قوله تعالى : { الذين ينفقون في السراء والضراء } . أي في اليسر والعسر فأول ما ذكر من أخلاقهم الموجبة للجنة ذكر السخاوة .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عمرو الفراتي ، أخبرنا أبو العباس احمد بن إسماعيل العنبري ، أخبرنا أبو عبد الله بن حازم البغوي بمكة ، أخبرنا أبو صالح بن أيوب الهاشمي ، أخبرنا إبراهيم بن سعد ، أخبرنا سعيد بن محمد عن يحيى بن سعيد ، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس ، بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار ، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل " .
قوله تعالى : { والكاظمين الغيظ } . أي : الجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه ، والكظم : حبس الشيء عند امتلائه وكظم الغيظ أن يمتلئ غيظاً فيرده في جوفه ولا يظهره . ومنه قوله تعالى ( إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ) . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عمرو الفراتي ، أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الاسفرايني ، أخبرنا أبو عبد الله بن محمد زكريا العلاني ، أخبرنا روح بن عبد المؤمن ، أخبرنا أبو عبد الرحمن المقري ، أخبرنا سعيد بن أبي أيوب قال : حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء " .
قوله تعالى : { والعافين عن الناس } . قال الكلبي عن المملوكين سوء الأدب ، وقال زيد بن أسلم ومقاتل : عمن ظلمهم وأساء إليهم .
قوله تعالى : { والله يحب المحسنين } . عن الثوري الإحسان أن تحسن إلى المسيء فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة .
ثم بين - سبحانه - صفات المتقين الذين يصلحون فى الأرض ولا يفسدون ، والذين أعد لهم - سبحانه - جنته فقال - تعالى - { الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء } : أى الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله فى جميع أحوالهم ، فهم يبذلونها ابتغاء وجه ربهم فى حال يسرهم وفى حال عسرهم ، وفى حال سرورهم وفى حال حزنهم ، وفى حال صحتهم وفى حال مرضهم ، لا يصرفهم صارف عن إنفاق أموالهم فى وجوه الخير ما داموا قادرين على ذلك .
وقوله { الذين يُنفِقُونَ } : فى محل جر صفة للمتقين . ويجوز أن يكون فى محل نصب أو رفع على القطع المشعر بالمدح .
وقال { يُنفِقُونَ } بالفعل المضارع ، للإشارة بأنهم يتجدد إنفاقهم فى سبيل الله آنا بعد آن بدون انقطاع .
وقدم الإنفاق على غيره من صفاتهم لأنه وصف إيجابى يدل على صفاء نفوسهم ، وقوة إخلاصهم ، فإن المال شقيق الروح ، فإذا أنفقواه فى حالتى السراء والضراء كان ذلك دليلا على التزامهم العميق لتعاليم دينهم وطاعة ربهم .
وقد مدح الله - تعالى - الذين ينفقون أموالهم فى سبيله فى عشرات الآيات من كتابه ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أما الصفتان الثانية والثالثة من صفات هؤلاء المتقين فهما قوله تعالى : { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس } .
أى سارعوا أيها المؤمنون إلى العمل الصالح الذى يوصلكم إلى جنة عظيمة أعدها الله - تعالى - لمن يبذلون أموالهم فى السراء والضراء ، ولمن يمسكون غيظهم ، ويمتنعون عن إمضائه مع القدرة عليه ، ولمن يغضون عمن أساء إليهم . فالمراد بكظم الغيظ حبسه وإمساكه . يقال : كظم فلان غيظه إذا حبسه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بمن أغضبه . ويقال : كظم البعير جرته ، إذا ردها وكف عن الاجترار . وكظم القربة : إذا ملأها وشد على فمها ما يمنع من خروج ما فيها .
وقد ساق ابن كثير جملة من الأحاديث التى وردت فى فضل كظم الغيظ والعفو عن الناس ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب " .
وروى الإمام أحمد - بسنده - عن حارثة بن قدامة السعدى أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله : قل لى قولا ينفعنى وأقلل على لعلى أعقله : فقال له : " لا تغضب " فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا كل ذلك يقول : " لا تغضب " " .
وعن أبى بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عن من ظلمه ويعط من حرمه ، ويصل من قطعه " .
وكظم الغيظ والعفو عن الناس هاتان الصفتان إنما تكونان محمودتين عندما تكون الإساءة متعلقة بذات الإنسان ، أما إذا كانت الإساءة متعلقة بالدين بأن انتهك إنسان حرمة من حرمات الله ففى هذه الحالة يجب الغضب من أجل حرمات الله ، ولا يصح العفو عمن انتهك هذه الحرمة .
فلقد وصفت السيدة عائشة النبى صلى الله عليه وسلم بأنه كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شىء .
وقوله { والله يُحِبُّ المحسنين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
والإحسان معناه الإتقان والإجادة . وأل فى المحسنين إما للجنس أى والله - تعالى - يحب كل محسن فى قوله و عمله ، ويكون هؤلاء الذين ذكر الله صفاتهم داخلين دخولا أوليا .
وإما أن تكون للعهد فيكون المعنى : والله - تعالى - يحب هؤلاء المحسنين الذين من صفاتهم أنهم ينفقون أموالهم في كل حال من أحوالهم ، ويكظمون غيظهم ، ويعفون عمن ظلمهم .
ثم يأخذ في بيان صفات المتقين :
( الذين ينفقون في السراء والضراء ) . .
فهم ثابتون على البذل ، ماضون على النهج ، لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء . السراء لا تبطرهم فتلهيهم . والضراء لا تضجرهم فتنسيهم . إنما هو الشعور بالواجب في كل حال ؛ والتحرر من الشح والحرص ؛ ومراقبة الله وتقواه . . وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها ، المحبة للمال بفطرتها . . ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال ، إلا دافع أقوى من شهوة المال ، وربقة الحرص ، وثقلة الشح . . دافع التقوى . ذلك الشعور اللطيف العميق ، الذي تشف به الروح وتخلص ، وتنطلق من القيود والأغلال . .
ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة . فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها ، كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل - كما سيأتي في السياق القرآني - مكررا كذلك . مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة ، وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله .
( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) . .
كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل ، بنفس البواعث ونفس المؤثرات . فالغيظ انفعال بشري ، تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم ؛ فهو إحدى دفعات التكوين البشري ، وإحدى ضروراته . وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى ؛ وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات .
وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى . وهي وحدها لا تكفي . فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن ؛ فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة ؛ ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين . . وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن . . لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين . . إنها العفو والسماحة والانطلاق . .
إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه ؛ وشواظ يلفح القلب ؛ ودخان يغشى الضمير . . فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب ، فهو الانطلاق من ذلك الوقر ، والرفرفة في آفاق النور ، والبرد في القلب ، والسلام في الضمير .
والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون . والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون . . والله " يحب " المحسنين . . والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير ، الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم . .
ومن حب الله للإحسان وللمحسنين ، ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه . وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب . . فليس هو مجرد التعبير الموحي ، ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير !
والجماعة التي يحبها الله ، وتحب الله . . والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان . . هي جماعة متضامة ، وجماعة متآخية ، وجماعة قوية . ومن ثم علاقة هذا التوجيه بالمعركة في الميدان والمعركة في الحياة على السواء في هذا السياق !
ثم ذكر تعالى صَفَة أهل الجنة ، فقال : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ } أي : في الشدة والرخاء ، والمَنْشَط والمَكْرَه ، والصحة والمرض ، وفي جميع الأحوال ، كما قال : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً } [ البقرة : 274 ] . والمعنى : أنهم لا يشغلهم أمْر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مَرَاضِيه ، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر .
وقوله : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي : إذا ثار بهم الغيظ كظموه ، بمعنى : كتموه فلم يعملوه ، وعَفَوْا{[5687]} مع ذلك عمن أساء إليهم{[5688]} وقد ورد في بعض الآثار : " يقول الله تعالى : ابنَ آدَمَ ، اذْكُرْنِي إذَا غَضِبْتَ ، أَذْكُرُكَ إذَا غَضِبْتُ ، فَلا أُهْلِكُكَ{[5689]} فيمن أهْلِكَ " رواه ابن أبي حاتم{[5690]} .
وقد قال أبو يعلى في مسنده : حدثنا أبو موسى الزّمن ، حدثنا عيسى بن شُعَيب الضَّرِير أبو الفضل ، حدثنا{[5691]} الربيع بن سليمان الجيزي{[5692]} عن أبي عمرو بن أنس بن مالك ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ ، وَمَنْ خزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إلَى اللهِ قَبِلَ عُذْرَهُ " [ و ]{[5693]} هذا حديث غريب ، وفي إسناده نظر{[5694]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لَيْسَ الشَّدِيدُ{[5695]} بِالصُّرُعة ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ{[5696]} الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " . وقد رواه الشيخان من حديث مالك{[5697]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم التَّيْميّ ، عن الحارث بن سُوَيد ، عن عبد الله ، هو ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إلَيْه مِنْ مَالِهِ ؟ " قال : قالوا : يا رسول الله ، ما منا أحد إلا مَالهُ أحب إليه من مال وارثه . قال : " اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إلَيْه مِنْ مَالهِ مَالَكَ مِنْ مَالَكَ إلا مَا قَدَّمَتْ ، ومَالُ وَارِثَكَ مَا أخَّرْتَ " . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا تَعُدُّونَ فِيْكُمُ الصُّرعَة ؟ " قلنا : الذي لا تَصْرَعه{[5698]} الرجال ، قال : قال " لا ولكن الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " . قال : قال{[5699]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا تَعُدُّونَ فِيْكُمُ الرَّقُوبَ ؟ " قال : قلنا : الذي لا ولد له . قال : " لا ولكن الرَّقُوبَ الَّذِي لم{[5700]} يُقَدِّمْ مِنْ ولَدِهِ شَيْئًا " .
أخرج البخاري الفصل الأول منه وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش ، به{[5701]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعْبة ، سمعت عُرْوة بن عبد الله الجَعْفِيّ يحدث عن أبي حصبة ، أو ابن حصبة ، عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : " تَدْرُونَ مَا الرَّقُوبُ ؟ " قالوا{[5702]} الذي لا ولد له . قال : " الرَّقُوبُ كُلُّ الرَّقُوبِ الَّذِي لَهُ وَلَدٌ فَمَاتَ ، وَلَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُمْ شَيْئًا " . قال : " تَدْرُونَ مَا الصُّعْلُوكُ ؟ " قالوا : الذي ليس له مال . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الصُّعْلُوكُ كُلُّ الصُّعْلُوكِ الَّذِي لَهُ مَالٌ ، فَمَاتَ وَلَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُ شَيْئًا " . قال : ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَا الصُّرَعَةُ ؟ " قالوا : الصريع . قال : فقال{[5703]} صلى الله عليه وسلم الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ الَّذِي يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ ، وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ ، وَيَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ " {[5704]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمَيْر ، حدثنا هشام - هو ابن عروة - عن أبيه ، عن الأحنف بن قيس ، عن عم له يقال له : جَارية بن قُدامة السعدي ؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، قل لي قولا ينفعني وأقْلِل عليّ ، لعلي أعيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَغْضَبْ " . فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا ، كل ذلك يقول : " لا تَغْضَبْ " .
وكذا رواه عن أبي معاوية ، عن هشام ، به . ورواه [ أيضا ]{[5705]} عن يحيى بن سعيد القطان ، عن هشام ، به ؛ أن رجلا قال : يا رسول الله ، قل لي قولا وأقْلِل علَيَّ لَعَلّي أعقِله . قال : " لا تَغْضَبْ " .
الحديث انفرد به أحمد{[5706]} .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رجل : يا رسول الله ، أوصني . قال : " لا تَغْضَبْ " . قال الرجل : ففكرت حين قال{[5707]} صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله .
انفرد به أحمد{[5708]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا داود بن أبي هِنْد عن بن أبي حَرْب بن أبي الأسود ، عن أبي الأسود ، عن أبي ذَرّ قال : كان يسقي على حوض له ، فجاء قوم قالوا{[5709]} أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه فقال رجل : أنا . فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه ، وكان أبو ذر قائما فجلس ، ثم اضطجع ، فقيل له : يا أبا ذر ، لم جلست ثم اضطجعت ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : " إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ ، فإن{[5710]} ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلا فَلْيَضْطَجِعْ " .
ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل بإسناده ، إلا أنه وقع في روايته : عن أبي حرب ، عن أبي ذر ، والصحيح : ابن أبي حرب ، عن أبيه ، عن أبي ذر ، كما رواه عبد الله بن أحمد ، عن أبيه{[5711]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن خالد : حدثنا أبو وائل الصَّنْعَاني قال : كنا جلوسا عند عرْوة بن محمد إذ دخل عليه رجل ، فكلمه بكلام أغضبه ، فلما أن غضب قام ، ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال : حدثني أبي ، عن جدي عطية - هو ابن سعد السعدي ، وقد كانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وإنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ{[5712]} وإنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالماءِ ، فَإذَا أُغْضِبَ{[5713]} أحَدُكُمْ فَلْيَتَوضَّأْ " .
وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنْعَاني ، عن أبي وائل القاص{[5714]} المُرَادي الصَّنْعَاني : قال أبو داود : أراه عبد الله بن بَحير{[5715]} {[5716]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا نوح بن جَعْوَنة السُّلَمي ، عن مقاتل بن حَيَّان ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ وَقَاهُ اللهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ، ألا إنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوُةٍ - ثلاثا - ألا إنَّ عَمَلَ النَّار سَهْلٌ بسَهْوة . والسَّعِيدُ مَنْ وقيَ الفِتَنَ ، ومَا مِنْ جَرْعَةٍ أحَبُّ إلَى اللهِ [ عز وجل ]{[5717]} مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ للهِ{[5718]} إلا مَلأ{[5719]} جَوْفُه إيمَانًا " .
انفرد به أحمد ، إسناده حسن ليس فيه{[5720]} مجروح ، ومتنه حسن{[5721]} .
حديث آخر في معناه : قال أبو داود : حدثنا عقبة بن مُكرَم ، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مَهْدي - عن بشر - يعني ابن منصور - عن محمد بن عَجْلان ، عن سُوَيد بن وَهْب ، عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُنْفِذَه مَلأهُ اللهُ أَمْنًا وَإيمانًا ، وَمَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَال وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْه - قال بِشر : أحسبه قال : " تَوَاضُعًا " - كَسَاهُ اللهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ، وَمَنْ زَوَّجَ للهِ كَسَاهُ اللهُ تَاجَ الْمُلْكِ " {[5722]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يَزيد ، حدثنا سعيد ، حدثني أبو مَرْحُوم ، عن سَهْل بن مُعَاذ بن أنس ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَه ، دَعَاهُ اللهُ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ ، حَتَّى يُخيرَهُ مِنْ أيِّ الْحُورِ شَاءَ " .
ورواه أبو داود والترمذي ، وابن ماجة ، من حديث سعيد بن أبي أيُّوب ، به . وقال الترمذي : حسن غريب{[5723]} .
حديث آخر : قال : عبد الرزاق : أخبرنا داود بن قَيْس ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل الشام - يقال له : عبد الجليل - عن عم له ، عن أبي هريرة في قوله تعالى : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كظم غيظا ، وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا " . رواه ابن جرير{[5724]} .
حديث آخر : قال ابن مَرْدُويَه : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد ، أخبرنا يحيى بن أبي طالب ، أخبرنا علي بن عاصم ، أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تَجَرَّعَ عبد من جُرْعَةٍ أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله " .
وكذا رواه ابن ماجة عن بشر بن عمر ، عن حَمَّاد بن سلمة ، عن يونس بن عُبَيد ، به{[5725]} .
فقوله : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أي : لا يعملون{[5726]} غضبهم في الناس ، بل يكفون عنهم شرهم ، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل .
ثم قال [ تعالى ]{[5727]} { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي : مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم ، فلا يبقى{[5728]} في أنفسهم{[5729]} مَوجدة على أحد ، وهذا أكمل الأحوال ، ولهذا قال : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } فهذا من مقامات الإحسان .
وفي الحديث : " ثلاث أُقْسِمُ عليهن : ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عِزا ، ومن تواضع لله رفعه الله " {[5730]} .
وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عُقبة ، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القُرشي ، عن عُبَادة بن الصامت ، عن أبي بن كعب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يُشْرَف له البنيان ، وترفع له الدرجات فَلْيَعْفُ عمن ظلمه ، ويعط من حرمه ، ويَصِلْ من قطعه " .
ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[5731]} وقد أورده ابن مردويه من حديث علي ، وكعب بن عُجْرة ، وأبي هريرة ، وأم سلمة ، بنحو ذلك . وروي عن{[5732]} طريق الضحاك ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول : أين العافون عن الناس ؟ هَلُمُّوا إلى ربكم ، وخذوا أجوركم ، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة " .
{ الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ وَالضّرّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } أُعدت الجنة التي عرضها السموات والأرض للمتقين ، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله ، إما في صرفه على محتاج ، وإما في تقوية مضعف على النهوض للجهاد في سبيل الله .
وأما قوله : { فِي السّرّاء } فإنه يعني : في حال السرور بكثرة المال ، ورخاء العيش والسرّاء : مصدر من قولهم سرّني هذا الأمر مسرّة وسرورا¹ والضراء : مصدر من قولهم : قد ضرّ فلان فهو يضرّ إذا أصابه الضرّ ، وذلك إذا أصابه الضيق والجهد في عيشه .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } يقول : في العسر واليسر .
فأخبر جلّ ثناؤه أن الجنة التي وصف صفتها لمن اتّقاه وأنفق ماله في حال الرخاء والسعة وفي حال الضيق والشدة في سبيله .
وقوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ } يعني : والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه ، يقال منه : كظم فلان غيظه : إذا تجرّعه فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرة على إمضائه باستمكانها ممن غاظها وانتصارها ممن ظلمها . وأصل ذلك من كظم القربة ، يقال منه : كظمتُ القربة : إذا ملأتها ماء ، وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غمّا وحزنا ، ومنه قول الله عزّ وجلّ ، { وابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } يعني ممتلىء من الحزن ، ومنه قيل لمجاري المياه الكظائم لامتلائها بالماء ، ومن قيل : أخذت بكظمه يعني بمجاري نفسه . والغيظ : مصدر من قول القائل : غاظني فلان فهو يغيظني غيظا ، وذلك إذا أحفظه وأغضبه .
وأما قوله : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ } فإنه يعني : والصافحين عن الناس عقوبة ذنوبهم إليهم ، وهم على الانتقام منهم قادرون ، فتاركوها لهم .
وأما قوله { واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } فإنه يعني : فإن الله يحبّ من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعدّ للعاملين بها الجنة التي عرضها السموات والأرض . والعاملون بها هم المحسنون ، وإحسانهم هو عملهم بها . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } . . . الاَية : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } أي وذلك الإحسان ، وأنا أحبّ من عمل به .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } : قوم أنفقوا في العسر واليسر ، والجهد والرخاء ، فمن استطاع أن يغلب الشرّ بالخير فليفعل ، ولا قوّة إلا بالله ، فنعمت والله يا ابن آدم الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ وأنت مظلوم .
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محرز أبو رجاء ، عن الحسن ، قال : يقال يوم القيامة : ليقم من كان له على الله أجر ! فما يقوم إلا إنسان عفا . ثم قرأ هذه الاَية : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل ، عن عمّ له ، عن أبي هريرة في قوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ كَظَمَ غَيْظا وَهُوَ يَقْدِرُ على إنْفَاذِهِ مَلأَهُ اللّهُ أمْنا وإيمانا » .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ } . . . إلى الاَية : { واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } ، فالكاظمين الغيظ كقوله : { وإذَا مَا غَضِبُوا هُمُ يَغْفِرُونَ }¹ يغضبون في الأمر لو وقعوا به كان حراما فيغفرون ويعفون ، يلتمسون بذلك وجه الله¹ { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ } كقوله : { وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ } . . . إلى : { ألاَ تُحِبّونَ أن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ } يقول : لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئا واعفوا واصفحوا .
{ الذين ينفقون } صفة مادحة للمتقين ، أو مدح منصوب أو مرفوع . { في السراء والضراء } في حالتي الرخاء والشدة ، أو الأحوال كلها إذ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة ، أي لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير ، { والكاظمين الغيظ } الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة ، من كظمت القرية إذا ملأتها وشددت رأسها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من كظم غيظا وهو يقدر على إنقاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا " . { والعافين عن الناس } التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام " إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله " وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت . { والله يحب المحسنين } يحتمل الجنس ويدخل تحته هؤلاء ، والعهد فتكون الإشارة إليهم .
الصفة الأولى : الإنفاق في السَّراء والضّراء . والإنفاق تقدّم غير مرّة وهو الصدقة وإعطاء المال والسلاح والعُدة في سبيل الله . والسرّاء فَعْلاء ، اسم لمصدر سرّه سَرّاَ وسُروراً . والضّراء كذلك من ضَرّه ، أي في حالي الاتّصاف بالفرح والحزن ، وكأنّ الجمعَ بينهما هنا لأنّ السرّاء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم ، والضرّاء فيها ملهاة وقلّة مَوجدة . فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تَدلّ على أنّ محبَّة نفع الغير بالمال ، الَّذي هو عزيز على النَّفس ، قد صارت لهم خلقاً لا يحجبهم عنه حاجب ولا ينشأ ذلك إلاّ عن نفس طاهرة .
الصفة الثَّانية : الكاظمين الغيظ . وكظم الغيظ إمساكه وإخفاؤه حتَّى لا يظهر عليه ، وهو مأخوذ من كظم القربة إذا ملأها وأمسك فمها ، قال المبرّد : فهو تمثيل للإمساك مع الامتلاء ، ولا شكّ أن أقوى القوى تأثيراً على النَّفس القوّة الغاضبة فتشتهي إظهار آثار الغضب ، فإذا استطاع إمساكَ مظاهرها ، مع الامتلاء منها ، دلّ ذلك على عزيمة راسخة في النَّفس ، وقهرِ الإرادةِ للشهوة ، وهذا من أكبر قوى الأخلاق الفاضلة .
الصفّة الثالثة : العفو عن النَّاس فيما أساؤوا به إليهم . وهي تكملة لصفة كظم الغيظ بمنزلة الاحتراس لأنّ كظم الغيظ قد تعترضه ندامة فيستعدي على من غاظه بالحقّ ، فلمَّا وصفوا بالعفو عمّن أساء إليهم دلّ ذلك على أنّ كظم الغيظ وصف متأصّل فيهم ، مستمرّ معهم . وإذا اجتمعت هذه الصفّات في نفسٍ سهل ما دونها لديها .
وبجماعها يجتمع كمال الإحسان ولذلك ذيل الله تعالى ذكرها بقوله : { والله يحب المحسنين } لأنه دال على تقدير أنهم بهذه الصفات محسنون والله يحبّ المحسنين .