مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلۡ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبۡتُم بِهِۦۚ مَا عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦٓۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ يَقُصُّ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰصِلِينَ} (57)

ولما نفى أن يكون الهوى متبعا ، نبه على ما يجب اتباعه بقوله : { قل إني على بينة من ربي } أي في أنه لا معبود سواه . وكذبتم أنتم حيث أشركتم به غيره .

واعلم أنه عليه الصلاة والسلام ، كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك . والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب . فقال تعالى قل يا محمد : { ما عندي ما تستعجلون به } يعني قولهم { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } والمراد أن ذلك العذاب ينزله الله في الوقت الذي أراد إنزاله فيه . ولا قدرة لي على تقديمه أو تأخيره . ثم قال : { إن الحكم إلا لله } وهذا مطلق يتناول الكل . والمراد ههنا أن الحكم إلا لله فقط في تأخير عذابهم { يقضى الحق } أي القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل { وهو خير الفاصلين } أي القاضين ، وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : احتج أصحابنا بقوله : { إن الحكم إلا لله } على أنه لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله به ، فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله به وحكم به . وكذلك في جميع الأفعال . والدليل عليه أنه تعالى قال : { إن الحكم إلا لله } وهذا يفيد الحصر ، بمعنى أنه لا حكم إلا لله . واحتج المعتزلة بقوله : { يقضي الحق } ومعناه أن كل ما قضى به فهو الحق . وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر . ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس الحق . والله أعلم .

المسألة الثانية : قرأ ابن كثير ونافع وعاصم { يقص الحق } بالصاد من القصص ، يعني أن كل ما أنبأ الله به وأمر به فهو من أقاصيص الحق ، كقوله : { نحن نقص عليك أحسن القصص } وقرأ الباقون { يقض الحق } والمكتوب في المصاحف «يقض » بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين كما كتبوا { سندع الزبانية } { فما تغن النذر } وقوله : { يقضى الحق } قال الزجاج : فيه وجهان : جائز أن يكون { الحق } صفة المصدر والتقدير : يقض القضاء الحق . ويجوز أن يكون { يقض الحق } يصنع الحق ، لأن كل شيء صنعه الله فهو حق . وعلى هذا التقدير { الحق } يكون مفعولا به وقضى بمعنى صنع . قال الهذلي :

وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تبع

أي صنعهما داود واحتج أبو عمرو على هذه القراءة بقوله : { وهو خير الفاصلين } قال والفصل يكون في القضاء ، لا في القصص .

أجاب أبو علي الفارسي فقال القصص ههنا بمعنى القول . وقد جاء الفصل في القول قال تعالى : { إنه لقول فصل } وقال : { أحكمت آياته ثم فصلت } وقال : { نفصل الآيات } .