قوله تعالى : { قل إني على بينة } ، أي : على بيان وبصيرة وبرهان .
قوله تعالى : { من ربي وكذبتم به } ، أي : ما جئت به .
قوله تعالى : { ما عندي ما تستعجلون به } ، قيل : أراد به استعجالهم العذاب ، كانوا يقولون : { إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة } [ الأنفال : 32 ] الآية ، وقيل : أراد به القيامة ، قال الله تعالى : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } [ الشورى :18 ] .
قوله تعالى : { إن الحكم إلا لله يقص الحق } ، قرأ أهل الحجاز وعاصم : يقص بضم القاف ، والصاد مشدداً ، أي يقول الحق ، لأنه في جميع المصاحف بغير ياء ، ولأنه قال الحق ، ولم يقل بالحق ، وقرأ الآخرون { يقضي } بسكون القاف ، والضاد مكسورة ، من قضيت ، أي : يحكم بالحق بدليل أنه قال : { وهو خير الفاصلين } ، والفصل يكون في القضاء ، وإنما حذفوا الياء لاستثقال الألف واللام ، كقوله تعالى : { صال الجحيم } ونحوها ، ولم يقل بالحق لأن الحق صفة المصدر ، كأنه قال : يقضي القضاء الحق .
وبعد أن أمر الله - تعالى - نبيه بمصارحة المشركين بأنه لن يكون فى يوم من الأيام متبعاً لأهوائهم ، أمره أن يخبرهم بأنه على الحق الواضح الذى لا يضل متبعه ، وبأن الله وحده هو الذى سيقضى بينه وبينهم فقال - تعالى - : { قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ . . . } .
البينة : الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر ، أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من البينونة أى الانفصال .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك اتباع أهوائهم كيف يتأتى لى ذلك وأنا على شريعة واضحة وملة صحيحة لا يعتريها شك ، ولا يخالطها زيغ لأنها كائنة من ربى الذى لا يضل ولا ينسى .
والتنوين فى كلمة { بَيِّنَةٍ } للتفخيم والتعظيم ، وهى صفة لموصوف محذوف للعلم به فى الكلام ، أى : على حجة بينة واضحة محقة للحق ومبطلة للباطل فأنا لن أتزحزح عنها أبدا .
وفى ذلك تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم ، وإنما هم قد اتبعوا ما وجدوا عليه آبائهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .
وجملة { وَكَذَّبْتُم بِهِ } فى موضع حال من { بَيِّنَةٍ } وهى تفيد التعجب منهم حيث كذبوا بما دلت عليه البينات ، واتفقت على صحته العقول السليمة .
والضمير فى قوله { بِهِ } يعود على الله - تعالى - أى : وكذبتم بالله مع أن دلائل توحيده ظاهرة واضحة .
وقيل : يعود على البينة والتذكير باعتبار أنها بمعنى البينان .
وقيل : يعود على القرآن أى والحال أنكم كذبتم بالقرآن الذى هو بينتى من ربى .
وقوله : { مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } أى : ليس فى مقدورى أن أنزل بكم ما تستعجلونه من العذاب ، وإنما ذلك مرجعه إلى الله وحده .
وهذه الجملة الكريمة رد على المشركين الذين استعجلوا نزول العذاب عندما أنذرهم النبى صلى الله عليه وسلم بسوء المصير إذا ما استمروا فى ضلالهم ، فقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فكان رد النبى صلى الله عليه وسلم عليهم بأن الذى يملك إنزال العذاب بهم إنما هو الله وحده ، وتأخير العذاب عنهم إنما هو لحكمة يعملها الله ، فهو وحده الذى يقدر وقت نزوله .
وقوله { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } أى : ما الحكم فى تعجيل العذاب أو تأخيره وفى كل شأن من شئون الخلق إلا لله وحده فهو - سبحانه - الذى ينزل قضاءه حسب سنته الحكيمة ، وموازينه الدقيقة .
وقرأ الكسائى وغيره " يقص الحق " ، أى : يقص - سبحانه - القضاء الحق فى كل شأن من شئونه .
وقوله { يَقُصُّ الحق } أى : يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره { وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } أى : القاضين بين عباده .
قال ابن جرير : { وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } أى : وهو من ميز بين المحق والمبطل وأعدلهم ، لأنه لا يقع فى حكمه وقضائه حيف إلى أحد لوسيلة إليه ولا لقرابة ولا مناسبة ، ولا فى قضائه جور لأنه لا يأخذ الرشوة فى الأحكام فيجور ، فهو أعدل الحكام وخير الفاصلين " .
ثم يجيء الإيقاع الثاني موصولا بالإيقاع الأول ومتمما له : ( قل : إني على بينة من ربي ؛ وكذبتم به ، ما عندي ما تستعجلون به . إن الحكم إلا لله ، يقص الحق ، وهو خير الفاصلين )
وهو أمر من الله - سبحانه - لنبيه [ ص ] أن يجهر في مواجهة المشركين المكذبين بربهم - بما يجده في نفسه من اليقين الواضح الراسخ ، والدليل الداخلي البين ، والإحساس الوجداني العميق ، بربه . . ووجوده ، ووحدانيته ، ووحيه إليه . وهو الشعور الذي وجده الرسل من ربهم ، وعبروا عنه مثل هذا التعبير أو قريبا منه :
قالها نوح - عليه السلام - : ( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ؟ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ ) . .
وقالها صالح - عليه السلام - : قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . .
وقالها إبراهيم - عليه السلام - : ( وحاجه قومه . قال : أتحاجوني في الله وقد هدان ؟ )
وقالها يعقوب - عليه السلام - لبنيه( فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا . قال ألم أقل لكم : إني أعلم من الله ما لا تعلمون ؟ ) . .
فهي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب أوليائه ؛ ممن يتجلى الله لهم في قلوبهم ؛ فيجدونه - سبحانه - حاضرا فيها ؛ ويجدون هذه الحقيقة بينة هنالك في أعماقهم تسكب في قلوبهم اليقين بها . وهي الحقيقة التي يأمر الله نبيه أن يجهر بها في مواجهة المشركين المكذبين ؛ الذين يطلبون منه الخوارق لتصديق ما جاءهم به من حقيقة ربه ، الحقيقة التي يجدها هو كاملة واضحة عميقة في قلبه :
( قل إني على بينة من ربي ، وكذبتم به ) . .
كذلك كانوا يطلبون أن ينزل عليهم خارقة أو ينزل بهم العذاب ، ليصدقوا أنه جاءهم من عند الله . . وكان يؤمر أن يعلن لهم حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول ؛ وأن يفرق فرقانا كاملا بينها وبين حقيقة الألوهية ؛ وإن يجهر بأنه لا يملك هذا الذي يستعجلونه ؛ فالذي يملكه هو الله وحده ؛ وهو ليس إلها ، إنما هو رسول :
( ما عندي ما تستعجلون به ، إن الحكم إلا لله ، يقص الحق وهو خير الفاصلين )
إن إيقاع العذاب بهم بعد مجيء الخارقة وتكذيبهم بها حكم وقضاء ؛ ولله وحده الحكم والقضاء . فهو وحده الذي يقص الحق ويخبر به ؛ وهو وحده الذي يفصل في الأمر بين الداعي إلى الحق والمكذبين به . وليس هذا أو ذلك لأحد من خلقه .
وبذلك يجرد الرسول [ ص ] نفسه من أن تكون له قدرة ، أو تدخل في شأن القضاء الذي ينزله الله بعباده . فهذا من شأن الألوهية وحدها وخصائصها ، وهو بشر يوحي إليه ، ليبلغ وينذر ؛ لا لينزل قضاء ويفصل . وكما أن الله سبحانه هو الذي يقص الحق ويخبر به ؛ فهو كذلك الذي يقضي في الأمر ويفصل فيه . . وليس بعد هذا تنزيه وتجريد لذات الله - سبحانه - وخصائصه ، عن ذوات العبيد . .
{ قل إني على بينة } تنبيه على ما يجب اتباعه بعد ما بين ما لا يجوز اتباعه . والبينة الدلالة الواضحة التي تفصل الحق من الباطل وقيل المراد بها القرآن والوحي ، أو الحجج العقلية أو ما يعمها . { من ربي } من معرفته وأنه لا معبود سواه ، ويجوز أن يكون صفة لبينة . { وكذبتم به } الضمير لربي أي كذبتم به حيث أشركتم به غيره ، أو للبينة باعتبار المعنى . { ما عندي ما تستعجلون به } يعني العذاب الذي استعجلوه بقولهم : { فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } . { إن الحكم إلا لله } في تعجيل العذاب وتأخيره . { يقص الحق } أي القضاء الحق ، أو يصنع الحق ويدبره من قولهم قضى الدرع إذا صنعها ، فيما يقضي من تعجيل وتأخير وأصل القضاء الفصل بتمام الأمر ، وأصل الحكم المنع فكأنه منع الباطل . وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم " يقص " من قص الأثر ، أو من قص الخبر . { وهو خير الفاصلين } القاضين .
وقوله تعالى : { قل إني على بينة من ربي } الآية ، هذه الآية تماد في إيضاح مباينته لهم ، والمعنى قل إني على أمر بين فحذف الموصوف ثم دخلت هاء المبالغة كقوله عز وجل : { بل الإنسان على نفسه بصيرة }{[4936]} ويصح أن تكون الهاء في { بينة } مجردة للتأنيث ، ويكون بمعنى البيان ، كما قال { ويحيى من حيَّ عن بينة }{[4937]} والمراد بالآية إني أيها المكذبون في اعتقادي ويقيني وما حصل في نفسي من العلم على بينة من ربي { وكذبتم به } الضمير في { به } عائد على( بين ) في تقدير هاء المبالغة أو على البيان التي هي { بينة } بمعناه في التأويل الآخر ، أو على الرب ، وقيل على القرآن وهو وإن لم يتقدم له ذكر جلي فإنه بعض البيان الذي منه حصل الاعتقاد واليقين للنبي عليه السلام ، فيصح عود الضمير عليه .
قال القاضي أبو محمد : وللنبي عليه السلام أمور أخر غير القرآن وقع له العلم أيضاً من جهتها كتكليم الحجارة له ورؤيته للملك قبل الوحي وغير ذلك وقال بعض المفسرين في { به } عائد على { ما } والمراد بها الآيات المقترحة على ما قال بعض المفسرين ، وقيل المراد بها العذاب ، وهذا يترجح بوجهين : أحدهما من جهة المعنى وذلك أن قوله { وكذبتم به } يتضمن أنكم واقعتم ما تستوجبون به العذاب إلا أنه ليس عندي ، والآخر من جهة اللفظ وهو الاستعجال الذي لم يأت في القرآن استعجالهم إلا للعذاب ، لأن اقتراحهم بالآيات لم يكن باستعجال ، وقوله { إن الحكم إلا لله } أي القضاء والإنفاذ { يقص الحق } أي يخبر به ، والمعنى يقص القصص الحق ، وهذه قراءة ابن كثير وعاصم ونافع وابن عباس ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر «يقضي الحق »{[4938]} أي ينفذه ، وترجع هذه القراءة بقوله { الفاصلين } لأن الفصل مناسب للقضاء ، وقد جاء أيضاً الفصل والتفصيل مع القصص ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وهو أسرع الفاصلين » قال أبو عمرو الداني : وقرأ عبد الله وأبيّ ويحيى ابن وثاب وإبراهيم النخعي وطلحة الأعمش «يقضي بالحق » بزيادة باء الجر ، وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير «يقضي الحق وهو خير الفاصلين » .
استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من إبطال الشرك بدليل الوحي الإلهي المؤيِّد للأدلَّة السابقة إلى إثبات صدق الرسالة بدليل من الله مؤيِّد للأدلّة السابقة أيضاً ، لييأسوا من محاولة إرجاع الرسول عليه الصلاة والسلام عن دعوته إلى الإسلام وتشكيكه في وحيه بقولهم : ساحر ، مجنون ، شاعر ، أساطيرُ الأولين ، ولييأسوا أيضاً من إدخال الشكّ عليه في صدق إيمان أصحابه ، وإلقاء الوحشة بينه وبينهم بما حاولوا من طرده أصحابَه عن مجلسه حين حضور خصومه ، فأمره الله أن يقول لهم إنَّه على يقين من أمر رَبِّه لا يتزعزعُ . وعطف على ذلك جواب عن شبهة استدلالهم على تكذيب الوعيد بما حلّ بالأمم من قبلهم بأنَّه لو كان صدقاً لعجّل لهم العذاب ، فقد كانوا يقولون : { اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتِنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] ويقولون : { ربَّنا عجِّل لنا قطّنا قبل يوم الحساب } [ ص : 16 ] ، فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم { قُل لو أنّ عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم } [ الأنعام : 58 ] ، وأكَّد الجملة بحرف التأكيد لأنَّهم ينكرون أن يكون على بيِّنه من ربِّه .
وإعادة الأمر بالقول لتكرير الاهتمام الذي تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ] .
والبيِّنة في الأصل وصف مُؤنّثُ بَيِّن ، أي الواضحة ، فهي صفة جرت على موصوف محذوف للعلم به في الكلام ، أي دلالة بيِّنة أو حجّة بيِّنة . ثم شاع إطلاق هذا الوصف فصار اسماً للحجّة المثبِتة للحقّ التي لا يعتريها شك ، وللدلالة الواضحة ، وللمعجزة أيضاً ، فهي هنا يجوز أن تكون بمعنى الدلالة البيِّنة ، أي اليقين . وهو أنسب ب { على } الدالة على التمكّن ، كقولهم : فلان على بصيرة ، أي أنّي متمكِّن من اليقين في أمر الوحي .
ويجوز أن يكون المراد بالبيِّنة القرآن ، وتكون ( على ) مستعملة في الملازمة مجازاً مرسلاً لأنّ الاستعلاء يستلزم الملازمة ، أي أنِّي لا أخالف ما جاء به القرآن .
و { مِن ربِّي } صفة ل { بيّنة } يفيد تعظيمها وكمالها . و ( مِنْ ) ابتدائية ، أي بيّنة جائية إليّ من ربّي ، وهي الأدلَّة التي أوحاها الله إليه وجاء بها القرآن وغيرُه . ويجوز أن تكون ( مِنْ ) اتّصالية ، أي على يقين متّصل بربِّي ، أي بمعرفته توحيده ، أي فلا أتردّد في ذلك فلا تطمعوا في صرفي عن ذلك ، أي أنِّي آمنتُ بإله واحد دلَّت على وجوده ووحدانيته دلائل خلقه وقدرته ، فأنا موقن بما آمنت به لا يتطرّقني شك . وهذا حينئذٍ مسوق مساق التعريض بالمشركين في أنَّهم على اضطراب من أمر آلهتهم وعلى غير بصيرة .
وجملة { وكذّبتم به } في موضع الحال من { بيّنة } . وهي تفيد التعجّب منهم أنْ كذّبوا بما دلَّت عليه البيّنة .
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة { إنِّي على بيِّنة من ربِّي } ، أي أنا على بيِّنة وأنتم كذّبتم بما دلَّت عليه البيِّنات فشتَّان بيني وبينكم .
والضمير في قوله : { به } يعود إلى البيِّنة باعتبار تأويلها بالبيان أو باعتبار أن ماصْدَقَها اليقين أو القرآن على وجه جَعْل ( مِنْ ) ابتدائية ، أي وكذّبتم باليقين مكابرة وعناداً ، ويعود إلى ربِّي على وجه جعل ( مِنْ ) اتِّصالية ، أي كنت أنا على يقين في شأن ربّي وكذّبتم به مع أنّ دلائل توحيده بيِّنة واضحة . ويعود إلى غير مذكور في الكلام ، وهو القرآن لشهرة التداول بينهم في شأنه فإذا أطلق ضمير الغائب انصرف إليه بالقرينة .
والباء التي عدّي بها فعل { كذّبتم } هي لتأكيد لصوق معنى الفعل بمفعوله ، كما في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] . فلذلك يدلّ فعل التكذيب إذا عدّي بالباء على معنى الإنكار ، أي التكذيب القويّ . ولعلّ الاستعمال أنّهم لا يُعدّون فعل التكذيب بالباء إلاّ إذا أريد تكذيب حجّة أو برهان ممّا يحسب سببَ تصديق ، فلا يقال : كذّبتُ بفلان ، بل يقال : كذّبت فلاناً قال تعالى : { لَمَّا كذبوا الرسل } [ الفرقان : 37 ] وقال : { كذّبت ثمودُ بالنُذُر } [ القمر : 23 ] .
والمعنى التعريضيّ بهم في شأن اعتقادهم في آلهتهم باق على ما بيَّنّاه .
وقوله : { ما عندي ما تستعجلون به } استئناف بياني لأنّ حالهم في الإصرار على التكذيب ممّا يزيدهم عناداً عند سماع تسفيه أحلامهم وتنقّص عقائدهم فكانوا يقولون : لو كان قولك حقّاً فأين الوعيد الذي تَوعّدتنا . فإنّهم قالوا : { اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] وقالوا : { أو تُسْقِط السماء علينا كما زعمت كِسَفا } [ الإسراء : 92 ] فأمر بأن يجيب أن يقول { ما عندي ما تستعجلون به } .
والاستعجال طلب التعجيل بشيء ، فهو يتعدّى إلى مفعول واحد ، وهو المطلوب منه تعجيل شيء . فإذا أريد ذكر الأمر المعجّل عدّي إليه بالباء . والباء فيه للتعدية . والمفعول هنا محذوف دلّ عليه قوله : { ما عندي } . والتقدير : تستعجلونني به . وأمّا قوله تعالى : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } [ النحل : 1 ] فالأظهرُ أنّ ضمير الغائب عائد لاسم الجلالة ، وسيأتي في أوّل سورة النحل .
ومعنى { ما عندي } أنّه ليس في مقدرتي ، كما يقال : ما بيدي كذا . فالعندية مجاز عن التصرّف بالعلم والمقدرة . والمعنى : أنِّي لست العليم القدير ، أي لست إلهاً ولكنّني عبد مرسل أقف عند ما أرسلتُ به .
وحقيقة ( عندَ ) أنَّها ظرف المكان القريب . وتستعمل مجازاً في استقرار الشيء لشيء وملكه إيَّاه ، كقوله : { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] . وتستعمل مجازاً في الاحتفاظ بالشيء ، كقوله : { وعنده علم الساعة } [ الزخرف : 85 ] { وعند الله مَكْرُهم } [ إبراهيم : 46 ] ولا يحسن في غير ذلك .
والمراد ب { ما تستعجلون به } العذاب المتوعَّد به . عبَّر بطريق الموصولية لما تنبىء به الصلة من كونه مؤخّراً مدّخراً لهم وأنّهم يستعجلونه وأنّه واقع بهم لا محالة ، لأنّ التعجيل والتأخير حالان للأمر الواقع ؛ فكان قوله : { تستعجلون } في نفسه وعيداً .
وقد دلّ على أنَّه بيد الله وأنّ الله هو الذي يقدّر وقته الذي ينزل بهم فيه ، لأنّ تقديم المسند الظرف أفاد قصر القلب ، لأنّهم توهّموا من توعّد النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاهم أنّه توعّدهم بعقاب في مقدرته . فجعلوا تأخّره إخلافاً لتوعّده ، فردّ عليهم بأنّ الوعيد بيد الله ، كما سيصرّح به في قوله : { إنِ الحكم إلاّ لله } . فقوله : { إن الحكم إلاّ لله } تصريح بمفهوم القصر ، وتأكيد له . وعلى وجه كون ضمير { به } للقرآن ، فالمعنى كذّبتهم بالقرآن وهو بيِّنة عظيمة ، وسألتم تعجيل العذاب تعجيزاً لي وذلك ليس بيدي .
وجملة { يقصّ الحقّ } حال من اسم الجلالة أو استئناف ، أي هو أعلم بالحكمة في التأخير أو التعجيل .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم ، وأبو جعفر { يقُصّ } بضمّ القاف وبالصاد المهملة فهو من الاقتصاص ، وهو اتِّباع الأثر ، أي يجري قدره على أثر الحقّ ، أي على وفقه ؛ أو هو من القصص ، وهو الحكاية أي يحكي بالحق ، أي أنّ وعده واقع لا محالة فهو لا يخبر إلاّ بالحق . و { الحقّ } منصوب على المفعولية به على الاحتمالين .
وقرأ الباقيون { يَقْض } بسكون القاف وبضاد معجمة مكسورة على أنَّه مضارع ( قضى ) ، وهو في المصحف بغير ياء . فاعتُذر عن ذلك بأنّ الياء حُذفت في الخطّ تبعاً لحذفها في اللفظ في حال الوصل ، إذ هو غير محلّ وقف ، وذلك ممّا أجري فيه الرسم على اعتبار الوصل على النادر كما كتب { سندعُ الزبانيةُ } [ العلق : 18 ] . قال مكِّي قراءة الصّاد ( أي المهملة ) أحبّ إليّ لاتّفاق الحرمييْن ( أي نافع وابن كثير ) عليها ولأنَّه لو كان من القضاء للزمت الباء الموحَّدة فيه ، يعني أن يقال : يقص بالحق . وتأويله بأنّه نصب على نزع الخافض نادر . وأجاب الزّجاج بأنّ { الحقّ } منصوب على المفعولية المطلقة ، أي القضاء الحقّ ، وعلى هذه القراءة ينبغي أن لا يوقف عليه لئلاّ يضطرّ الواقف إلى إظهار الياء فيخالف الرسم المصحفي .
وجملة : { وهو خير الفاصلين } أي يقصّ ويخبر بالحقّ ، وهو خير من يفصل بين الناس ، أو يقضي بالحقّ ، وهو خير من يفصل القضاء .
والفصْل يطلق بمعنى القضاء . قال عُمر في كتابه إلى أبي موسى « فإنّ فصْل القضاء يورث الضغائن » . ويطلق بمعنى الكلام الفاصل بين الحقّ والباطل ، والصواب والخطأ ، ومنه قوله تعالى : { وآتيناه الحكمة وفصْلَ الخطاب } [ ص : 20 ] وقوله : { إنَّه لَقَوْل فصْل } [ الطارق : 13 ] . فمعنى { خير الفاصلين } يشمل القول الحقّ والقضاء العدل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل إني على بينة من ربي}: بيان من ربي بما أمرني من عبادته وترك عبادة الأصنام، حين قالوا له: ائتنا بالعذاب إن كنت من الصادقين، {وكذبتم به}، يعني بالعذاب، فقال لهم، عليه السلام: {ما عندي ما تستعجلون به} من العذاب، يعني كفار مكة، {إن الحكم إلا لله}: ما القضاء إلا الله في نزول العذاب بكم في الدنيا، {يقص الحق}: يقول الحق، ومن قرأها:"يقضي الحق"، يعني يأتي بالعذاب ولا يؤخره إذا جاء، {وهو خير الفاصلين} بيني وبينكم، يعني خير الحاكمين في نزول العذاب بهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قُلْ يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم، الداعين لك إلى الإشراك بربك:"إنّي على بَيّنَةٍ مِنْ ربي" أي إني على بيان قد تبينته وبرهان قد وضح لي "من ربي"، يقول: من توحيده، وما أنا عليه من إخلاص عبوديته من غير إشراك شيء به وكذلك تقول العرب: فلان على بينة من هذا الأمر: إذا كان على بيان منه، "وكَذّبْتُمْ بِهِ": وكذبتم أنتم بربكم. والهاء في قوله «به» من ذكر الربّ جل وعزّ. "ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ": ما الذي تستعجلون من نقم الله وعذابه بيدي، ولا أنا على ذلك بقادر. وذلك أنهم قالوا حين بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتوحيده، فدعاهم إلى الله وأخبرهم أنه رسوله إليهم: "هَلْ هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أفَتأْتونَ السّحْرَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ "وقالوا للقرآن: هو أضغاث أحلام. وقال بعضهم: بل هو اختلاق اختلقه. وقال آخرون: بل محمد شاعر، "فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون" فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: أجبهم بأن الآيات بيد الله لا بيدك، وإنما أنت رسول، وليس عليك إلاّ البلاغ لما أرسلت به، وإن الله يقضي الحقّ فيهم وفيك ويفصل به بينك وبينهم فيتبين المحقّ منكم والمبطل. "وهُوَ خَيْرُ الفاصلِينَ": أي وهو خير من بين وميز بين المحقّ والمبطل وأعدلهم، لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حيف إلى أحد لوسيلة له إليه ولا لقرابة ولا مناسبة، ولا في قضائه جور لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجوز، فهو أعدل الحكام وخير الفاصلين. وقد ذكر لنا في قراءة عبد الله: «وهُوَ أسْرَعُ الفَاصِلين».
عن سعيد بن جبير أنه قال: في قراءة عبد الله: «يقضي الحقّ وهو أسرع الفاصلين».
واختلفت القراء في قراءة قوله: «يَقْضِي الحَقّ» فقرأه عامة قرّاء الحجاز والمدينة وبعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة: إن الحُكْمُ إلاّ لِلّهِ يَقُصّ الحَقّ بالصاد بمعنى القصص، وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى: "نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ". وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفة والبصرة: «إن الحُكْمُ إلاّ لِلّهِ يَقْضِي الحَقّ» بالضاد من القضاء بمعنى الحكم والفصل بالقضاء. واعتبروا صحة ذلك بقوله: "وَهُوَ خَيْرُ الفاصلِينَ" وأن الفصل بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقصص.
وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب لما ذكرنا لأهلها من العلة. فمعنى الكلام إذن: ما الحكم فيما تستعجلون به أيها المشركون من عذاب الله وفيما بيني وبينكم، إلاّ الله الذي لا يجور في حكمه، وبيده الخلق والأمر، يقضي الحقّ بيني وبينكم، وهو خير الفاصلين بيننا بقضائه وحكمه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
في هذه الآية أمر من الله لنبيه أن يقول للكفار أنه على بينة من ربه، أي على أمر بين من معرفة الله وصحة نبوته، لا متبع للهوى. وقوله "وكذبتم به "الهاء راجعة إلى البيان، لأن البينة والبيان واحد، وتقديره: وكذبتم بالبيان الذي هو القرآن. وقال قوم: بينة من ربي: من نبوتي. "وكذبتم به" يعني بالله. وعلى الأول يكون تقديره كذبتم بما أتيتكم، لأنه هو البيان.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ولما نفى أن يكون الهوى متبعاً نبه على ما يجب اتباعه بقوله: {قُلْ إِنّي على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} ومعنى قوله: {إِنّي على بَيّنَةٍ مّن رَّبّي وَكَذَّبْتُم بِهِ}: إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه، على حجة واضحة وشاهد صدق {وَكَذَّبْتُم بِهِ} أنتم حيث أشركتم به غيره. ويقال: أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه، إذا كان ثابتاً عندك بدليل. ثم عقبه بما دل على استعظام تكذيبهم بالله وشدة غضبه عليهم لذلك وأنهم أحقاء بأن يغافصوا بالعذاب المستأصل فقال: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32] {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} في تأخير عذابكم {يَقْضي الحق} أي القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل في أقسامه {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} أي القاضين. وقرئ: «يقص الحق» أي يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدّره، من قص أثره.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمراد بالآية: إني أيها المكذبون في اعتقادي ويقيني وما حصل في نفسي من العلم على بينة من ربي. {وكذبتم به} الضمير في {به} عائد على (بين) في تقدير هاء المبالغة أو على البيان التي هي {بينة} بمعناه في التأويل الآخر، أو على الرب، وقيل على القرآن، وهو وإن لم يتقدم له ذكر جلي فإنه بعض البيان الذي منه حصل الاعتقاد واليقين للنبي عليه السلام، فيصح عود الضمير عليه. وللنبي عليه السلام أمور أخر غير القرآن وقع له العلم أيضاً من جهتها كتكليم الحجارة له، ورؤيته للملك قبل الوحي وغير ذلك.وقال بعض المفسرين في {به} عائد على {ما} والمراد بها الآيات المقترحة على ما قال بعض المفسرين، وقيل المراد بها العذاب، وهذا يترجح بوجهين: أحدهما من جهة المعنى وذلك أن قوله {وكذبتم به} يتضمن أنكم واقعتم ما تستوجبون به العذاب إلا أنه ليس عندي، والآخر من جهة اللفظ وهو الاستعجال الذي لم يأت في القرآن استعجالهم إلا للعذاب، لأن اقتراحهم بالآيات لم يكن باستعجال...
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام، كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك. والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب. فقال تعالى قل يا محمد: {ما عندي ما تستعجلون به} يعني قولهم {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} والمراد أن ذلك العذاب ينزله الله في الوقت الذي أراد إنزاله فيه. ولا قدرة لي على تقديمه أو تأخيره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان طلبهم للآيات -أي العلامات الدالة على الصدق تارة بالرحمة في إنزال الأنهار والكنوز وإراحة الحياة، وتارة بالعذاب من إيقاع السماء عليهم كسفاً ونحو ذلك- ليس في يده ولا عنده تعين وقت نزوله، وأمره هنا أن يصرح لهم بالمباينة ويؤيسهم من الملاينة ما داموا على المداهنة، أمره بأن يخبرهم بما هو متمكن فيه من النور وما هم فيه من العمى بقوله: {قل إني} وأشار إلى تمكنه في الأدلة الظاهرة والحجج القاهرة بحرف الاستعلاء فقال: {على بينة} أي إن العدو إنما يصانع عدوه إما لعدم الثقة بالنصرة عليه وتعذيبه بعداوته، وإما لعدم وثوقه بأنه على الحق، وأما أنا فواثق بكلا الأمرين {من ربي} أي المحسن إليّ بإرسالي بعد الكشف التام لي عن سر الملك والملكوت {و} الحال أنكم {كذبتم به} أي ربي حيث رددتم رسالته فهو منتقم منكم لا محالة.
ولما قيل ذلك، فرض أن لسان حالهم قال: فائتنا بهذه البينة! فقال: إن ربي تام القدرة، فلا يخاف الفوت فلا يعجل، وأما أنا فعبد {ما عندي} أي في قدرتي وإمكاني {ما تستعجلون به} أي في قولكم "امطر علنيا حجارة من السماء "ونحوه حتى أحكم فيكم بما يقتضيه طبع البشر من العجلة {إن} أي ما {الحكم} في شيء من الأشياء هذا وغيره {إلا لله} أي الذي له الأمر كله فلا كفوء له، ثم استأنف قوله مبيناً أنه سبحانه يأتي بالأمر في الوقت الذي حده له على ما هو الأليق به من غير قدرة لأحد غيره على تقديم ولا تأخير فقال: {يقص} أي يفصل وينفذ بالتقديم والتأخير، وهو معنى قراءة الحرميين وعاصم "يقص" أي يقطع القضاء أو القصص {الحق} ويظهره فيفصله من الباطل ويوضحه، ليتبعه من قضى بسعادته، ويتنكب عنه من حكم بشقاوته {وهو خير الفاصلين} لأنه إذا أراد ذلك لم يدع لبساً لمن يريد هدايته، وجعل في ذلك الظاهر سبباً لمن يريد ضلالته؛
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قل إني على بينة من ربي} أي قل لهم أيها الرسول أيضا إني فيما أخالفكم فيه على بينة من ربي هداني إليها بالوحي والعقل، والبينة كل ما يتبين به الحق، من الحجج والدلائل العقلية، والشواهد والآيات الحسية، ومنه تسمية شهادة الشهود بينة، والقرآن بينة مشتملة على أنواع كثيرة من البينات العقلية والكونية فهو على كونه من عند الله تعالى للقطع- بعجز الرسول كغيره عن الإتيان بمثله- مؤيد بالحجج والبينات المثبتة لما فيه من قواعد العقائد وأصول الهداية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من إبطال الشرك بدليل الوحي الإلهي المؤيِّد للأدلَّة السابقة إلى إثبات صدق الرسالة بدليل من الله مؤيِّد للأدلّة السابقة أيضاً، لييأسوا من محاولة إرجاع الرسول عليه الصلاة والسلام عن دعوته إلى الإسلام وتشكيكه في وحيه بقولهم: ساحر، مجنون، شاعر، أساطيرُ الأولين، ولييأسوا أيضاً من إدخال الشكّ عليه في صدق إيمان أصحابه، وإلقاء الوحشة بينه وبينهم بما حاولوا من طرده أصحابَه عن مجلسه حين حضور خصومه، فأمره الله أن يقول لهم إنَّه على يقين من أمر رَبِّه لا يتزعزعُ. وعطف على ذلك جواب عن شبهة استدلالهم على تكذيب الوعيد بما حلّ بالأمم من قبلهم بأنَّه لو كان صدقاً لعجّل لهم العذاب، فقد كانوا يقولون: {اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتِنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] ويقولون: {ربَّنا عجِّل لنا قطّنا قبل يوم الحساب} [ص: 16]، فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم {قُل لو أنّ عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم} [الأنعام: 58]، وأكَّد الجملة بحرف التأكيد لأنَّهم ينكرون أن يكون على بيِّنه من ربِّه.
وإعادة الأمر بالقول لتكرير الاهتمام الذي تقدّم بيانه عند قوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} [الأنعام: 40].
والبيِّنة في الأصل وصف مُؤنّثُ بَيِّن، أي الواضحة، فهي صفة جرت على موصوف محذوف للعلم به في الكلام، أي دلالة بيِّنة أو حجّة بيِّنة. ثم شاع إطلاق هذا الوصف فصار اسماً للحجّة المثبِتة للحقّ التي لا يعتريها شك، وللدلالة الواضحة، وللمعجزة أيضاً، فهي هنا يجوز أن تكون بمعنى الدلالة البيِّنة، أي اليقين. وهو أنسب ب {على} الدالة على التمكّن، كقولهم: فلان على بصيرة، أي أنّي متمكِّن من اليقين في أمر الوحي.
ويجوز أن يكون المراد بالبيِّنة القرآن، وتكون (على) مستعملة في الملازمة مجازاً مرسلاً لأنّ الاستعلاء يستلزم الملازمة، أي أنِّي لا أخالف ما جاء به القرآن.
و {مِن ربِّي} صفة ل {بيّنة} يفيد تعظيمها وكمالها. و (مِنْ) ابتدائية، أي بيّنة جائية إليّ من ربّي، وهي الأدلَّة التي أوحاها الله إليه وجاء بها القرآن وغيرُه. ويجوز أن تكون (مِنْ) اتّصالية، أي على يقين متّصل بربِّي، أي بمعرفته توحيده، أي فلا أتردّد في ذلك فلا تطمعوا في صرفي عن ذلك، أي أنِّي آمنتُ بإله واحد دلَّت على وجوده ووحدانيته دلائل خلقه وقدرته، فأنا موقن بما آمنت به لا يتطرّقني شك. وهذا حينئذٍ مسوق مساق التعريض بالمشركين في أنَّهم على اضطراب من أمر آلهتهم وعلى غير بصيرة.
وجملة {وكذّبتم به} في موضع الحال من {بيّنة}. وهي تفيد التعجّب منهم أنْ كذّبوا بما دلَّت عليه البيّنة.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {إنِّي على بيِّنة من ربِّي}، أي أنا على بيِّنة وأنتم كذّبتم بما دلَّت عليه البيِّنات فشتَّان بيني وبينكم.
والضمير في قوله: {به} يعود إلى البيِّنة باعتبار تأويلها بالبيان أو باعتبار أن ما صدقها اليقين أو القرآن على وجه جَعْل (مِنْ) ابتدائية، أي وكذّبتم باليقين مكابرة وعناداً، ويعود إلى ربِّي على وجه جعل (مِنْ) اتِّصالية، أي كنت أنا على يقين في شأن ربّي وكذّبتم به مع أنّ دلائل توحيده بيِّنة واضحة. ويعود إلى غير مذكور في الكلام، وهو القرآن لشهرة التداول بينهم في شأنه فإذا أطلق ضمير الغائب انصرف إليه بالقرينة.
والباء التي عدّي بها فعل {كذّبتم} هي لتأكيد لصوق معنى الفعل بمفعوله، كما في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6]. فلذلك يدلّ فعل التكذيب إذا عدّي بالباء على معنى الإنكار، أي التكذيب القويّ. ولعلّ الاستعمال أنّهم لا يُعدّون فعل التكذيب بالباء إلاّ إذا أريد تكذيب حجّة أو برهان ممّا يحسب سببَ تصديق، فلا يقال: كذّبتُ بفلان، بل يقال: كذّبت فلاناً قال تعالى: {لَمَّا كذبوا الرسل} [الفرقان: 37] وقال: {كذّبت ثمودُ بالنُذُر} [القمر: 23].
والمعنى التعريضيّ بهم في شأن اعتقادهم في آلهتهم باق على ما بيَّنّاه.
وقوله: {ما عندي ما تستعجلون به} استئناف بياني لأنّ حالهم في الإصرار على التكذيب ممّا يزيدهم عناداً عند سماع تسفيه أحلامهم وتنقّص عقائدهم فكانوا يقولون: لو كان قولك حقّاً فأين الوعيد الذي تَوعّدتنا. فإنّهم قالوا: {اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] وقالوا: {أو تُسْقِط السماء علينا كما زعمت كِسَفا} [الإسراء: 92] فأمر بأن يجيب أن يقول {ما عندي ما تستعجلون به}.
والاستعجال طلب التعجيل بشيء، فهو يتعدّى إلى مفعول واحد، وهو المطلوب منه تعجيل شيء. فإذا أريد ذكر الأمر المعجّل عدّي إليه بالباء. والباء فيه للتعدية. والمفعول هنا محذوف دلّ عليه قوله: {ما عندي}. والتقدير: تستعجلونني به. وأمّا قوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1] فالأظهرُ أنّ ضمير الغائب عائد لاسم الجلالة، وسيأتي في أوّل سورة النحل.
ومعنى {ما عندي} أنّه ليس في مقدرتي، كما يقال: ما بيدي كذا. فالعندية مجاز عن التصرّف بالعلم والمقدرة. والمعنى: أنِّي لست العليم القدير، أي لست إلهاً ولكنّني عبد مرسل أقف عند ما أرسلتُ به.
وحقيقة (عندَ) أنَّها ظرف المكان القريب. وتستعمل مجازاً في استقرار الشيء لشيء وملكه إيَّاه، كقوله: {وعنده مفاتح الغيب} [الأنعام: 59]. وتستعمل مجازاً في الاحتفاظ بالشيء، كقوله: {وعنده علم الساعة} [الزخرف: 85] {وعند الله مَكْرُهم} [إبراهيم: 46] ولا يحسن في غير ذلك.
والمراد ب {ما تستعجلون به} العذاب المتوعَّد به. عبَّر بطريق الموصولية لما تنبئ به الصلة من كونه مؤخّراً مدّخراً لهم وأنّهم يستعجلونه وأنّه واقع بهم لا محالة، لأنّ التعجيل والتأخير حالان للأمر الواقع؛ فكان قوله: {تستعجلون} في نفسه وعيداً.
وقد دلّ على أنَّه بيد الله وأنّ الله هو الذي يقدّر وقته الذي ينزل بهم فيه، لأنّ تقديم المسند الظرف أفاد قصر القلب، لأنّهم توهّموا من توعّد النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاهم أنّه توعّدهم بعقاب في مقدرته. فجعلوا تأخّره إخلافاً لتوعّده، فردّ عليهم بأنّ الوعيد بيد الله، كما سيصرّح به في قوله: {إنِ الحكم إلاّ لله}. فقوله: {إن الحكم إلاّ لله} تصريح بمفهوم القصر، وتأكيد له. وعلى وجه كون ضمير {به} للقرآن، فالمعنى كذّبتهم بالقرآن وهو بيِّنة عظيمة، وسألتم تعجيل العذاب تعجيزاً لي وذلك ليس بيدي.
وجملة {يقصّ الحقّ} حال من اسم الجلالة أو استئناف، أي هو أعلم بالحكمة في التأخير أو التعجيل ...
... {يقُصّ} بضمّ القاف وبالصاد المهملة فهو من الاقتصاص، وهو اتِّباع الأثر، أي يجري قدره على أثر الحقّ، أي على وفقه؛ أو هو من القصص، وهو الحكاية أي يحكي بالحق، أي أنّ وعده واقع لا محالة فهو لا يخبر إلاّ بالحق. و {الحقّ} منصوب على المفعولية به على الاحتمالين.
.. وجملة: {وهو خير الفاصلين} أي يقصّ ويخبر بالحقّ، وهو خير من يفصل بين الناس، أو يقضي بالحقّ، وهو خير من يفصل القضاء.
والفصْل يطلق بمعنى القضاء. قال عُمر في كتابه إلى أبي موسى « فإنّ فصْل القضاء يورث الضغائن». ويطلق بمعنى الكلام الفاصل بين الحقّ والباطل، والصواب والخطأ، ومنه قوله تعالى: {وآتيناه الحكمة وفصْلَ الخطاب} [ص: 20] وقوله: {إنَّه لَقَوْل فصْل} [الطارق: 13]. فمعنى {خير الفاصلين} يشمل القول الحقّ والقضاء العدل.
{قل إني على بينة من ربي} القول يدلنا أننا دون بينة من الله لا نعرف المنهج، ولكن ببينة من الله نعلم أنه إله واحد أنزل منهجا (افعل) و (لا تفعل). وجاء الحق هنا بكلمة (ربي) حتى نعرف أنه الخالق الذي يتولى تربيتنا جميعا. ومادام سبحانه وتعالى قد خلقنا، وتولى تربيتنا فلا بد أن نمتثل لمنهجه. وقد أنزل الإله تكليفا لأنه معبود، وهو في وقت نفسه الرب الذي خلق ورزق، ولذلك نمتثل لمنهجه، أما المكذبون فماذا عنهم؟ {وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين (57)} (من الآية 57 سورة الأنعام). فالذين كذبوا بالله اتخذوا من دونه أندادا، ولم يمتثلوا لمنهجه، بل تمادى بعضهم في الكفر وقالوا ما رواه الحق عنهم: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (32)} (سورة الأنفال). وعندما نناقش ما قالوا، نجد أنهم قالوا: (اللهم)، وهذا اعتراف منهم بإله يتوجهون إليه. وما داموا قد اعترفوا بالإله فلماذا ينصرفون عن الامتثال لمنهجه وعبادته؟. هم يفعلون ذلك لأنهم نموذج للصلف والمكابرة المتمثل في قولهم: {إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}.. والاستعجال هو طلب الإسراع في الأمر، وهو مأخوذ من (العجلة) وهي السرعة إلى الغاية، أي طلب الحدث قبل زمنه. وماداموا قد استعجلوا العذاب فلا بد أن يأتيهم هذا العذاب، ولكن في الميعاد الذي يقرره الحق؛ لأن لكل حدث من أحداث الكون ميلادا حدده الحق سبحانه: {ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين}
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(يقص الحق وهو خير الفاصلين). بديهي أنّ القادر على أن يفصل بين الحق والباطل على خير وجه هو الذي يكون أعلم الجميع، ومن السهل عليه التمييز بين الحق والباطل، ثمّ تكون له القدرة الكافية على استخدام علمه. وهاتان الصفتان (العلم والقدرة) هما من صفات الذات الإِلهية اللامحدودة، وعليه فإنّه عزّ وجلّ خير من يقص الحق، أي يفصل الحق من الباطل.