المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

180- لا يظن الذين يبخلون بما أنعم الله عليهم من المال تفضلاً منه ، ولا يبذلونه في الواجبات وسبل الخير أنَّ البخل خير لهم ، بل إنه شر سيئ العاقبة عليهم ، سيجزون عليه شر الجزاء يوم القيامة ، وسيكون العذاب ملازماً لهم ملازمة الطوق للعنق . وإن كل ما في الوجود يؤول لله - سبحانه وتعالى - وهو المالك له ، وهو - سبحانه - يعلم كل ما تعملون ، وسيجازيكم عليه .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم } . أي ولا يحسبن الباخلون البخل خيراً لهم .

قوله تعالى : { بل هو } . يعني البخل .

قوله تعالى : { شر لهم سيطوقون } . أي سوف يطوقون .

قوله تعالى : { ما بخلوا به يوم القيامة } . يعني يجعل ما منعه من الزكاة حيةً تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه ، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي وائل والشعبي والسدي .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا علي بن عبد الله المديني ، أنا هاشم بن قاسم ، أخبرنا عبد الرحمن بن دينار ، عن أبيه عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان ، يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ، يعني شدقيه ، ثم يقول :أنا مالك أنا كنزك ، ثم تلا ( ولا يحسبن الذين يبخلون ) الآية .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن حفص بن غياث ، أنا أبي أنا الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : انتهيت إليه ، يعني : النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ، أو والذي لا إله غيره أو كما حلف ، ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه ، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جاوزت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس .

قال إبراهيم النخعي معنى الآية ، يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقا من النار ، قال مجاهد : يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم .

وروى عطية عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ، وأراد بالبخل كتمان العلم كما قال في سورة النساء : ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ) . ومعنى قوله " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، أي يحملون وزره وإثمه ، كقوله تعالى ( يحملون أوزارهم على ظهورهم ) .

قوله تعالى : { ولله ميراث السماوات والأرض } . يعني أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم ، نظيره قوله تعالى ( إنا نحن نرث الأرض ومن عليها ) .

قوله تعالى : { والله بما تعملون خبير } . قرأ أهل البصرة ومكة بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء مصير الذين يبخلون بنعم الله ، فلا يؤدون حقها . ولا يقومون بشكرها فقال - تعالى - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } .

وقوله { يَبْخَلُونَ } من البخل وهو ضد الجود والسخاء ، ومعناه : أن يقبض الإنسان يده عن إعطاء الشىء لغيره ، وأن يحرص حرصاً شديداً على ما يملكه من مال أو علم أو غير ذلك .

ويرى جمهور المفسرين أن المراد بالبخل هنا البخل بالمال ، لأنه هو الذى يتفق مع السياق .

ويرى بعضهم أن المراد بالبخل هنا البخل بالعلم وكتمانه ، وذلك لأن اليهود كتموا صفات النبى صلى الله عليه وسلم التى جاءت بها التوراة .

والذى تراه أن ما عليه الجمهور هو الأرجح ، لأنه هو المتبادر من معنى الآية ، وهو المتفق من سياق الكلام .

ولذا قال الآلوسى : قوله - تعالى - { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } بيان لحال البخل وسوء عاقبته ، وتخطئة لأهله فى دعواهم خيريته عقب بيان حال الإملاء . . .

وقيل : وجه الارتباط أنه - تعالى - لما بالغ فى التحريض على بذل الأرواح فى الجهاد وغيره ، شرع هنا فى التحريض على بذل المال ، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل به " .

والمعنى : ولا يظنن أولئك الذين يبخلون بما أعطاهم الله من نعم وأموال أن بخلهم فيه خير لهم ، كلا ، بل إن بخلهم هذا فيه شر عظيم لهم .

والنهى عن الحسبان بأن البخل فيه خير فى قوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } يدل على النفى المؤكد .

اى لا يصح لهم أن يظنوا بأية حال من الأحوال أن ذلك البخل فيه خير لهم . بل الحقيقة أن فيه شراً كبيراً لهم .

وفى قوله { بِمَآ آتَاهُمُ الله } إشعار بسوء صنيعهم ، وخبث نفوسهم ، حيث بخلوا بشىء ليس وليد عملهم واجتهادهم ، وإنما هذا الشىء منحه الله - تعالى - لهم بفضله وجوده ، فكان الأولى لهم أن بشكروه على ما أعطى ، وأن يبذلوا مما أعطاهم فى سبيله .

والضمير " هو " يعود على البخل المستفاد من قوله { يَبْخَلُونَ } .

ويرى الزمخشرى أنه ضمير فصل لتأكيد نفى الظن فى الخيرية .

وفى إعادة الضمير ، وذكر الجملة الإسمية فى قوله { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } تأكيد لمعنى الشر فى البخل ، وأنه لا خير من ورائه قط ، ففى الحديث الشريف الذى رواه الإمام مسلم فى صحيحه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " .

ثم بين - سبحانه - المصير المؤلم لأولئك البخلاء فقلا - تعالى - { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } .

وقوله { سَيُطَوَّقُونَ } مشتق من الطوق ، وهو ما يلبس من أسفل الرقبة . أى تجعل أموالهم أطواقا حول رقابهم ، وأغلالا حول أجسادهم ، فيعذبون عذابا أليما بحملها .

وجمهور المفسرين على أن الكلام على ظاهره ، وأن عذاب هؤلاء البخلاء بنعم الله ، سيكون نوعا من العذاب الأخروى المحسوس . وقد أيد القرطبى هذا الاتجاه فقال :

" وهذه الآية نزلت فى البخل بالمال والإنفاق فى سبيل الله وأداء الزكاة المفروضة ، ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين ، منهم : ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل .

قالوا : ومعنى { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } هو الذى ورد لى الحديث عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - أى شدقيه - ثم يقول له . أنا مالك أنا كنزك . ثم تلا هذه الآية : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .

ويرى بعض العلماء أن هذا الوعيد على سبيل التمثيل ، وأن الظاهر غير مراد ومعنى قوله { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ } عند هذا البعض : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم ، فلا يأتون لأنهم ليس فى قدرتهم ذلك .

و المعنى : سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق ، ويتحملون وزر ذلك يوم القيامة .

فالآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى الجود والسخاء من أجل إعلاء كلمة الله ، وتتوعد البخلاء باقسى ألوان الوعيد وأفطعها . وتبين أن كل ما فى هذا الكون إنما هو ملك لله - تعالى - وحده ، فهو المعطى وهو المانع ، ولذا قال - تعالى - : { وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

والميراث : مصدر كالميعاد . وأصله موارث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها . والمراد به ما يتوارث .

والمعنى : أن لله - تعالى - وحده لا لأحد غيره ما فى السموات والأرض مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ، فما بال هؤلاء القوم يبخلون عليه بما يملكه ، ولا ينفقونه فى سبيله . وعلى هذا يكون الكلام جار على حقيقته ولا مجاز فيه .

ويصح أن يكون المعنى : أن الله - تعالى - يرث من هؤلاء ما فى أيديهم مما بخلوا به من مال وغيره وينتقل منهم إليه حين يميتهم ويفنيهم ، وتبقى الحسرة والندامة عليهم . وعلى هذا يكون الكلام على سبيل المجاز .

قال الزجاج : أى أن الله - تعالى - يفنى أهلهما . فيفنيان بما فيهما ، فليس لأحد فيهما ملك . فخوطبوا بما يعلمون ، لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثا ، ملكا له " .

وقوله { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } تذييل قصد به حضهم على الإنفاق ، ونهيهم عن البخل ، أى أن الله - تعالى - خبير ومطلع على ما يصدر عنكم من سخاء أو بخل أو غيرهما ، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا الحسنى .

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من التسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ولأتباعه ، وبشرتهم بأن العاقبة ستكون لهم ، وفضحت المنافقين وهتكت ما تستروا به من ريا وخداع ، وبينت أن من سنن الله فى خلقه أن يبتلى عباده بشتى ألوان البلاء ليتميز الخبيث من الطيب ، وأنه - سبحانه - يلمى للكافرين ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وأن البخلاء بما آتاهم الله من فضله ستكون عاقبتهم شرا ، ومصيرهم إلى العذاب الأليم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

180

( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض ، والله بما تعملون خبير . لقد سمع الله قول الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ، ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم ، وأن الله ليس بظلام للعبيد . الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل : قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ، فلم قتلتموهم ، إن كنتم صادقين ؟ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير )

لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة ، عم تعنيهم ، ومن تحذرهم البخل ، وعاقبة يوم القيامة . . ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات ، في شأن اليهود . فهم - قبحهم الله - الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء . وهم الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار .

والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول [ ص ] ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول [ ص ] والإنفاق في سبيل الله .

وقد نزل هذا التحذير التهديدي ، مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد [ ص ] ردا على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم ، ومن كذب تعلاتهم ؛ ونزلت معه المواساة للرسول [ ص ] عن تكذيبهم ، بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم . ومنهم أنبياء بني إسرائيل ، الذي قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل :

( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض . والله بما تعملون خبير )

إن مدلول الآية عام . فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم ، كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله ؛ ويحسبون أن هذا البخل خير لهم ، يحفظ لهم أموالهم ، فلا تذهب بالإنفاق .

والنص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب ؛ ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة نارا . . وهو تهديد مفزع . . والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم ( يبخلون بما آتاهم الله من فضله ) . . فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم . فقد جاءوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئا . . ولا جلودهم . . ! فآتاهم الله من فضله فأغناهم . حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا " من فضله " شيئا لم يذكروا فضل الله عليهم . وبخلوا بالقليل ، وحسبوا أن في كنزه خيرا لهم . وهو شر فظيع . وهم - بعد هذا كله - ذاهبون وتاركوه وراءهم . فالله هو الوارث : ( ولله ميراث السماوات والأرض ) . . فهذا الكنز إلى أمد قصير . ثم يعود كله إلى الله . ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته فيبقى مدخرا لهم عنده ، بدلا من أن يطوقهم إياه يوم القيامة !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لّهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لّهُمْ سَيُطَوّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللّهِ مِيرَاثُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه جماعة من أهل الحجاز والعراق : { وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ يَبخَلونَ } بالياء من يحسبنّ وقرأته جماعة أخر : «وَلا تَحسَبنّ » بالتاء .

ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك ، فقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : لا يحسبنّ الباخلون البخل هو خيرا لهم . فاكتفى بذكر يبخلون من البخل ، كما تقول : قدم فلان فسررت به ، وأنت تريد فسررت بقدومه ، وهو عماد . وقال بعض نحويي أهل البصرة : إنما أراد بقوله : «وَلا تَحسَبنّ الّذِينَ يَبخَلونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ » لا تحسبن البخل هو خيرا لهم ، فألقى الاسم الذي أوقع عليه الحسبان به وهو البخل ، لأنه قد ذكر الحسبان ، وذكر ما آتاهم الله من فضله ، فأضمرهما إذ ذكرهما ، قال : وقد جاء من الحذف ما هو أشد من هذا ، قال : { لا يَستَوِي مِنكُمْ مَنْ انْفَقَ مِنْ قَبْل الفَتْحِ وَقاتَلَ } ولم يقل : ومن أنفق من بعد الفتح ، لأنه لما قال : { أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ } كان فيه دليل على أنه قد عناهم .

وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة ، أن «من » في قوله : { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ } في معنى جمع . ومعنى الكلام : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح في منازلهم وحالاتهم ، فكيف من أنفق من بعد الفتح ، فالأول مكتف . وقال في قوله : { لا يَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خيْرا لَهُمْ } محذوف ، غير أنه لم يحذف إلا وفي الكلام ما قام مقام المحذوف ، لأن «هو » عائد البخل ، و«خيرا لهم » عائد الأسماء ، فقد دلّ هذان العائدان على أن قبلهما اسمين ، واكتفى بقوله : يبخلون ، من البخل . قال : وهذا إذا قرىء بالتاء ، فالبخل قبل الذين ، وإذا قرىء بالياء ، فالبخل بعد الذين ، وقد اكتفى بالذين يبخلون من البخل ، كما قال الشاعر :

إذَا نُهِيَ السّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ *** وخالَفَ وَالسّفيهُ إلى خِلافِ

كأنه قال : جرى إلى السفه ، فاكتفى عن السفه بالسفيه ، كذلك اكتفى بالذين يبخلون من البخل .

وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ } بالتاء بتأويل : ولا تحسبنّ أنت يا محمد بخل الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله ، هو خيرا لهم ، ثم ترك ذكر البخل ، إذ كان في قوله هو خيرا لهم ، دلالة على أنه مراد في الكلام ، إذ كان قد تقدّمه قوله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمْ اللّهُ مِنْ فَضلِهِ } .

وإنما قلنا قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء ، لأن المحسبة من شأنها طلب اسم وخبر ، فإذا قرىء قوله : { وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ } بالياء لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله : { هُوَ خَيْرا لَهُمْ } خبرا عنه ، وإذا قرىء ذلك بالتاء كان قوله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ } اسما له ، قد أدّى عن معنى البخل الذي هو اسم المحسبة المتروك ، وكان قوله : { هُوَ خَيْرا لَهُمْ } خبرا لها ، فكان جاريا مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح . فلذلك اخترنا القراءة بالتاء في ذلك على ما بيناه ، وإن كانت القراءة بالياء غير خطأ ، ولكنه ليس بالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب .

وأما تأويل الاَية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك : ولا تحسبنّ يا محمد ، بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال ، فلا يخرجون منه حقّ الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات هو خيرا لهم عند الله يوم القيامة ، بل هو شرّ لهم عنده في الاَخرة . كما :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُو شَرّ لَهُمْ » : هم الذين آتاهم الله من فضله ، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله ، ولم يؤدّوا زكاتها .

وقال آخرون : بل عنى بذلك اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما أنزل الله في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني عمي ، ثني أبي ، قال : قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » . . . إلى { سُيَطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } يعني بذلك : أهل الكتاب أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » قال : هم يهود ، إلى قوله : { وَالكتاب المُنِير } .

وأولى التأويلين بتأويل هذه الاَية التأويل الأوّل وهو أنه معنيّ بالبخل في هذا الموضع : منع الزكاة لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تأوّل قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : البخيل الذي منع حقّ الله منه أنه يصير ثعبانا في عنقه ، ولقول الله عقيب هذه الاَية : { لَقَدْ سَمِعَ اللّهْ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أغْنِياءُ } فوصف جلّ ثناؤه قول المشركين من اليهود الذين زعموا عند أمر الله إياهم بالزكاة أن الله فقير .

القول في تأويل قوله تعالى : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخَلِوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { سَيُطَوّقُونَ } : سيجعل الله ما بخل به المانعون الزكاة طوقا في أعناقهم ، كهيئة الأطواق المعروفة . كالذي :

حدثني الحسن بن قزعة ، قال : حدثنا مسلمة بن علقمة ، قال : حدثنا داود ، عن أبي قزعة ، عن أبي مالك العبدي ، قال : ما من عبد يأتيه ذو رحم له يسأله من فضل عنده فيبخل عليه إلا أخرج له الذي بخل به عليه شجاعا أقرع . وقال : وقرأ : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ » . . . إلى آخر الاَية .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن أبي قزعة ، عن رجل ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِيَ ذَا رَحِمِهِ فَيَسألُهُ فَضْلٍ جَعَلَهُ الله عِنْدَهُ فَيَبْخَلَ بِهِ عَلَيْهِ إلاّ أُخْرِجَ مِنْ لَهُ مِنْ جَهَنّمَ شُجاعٌ يَتَلَمّظُ حتى يُطَوّقَهُ » .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم ، قال : حدثنا داود ، عن أبي قزعة حجر بن بيان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمِهِ فَيَسألَهُ مِنْ فَضْلٍ أعْطاهُ اللّهُ إيّاهُ فَيَبْخَلَ بِهِ عَلَيْهِ ، إلاّ أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ شُجاعٌ مِنَ النّارِ يَتَلَمّظُ حتى يُطَوّقَهُ » ثم قرأ : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » حتى انتهى إلى قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } .

حدثني زياد بن عبيد الله المرّي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، وحدثني محمد بن عبد الله الكلابي ، قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبيدة الحداد ، واللفظ ليعقوب جميعا ، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لا يَأْتِي رَجُلٌ مَوْلاهُ فَيَسألَهُ مِنْ فَضْل مالٍ عِنْدَهُ فَيَمْنَعُهُ إيّاهُ إلاّ دَعا لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ شُجاعا يَتَلَمّظُ فَضْلَهُ الّذِين مَنَعَ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : ثعبان ينقر رأس أحدهم ، يقول : أنا مالك الذي بخلت به .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت أبا وائل يحدّث أنه سمع عبد الله ، قال في هذه الاَية : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : شجاع يلتوي برأس أحدهم .

حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، قال : حدثنا خلاد بن أسلم ، قال أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، بمثله ، إلا أنهما قالا : قال شجاع أسود .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : يجيء ماله يوم القيامة ثعبانا ، فينقر رأسه فيقول : أنا مالك الذي بخلت به ، فينطوي على عنقه .

حُدثت عن سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا جامع بن شداد وعبد الملك بن أعين ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ أحَدٍ لا يُؤَدّي زَكاةَ مالِهِ إلاّ مُثّلَ لَهُ شُجاعٌ أقْرَعُ يُطَوّقُهُ » ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ » . . . الاَية .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما { سَيُطَوّقون ما بَخِلُوا بِهِ } فإنه يجعل ماله يوم القيامة شجاعا أقرع يطوّقه ، فيأخذ بعنقه ، فيتبعه حتى يقذفه في النار .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن أبي هاشم ، عن أبي وائل ، قال : هو الرجل الذي يرزقه الله مالاً ، فيمنع قرابته الحقّ الذي جعل الله لهم في ماله ، فيجعل حية فيطوّقها ، فيقول : مالي ولك ؟ فيقول : أنا مالك .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق ، قال : سألت ابن مسعود عن قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : يطوّقون شجاعا أقرع ، ينهش رأسه .

وقال آخرون : معنى ذلك : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } فيجعل في أعناقهم طوقا من نار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : طوقا من النار .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قال في هذه الاَية : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : طوقا من نار .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : { سَيُطَوّقُونَ } قال : طوقا من نار .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : طوق من نار .

وقال آخرون : معنى ذلك : سيحمل الذين كتموا نبوّه محمد صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود ما كتموا من ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس ، قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } ألم تسمع أنه قال : { يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ } يعني : أهل الكتاب ، يقول : يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان .

وقال آخرون : معنى ذلك : سيكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به ، إلى قوله : { وَالكِتابِ المُنِير } .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { سَيُطَوّقونَ } سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة .

وأولى الأقوال بتأويل هذه الاَية التأويل الذي قلناه في ذلك في مبدإ قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ } للأخبار التي ذكرنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد أعلم بما عنى الله تبارك وتعالى بتنزيله منه عليه الصلاة والسلام .

القول في تأويل قوله تعالى : { وِللّهِ مِيرَاثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : أنه الحيّ الذي لا يموت ، والباقي بعد فناء جميع خلقه .

فإن قال قائل : فما معنى قوله : { لَهُ مِيرَاثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ } والميراث المعروف : هو ما انتقل من ملك مالك إلى وارثه بموته ولله الدنيا قبل فناء خلقه وبعده ؟ قيل : إن معنى ذلك ما وصفنا من وصفه نفسه بالبقاء ، وإعلام خلقه أنه كتب عليهم الفناء . وذلك أن ملك المالك إنما يصير ميراثا بعد وفاته ، فإنما قال جلّ ثناؤه : { ولِلّهِ مِيراثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ } إعلاما بذلك منه عباده أن أملاك جميع خلقه منتقلة عنهم بموتهم ، وأنه لاأحد إلا وهو فان سواء ، فإنه الذي إذا هلك جميع خلقه ، فزالت أملاكهم عنهم لم يبق أحد يكون له ما كانوا يملكونه غيره .

وإنما معنى الاَية : لا تحسبن الذي يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ، بعد ما يهلكون ، وتزول عنهم أملاكهم في الحين الذي لا يملكون شيئا ، وصار لله ميراثه وميراث غيره من خلقه . ثم أخبر تعالى ذكره أنه بما يعمل هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضل ، وغيرهم من سائر خلقه ، ذو خبرة وعلم ، محيط بذلك كله ، حتى يجازي كلاّ منهم على قدر استحقاقه ، المحسن بالإحسان ، والمسيء على ما يرى تعالى ذكره .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

{ ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم } القراءات فيه على ما سبق . ومن قرأ بالتاء قدر مضافا ليتطابق مفعولاه أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم ، وكذا من قرأ بالياء إن جعل الفاعل ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو من يحسب وإن جعله الموصول كان المفعول الأول محذوفا لدلالة يبخلون عليه أي ولا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيرا لهم . { بل هو } أي البخل . { شر لهم } لاستجلاب العقاب عليهم . { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } بيان لذلك ، والمعنى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق ، وعنه عليه الصلاة والسلام " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعله الله شجاعا في عنقه يوم القيامة " . { ولله ميراث السماوات والأرض } وله ما فيهما مما يتوارث ، فما لهؤلاء يبخلون عليه بماله ولا ينفقونه في سبيله ، أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله بهلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والعقوبة . { والله بما تعملون } من المنع والإعطاء . { خبير } فمجازيهم . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الالتفات وهو أبلغ في الوعيد .