106- يا أيها الذين آمنوا : حينما تظهر على أحد منكم علامة الموت ويريد أن يوصى بشيء ، فالشهادة بينكم على الوصية ، أن يشهد اثنان عادلان من أقاربكم ، أو آخران من غيركم إذا كنتم في سفر ، وظهرت أمارات الموت ، تحبسون هذين الشاهدين بعد أداء الصلاة التي يجتمع عليها الناس . فيحلفان بالله قائلين : لا نستبدل بيمينه عوضاً ، ولو كان فيه نفع لنا أو لأحد من أقاربنا ، ولا نخفي الشهادة التي أمرنا الله بأدائها صحيحة . إنا إذا أخفينا الشهادة أو قلنا غير الحق ، لنكونن من الظالمين المستحقين لعذاب الله .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } ، سبب نزول هذه الآية : ما روي أن تميم بن أوس الداري ، وعدي بن زيد ، قد خرجا من المدينة للتجارة إلى أرض الشام ، وهما نصرانيان ، ومعهما بديل -مولى عمرو بن العاص- وكان مسلما ، فلما قدموا الشام مرض بديل ، فكتب كتابا فيه جميع ما معه من المتاع ، وألقاه في جوالقه ، ولم يخبر صاحبيه بذلك ، فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي ، وأمرهما أي يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ، ومات بديل ، ففتشا متاعه ، وأخذا منه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة ، فغيباه ، ثم قضيا حاجتهما ، فانصرفا إلى المدينة ، فدفعا المتاع إلى أهل البيت ، ففتشوا وأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه ، فجاؤوا تميما وعديا فقالوا : هل باع صاحبنا شيئا من متاعه ؟ قالا : لا ، قالوا : فهل اتجر تجارة ؟ قالا : لا ، قالوا : هل طال مرضه فأنفق على نفسه ؟ قالا : لا ، فقالوا : إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه ، وإنا قد فقدنا منها إناء من فضة مموها بالذهب ، فيه ثلاثمائة مثقال فضة ، قالا : ما ندري ، إنما أوصى لنا بشيء فأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه ، وما لنا علم بالإناء ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصرا على الإنكار ، وحلفا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان } أي : ليشهد اثنان ، لفظه خبر ، ومعناه أمر ، قيل : إن معناه : أن الشهادة فيما بينكم على الوصية عند الموت اثنان ، واختلفوا في هذين الاثنين ، فقال قوم : هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي . وقال آخرون : هما الوصيان ، لأن الآية نزلت فيهما ، ولأنه قال : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان } ، ولا يلزم الشاهد يمين ، وجعل الوصي اثنين تأكيدا ، فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور ، كقولك : شهدت وصية فلان ، بمعنى حضرت ، قال الله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [ النور :2 ] ، يريد الحضور .
قوله تعالى : { ذوا عدل } أي : أمانة وعقل .
قوله تعالى : { منكم } ، أي : من أهل دينكم يا معشر المؤمنين .
قوله تعالى : { أو آخران من غيركم } ، أي : من غير دينكم وملتكم ، في قول أكثر المفسرين ، قاله ابن عباس ، وأبو موسى الأشعري ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعبيدة ، ثم أختلف هؤلاء في حكم الآية فقال النخعي وجماعة : هي منسوخة ، وكانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ، ثم نسخت . وذهب قوم إلى أنها ثابتة ، وقالوا : إذا لم نجد مسلمين فنشهد كافرين . قال شريح : من كان بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد كافرين على أي دين كانا ، من دين أهل الكتاب أو عبدة الأوثان ، فشهادتهم جائزة ، ولا يجوز شهادة كافر على مسلم إلا على وصية في سفر . وعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، فقدما الكوفة بتركته ، وأتيا الأشعري فأخبراه بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأحلفهما ، وأمضى شهادتهما . وقال آخرون : قوله { ذوا عدل منكم } أي : من حي الموصي ، { أو آخران من غيركم } أي من غير حيكم ، وعشيرتكم ، وهو قول الحسن ، والزهري ، وعكرمة . وقالوا : لا تجوز شهادة كافرين في شيء من الأحكام .
قوله تعالى : { إن أنتم ضربتم } ، أي سرتم وسافرتم .
قوله تعالى : { في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } ، فأوصيتم إليهما . ودفعتم إليهما مالكم ، فاتهمهما بعض الورثة ، وادعوا عليهما خيانة ، فاحكم فيه أن { تحبسونهما } ، أي : تستوقفونهما .
قوله تعالى : { من بعد الصلاة } ، أي : بعد الصلاة ، و { من } صلة يريد : بعد صلاة العصر ، هذا قول الشعبي ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعامة المفسرين ، لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ، ويجتنبون فيه الحلف الكاذب ، وقال الحسن : أراد من بعد صلاة الظهر . وقال السدي : من بعد صلاة أهل دينهما ، وملتهما ، لأنهما لا يباليان بصلاة العصر .
قوله تعالى : { فيقسمان } ، يحلفان .
قوله تعالى : { بالله إن ارتبتم } ، أي : شككتم ، ووقعت لكم الريبة في قول الشاهدين وصدقهما ، أي : في قول اللذين ليسا من أهل ملتكم ، فإن كانا مسلمين فلا يمين عليهما .
قوله تعالى : { لا نشتري به ثمنا } ، أي : لا نحلف بالله كاذبين على عوض نأخذه ، أو مال نذهب به ، أو حق نجحده .
قوله تعالى : { ولو كان ذا قربى } ، ولو كان المشهود له ذا قرابة منا .
قوله تعالى : { ولا نكتم شهادة الله } أضاف الشهادة إلى الله لأنه أمر بإقامتها ، ونهى عن كتمانها ، وقرأ يعقوب { شهادة } بتنوين { الله } ممدود ، وجعل الاستفهام عوضا عن حرف القسم ، ويروى عن أبي جعفر { شهادة } ، منونة { الله } بقطع الألف ، وكسر الهاء ، من غير استفهام على ابتداء اليمين ، أي : والله .
قوله تعالى : { إنا إذا لمن الآثمين } ، أي إن كتمناها كنا من الآثمين ، فلما نزلت هذه الآية صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ، ودعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما ، فحلفا على ذلك ، وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما . ثم ظهر الإناء واختلفوا في كيفية ظهوره ، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه وجد بمكة ، فقالوا : إنا اشتريناه من تميم وعدي ، وقال آخرون : لما طالت المدة أظهروه ، فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما في ذلك ، فقالا : إنا كنا قد اشتريناه منه ، فقالوا : ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه ؟ قالا : لم يكن عندنا بيّنة فكرهنا أن نقر لكم به فكتمناه لذلك ، فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله عز وجل { فإن عثر على أنهما استحق إثما . . . } .
ثم ختمت السورة حديثها الطويل المتنوع عن الأحكام الشرعية ببيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع الإِسلامي فتحدثت عن التشريع الخاص بالإِشهاد على الوصية في حالة السفر ، وعن الضمانات التي شرعتها لكي يصل إلى أهله كاملا غير منقوص فقال - تعالى - :
{ يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ . . . }
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة في تفاصيلها إلا أنها متقاربة في مغزاها .
ومن ذلك ما ذكره ابن كثير بقوله : روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } قال : برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإِسلام ، فأتيا الشام لتجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له " بديل بن أبي مريم " بتجارة ، معه جام من فضة أي إناء من فضة - يريد به الملك ، وهو أعظم تجارته ؛ فمرض فأوصى إليهما ، وأمرهما أن يبلغا ما ترك إلى أهله - أي : يوصلا ما تركه من متاع لورثته .
قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ، واقتسمنا الثمن أنا وعدى ، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا ، وفقدوا الجام فسألونا عنه ، فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما دفع إلينا غيره .
قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك ، فأتبت أهله فأخبرتهم الخبر ، ودفعت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فوثبوا عليه ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه ، فحلف فنزلت : { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ } الآيات فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفاه فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء .
وقال القرطبي : ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء ، روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال : " كان تميم الداري ودي بن بداء يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم ، فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصاً بالذهب - أي عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل - فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما كتمتما ولا اطلعتما " ثم وجد الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم ، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن الجام للسهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ، قال : فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآيات " .
هذا ، والمعنى الإِجمالي لهذه الآيات : أن الله - تعالى - شرع لكم - أيها المؤمنون - الوصية في السفر فعلى من يحس منكم بدنو أجله وهو في السفر أن يحضر رجلا مسلما يوصيه بإيصال ماله لورثته فإذا لم يجد رجلا مسلما فليحضر كافرا ، والاثنان أحوط ، فإذا أوصلا ما عندهما إلى ورثة الميت . وارتاب الورثة في أمانة هذين الرجلين ، فعليهم في هذه الحالة أن يرفعوا الأمر للحاكم ، وعلى الحاكم أن يستحلف الرجلين بالله بعد الصلاة بأنهما ما كتما شيئاً من وصية وما خانا .
فإذا ظهر بعد ذلك للحاكم أو لورثه الميت أن هذين الرجلين لم يكونا أمينين في أداء ما كلفهما الميت بأدائه ، فعندئذ يقوم رجلان من أقرب ورثة الميت ، ليحلفا بالله أن شهادتهما أحق وأولى من شهادة الرجلين الأولين ، وأن هذين الرجلين لم يؤديا الوصية على وجهها .
ثم بين - سبحانه - في الآية الثالثة أن ما شرعه الله لهم هو أضمن طريق لأداء الشهادة على وجهها الصحيح وعليهم أن يراقبوه ويتقوه لكي يكونوا من المؤمنين الصادقين :
هذا هو المعنى الإِجمالي للآيات الكريمة سقناه قبل تفصيل الفول في تفسيرها حتى يتهيأ الذهن لفهمها بوضوح .
قال الآلوسي : وقوله : { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } . . إلخ استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم ، إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم وفيه من إظهار العناية بمضمونه ما لا يخفى .
وللشهادة معان منها ، الإِحضار والقضاء ، والحكم ، والحلف ، والعلم والإِيصاء ، والمراد بها هنا الأخير ، كما نص عليه جماعة من المفسرين .
وقوله : { شهادة } يصح أن يكون مبتدأ وخبره قوله : { اثنان } على حذف مضاف . أي : شهادة اثنين .
ويصح أن يكون مبتدأ والخبر محذوف . أي : فيما أمرتم به أن يشهد اثنان : ويكون قوله { اثنان } فاعلا لقوله { شهادة } وعليه تكون إضافة قوله { شهادة } إلى الظرف وهو { بينكم } على التوسع .
قال القرطبي : قوله { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } قيل : معناه شهادة ما بينكم فحذفت " ما " وأضيفت الشهادة إلى الظرف ، واستعمل اسما على الحقيقية ، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة . ومنه قوله - تعالى - { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } أي : ما بيني وبينك .
والمراد بقوله : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } ظهور أماراته وعلاماته وهو ظرف متعلق بقوله : " شهادة " .
وقوله : { حِينَ الوصية } بدل من الظرف . وفي هذا الابدال تنبيه على أن الوصية لا ينبغي أن يتهاون فيها .
وقوله : { ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } صفة لقوله { اثنان } .
وقوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } صفة لقوله { اثنان } .
والمراد من غير المسلمين ، ويرى بعضهم أن المراد بقوله { منكم } أي : من قبيلتكم ، وبقوله : { مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير قبيلتكم .
وقوله : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت } بيان لمكان الوصية وزمانها .
والمراد بالضرب في الأرض السفر فيها وقيل للمسافر ضارب في الأرض لأنه يضربها برجليه أو بعصاه .
والمراد بقوله : { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت } أي : فقاربتم نهاية أجلكم بأن أحسستم بدنو الموت منكم . فليس المراد الموت بالفعل وإنما المراد مشارفته ومقاربته .
وسمي - سبحانه - الموت مصيبة ، لأنه بطبيعته يؤلم ، أو يصحبه أو يقاربه أو يسبقه آلام نفسية .
قال القرطبي : " وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ودفعتم إليها ما معكم من المال ، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما ، وادعو عليهما خيانة ، فالحكم أن تحبسوهما من بعد صلاة ، أي تستوثقوا منهما " .
فقوله : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ بالله } كلام مستأنف لبيان ما يجب على الحاكم أن يفعله عند الشك في أمانة الرجلين اللذين دفع إليهما الميت ما له ليوصلاه إلى أهله .
ومعنى { تَحْبِسُونَهُمَا } توقفونهما وتمكسونهما لأداء اليمين اللازمة عليهما والمراد بالصلاة : صلاة العصر . وقد روى ذلك عن ابن عباس وجماعة من التابعين .
قال الفخر الرازي : إنما عرف هذا التعيين بوجوه :
أحدها : أن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعده ، فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ .
وثانيهما : ما روى أنه لما نزلت هذه الآية صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر ، ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر فصار فعل الرسول دليلا على التقييد .
وثالثها : أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه ، ويحترزون عن الكلف الكاذب .
وقال الزهري : المراد بالصلاة ، الصلات مطلقاً : وإنما كان الحلف بعد الصلاة ، لأنها داعية إلى النطق بالصدق ، وناهية عن الكذب والزور .
أي : توقفون - أيها المسلمون - هذين الرجلين بعد الصلاة لأداء اليمين { فَيُقْسِمَانِ بالله } أي : فيحلفان بالله { إِنِ ارتبتم } في صدقهما ، بأن يقولا : { لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } أي : لا نحصل بيمين الله عرضاً من أعراض الدنيا ، ولو كان من نقسم له ونشهد عليه قريبا لنا .
{ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله } أي : ولا نكتم الشهادة التي أمرنا الله بإظهارها وأدائها { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين } أي : إنا إذا لتكونن معدودين من المستقرين في الذنوب والآثام إن كتمناها وبدلناها عن وجهها الصحيح .
وقوله { إِنِ ارتبتم } شرط لا يتوجه الشاهدين إلا به ، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين .
وجواب الشرط محذوف للعلم به مما قبله . أي : إن ارتبتم فحلفوهما .
والضمير في قوله : { به } يعود إلى القسم المفهوم من قوله : { فيقسمان } أي : فيقسمان بالله لا نشتري بصحة القسم ثمنا مهما كان هذا الثمن .
وقوله : { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } تأكيد لتنزههما عن الحلف الكاذب .
قال صاحب الكشاف : والضمير في { به } للقسم وفي { كان } للقسم له . يعني : لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا . أي : لا نحلف كاذبين لأجل المال ، ولو كان من يقسم له قريباً منا ، على معنى : أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً ، وأنهم داخلون تحت قوله - تعالى - { كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين } فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أكد هذا القسم بجملة من المؤكدات منها : أن الحالفين يحلفان بأنهما لا يحصلان بيمين الله ثمنا مهما كنت قيمته ، وبأنهما لن يحابيا إنسانا مهما بلغت درجة قرابته وبأنهما لن يبكتما الشهادة التي أمرهما الله بأدائها على وجهها الصحيح ، وبأنهما يقران على أنفسهما باستحقاق عقوبة الآثم المذنب إن كتما أو خانا أو حادا عن الحق ، وهذا كله لأجل أن تصل وصية الميت إلى أهله كاملة غير منقوصة .
والآن يجيء الحكم الأخير من الأحكام الشرعية التي تتضمنها السورة ، في بيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع المسلم ، وهو الخاص بتشريع الإشهاد على الوصية في حالة الضرب في الأرض ، والبعد عن المجتمع والضمانات التي تقيمها الشريعة ليصل الحق إلى أهله .
( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت - حين الوصية - اثنان ذوا عدل منكم ، أو آخران من غيركم ، إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، تحبسونهما من بعد الصلاة ، فيقسمان بالله - إن ارتبتم - لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذا لمن الآثمين . فإن عثر على أنهما استحقا إثما فالآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم . . الأوليان . . فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا ، إنا إذن لمن الظالمين . ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن ترد إيمان بعد أيمانهم ؛ واتقوا الله واسمعوا ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . .
وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث : أن على من يحس بدنو أجله ، ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال ، أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر ، ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين . فأما إذا كان ضاربا في الأرض ، ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه ، فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين .
فإن ارتاب المسلمون - أو ارتاب أهل الميت - في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه ، فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة - حسب عقيدتهما - ليحلفا بالله ، أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر ، ولو كان ذا قربى ، ولا يكتمان شيئا مما استحفظا عليه . . وإلا كانا من الآثمين . . وبذلك تنفذ شهادتهما .
{ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } أي فيما أمرتم شهادة بينكم ، والمراد بالشهادة الإشهاد في الوصية وإضافتها إلى الظرف على الاتساع وقرئ { شهادة } بالنصب والتنوين على ليقم . { إذا حضر أحدكم الموت } إذا شارفه وظهرت أماراته وهو ظرف للشهادة . { حين الوصية } بدل منه وفي إبداله تنبيه على أن الوصية مما ينبغي أن لا يتهاون فيه أو ظرف حضر . { اثنان } فاعل شهادة ويجوز أن يكون خبرها على حذف المضاف . { ذوا عدل منكم } أي من أقاربكم أو من المسلمين وهما صفتان لاثنان . { أو آخران من غيركم } عطف على اثنان ، ومن فسر الغير بأهل الذمة جعله منسوخا فإن شهادته على المسلم لا تسمع إجماعا . { إن أنتم ضربتم في الأرض } أي سافرتم فيها . { فأصابتكم مصيبة الموت } أي قاربتم الأجل . { تحبسونهما } تقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله أو آخران من غيركم اعتراض ، فائدته الدلالة على أنه ينبغي أن يشهد اثنان منكم فإن تعذر كما في السفر فمن غيركم ، أو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين فقال تحبسونهما . { من بعد الصلاة } صلاة العصر ، لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار . وقيل أي صلاة كانت . { فيقسمان بالله إن ارتبتم } إن ارتاب الوارث منكم . { لا نشتري به ثمنا } مقسم عليه ، وإن ارتبتم اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب . والمعنى لا نستبدل بالقسم أو بالله عرضا من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذبا لطمع . { ولو كان ذا قربى } ولو كان المقسم له قريبا منا ، وجوابه أيضا محذوف أي لا نشتري . { ولا نكتم شهادة الله } أي الشهادة التي أمرنا الله بإقامتها ، وعن الشعبي أنه وقف على شهادة ثم ابتدأ الله بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه ، وروي عنه بغيره كقولهم الله لأفعلن . { إنا إذا لمن الآثمين } أي إن كتمنا . وقرئ لملاثمين بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها .