الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قُلۡ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبۡتُم بِهِۦۚ مَا عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦٓۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ يَقُصُّ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰصِلِينَ} (57)

قوله تعالى : " قل إني على بينة من ربي " أي دلالة ويقين وحجة وبرهان ، لا على هوى ، ومنه البينة لأنها تبين الحق وتظهره . " وكذبتم به " أي بالبينة لأنها في معنى البيان ، كما قال : " وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " [ النساء : 8 ] على ما بيناه هناك{[6397]} . وقيل يعود على الرب ، أي كذبتم بربي لأنه جرى ذكره . وقيل : بالعذاب . وقيل : بالقرآن . وفي معنى هذه الآية والتي قبلها ما أنشده مصعب بن عبدالله بن الزبير لنفسه ، وكان شاعرا محسنا رضي الله عنه :

أأقعد بعدما رجفت عظامي *** وكان الموت أقرب ما يليني

أجادل كل معترض خصيم *** وأجعل دينه غرضا لديني

فاترك ما علمت لرأي غيري *** وليس الرأي كالعلم اليقين

وما أنا والخصومة وهي شيء *** يصرف في الشمال وفي اليمين

وقد سنت لنا سنن قوام *** يلحن بكل فج أو وجين{[6398]}

وكان الحق ليس به خفاء *** أغر كغرة الفلق المبين

وما عوض لنا منهاج جهم *** بمنهاج ابن آمنة الأمين

فأما ما علمت فقد كفاني *** وأما ما جهلت فجنبوني

قوله تعالى : " ما عندي ما تستعجلون به " أي العذاب ، فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحو قولهم : " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا " {[6399]} [ الإسراء : 92 ] " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء{[6400]} " [ الأنفال : 32 ] . وقيل : ما عندي من الآيات التي تقترحونها . " إن الحكم إلا لله " أي ما الحكم إلا لله في تأخير العذاب وتعجيله . وقيل : الحكم الفاصل بين الحق والباطل لله . " يقص الحق " أي يقص القصص الحق ، وبه استدل من منع المجاز في القرآن ، وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم ومجاهد والأعرج وابن عباس ، قال ابن عباس : قال الله عز وجل : " نحن نقص عليك أحسن القصص{[6401]} " [ يوسف : 3 ] . والباقون " يَقْضِ الحقَّ " بالضاد المعجمة ، وكذلك قرأ علي - رضي الله عنه - وأبو عبدالرحمن السلمي وسعيد بن المسيب ، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء{[6402]} ، ولا ينبغي الوقف عليه ، وهو من القضاء ، ودل على ذلك أن بعده " وهو خير الفاصلين " والفصل لا يكون إلا قضاء دون قصص ، ويقوي ذلك قوله قبله : " إن الحكم إلا لله " ويقوي ذلك أيضا قراءة ابن مسعود ( إن الحكم إلا لله يقضي بالحق ) فدخول الباء يؤكد معنى القضاء . قال النحاس : هذا لا يلزم ؛ لأن معنى " يقضي " يأتي ويصنع فالمعنى : يأتي الحق ، ويجوز أن يكون المعنى : يقضي القضاء الحق . قال مكي : وقراءة الصاد أحب إلي ؛ لاتفاق الحرميين وعاصم على ذلك ، ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود . قال النحاس : وهذا الاحتجاج لا يلزم ؛ لأن مثل هذه الباء تحذف كثيرا .


[6397]:راجع ج 5 ص 50.
[6398]:الوجين: شط الوادي.
[6399]:راجع ج 10 ص 327.
[6400]:راجع ج 7 ص 398.
[6401]:راجع ج 9 ص 119.
[6402]:قال الفخر الرازي "يقض" بغير ياء لأنها سقطت لالتقاء الساكنين، كما كتبوا "سندع الزبانية" "فما تغن النذر".