91- قالوا : يا شعيب ما نعقل كثيراً مما تقوله لنا ، ونؤكد لك أننا نراك بيننا ضعيفاً لا قدرة لك على الدفاع ، وعلى الإقناع ، إن أردنا بك ما تكره ، ولولا مجاملتنا لعشيرتك ، لأنها على ديننا ، لقتلناك رجماً بالحجارة ، وما أنت علينا بعزيز حتى نجلَّك ونحترمك ونكرمك ونصونك عن القتل بالرجم ، وإنما هي المجاملة لعشيرتك تمنعنا عن قتلك .
ولكن القوم كانوا قد بلغوا من الفساد نهايته ، ومن الجهل أقصاه . . . فقد ردوا على هذه النصائح الغالية بقولهم : { قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ . . . }
أى : قال قوم شعيب له على سبيل التحدى والتكذيب : يا شعيب إننا لا نفهم الكثير من قولك ، لأنه قول لم نألفه ولم تتقبله نفوسنا ، ولقد أطلت فى دعوتنا إلى عبادة الله وترك النقص فى الكيل والميزان حتى مللنا دعوتك وسئمناها ، وصارت ثقيلة على مسامعنا ، وخافية على عقولنا . .
فمرادهم بهذه الجملة الاستهانة ، به والصدود عنه ، كما يقول الرجل لمن لا يعبأ بحديثه : لا أدرى ما تقوله ، ولا أفهم ما تتفوه به من ألفاظ .
قال أبو السعود ما ملخصه : والفقه : معرفة غرض المتكلم من كلامه ، أى : ما نفهم مرادك وإنما قالوا ذلك بعد أن سمعوا منه دلائل الحق البين على أسحن وجه وأبلغه ، وضاقت عليهم الحيل ، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلا . . . كما هو ديدن المفحم المحجوج ، يقابل النصائح البينات بالسب والإِبراق والإِرعاد . . . إذ جعلوا كلامه المشتمل على الحكم من قبيل ما لا يفهم معناه . . .
ثم قالوا له - ثانيا - { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } أى : لا قوة لك إلى جانب قوتنا ، ولا قدرة عندك على مقاومتنا إن أردنا قتلك أو طردك من قريتنا .
ثم قالوا له . . ثانيا - { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } ورهط الرجل : قومه وعشيرته الأقربون . ومنه الراهط لحجر اليربوع ، لأنه يحتمى فيه . . .
ولفظ ( الرهط ) اسم جمع يطلق غالبا على العصابة دون العشرة من الرجال ليس فيهم أمرأة .
أى : ولولا عشيرتك التى هى على ملتنا وشريعتنا لرجمناك بالحجارة حتى تموت ، ولكن مجاملتنا لعشيرتك التى كفرت بك هى التى جعلتنا نبقى عليك .
ثم قالوا له - رابعا - { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أى : وما أنت علينا بمكرم أو محبوب أو قوى حتى نمتنع عن رجمك ، بل أنت فينا الضعيف المكروه . .
ولكن القوم كانوا قد بلغوا من فساد القلوب ، ومن سوء تقدير القيم في الحياة ، وسوء التصور لدوافع العمل والسلوك ، ما كشف عنه تبجحهم من قبل بالسخرية والتكذيب :
( قالوا : يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ، وإنا لنراك فينا ضعيفا ، ولولا رهطك لرجمناك ، وما أنت علينا بعزيز ) . .
فهم ضيقو الصدور بالحق الواضح ، لا يريدون أن يدركوه :
( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ) . .
وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة :
فلا وزن عندهم للحقيقة القوية التي يحملها ويواجههم بها .
ففي حسابهم عصبية العشيرة ، لا عصبية الاعتقاد ، وصلة الدم لا صلة القلب . ثم هم يغفلون عن غيرة الله على أوليائه فلا يضعونها في الحساب .
لا عزة التقدير والكرامة ولا عزة الغلب والقهر . ولكننا نحسب حساب الأهل والعشيرة !
وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية ؛ فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا ؛ فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة ، ولا لحقيقة كبيرة ؛ ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه ؛ وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه . أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فلا وزن لها ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ يَشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مّمّا تَقُولُ وَإِنّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } .
يقول تعالى ذكره : قال قوم شعيب لشعيب : { يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيرا مِمّا تَقُول } ، أي : ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به . { وَإنّا لَنَرَاك فِينا ضَعِيفا } ، ذكر أنه كان ضريرا ، فلذلك قالوا له : { إنّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفا } . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا أسد بن زيد الجَصّاص ، قال : أخبرنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { وَإنّا لَنَرَاكَ فِينا ضَعِيفا } ، قال : كان أعمى .
حدثنا عباس بن أبي طالب ، قال : ثني إبراهيم بن مهدي المصيّصي ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن سفيان ، عن سعيد ، مثله .
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا إبراهيم بن زياد وإسحاق بن المنذر ، وعبد الملك بن زيد ، قالوا : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، مثله .
قال : حدثنا عمرو بن عون ومحمد بن الصباح ، قالا : سمعنا شريكا يقول في قوله : { وَإنّا لَنَرَاكَ فِينا ضَعِيفا } ، قال : أعمى .
حدثنا سعدويه ، قال : حدثنا عباد ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، قوله : { وَإنّا لَنَرَاكَ فِينا ضَعِيفا } ، قال : كان ضعيف البصر . قال سفيان : وكان يقال له : خطيب الأنبياء .
قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا عباد ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : { وَإنّا لَنَرَاكَ فِينا ضَعِيفا } ، قال : كان ضرير البصر .
وقوله : { وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ } ، يقول : يقولون : ولولا أنت في عشيرتك وقومك لرجمناك ، يعنون : لسببناك . وقال بعضهم : معناه : لقتلناك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجمْناكَ } ، قال : قالوا : لولا أن نتقي قومك ورهطك لرجمناك . { وَما أنْتَ عَلَيْنا بعَزيزٍ } ، يعنون : ما أنت ممن يكرم علينا ، فيعظم علينا إذلاله وهَوَانُه ، بل ذلك علينا هَين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.