ، فوصف الله الصالحات منهن وصفا يفيد رضاه تعالى ، فهو في معنى التشريع ، أي ليَكُنَّ صالحات . والقانتات : المطيعات لله . والقنوت : عبادة الله ، وقدّمه هنا وإن لم يكن من سياق الكلام للدلالة على تلازم خوفهنّ الله وحفظ حقّ أزواجهنّ ، ولذلك قال : { حافظات للغيب } ، أي حافظات أزواجهنّ عند غيبتهم . وعلّق الغيب بالحفظ على سبيل المجاز العقلي لأنّه وقته . والغيب مصدر غاب ضدّ حضر . والمقصود غيبة أزواجهنّ ، واللام للتعدية لضعف العامل ، إذ هو غير فِعل ، فالغيب في معنى المفعول ، وقد جعل مفعولا للحفظ على التوسّع لأنّه في الحقيقة ظرف للحفظ ، فأقيم مقام المفعول ليشمل كلّ ما هو مظنّة تخلّف الحفظ في مدّته : من كلّ ما شأنه أن يحرسه الزوج الحاضر من أحوال امرأته في عرضه وماله ، فإنّه إذا حضر يكون من حضوره وازعان : يزعها بنفسه ويَزعها أيضاً اشتغالها بزوجها ، أمّا حال الغيبة فهو حال نسيان واستخفاف ، فيمكن أن يبدو فيه من المرأة ما لا يرضي زوجها إن كانت غير صالحة أو سفيهة الرأي ، فحصل بإنابة الظرف عن المفعول إيجاز بديع ، وقد تبعه بشّار إذ قال :
* ويصُون غَيْبَكُم وإن نَزَحا *
والباء في { بما حفظ الله } للملابسة ، أي حفظا ملابساً لما حفظ الله ، و ( ما ) مصدرية أي بحفظِ اللَّهِ ، وحفظُ اللَّه هو أمره بالحفظ ، فالمراد الحفظ التكليفي ، ومعنى الملابسة أنهنّ يحفظن أزواجهنّ حفظاً مطابقاً لأمر الله تعالى ، وأمرُ الله يرجع إلى ما فيه حقّ للأزواج وحدهم أو مع حقّ الله ، فشمل ما يكرهه الزوج إذا لم يكن فيه حرج على المرأة ، ويخرج عن ذلك ما أذن الله للنساء فيه ، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم هندا بنت عتبة : أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدَها بالمعروف . لذلك قال مالك : إنّ للمرأة أن تُدْخِل الشهود إلى بيت زوجها في غيبته وتشهدهم بما تريد وكما أذن لهن النبي أن يخرجن إلى المساجد ودعوة المسلمين .
وقوله : { والتي تخافون نشوزهن } هذه بعض الأحوال المضادّة للصلاح وهو النشوز ، أي الكراهية للزوج ، فقد يكون ذلك لسوء خلق المرأة ، وقد يكون لأنّ لها رغبة في التزوّج بآخر ، وقد يكون لقسوة في خُلق الزوج ، وذلك كثير . والنشوز في اللغة الترفّع والنهوض ، وما يرجع إلى معنى الاضطراب والتباعد ، ومنه نَشَزُ الأرض ، وهو المرتفع منها .
قال جمهور الفقهاء : النشوز عصيان المرأة زوجها والترفّع عليه وإظهار كراهيته ، أي إظهار كراهية لم تكن معتادة منها ، أي بعد أن عاشرته ، كقوله : « وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا » . وجعلوا الإذن بالموعظة والهجر والضرب مرتّبا على هذا العصيان ، واحتجّوا بما ورد في بعض الآثار من الإذن للزوج في ضرب زوجته الناشز ، وما ورد من الأخبار عن بعض الصحابة أنّهم فعلوا ذلك في غير ظهور الفاحشة .
وعندي أنّ تلك الآثار والأخبار مَحْمَل الأباحة فيها أنّها قد روعي فيها عرف بعض الطبقات من الناس ، أو بعض القبائل ، فإنّ الناس متفاوتون في ذلك ، وأهل البدو منهم لا يعُدّون ضرب المرأة اعتداء ، ولا تعدّه النساء أيضاً اعتداء ، قال عامر بن الحارث النمري الملقّب بجِرَاننِ العَوْد .
عَمِدْتُ لِعَوْدٍ فَالْتَحَيْتُ جِرَانَهُ *** ولَلْكَيْسُ أمضى في الأمور وأنجح
خُذا حَذراً يا خُلَّتيَّ فإنّنــي *** رأيـتُ جران العَوْد قد كاد يصلح
والتحيْت : قشرّت ، أي قددت ، بمعنى : أنّه أخذ جلداً من باطن عنق بعير وعمله سوطا ليضرب به امرأتيه ، يهدّدهما بأنّ السوط قد جَفّ وصلح لأن يضرب به .
وقد ثبت في « الصحيح » أنّ عمر بن الخطاب قال : ( كنا معشر المهاجرين قوما نغلب نساءنا فإذا الأنصار قوم تغلبهم نساؤهم فأخذ نساؤنا يتأدّبن بأدب نساء الأنصار ) . فإذا كان الضرب مأذونا فيه للأزواج دون وُلاة الأمور ، وكان سببه مجرّد العصيان والكراهِية دون الفاحشة ، فلا جرم أنّه أذن فيه لقوم لا يعُدّون صدوره من الأزواج إضراراً ولا عارا ولا بدعا من المعاملة في العائلة ، ولا تشعر نساؤهم بمقدار غضبهم إلاّ بشيء من ذلك .
وقوله : { فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } مقصود منه الترتيب كما يقتضيه ترتيب ذكرها مع ظهور أنّه لا يراد الجمع بين الثلاثة ، والترتيب هو الأصل والمتبادر في العطف بالواو ، قال سعيد بن جبير : يعظها ، فإن قبلت ، وإلاّ هجرها ، فإن هي قبلت ، وإلاّ ضربها ، ونُقل مثله عن علي .
واعلم أنّ الواو هنا مراد بها التقسيم باعتبار أقسام النساء في النشوز .
وقوله : { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً } احتمال ضمير الخطاب فيه يجري على نحوما تقدّم في ضمائر { تخافون } وما بعده ، والمراد الطاعة بعد النشوز ، أي إن رجعن عن النشوز إلى الطاعة المعروفة . ومعنى : { فلا تبغوا عليهن سبيلاً } فلا تطلبوا طريقاً لإجراء تلك الزواجر عليهنّ ، والخطاب صالح لكلّ من جعل له سبيل على الزوجات في حالة النشوز على ما تقدّم .
والسبيل حقيقتُه الطريق ، وأطلق هنا مجازاً على التوسّل والتسبّب والتذرّع إلى أخذ الحقّ ، وسيجيء عند قوله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } في سورة براءة ( 91 ) ، وانظر قوله الآتي { وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } .
و { عليهنّ } متعلّق ب ( سبيلا ) لأنّه ضمّن معنى الحكم والسلطان ، كقوله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } [ التوبة : 91 ] .
وقوله : { إن الله كان علياً كبيراً } تذييل للتهديد ، أي إنّ الله عليٌّ عليكم ، حاكم فيكم ، فهو يعدل بينكم ، وهو كبير ، أي قويّ قادر ، فبوصف العلوّ يتعيّن امتثال أمره ونهيه ، وبوصف القدرة يُحذر بطشه عند عصيان أمره ونهيه .
ومعنى { تخافون نشوزهن } تخافون عواقبه السيّئة . فالمعنى أنّه قد حصل النشوز مع مخائل قصد العصيان والتصميم عليه لا مطلق المغاضبة أو عدم الامتثال ، فإنّ ذلك قلّما يخلو عنه حال الزوجين ، لأنّ المغاضبة والتعاصي يعرضان للنساء والرجال ، ويزولان ، وبذلك يبقى معنى الخوف على حقيقته من توقّع حصول ما يضرّ ، ويكون الأمر بالوعظ والهجر والضرب مراتبَ بمقدار الخوف من هذا النشوز والتباسه بالعدوان وسوء النية .
والمخاطب بضمير { تخافون } إمَّا الأزواج ، فتكون تعْدية ( خاف ) إليه على أصل تعدية الفعل إلى مفعوله ، نحو { فلا تخافوهم وخافون } [ آل عمران : 175 ] ويكون إسناد { فعظوهن واهجروهن واضربوهن } على حقيقته .
ويجوز أن يكون المخاطب مجموع من يصلح لهذا العمل من وُلاَة الأمور والأزواج ؛ فيتولّى كلّ فريق ما هو من شأنه ، وذلك نظير قوله تعالى في سورة البقرة ( 229 ) { ولا يَحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله } إلخ . فخطاب ( لكم ) للأزواج ، وخطاب { فإن خفتم } [ البقرة : 229 ] لولاة الأمور ، كما في « الكشّاف » . قال : ومثل ذلك غير عزيز في القرآن وغيره . يريد أنّه من قبيل قوله تعالى في سورة الصفّ ( 11 ، 13 ) : { تؤمنون بالله ورسوله } إلى قوله : { وبشر المؤمنين } فإنّه جعل ( وبشّر ) عطفاً على ( تؤمنون ) أي فهو خطاب للجميع لكنّه لمّا كان لا يتأتّى إلاّ من الرسول خصّ به . وبهذا التأويل أخذ عطاء إذ قال : لا يضرب الزوج امرأته ولكن يغضب عليها . قال ابن العربي : هذا من فقه عطاء وفهمه الشريعة ووقوفه على مظانّ الاجتهاد علم أنّ الأمر بالضرب هنا أمر إباحة ، ووقف على الكراهية من طريق أخرى كقول النبي " ولن يضرب خياركم " . وأنا أرى لعطاء نظرا أوسع ممّا رآه له ابن العربي : وهو أنّه وضع هاته الأشياء مواضعها بحسب القرائن ، ووافقه على ذلك جمع من العلماء ، قال ابن الفرس : وأنكروا الأحاديث المرويَّة بالضرب . وأقول : أو تأوّلوها . والظاهر أنّ الإذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة بين الزوجين فأذن للزوج بضرب امرأته ضرب إصلاح لقصد إقامة المعاشرة بينهما ؛ فإن تجاوز ما تقتضيه حالة نشوزها كان معتديا .
ولذلك يكون المعنى { واللاتي تخافون نشوزهن } أي تخافون سوء مغبّة نشوزهنّ ، ويقتضي ذلك بالنسبة لولاة الأمور أنّ النشوز رفع إليهم بشكاية الأزواج ، وأنّ إسناد { فعظوهن } على حقيقته ، وأمّا إسناد { واهجروهن في المضاجع } فعلى معنى إذن الأزواج بهجرانهنّ ، وإسناد { واضربوهن } كما علمت .
وضمير المخاطب في قوله : { فإن أطعنكم } يجري على التوزيع ، وكذلك ضمير { فلا تبغوا عليهن سبيلاً } .
والحاصل أنّه لا يجوز الهجر والضرب بمجرّد توقّع النشوز قبل حصوله اتّفاقاً ، وإذا كان المخاطب الأزواج كان إذنا لهم بمعاملة أزواجهم النواشز بواحدة من هذه الخصال الثلاث ، وكان الأزواج مؤتمنين على توخّي مواقع هذه الخصال بحسب قوّة النشوز وقدره في الفساد ، فأمّا الوعظ فلا حدّ له ، وأمّا الهجر فشرطه أن لا يخرج إلى حدّ الإضرار بما تجده المرأة من الكمد ، وقد قدّر بعضهم أقصاه بشهر .
وأمّا الضرب فهو خطير وتحديده عسير ، ولكنّه أذن فيه في حالة ظهور الفساد ؛ لأنّ المرأة اعتدَتْ حينئذ ، ولكن يجب تعيين حدّ في ذلك ، يبيّن في الفقه ، لأنّه لو أطلق للأزواج أن يتولّوه ، وهم حينئذ يشْفُون غضبهم ، لكان ذلك مظنّة تجاوز الحدّ ، إذ قلّ من يعاقب على قدر الذنب ، على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لولا الضرورة . بيد أنّ الجمهور قيّدوا ذلك بالسلامة من الإضرار ، وبصدوره ممّن لا يعدّ الضرب بينهم إهانة وإضراراً . فنقول : يجوز لولاة الأمور إذا علموا أنّ الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعَها ، ولا الوقوفَ عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة ، ويعلنوا لهم أنّ من ضرب امرأته عوقب ، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج ، لا سيما عند ضعف الوازع .