178- ومن الشرائع التي فرضناها على المؤمنين أحكام القتل العمد ، فقد فرضنا عليكم القصاصَ بسبب القتل ، ولا تأخذوا بظلم أهل الجاهلية{[11]} الذين كانوا يقتلون الحر غير القاتل بالعبد ، والذكر الذي لم يقتل بالأنثى ، والرئيس غير القاتل بالمرءوس القاتل دون مجازاة القاتل نفسه ، فالحر القاتل يقتل بالحر المقتول ، وكذلك العبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، فأساس القصاص هو دفع الاعتداء في القتل بقتل القاتل للتشفي ومنع البغي ، فإن سَمَت نفوس أهل الدم ودفعوا بالتي هي أحسن فآثروا العفو عن إخوانهم وجب لهم دية قتيلهم ، وعلى أولياء الدم اتباع هذا الحكم بالتسامح دون إجهاد للقاتل أو تعنيف ، وعلى القاتل أداء الدين دون مماطلة أو بخس ، وفى حكم القتل الذي فرضناه على هذا الوجه تخفيف على المؤمنين بالنسبة إلى حكم التوراة الذي يوجب في القتل القصاص ، كما فيه رحمة بهم بالنسبة إلى الذين يدعون إلى العفو من غير تعرض للقاتل ، فمن جاوز هذا الحكم بعد ذلك فله عذاب أليم في الدنيا والآخرة .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } . قال الشعبي والكلبي وقتادة : نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، وكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام ، قال قتادة ومقاتل بن حيان : كانت بين بني قريظة والنضير ، وقال سعيد بن جبير : وكانت بين الأوس والخزرج ، وقالوا جميعاً : وكان لأحد الحيين على الآخر طول في الكثرة والشرف ، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور ، فأقسموا : لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ؛ وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وبالرجلين منا أربعة رجال منهم ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك ، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمر بالمساواة فرضوا وأسلموا .
قوله تعالى : { كتب عليكم القصاص } . أي فرض عليكم القصاص . والقصاص المساواة والمماثلة في الجراحات والديات ، وأصله من قص الأثر إذا اتبعه ، فالمفعول به يتبع ما فعل به فيفعل مثله . ثم بين المماثلة فقال : قوله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } . وجملة الحكم فيه أنه إذا تكافأ الدمان في الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم ، قتل من كل صنف منهم الذكر إذا قتل بالذكر وبالأنثى ، وتقتل الأنثى إذا قتلت بالأنثى وبالذكر ، ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد ، ولا والد بولد ، ولا مسلم بذمي ، ويقتل الذمي بالمسلم ، والعبد بالحر ، والولد هذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع بن سليمان أنا الشافعي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال : سألت علياً رضي الله عنه هل عندك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن ؟ فقال لا : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن وما في هذه الصحيفة ، قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مؤمن بكافر .
وروي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تقام الحدود في المساجد ، ولا يقاد بالولد الوالد " .
وذهب الشعبي و النخعي وأصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل بالكافر الذمي ، وإلى أن الحر يقتل بالعبد ، والحديث حجة لمن لم يوجب القصاص على المسلم بقتل الذمي ، وتقتل الجماعة بالواحد .
روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة أو خمسة برجل قتلوه غيلة ، وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به جميعاً .
ويجري القصاص في الأطراف كما يجري في النفوس ، إلا في شيء واحد وهو أن الصحيح السوي يقتل بالمريض الزمن ، وفي الأطراف لو قطع يداً شلاء أو ناقصة بأصبع لا تقطع بها الصحيحة الكاملة ، وذهب أصحاب الرأي إلى أن القصاص في الأطراف لا يجري إلا بين حرين أو حرتين ، ولا يجري بين الذكر والأنثى ، ولا بين الحر والعبد ، وعند الآخرين : الطرف في القصاص مقيس على النفس .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن منيرة أنه سمع عبد الله بن بكر السهمي ، أخبرنا حميد عن أنس بن النضر أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية ، فطلبوا إليها العفو ، فأبوا ، فعرضوا الأرش فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص ، فقال أنس بن النضر : يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع ! لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أنس كتب الله القصاص فرضي القوم فعفوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " .
قوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء } . أي ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد ورضي بالدية هذا قول أكثر المفسرين ، قالوا : العفو أن تقبل الدية في قتل العمد وقوله : من أخيه . أي من دم أخيه وأراد بالأخ المقتول والكنايتان في قوله : له ومن أخيه ترجعان إلى من وهو القاتل ، وقوله : شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا يسقط القود ، لأن شيئاً من الدم قد بطل .
قوله تعالى : { فاتباع بالمعروف } . أي على الطالب للدية أن يتبع بالمعروف فلا يطالب بأكثر من حقه .
قوله تعالى : { وأداء إليه بإحسان } . أي على المطلوب منه أداء الدية بالإحسان من غير مماطلة ، أمر كل واحد منهما بالإحسان فيما له وعليه ، ومذهب أكثر العلماء من الصحابة والتابعين أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص على الدية فله أخذ الدية ، وإن لم يرض به القاتل ، وقال قوم : لا دية له إلا برضا القاتل ، وهو قول الحسن والنخعي وأصحاب الرأي ، وحجة المذهب الأول :
ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الكعبي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل " .
قوله تعالى : { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } . أي ذلك الذي ذكرت من العفو عن القصاص ، وأخذ الدية تخفيف من ربكم ورحمة ، وذلك أن القصاص في النفس والجراح كان حتماً في التوراة على اليهود ولم يكن لهم أخذ الدية ، وكان في شرع النصارى الدية ولم يكن لهم القصاص ، فخير الله هذه الأمة بين القصاص وبين العفو على الدية تخفيفاً منه ورحمة .
قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك } . فقتل الجاني بعد العفو وقبول الدية .
قوله تعالى : { فله عذاب أليم } . وهو أن يقتل قصاصاً ، قال ابن جريج : يتحتم قتله حتى لا يقبل العفو ، وفي الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافراً بالقتل ، لأن الله تعالى خاطبه بعد القتل بخطاب الإيمان فقال : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ) وقال في آخر الآية : ( فمن عفي له من أخيه شيء ) وأراد به أخوة الإيمان ، فلم يقطع الأخوة بينهما بالقتل .
وبعد أن بين - سبحانه - أن البر الجامع لألوان الخير يتجلى في الإِيمان بالله واليوم الآخر . . وفي بذل المال في وجوه الخير ، وفي المحافظة على فرائضه - سبحانه - وفي غير ذلك من أنواع الطاعات التي ذكرتها الآية السابقة ، بعد كل ذلك شرع - سبحانه - في بيان بعض الأحكام العملية الجليلة التي لا يستغني عنها الناس في حياتهم ، وبدأ هذه الأحكام بالحديث عن حفظ الدماء لماله من منزلة ذات شأن في إصلاح العالم - فقال - تعالى - :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص . . . }
{ كُتِبَ } من الكتب ، وهو في الأصل ضم أديم إلى أديم بالخياطة . وتعورف في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، وأطلق على المضموم في اللفظ وإن لم يكتب بالخط ، ومنه الكتابة ، على الإِيجاب والفرض ؛ لأن الشأن بما وجب ويفرض أن يراد ثم يقال ثم يكتب ، ومنه { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } أي : فرض عليكم .
{ القصاص } : العقوبة بالمثل من قتل أو جرح . وهو - كما قال القرطبي - مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه ، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار ، وقص الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، ومنه { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } وقيل : القص القطع . يقال : قصصت ما بينهما . ومنه أخذ القصاص ؛ لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به . يقال أقص الحاكم فلاناً من فلان به فأمثله فامتثل منه ، أي : اقتص منه " .
فمادة القصاص تدل على التساوي والتماثل والتتبع .
والقتلى جمع قتيل ، والقتيل من يقتله غيره من الناس .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا فرض عليكم وأوجب القصاص بسبب القتلى . بأن تقتلوا القاتل عقوبة له على جريمته مع مراعاة المساواة التي قررها الشارع الحكيم ، فلا يجوز لكم أن تقتلوا غير القاتل ، كما لا يجوز لكم أن تسرفوا في القتل بأن تقتلوا القاتل وغيره من أقاربه .
فمعنى القصاص هنا أن يقتل القاتل لأنه في نظر الشريعة مساو للمقتول فيقتل به . وقد بين العلماء أن القصاص يفرض عند القتل الواقع على وجه التعمد والتعدي . وعند مطالبة أولياء القتيل بالقود - أي القصاص - من القاتل .
ولفظ " في " في قوله - تعالى - { فِي القتلى } للسببية ، أي : فرض عليكم القصاص بسبب القتلى . كما في قوله صلى الله عليه وسلم " دخلت امرأة النار في هرة " أي بسببها .
وصدرت الآية بخطاب { الذين آمَنُواْ } تقوية لداعية إنفاذ حكم الفصاص الذي شرعه الخبير بنفوس خلقه ، لأن من شأن الإِيمان الصادق أن يحمل صاحبه على تنفيذ شريعة الله التي شرعها لإقامة الأمان والاطمئنان بين الناس ، ولسد أبواب الفتن التي تحل عرى الألفة والمودة بينهم .
وقد وجه - سبحانه - الخطاب إلى المؤمنين كافة مع أن تنفيذ الحدود من حق الحاكم لإشعارهم بأن عليهم جانباً من التبعة إذا أهمل الحكام تنفيذ هذه العقوبات التي شرعها الله .
وإذا لم يقيموها بالطريقة التي بينتها شريعته ، ولإِشعارهم كذلك بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على تنفيذ الحدود بالعدل . وذلك بتسليم الجاني إلى المكلفين بحفظ الأمن ، وأداء الشهادة عليه بالحق والعدل ، وغير ذلك من وجوه المساعدة .
وقوله - تعالى - { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } بيان لمعنى المساواة في القتل المشار إليها بلفظ القصاص ، فالجملة تتمة لمعنى الجملة السابقة ، ومفادها أنه لا يقتل في مقابل المقتول سوى قاتله ، لأن قتل غير الجاني ليس بقصاص بل هو اعتداء يؤدى إلى فتنة في الأرض وفساد كبير .
وقد يفهم من مقابلة { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } أنه لا يقتل صنف بصنف آخر ، وهذا الفهم غير مراد على إطلاقه ، فقد جرى العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الرجل بالمرأة .
قال القرطبي : " أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل " .
والخلاف في قتل الحر بالعبد . فبعض العلماء يرى قتل الحر بالعبد ، وبعضهم لا يرى ذلك ، ولكل فريق أدلته التي يمكن الرجوع إليها في كتب الفقه .
والغرض الذي سيقت من أجله الآية الكريمة ، إنما هو وجوب تنفيذ القصاص بالعدل والمساواة ، وإبطال ما كان شائعاً في الجاهلية من أن القبيلة القوية كانت إذا قتلت منها القبيلة الضعيفة شخصا لا ترضى حتى تقتل في مقابله من الضعيفة أشخاصاً . وإذا قتلت منها عبداً تقتل في مقابله حراً أو أحراراً ، وإذا قتلت منها أنثى قتلت في نظيرها رجلا أو أكثر . فيترتب على ذلك أن ينتشر القتل ، ويشيع الفساد ، وقد حكى لنا التاريخ كثيراً مما فعله الجاهليون في هذا الشأن .
قال الإِمام البيضاوي عند تفسيره لهذه الآية : كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد ، والذكر بالأنثى ، فلما جاء الإِسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية . وهي لا تدل على أنه لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، كما لا تدل على عكسه ، فإن المفهوم يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم .
ثم أورد - سبحانه - بعد إيجابه للقصاص العادل - حكماً يفتح باب التراضي ، بين القاتل وأولياء المقتول ، بأن أباح لهم أن يسقطوا عنه القصاص إذا شاؤوا ويأخذوا في مقابل ذلك الدية ، فقال - تعالى - : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } .
عُفِي : من العفو وهو الإِسقاط . والعفو عن المعصية ترك العقاب عليها . والذي عفي له هو القاتل ، و { أَخِيهِ } الذي عفا هو ولي المقتول . والمراد بلفظ { شَيْء } القصاص ، وهو نائب فاعل { عُفِيَ } .
والمعنى : أن القاتل عمداً إذا سقط عنه أخوه ولي دم القتيل القصاص ، راضيًا أن يأخذ منه الدية بدل القصاص ، فمن الواجب على ولي الدم أن يتبع طريق العدل في أخذ الدية من القاتل بحيث لا يطالبه بأكبر من حقه ، ومن الواجب كذلك على القاتل أن يدفع له الدية بطريق الحسنى ، بحيث لا يماطله ولا يبخسه حقه .
فقوله - تعالى - : { فاتباع بالمعروف } وصية منه - سبحانه - لولي الدم أن يكون رفيقاً في مطالبته القاتل بدفع الدية .
وقوله : { وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } وصية منه - سبحانه - للقاتل بأن يدفع الدية لولي الدم بدون تسويف أو مماطلة .
وفي هذه الوصايا تحقيق لصفاء القلوب ، وشفاء لما في الصدور من آلام ، وتقوية لروابط الأخوة الإِنسانية بين البشر .
وبعضهم فسر العفو بالعطاء فيكون المعنى : فمن أعطى له وهو ولي المقتول من أخيه وهو القاتل شيئاً وهو الدية ، فعلى ولي المقتول اتباعه بالمعروف ، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان .
وسمى القرآن الكريم القاتل أخا لولي المقتول ، تذكيراً بالأخوة الإِنسانية والدينية ، حتى يهز عطف كل واحد منهما إلى الآخر ، فيقع بينهم العفو ، والاتباع بالمعروف ، والأداء بإحسان .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : عفى بتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } ؟ قلت : يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه . قال - تعالى - : { عَفَا الله عَنكَ } وقال : { عَفَا الله عَنْهَا } فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معاً قيل : عفوت لفلان عما جنى ، كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه . وعلى هذا ما في الآية ، كأنه قيل : فمن عفى عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية .
وجاء التعبير بلفظ " شيء " منكراً لإفادة التقليل . أي : فمن عفي له من أخيه ما يسمى شيئاً من العفو والتجاوز ولو أقل قليل ، تم العفو وسقط القصاص ، ولم تجب إلا الدية ، وذلك بأن يعفو بعض أولياء الدم ، لأن القصاص لا يتجزأ .
وفي ذلك تحبيب من الشارع الحكيم لولي الدم ، في العفو وفي قبول الدية ، إذا العفو أقرب إلى صفاء القلوب ، وتجميع النفوس على الإِخاء والتعاطف والتسامح . وفيه - أيضاً - إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية من التعيير من قبول الصلح في قتل العمد ، وعدهم ذلك لوناً من بيع دم المقتول بثمن بخس . قال بعضهم يحرض قومه على الثأر .
فلا تأخذوا عَقْلاً من القوم إنني . . . أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
وقال شاعر آخر يَذْكُر قوماً لم يقبلوا الصلح عن قتيل لهم :
فلو أن حيا يقبل المال فدية . . . لسقنا لهم سيباً من المال مفعماً
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم . . . رضا العار فاختاروا على اللبن الدما
ثم بين - سبحانه - أنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر فقال : { ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } .
أي : ذلك الذي شرعناه لكم من تيسير أمر القصاص بأداء الدية إلى ولي القتيل إذا رضي طائعاً مختاراً ، أردنا منه التخفيف عليكم إذ في الدية تخفيف على القاتل بإبقاء حياته وإنقاذها من القتل قصاصاً ، وفيها كذلك نفع لولي القتيل ، إذ هذا المال الذي أخذه نظير عفوه يستطيع أن ينتفع به في كثير من مطالب حياته .
وبهذا نرى أن الإِسلام قد جمع في تشريعه الحكيم لعقوبة القتل بين العدل والرحمة .
إذ جعل القصاص حقاً لأولياء المقتول إذا طالبوا به لا ينازعهم في ذلك منازع وهذا عين الإِنصاف والعدل .
وجعل الدية عوضاً عن القصاص إذا رضوا بها باختيارهم ، وهذا عين الحرمة واليسر .
وبالعدالة والرحمة تسعد الأمم وتطمئن في حياتها ؛ إذ العدالة هي التي تكسر شره النفوس ، وتغسل غل الصدور ، وتردع الجاني عن التمادي في الاعتداء ، لأنه يعلم علم اليقين أن من وراء الاعتداء قصاصا عاداً .
والرحمة هي التي تفتح الطريق أمام القلوب لكي تلتئم بعد التصدع وتتلاقى بعد التفرق ، وتتوادد بعد التعادي ، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو . فلله هذا التشريع الحيكم الذي ما أحوج العالم إلى الأخذ به . والتمسك بتوجيهاته .
ثم ختم - سبحانه - الآية بالوعيد الشديد لمن يتعدى حدوده ، ويتجاوز تشريعه الحيكم فقال : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
أي : فمن تجاوز حدوده بعد هذا التشريع الحكيم الذي شرعناه بأن قتل القاتل بعد قبول الدية منه ، أو بأن قتل غير من يستحق القتل فله عذاب شديد الألم ؛ من الله - تعالى - لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول يدل على نكث العهد ، ورقة الدين ، وانحطاط الخلق .
( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى : الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى . فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان . ذلك تخفيف من ربكم ورحمة . فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم . ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) . .
النداء للذين آمنوا . . بهذه الصفة التي تقتضي التلقي من الله ، الذي آمنوا به ، في تشريع القصاص . وهو يناديهم لينبئهم أن الله فرض عليهم شريعة القصاص في القتلى ، بالتفصيل الذي جاء في الآية الأولى . وفي الآية الثانية يبين حكمة هذه الشريعة ، ويوقظ فيهم التعقل والتدبر لهذه الحكمة ، كما يستجيش في قلوبهم شعور التقوى ؛ وهو صمام الأمن في مجال القتلى والقصاص .
وهذه الشريعة التي تبينها الآية : أنه عند القصاص للقتلى - في حالة العمد - بقتل الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى .
( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ) . .
وهذ العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلا من قتل الجاني . ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه ، فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضى والمودة . ويجب على القاتل أو وليه أن يؤديه بإحسان وإجمال وإكمال . تحقيقا لصفاء القلوب ، وشفاء لجراح النفوس ، وتقوية لأواصر الأخوة بين البقية الأحياء .
وقد امتن الله على الذين آمنوا بشريعة الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة :
( ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) . .
ولم يكن هذا التشريع مباحا لبني إسرائيل في التوراة . إنما شرع للأمة المسلمة استبقاء للأرواح عند التراضي والصفاء .
( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) . .
وفوق العذاب الذي يتوعده به في الآخرة . . يتعين قتله ، ولا تقبل منه الدية . لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول ، نكث للعهد ، وإهدار للتراضي ، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب ، ومتى قبل ولي الدم الدية ، فلا يجوز له أن يعود فينتقم ويعتدي .
ومن ثم ندرك سعة آفاق الإسلام ؛ وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها ؛ ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع . . إن الغضب للدم فطرة وطبيعة . فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص . فالعدل الجازم هو الذي يكسر شرة النفوس ، ويفثأ حنق الصدور ، ويردع الجاني كذلك عن التمادي ، ولكن الإسلام فيالوقت ذاته يحبب في العفو ، ويفتح له الطريق ، ويرسم له الحدود ، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع ، لا فرضا يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق .
وتذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة . نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقا : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس . . الآية . . قال ابن كثير في التفسير : " وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم . حدثنا أبو زرعة . حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير . حدثني عبد الله بن لهيعة . حدثني عطاء بن دينار . عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى )- يعني إذا كان عمدا - الحر بالحر . . . وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية - قبل الإسلام بقليل . فكان بينهم قتل وجراحات ، حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا . فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ، والمرأة منا الرجل منهم . . فنزل فيهم : ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) . . منسوخة نسختها : ( النفس بالنفس ) . . وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله : ( النفس بالنفس )
والذي يظهر لنا أن موضع هذه الآية غير موضع آية النفس بالنفس . . وأن لكل منهما مجالا غير مجال الأخرى . وأن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين على فرد معين ، أو من أفراد معينين على فرد أو أفراد معينين كذلك . فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمدا . . فأما الآية التي نحن بصددها فمجالها مجال الاعتداء الجماعي - كحالة ذينك الحيين من العرب - حيث تعتدي أسرة على أسرة ، أو قبيلة على قبيلة ، أو جماعة على جماعة . فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء . . فإذا أقيم ميزان القصاص كان الحر من هذه بالحر من تلك ، والعبد من هذه بالعبد من تلك ، والأنثى من هذه بالأنثى من تلك . وإلا فكيف يكون القصاص في مثل هذه الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة ؟
وإذا صح هذا النظر لا يكون هناك نسخ لهذه الآية ، ولا تعارض في آيات القصاص .
يقول تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } العدلُ في القصاص - أيّها المؤمنون - حُرّكم{[3120]} بحركم ، وعبدكم بعبدكم ، وأنثاكم بأنثاكم ، ولا تتجاوزوا وتعتدوا ، كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم ، وسبب ذلك قريظة و[ بنو ]{[3121]} النضير ، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم ، فكان إذا قتل النضري القرظيَّ لا يقتل به ، بل يُفَادَى بمائة وسق من التمر ، وإذا قتل القرظي النضري قتل به ، وإن فادَوْه فَدَوه بمائتي وسق من التمر ضعْف دية{[3122]} القرظي ، فأمر الله بالعدل في القصاص ، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين{[3123]} ، المخالفين لأحكام الله فيهم ، كفرا وبغيًا{[3124]} ، فقال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } .
وذكر في [ سبب ]{[3125]} نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَير{[3126]} حدثني عبد الله بن لَهيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، في قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يعني : إذا كان عَمْدا ، الحر بالحر . وذلك أن حيَّيْنِ من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، فكان بينهم قتل وجراحات ، حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا ، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم{[3127]} ، فنزلت فيهم .
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } منها منسوخة ، نسختها { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [ المائدة : 45 ] .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { وَالأنْثَى بِالأنْثَى } وذلك أنهم لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة فأنزل الله : النفس بالنفس والعين بالعين ، فجعل الأحرار في القصاص{[3128]} سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس ، وجعل العبيد مستوين{[3129]} فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم ، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .
مسألة : مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة ، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود ، وهو مروي عن علي ، وابن مسعود ، وسعيد بن المسيب ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، والحكم ، وقال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه : ويقتل السيد بعبده ؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة : " من قتل عبده قتلناه ، ومن جذعه جذعناه ، ومن خصاه خصيناه " {[3130]} وخالفهم الجمهور وقالوا : لا يقتل الحر بالعبد ؛ لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم تجب فيه دية ، وإنما تجب فيه قيمته ، وأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق أولى ، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر ، كما ثبت في البخاري عن علي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقتل مسلم بكافر " {[3131]} ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا ، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة .
مسألة : قال الحسن وعطاء : لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية ، وخالفهم الجمهور لآية المائدة ؛ ولقوله عليه السلام : " المسلمون تتكافأ دماؤهم " {[3132]} وقال الليث : إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة .
مسألة : ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد ؛ قال : عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غلام قتله سبعة فقتلهم ؛لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة ، وذلك كالإجماع . وحكي عن الإمام أحمد رواية : أن الجماعة لا يقتلون بالواحد ، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة . وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير ، وعبد الملك بن مروان والزهري ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت ؛ ثم قال ابن المنذر : وهذا أصح ، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة{[3133]} . وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه ، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر .
وقوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } قال مجاهد عن ابن عباس : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو : أن يَقبل الدية في العمد ، وكذا روي عن أبي العالية ، وأبي الشعثاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان .
وقال الضحاك عن ابن عباس : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } يقول : فمن ترك له من أخيه شيء يعني : [ بعد ]{[3134]} أخذ الدّية بعد استحقاق الدم ، وذلك العفو { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } يقول : فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قَبِل الدية { وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } يعني : من القاتل من غير ضرر ولا مَعْك ، يعني : المدافعة .
وروى الحاكم من حديث سفيان ، عن عمرو ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : ويؤدي المطلوب بإحسان . وكذا قال سعيد بن جُبَير ، وأبو الشعثاء جابر بن زَيد ، والحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان .
مسألة : قال مالك - رحمه الله - في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور ، وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه : ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل ، وقال الباقون : له أن يعفو عليها وإن لم يرض القاتل ، وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو ، منهم الحسن ، وقتادة ، والزهري ، وابن شبرمة ، والليث ، والأوزاعي ، وخالفهم الباقون .
وقوله : { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } يقول تعالى : إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفًا من الله عليكم ورحمة بكم ، مما كان محتوما على الأمم قبلكم من القتل أو العفو ، كما قال سعيد بن منصور :
حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، أخبرني مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ، ولم يكن فيهم العفو ، فقال الله لهذه الأمة{[3135]} { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، ذلك تخفيف [ من ربكم ورحمة ]{[3136]} مما كتب على من كان قبلكم ، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان{[3137]} .
وقد رواه غير واحد عن عمرو [ بن دينار ]{[3138]} وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، عن عمرو بن دينار ، به{[3139]} . [ وقد رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس ]{[3140]} ؛ ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس ، بنحوه .
وقال قتادة : { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ } رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ، ولم تحل لأحد قبلهم ، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش{[3141]} وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به ، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش .
وهكذا روي عن سعيد بن جبير ، ومقاتل بن حيان ، والربيع بن أنس ، نحو هذا .
وقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يقول تعالى : فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها ، فله عذاب من الله أليم موجع شديد .
وكذا رُوي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن الحارث بن فضيل ، عن سفيان بن أبي العوجاء ، عن أبي شريح الخزاعي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أصيب بقتل أو خَبْل{[3142]} فإنه يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتص ، وإما أن يعفو ، وإما أن يأخذ الدية ؛ فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه . ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها " رواه{[3143]} أحمد{[3144]} .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية - يعني : لا أقبل منه الدية - بل أقتله " {[3145]} .
أعيد الخطاب بيأيُّها الذين آمنوا لأن هذا صنف من التشريع لأحكام ذات بال في صلاح المجتمع الإسلامي واستتباب نظامه وأمنه حين صار المسلمون بعد الهجرة جماعةً ذات استقلال بنفسها ومديِنتها ، فإن هاته الآيات كانت من أول ما أنزل بالمدينة عام الهجرة كما ذكره المفسرون في سبب نزولها في تفسير قوله تعالى بعدَ هذا : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } [ البقرة : 190 ] الآية .
تلك أحكام متتابعة من إصلاح أحوال الأفراد وأحوال المجتمع ، وابتُدىء بأحكام القصاص ، لأن أعظم شيء من اختلال الأحوال اختلالُ حفظ نفوس الأمة ، وقد أفرط العرب في إضاعة هذا الأصل ، يَعلم ذلك مَنْ له إلمام بتاريخهم وآدابهم وأحوالهم ، فقد بلغ بهم تطرفهم في ذلك إلى وشك الفناء لو طال ذلك فلم يتداركهم الله فيه بنعمة الإسلام ، فكانوا يغير بعضهم على بعض لغنيمة أنعامه وعبيده ونسائه فيدافع المُغَار عليه وتتلف نفوس بين الفريقين ، ثم ينشأ عن ذلك طلب الثارات ، فيسعى كل من قتل له قتيل في قَتْل قاتِل وليِّه ، وإن أعوزه ذلك قتل به غيره من واحدٍ كفءٍ له ، أو عدد يراهم لا يوازونه ، ويسمون ذلك بالتكايل في الدم ، أي : كأنَّ دم الشريف يُكال بدماء كثيرة فربما قدروه باثنين أو بعشرة أو بمائة ، وهكذا يدور الأمر ويتزايد تزايداً فاحشاً حتى يصير تفانياً قال زهير :
تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وذُبْيَانَ بعدَما *** تَفانَوْا ودَقُّوا بينهم عِطْرَ مَنْشِم
وينتقل الأمر من قبيلة إلى قبيلة بالولاء والنسب والحلف والنصرة ، حتى صارت الإحن فاشية فتخاذلوا بينهم ، واستنصر بعض القبائل على بعض ، فوجد الفرس والروم مدخلاً إلى التفرقة بينهم فحكموهم وأرْهبوهم ، وإلى هذا الإشارة والله أعلم بقوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [ البقرة : 231 ] أي كنتم أعداء بأسباب الغارات والحروب فألف بينكم بكلمة الإسلام ، وكنتم على وَشْك الهلاك فأنقذكم منه ، فضَرب مثلاً للهلاك العاجل الذي لا يُبقي شيئاً بحفرة النار ، فالقائم على حافتها ليس بينه وبين الهلاك إلاّ أقلُّ حركة .
فمعنى { كتب عليكم } أنه حق لازم للأمة لا محيد عن الأخذ به فضمير { عليكم } لمجموع الأمة على الجملة لمن توجه له حق القصاص وليس المراد على كل فرد فرد القصاص ، لأن ولي الدم له العفو عن دم وليه كما قال تعالى : { فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف } وأصل الكتابة نقش الحروف في حَجَر أَوْ رَقِّ أو ثوب ولما كان ذلك النقش يراد به التوثق بما نقش به دوام تذكره أطلق كُتِب على معنى حَقَّ وثبت أي حق لأهل القتيل .
والقصاص اسم لتعويض حق جنايةٍ أو حق غُرْم على أحد بمثل ذلك من عند المحقوق إنصافاً وعدلاً ، فالقصاص يطلق على عقوبة الجاني بمثل ما جنَى ، وعلى محاسبة رب الدين بما عليه للمدين من دين يفي بدينه ، فإطلاقاته كلها تدل على التعادل والتناصف في الحقوق والتبعات المعروضة للغمص .
وهو بوزن فِعال وهو وزن مصدر فَاعَلَ من القص وهو القطع ومنه قولهم : طائر مقصوص الجناح ومنه سمي المقص لآلة القص أي القطع وقصة الشعر بضم القاف ما يقص منه لأنه يجري في حقين متبادلين بين جانبين يقال قاصّ فلان فلاناً إذا طرح من دين في ذمته مقداراً بدين له في ذمة الآخر فشبه التناصف بالقطع لأنه يقطع النزاع الناشب قبله ، فلذلك سمي القَود وهو تمكينُ ولي المقتول من قَتل قاتِل مولاه قصاصاً قال تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] ، وسميت عقوبة من يجرح أحداً جُرحاً عمداً عدواناً بأن يُجْرح ذلك الجارح مثل ما جَرح غيره قصَاصاً قال تعالى : { والجروح قصاص } [ المائدة : 45 ] وسموا معاملة المعتدي بمثل جرمه قصاصاً { والحرمات قصاص } [ البقرة : 194 ] ، فماهية القصاص تتضمن ماهية التعويض والتماثل .
فقوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } يتحمّل معنى الجزاء على القتل بالقتل للقاتل وتتحمل معنى التعادل والتماثل في ذلك الجزاء بما هو كالعوض له والمِثل ، وتتحمل معنى أنه لا يقتل غير القاتل ممن لا شركة له في قتل القتيل ، فأفاد قوله : { كتب عليكم } حق المؤاخذة بين المؤمنين في قتل القتلى . فلا يذهب حق قتيل باطلاً ولا يُقتل غير القاتل باطلاً ، وذلك إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إهمال دم الوضيع إذا قتله الشريف ، وإهمال حق الضعيف إذا قتله القَوي الذي يُخشى قومه ، ومن تَحَكُّمهم بطلب قتل غير القاتل إذا قَتَل أحد رجُلاً شريفاً يطلبون قتل رجل شريف مثله بحيث لا يقتلون القاتل إلاّ إذا كان بواء للمقتول أي كفءا له في الشرف والمجد ويعتبرون قيمة الدماء متفاوتة بحسب تفاوت السودد والشرف ويُسمون ذلك التفاوت تكَايُلاً من الكيل ، قالت ابنة بهدل بن قرقة الطائي تستثير رهطها على قتل رجل قتل أباها وتَذكر أنها ما كانت تقنع بقتله به لولا أن الإسلام أبطل تكايل الدماء :
أَمَا فِي بَنِي حِصْنٍ من ابنِ كريهة *** مِنَ القوْم طَلاَّبِ الترَّاتِ غَشَمْشَمِ
فيَقتُلَ جَبْراً بامرىءٍ لم يكن لــه *** بَوَاءً ولكن لا تَكايُلَ بالـــدَّم{[174]}
قال النبي صلى الله عليه وسلم " المسلمون تتكافأ دماؤهم " .
وقد ثبت بهذه الآية شرع القصاص في قتل العمد ، وحكمة ذلك ردع أهل العدوان عند الإقدام على قتل الأنفس إذا علموا أن جزاءهم القتل ، فإن الحياة أعز شيء على الإنسان في الجبلة فلا تعادل عقوبةٌ القتلَ في الردع والانزجار ، ومن حكمة ذلك تطمين أولياء القتلى بأن القضاء ينتقم لهم ممَّن اعتدى على قتيلهم قال تعالى : { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً } [ الإسراء : 33 ] أي لئلا يتصدى أولياء القتيل للانتقام من قاتل مولاهم بأنفسهم ؛ لأن ذلك يفضي إلى صورة الحرب بين رهطين فيكثر فيه إتلاف الأنفس كما تقدم في الكلام على صدر الآية ، ويأتي عند قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] .
وأول دم أقيد به في الإسلام دم رجل من هذيل قتله رجل من بني ليث فأقاد منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو سائر إلى فتح الطائف بموضع يقال له : بَحْرَةُ الرُّغَاء في طريق الطائف وذلك سنة ثمان من الهجرة .
و { في } من قوله : { في القتلى } ، للظرفية المجازية ، والقصاص لا يكون في ذوات القتلى ، فتعين تقدير مضاف وحذفُه هنا ليشمل القصاص سائر شؤون القتلى وسائر معاني القصاص ، فهو إيجاز وتعميم . وجمع { القتلى } باعتبار جمع المخاطبين أي في قتلاكم ، والتعريف في القتلى تعريف الجنس ، والقتيل هو من يقتله غيره من الناس ، والقتل فعل الإنسان إماتة إنسان آخر فليس الميت بدون فعل فاعل قتيلاً .
وجملة { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } بيان وتفصيل لجملة { كُتبَ عليكم القصاص في القتلى } فالباء في قوله : { بالحر } وما بعده ، متعلقة بمحذوف دل عليه معنى القصاص والتقدير الحر يقتصُّ أو يقتل بالحر الخ ومفهوم القيد مع ما في الحر والعبد والأنثى من معنى الوصفية يقتضي أن الحر يقتل بالحر لا بغيره والعبد يقتل بالعبد لا بغيره ، والأنثى تقتل بالأنثى لا بغيرها .
وقد اتفق علماء الإسلام على أن هذا المفهوم غير معمول به باطراد ، لكنهم اختلفوا في المقدار المعمول به منه بحسب اختلاف الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة وفي المراد من هذه الآية ومحمل معناها ، ففي « الموطأ » « قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية أن قوله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد } فهؤلاء الذكور وقوله : { والأنثى بالأنثى } أن القصاص يكون بين الإناث كما يكون بين الذكور والمرأة الحرة تقتل بالمرأة الحرة كما يقتل الحر بالحر والأمة تقتل بالأمة كما يقتل العبد بالعبد والقصاص يكون بين النساء كما يكون يبن الرجال . والقصاص أيضاً يكون بين الرجال والنساء » . أي وخُصَّت الأنثى بالذكر مع أنها مشمولة لعموم الحر بالحر والعبد لئلا يتوهم أن صيغة التذكير في قوله : { الحر } وقوله : { العبد } مراد بها خصوص الذكور .
قال القرطبي عن طائفة : أن الآية جاءت مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه فبيّنت حكم الحر إذا قتل حراً والعبد إذا قتل عبداً والأنثى إذا قتلت أنثى ولم يتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر ، فالآية محكمة وفيها إجمال يبيّنه قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس } [ المائدة : 45 ] الآية اهـ . وعلى هذا الوجه فالتقييد لبيان عدم التفاضل في أفراد النوع ، ولا مفهوم له فيما عدا ذلك من تفاضل الأنواع إثباتاً ولا نفياً ، وقال الشعبي : نزلت في قوم قالوا : لنقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، وذلك وقع في قتال بين حيين من الأنصار ، ولم يثبت هذا الذي رواه وهو لا يغني في إقامة محمل الآية .
وعلى هذين التأويلين لا اعتبار بعموم مفهوم القيد ؛ لأن شرط اعتباره ألا يظهر لذكر القيد سبب إلاّ الاحتراز عن نقيضه ، فإذا ظهر سبب غير الاحتراز بطل الاحتجاج بالمفهوم ، وحينئذٍ فلا دلالة في الآية على ألا يقتل حر بعبد ولا أنثى بذكر ولا على عكس ذلك ، وأن دليل المساواة بين الأنثى والذكر وعدم المساواة بين العبد والحر عند من نفى المساواة مستنبط من أدلة أخرى .
الثالث : نقل عن ابن عباس أن هذا كان حكماً في صدر الإسلام ثم نسخ بآية المائدة { أن النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] ونقله في « الكشاف » عن سعيد بن المسيب والنخعي والثوري وأبي حنيفة ، ورده ابن عطية والقرطبي بأن آية المائدة حكاية عن بني إسرائيل فكيف تصلح نسخاً لحكم ثبت في شريعة الإسلام ، أي حتى على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا فمحله ما لم يأتي في شرعنا خلافه .
وقال ابن العربي في « الأحكام » عن الحنفية : إن قوله تعالى : { في القتلى } هو نهاية الكلام وقوله : { الحر بالحر } جاء بعد ذلك وقد ثبت عموم المساواة بقوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } لأن القتلى عام وخصوص آخر الآية لا يبطل عموم أولها ، ولذلك قالوا يقتل الحر بالعبد ، قلت : يرد على هذا أنه لا فائدة في التفصيل لو لم يكن مقصوداً وإن الكلام بأواخره فالخاص يخصص العام لا محالة ، وإنه لا محيص من اعتبار كونه تفصيلاً إلاّ أن يقولوا إن ذلك كالتمثيل ، والمنقول عن الحنفية في « الكشاف » هو ما ذكرناه آنفاً .
ويبقى بعد هاته التأويلات سؤال قائم عن وجه تخصيص الأنثى بعد قوله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد } وهل تخرج الأنثى عن كونها حرة أو أمة بعد ما تبين أن المراد بالحر والعبد الجنسان ؛ إذ ليس صيغة الذكور فيها للاحتراز عن النساء منهم ؛ فإن ( ال ) لمّا صيرته اسم جنس صار الحكم على الجنس وبطل ما فيه من صيغة تأنيث كما يبطل ما فيه من صيغة جمع إن كانت فيه .
ولأجل هذا الإشكال سألت العلامة الجد الوزير رحمه الله عن وجه مجيء هذه المقابلة المشعرة بألا يقتص من صنف إلاّ لقتل مماثله في الصفة فترك لي ورقة بخطه فيها ما يأتي : الظاهر والله تعالى أعلم أن الآية ( يعني آية سورة المائدة ) نزلت إعلاماً بالحكم في بني إسرائيل تأنيساً وتمهيداً لحكم الشريعة الإسلامية ، ولذلك تضمنت إناطة الحكم بلفظ النفس المتناول للذكر والأنثى الحر والعبد الصغير والكبير ، ولم تتضمن حكماً للعبيد ولا للإناث ، وصدرت بقوله { وكتبنا عليهم فيها } [ المائدة : 45 ] ، والآية الثانية ( يعني آية سورة البقرة ) صدرت بقوله : { كتب عليكم } وناط الحكم فيها بالحرية المتناولة للأصناف كلها ثم ذكر حكم العبيد والأناث رداً على من يزعم أنه لا يقتص لهم ، وخصص الأنثى بالأنثى للدلالة على أن عدمها معصوم ، وذلك لأنه إذا اقتص لها من الأنثى ولم يقتص لها من الذكر صار الدم معصوماً تارة لذاته غير معصوم أخرى وهذا من لطف التبليغ حيث كان الحكم متضمناً لدليله ، فقوله :
كتب القتل والقتال علينا *** وعلى الغانيات جر الذيول
يعني أن الآية لم يقصد منها إلاّ إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من ترك القصاص لشرف أو لقلة اكتراث ، فقصدت التسوية بقوله { الحر بالحر والعبد بالعبد } أي لا فضل لحر شريف على حر ضعيف ولا لعبيد السادة على عبيد العامة وقصدت من ذكر الأنثى إبطال ما كان عليه الجاهلية من عدم الاعتداد بجناية الأنثى واعتبارها غير مؤاخذة بجناياتها ، وأراد بقوله : حكم جاهلي أنه ليس جارياً على أحكام الإسلام ؛ لأن البيت لعمر ابن أبي ربيعة وهو شاعر إسلامي من صدر الدولة الأموية .
فإن قلت : كان الوجه ألا يقول : { بالأنثى } المشعر بأن الأنثى لا تقتل بالرجل مع إجماع المسلمين على أن المرأة يقتص منها للرجل . قلت : الظاهر أن القيد خرج مخرج الغالب ، فإن الجاري في العرف أن الأنثى لا تقتل إلاّ أنثى ، إذ لا يتثاور الرجال والنساء فذكر { بالأنثى } خارج على اعتبار الغالب كمخرج وصف السائمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم « في الغنم السائمة الزكاة » والخلاصة أن الآية لا يلتئم منها معنى سليم من الإشكال إلاّ معنى إرادة التسوية بين الأصناف لقصد إبطال عوائد الجاهلية .
وإذا تقرر أن الآية لا دلالة لها على نفي القصاص بين الأصناف المختلفة ولا على إثباته من جهة ما ورد على كل تأويل غير ذلك من انتقاض بجهة أخرى ، فتعين أن قوله : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } محمله الذي لا شك فيه هو مساواة أفراد كل صنف بعضها مع بعض دون تفاضل بين الأفراد ، ثم أدلة العلماء في تسوية القصاص بين بعض الأصناف مع بعض الذكور بالإناث وفي عدمها كعدم تسوية الأحرار بالعبيد عند الذين لا يسوون بين صنفيهما خلافاً لأبي حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وداود أدلة أخرى غير هذا القيد الذي في ظاهر الآية ، فأما أبو حنيفة فأخذ بعموم قوله : { القتلى } ولم يثبت له مخصصاً ولم يستثن منه إلاّ القصاص بين المسلم والكافر الحربي واستثناؤه لا خلاف فيه ، ووجهه أن الحربي غير معصوم الدم ، وأما المعاهد ففي حكم قتل المسلم إياه مذاهب ، وأما الشافعي وأحمد فنفيا القصاص من المسلم للذمي والمعاهد وأخذاً بحديث « لا يقتل مسلم بكافر » ومالك والليث قالا لا قصاص من المسلم إذا قتل الذمي والمعاهد قتل عدوان وأثبتا القصاص منه إذا قتل غيلة .
وأما القصاص بين الحر والعبد في قطع الأطراف فليس من متعلقات هذه الآية وسيأتي عند قوله تعالى :
{ والجروح قصاص } [ المائدة : 45 ] في سورة العقود . ونفي مالك والشافعي وأحمد القصاص من الحر للعبد استناداً لعمل الخلفاء الراشدين وسكوت الصحابة ، واستناداً لآثار مروية ، وقياساً على انتفاء القصاص من الحر في إصابة أطراف العبد فالنفس أولى بالحفظ . والقصاص من العبد لقتله الحر ثابت عندهما بالفحوى ، والقصاص من الذكر لقتل الأنثى ثابت بلحن الخطاب .
الفاء لتفريع الإخبار أي لمجرد الترتيب اللفظي لا لتفريع حصول ما تضمنته الجملة المعطوفة بها على حصول ما تضمنته ما قبلها ، والمقصود بيان أن أخذ الولي بالقصاص المستفاد من صور { كتب عليكم القصاص في القتلى } ليس واجباً عليه ولكنه حق له فقط لئلا يتوهم من قوله : { كتب عليكم } أن الأخذ به واجب على ولي القتيل ، والتصدي لتفريع ذكر هذا بعد ذكر حق القصاص للإيماء إلى أن الأولى بالناس قبول الصلح استبقاء لأواصر أخوة الإسلام .
قال الأزهري : « هذه آية مشكلة وقد فسروها تفسيراً قربوه على قدر أفهام أهل عصرهم » ثم أخذ الأزهري في تفسيرها بما لم يكشف معنى وما أزال إشكالاً ، وللمفسرين مناح كثيرة في تفسير ألفاظها ذكر القرطبي خمسة منها ، وذكر في « الكشاف » تأويلاً آخر ، وذكر الطيبي تأويلين راجعين إلى تأويل « الكشاف » ، واتفق جميعهم على أن المقصد منها الترغيب في المصالحة عن الدماء ، وينبغي ألا نذهب بأفهام الناظر طرائق قدداً ، فالقول الفصل أن نقول : إن ما صدق من في قوله : { فمن عفى له } هو ولي المقتول وإن المراد بأخيه هو القاتل وصفاً بأنه أخ تذكيراً بأخوة الإسلام وترقيقاً لنفس ولي المقتول ؛ لأنه إذا اعتبر القاتل أخاً له كان من المروءة ألا يرضى بالقَوَد منه ؛ لأنه كمن رضي بقتل أخيه ، ولقد قال بعض العرب : قتل أخوه ابناً له عمداً فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف وقال :
أَقول للنفس تَأْسَاءً وتَعْزيَــة *** إِحدى يَدَيَّ أصابتْني ولم تُرِدِ
كِلاَهُما خَلَفٌ من فَقْدِ صاحبه *** هَذَا أخي حينَ أَدْعُوهُ وذَا ولَدِي
وما صدق { شيء } هو عرض الصلح ، ولفظ شيء اسم متوغل في التنكير دال على نوع ما يصلح له سياق الكلام ، وقد تقدم حسن موقع كلمة شيء عند قوله تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع } [ البقرة : 155 ] .
ومعنى { عفى له من أخيه } أنه أعطى العفو أي الميسور على القاتل من عوض الصلح . ومن معاني العفو أنه الميسور من المال الذي لا يجحف بباذله وقد فسر به العفو من قوله تعالى : { خذ العفو } [ الأعراف : 199 ] ، وإيثار هذا الفعل لأنه يؤذن بمراعاة التيسير والسماحة وهي من خلق الإسلام فهذا تأكيد للترغيب الذي دل عليه قوله : { من أخيه } ، والتعيبر عن عوض الدم بشيء لأن العوض يختلف فقد يُعرض على ولي الدم مال من ذهب أو فضة وقد يعرض عليه إبل أو عروض أو مقاصة دماء بين الحيين ؛ إذ ليس العوض في قتل العمد معيناً كما هو في دية قتل الخطأ .
( واتّباع ) و ( أداء ) مصدران وقعا عوضاً عن فعلين والتقدير : فليتبع اتباعاً وليؤد أداء فعدل عن أن ينصب على المفعولية المطلقة إلى الرفع لإفادة معنى الثبات والتحقيق الحاصل بالجملة الاسمية كما عدل إلى الرفع في قوله تعالى : { قال سلام } [ هود : 69 ] بعد قوله : { قالوا سلاماً } [ هود : 69 ] ، وقد تقدم تطور المصدر الذي أصله مفعول مطلق إلى مصيره مرفوعاً عند قوله تعالى : { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] ، فنظم الكلام : فاتباعٌ حاصلٌ ممن عفي له من أخيه شيء وأداءٌ حاصل من أخيه إليه ، وفي هذا تحريض لمن عفي له على أن يقبل ما عفي له وتحريض لأخيه على أداء ما بذله بإحسان . والاتباع مستعمل في القبول والرضا ، أي فليرض بما عفي له كقول النبي صلى الله عليه وسلم « وإذا أتبع أحدكم على مَلِيء فليتبع » .
والضمير المقدر في ( اتباع ) عائد إلى { من عفي له } والضمير المقدر في أدَاء عائد إلى ( أخيه ) ، والمعنى : فليرضى بما بذل له من الصلح المتيسر ، وليؤد باذلُ الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص ، والضمير المجرور باللام والضمير المجرور بإلى عائدانِ على { فمن عفى له } .
ومقصد الآية الترغيب في الرضا بأخذ العوض عن دم القتيل بدلاً من القصاص لتغيير ما كان أهل الجاهلية يتَعيرون به من أخذ الصلح في قتل العمد ويعدونه بيعاً لدم مولاهم كما قال مُرَّةُ الفَقْعَسِي :
فلا تَأْخذوا عَقْلاً من القَوْم إِنَّنِي *** أَرى العَارَ يبقَى والمَعَاقِلَ تَذْهَبُ
وقال غيره يَذْكر قوماً لم يَقْبَلوا منه صلحاً عن قتيل :
فلَوْ أَنَّ حيّاً يقبَلُ المالَ فِدْيَةً *** لسُقْنَا لهم سَبْباً من المال مُفْعَمَا
ولكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصيبَ أخُوهُمُ *** رِضَا العَار فاختاروا على اللَّبَن الدَّمَا
وهذا كله في العفو على قتل العمد وأما قتل الخطأ فإن شأنه الدية عن عاقلة القاتل وسيأتي في سورة النساء .
وإطلاقُ وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام تأسيسُ أصل جاء به القرآن جعل به التوافق في العقيدة كالتوافق في نسب الإِخوة ، وحَقّاً فإن التوافق في الدين آصرة نفسانية والتوافق في النسب آصرة جسدية والروح أشرف من الجسد .
واحتج ابن عباس بهذه الآية على الخوارج في أن المعصية لا تُزيل الإيمان ، لأن الله سمى القاتل أخاً لولي الدم وتلك أخوة الإِسلام مع كون القَاتل عَاصياً .
وقوله : { بالمعروف } المعروف هو الذي تألفه النفوس وتستحسنه فهو مما تُسَر به النفوس ولا تشمئز منه ولا تنكره ، ويقال لضده مُنْكَر وسيأتي عند قوله تعالى : { كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] في سورة آل عمران .
والباء في قوله : { بالمعروف } للملابسة أي فاتباع مُصاحب للمعروف أي رِضا وقبول ، وحسنُ اقتضاء إن وقع مطل ، وقبول التنجيم إن سأله القاتل .
والأداء : الدفع وإبلاغ الحق والمراد به إعطاء مال الصلح ، وذُكر متعلقه وهو قوله { إليه } المؤذن بالوصول إليه والانتهاء إليه للإشارة إلى إبلاغ مال الصلح إلى ولي المقتول بأن يذهب به إليه ولا يكلفه الحضور بنفسه لقبضه أو إرسال من يقبضه ، وفيه إشارة إلى أنه لا يمطله ، وزاد ذلك تقريراً بقوله : { بإحسان } أي دون غضب ولا كلام كريه أو جَفاء معاملة .
وقوله : { ذلك تخفيف من ربكم } إشارة إلى الحكم المذكور وهو قبول العفو وإحسان الأداء والعدولُ عن القصاص ، تخفيف من الله على الناس فهو رحمة منه أي أَثَر رحمته ، إذ التخفيف في الحكم أثر الرحمة ، فالأخذ بالقصاص عَدْل والأخذ بالعفو رحمة .
ولما كانت مشروعية القصاص كافية في تحقيق مقصد الشريعة في شرع القصاص من ازدجار الناس عن قتل النفوس وتحقيق حفظ حق المقتول بكون الخيرة للولي كان الإذن في العفو إن تراضيا عليه رحمةً من الله بالجانبين ، فالعدل مقدم والرحمة تأتي بعده .
قيل : إن الآية أشارت إلى ما كان في الشريعة الإسرائيلية من تعيين القصاص من قاتل العمد دون العفو ودون الديَة كما ذكره كثير من المفسرين وهو في « صحيح البخاري » عن ابن عباس ، وهو ظاهر ما في سفر الخروج الإصحاح الثالث : « من ضَرب إنساناً فمات يقتل قتلاً ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده فأنا أجعلُ لك مكاناً يُهرَب إليه وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عندِ مذبحي تأخذُه للموت » ، وقال القرطبي : إن حكم الإنجيل العفو مطلقاً والظاهر أن هذا غير ثابت في شريعة عيسى ، لأنه ما حكَى الله عنه إلاّ أنه قال : { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } [ آل عمران : 50 ] ، فلعله مما أخذه علماء المسيحية من أمره بالعفو والتسامح لكنه حكم تنزه شرائع الله عنه لإفضائه إلى انخرام نظام العالم ، وشتان بين حال الجاني بالقتل في الإسلام يَتوقع القصاص ويضع حياته في يد ولي دم المقتول فلا يدري أيقبل الصلح أم لا يقبل ، وبين ما لو كان واثقاً بأنه لا قصاص عليه فإن ذلك يجرئه على قتل عدوه وخصمه .
تفريع عن حكم العفو لأن العفو يقتضي شكر الله على أن أنجاهُ بشرع جواز العفو وبأن سخر الولي للعفو ، ومن الشكر ألاّ يعود إلى الجناية مرة أخرى ، فإن عاد فله عذاب أليم ، وقد فسر الجمهور العذاب الأليم بعذاب الآخرة والمراد تشديد العذاب عليه كقوله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } [ المائدة : 95 ] ، ثم له من حكم العفو والدية ما للقاتل ابتداء عندهم ، وفسره بعضهم بعذاب الدنيا أعني القتل فقالوا : إن عاد المعفو عنه إلى القتل مرة أخرى فلا بد من قتله ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ونقلوا ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي ورواه أبو داود عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه موكول إلى اجتهاد الإمام .
والذي يستخلص من أقوالهم هنا سواء كان العذاب عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا أن تكرر الجناية يوجب التغليظ وهو ظاهر من مقاصد الشارع ؛ لأن الجناية قد تصير له دُربة فعَوْده إلى قتل النفس يؤذن باستخفافه بالأنفس فيجب أن يُراح منه الناس ، وإلى هذا نظر قتادة ومن معه ، غير أن هذا لا يمنع حكم العفو إن رضي به الولي ؛ لأن الحق حقه ، وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز بتفويضه إلى الإمام لينظر هل صار هذا القاتل مِزْهَقَ أَنْفُس ، وينبغي إن عُفي عنه أن تشدد عليه العقوبة أكثر من ضرب مائة وحَبس عام وإن لم يقولوه ؛ لأن ذكر الله هذا الحكمَ بعد ذكر الرحمة دليلٌ على أن هذا الجاني غير جدير في هاته المرة بمزيد الرحمة ، وهذا موضع نظر من الفقه دقيق ، قد كان الرجل في الجاهلية يقتل ثم يدفع الدية ثم يغدره ولي الدم فيقتله وقريب من هذا قصة حُصين بن ضَمْضَم التي أشار إليها زهير بقوله :
لَعَمْرِي لَنِعْمَ الحيُّ جَرَّ عليهِمُ *** بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم