15- الله عالي المقامات ، صاحب العرش ، يُنزل الوحي من قضائه وأمره على من اصطفاه من عباده ، ليخوِّف الناس عاقبة مخالفة المرسلين يوم التقاء الخلق أجمعين ، يوم الحساب الذي يظهر فيه الناس واضحين ، لا يخفي على الله من أمرهم شيء ، يتسامعون نداءً رهيباً : لمن الملك اليوم ؟ وجواباً حاسماً : لله الواحد المتفرد بالحكم بين عباده ، البالغ القهر لهم .
قوله تعالى : { ولو كره الكافرون رفيع الدرجات } رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة { ذو العرش } خالقه ومالكه { يلقي الروح } ينزل الوحي سماه وحياً ، لأنه تحيا به القلوب ، كما تحيا الأبدان بالأرواح { من أمره } قال ابن عباس : من قضائه . وقيل : من قوله ، وقال مقاتل : بأمره { على من يشاء من عباده لينذر } أي : لينذر النبي بالوحي { يوم التلاق } وقرأ يعقوب بالتاء ، أي : لتنذر أنت يا محمد يوم التلاقي يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض . وقال قتادة ، ومقاتل : يلتقي فيه الخلق والخالق ، قال ابن زيد : يتلاقى العباد ، وقال ميمون بن مهران : يلتقي الظالم والمظلوم ، والخصوم . وقيل : يلتقي العابدون والمعبودون ، وقيل : يلتقي فيه المرء مع عمله .
ثم يذكر - سبحانه - بعد ذلك من صفاته العظمى ، ما يزيد المؤمنين فى إخلاص العبادة له ، فيقول : { رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش . . } أى : هو - تعالى - وحده صاحب الرفعة والمقام العالى ، وهو وحده صاحب العرش العظيم ، الذى لا يعلم مقدار عظمته إلا هو . .
قال الآلوسى قوله : { رَفِيعُ الدرجات } رفيع صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها من رُفِعَ الشئ إذا علا . . والدرجات : مصاعد الملائكة إلى أن يبلغوا العرش ، أى : رفيع درجات ملائكته ومعارجهم إلى عرشه . . ويجوز أن يكون كناية عن رفعة شأنه وسلطانه - عز شأنه - كما أن قوله - تعالى - : { ذُو العرش } كناية عن ملكه - جل جلاله - .
والمراد بالروح فى قوله - تعالى - : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } : الوحى الذى يوحى به على أنبيائه ، وأمين هذا الوحى جبريل - عليه السلام - .
أى : هو وحده - سبحانه - الذى يلقى الوحى . حالة كون هذا الوحى ناشئا من أمره وقضائه على من يختاره لهذا الإِلقاء من عباده الصالحين . فقوله { مِنْ أَمْرِهِ } متعلق بمحذوف حال من الروح .
وسمى الوحى روحا ، لأن الأرواح تحيا به ، كما أن الأجساد تحيا بالغذاء .
وقوله - تعالى - : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } بيان للوظيفة الخاصة بمن يختاره - سبحانه - من عباده لإِلقاء الوحى عليه .
والإِنذار : الإِعلام المقترن بالتخويف والتحذير ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذاراً .
والمراد بيوم التلاق : يوم القيامة ، وسمى بيوم التلاق لأنه يتلاقى فيه الأولون والآخرون والمؤمنون والكافرون ، والظالمون والمظلومون . . الكل يتلاقى فى ساحة المحشر ليقضى الله - تعالى - فيهم بقضائه العادل .
أى : يلقى - سبحانه - بوحيه على أنبيائه ، لينذروا الناس ويحذروهم من سوء العذاب يوم القيامة ، إذا ما استمروا فى كفرهم وعصيانهم لخالقهم .
ثم يذكر من صفات الله في هذا المقام الذي يوجه المؤمنين فيه إلى عبادة الله وحده ولو كره الكافرون . يذكر من هذه الصفات أنه سبحانه :
( رفيع الدرجات ذو العرش ، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) . .
فهو - سبحانه - وحده صاحب الرفعة والمقام العالي ، وهو صاحب العرش المسيطر المستعلي . وهو الذي يلقي أمره المحيي للأرواح والقلوب على من يختاره من عباده . وهذا كناية عن الوحي بالرسالة . ولكن التعبير عنه في هذه الصيغة يبين أولاً حقيقة هذا الوحي ، وأنه روح وحياة للبشرية ، ويبين ثانيا أنه يتنزل من علو على المختارين من العباد . . وكلها ظلال متناسقة مع صفة الله ( العلي الكبير ) . .
فأما الوظيفة البارزة لمن يختاره الله من عباده فيلقي عليه الروح من أمره ، فهي الإنذار :
وفي هذا اليوم يتلاقى البشر جميعاً . ويتلاقى الناس وأعمالهم التي قدموا في الحياة الدنيا . ويتلاقى الناس والملائكة والجن وجميع الخلائق التي تشهد ذلك اليوم المشهود وتلتقي الخلائق كلها بربها في ساعة الحساب فهو يوم التلاقي بكل معاني التلاقي .
يقول تعالى [ مخبرا ] {[25460]} عن عظمته وكبريائه ، وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها ، كما قال تعالى : { مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [ فَاصْبِرْ ] } [ المعارج : 3 ، 4 ] ، {[25461]} وسيأتي بيان أن هذه مسافة ما بين العرش إلى الأرض السابعة ، في قول جماعة من السلف والخلف ، وهو الأرجح إن شاء الله [ تعالى ] {[25462]} . وقد ذكر غير واحد أن العرش من ياقوتة حمراء ، اتساع ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة . وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة . وقد تقدم في حديث " الأوعال " ما يدل على ارتفاعه عن {[25463]} السموات السبع بشيء عظيم .
وقوله : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } كقوله تعالى : { يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا [ فَاتَّقُونِ ] } [ النحل : 2 ] {[25464]} ، وكقوله : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . [ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين ] } [ الشعراء : 192 - 194 ] {[25465]} {[25466]} ؛ ولهذا قال : { لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَوْمَ التَّلاقِ } اسم من أسماء يوم القيامة ، حذر منه عباده .
وقال ابن جُرَيج : قال ابن عباس : يلتقي فيه آدم وآخر ولده .
وقال ابن زيد : يلتقي فيه العباد .
وقال قتادة ، والسدي ، وبلال بن سعد ، وسفيان بن عيينة{[25467]} : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض .
وقال قتادة أيضا : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، والخالق والخلق .
وقال مَيْمون بن مِهْران : يلتقي [ فيه ]{[25468]} الظالم والمظلوم .
وقد يقال : إن يوم القيامة {[25469]} هو يشمل هذا كله ، ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمل من خير وشر . كما قاله آخرون .
{ رفيع الدرجات ذو العرش } خبران آخران للدلالة على علو صمديته من حيث المعقول والمحسوس الدال على تفرده في الألوهية ، فإن من ارتفعت درجات كماله بحيث لا يظهر دونها كمال وكان العرش الذي هو أصل العالم الجسماني في قبضة قدرته لا يصح أن يشرك به ، وقيل الدرجات مراتب المخلوقات أو مصاعد الملائكة إلى العرش أو السموات أو درجات الثواب . وقرئ " رفيع " بالنصب على المدح . { يلقي الروح من أمره } خبر رابع للدلالة على أن الروحانيات أيضا مسخرات لأمره بإظهار آثارها وهو الوحي ، وتمهيد للنبوة بعد تقرير التوحيد والروح الوحي ومن أمره بيانه لأنه أمر بالخير أو مبدؤه والآمر هو الملك المبلغ . { على من يشاء من عباده } يختاره للنبوة ، وفيه دليل على أنها عطائية . { لينذر } غاية الإلقاء والمستكن فيه لله ، أو لمن أو للروح واللام مع القرب تؤيد الثاني . { يوم التلاق } يوم القيامة ، فإن فيه تتلاقى الأرواح والأجساد وأهل السماء والأرض أو المعبودون والعباد أو الأعمال والعمال .