مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفٗاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَٰكَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡنَا بِعَزِيزٖ} (91)

قوله تعالى { قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز }

اعلم أنه عليه السلام لما بالغ في التقرير والبيان ، أجابوه بكلمات فاسدة . فالأول : قولهم : { يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : لقائل أن يقول : أنه عليه السلام كان يخاطبهم بلسانهم ، فلم قالوا : { ما نفقه } والعلماء ذكروا عنه أنواعا من الجوابات : فالأول : أن المراد : ما نفهم كثيرا مما تقول ، لأنهم كانوا لا يلقون إليه أفهامهم لشدة نفرتهم عن كلامه وهو كقوله : { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } الثاني : أنهم فهموه بقلوبهم ولكنهم ما أقاموا له وزنا ، فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذ لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول . الثالث : أن هذه الدلائل التي ذكرها ما أقنعتهم في صحة التوحيد والنبوة والبعث ، وما يجب من ترك الظلم والسرقة ، فقولهم : { ما نفقه } أي لم نعرف صحة الدلائل التي ذكرتها على صحة هذه المطالب .

المسألة الثانية : من الناس من قال : الفقه اسم لعلم مخصوص ، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه . واحتجوا بهذه الآية وهي قوله : { ما نفقه كثيرا مما تقول } فأضاف الفقه إلى القول ثم صار اسما لنوع معين من علوم الدين ، ومنهم من قال : إنه اسم لمطلق الفهم . يقال : أوتي فلان فقها في الدين ، أي فهما . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين » أي يفهمه تأويله .

والنوع الثاني : من الأشياء التي ذكروها قولهم : { وإنا لنراك فينا ضعيفا } وفيه وجهان : الأول : أنه الضعيف الذي يتعذر عليه منع القوم عن نفسه ، والثاني : أن الضعيف هو الأعمى بلغة حمير . واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه : الأول : أنه ترك للظاهر من غير دليل ، والثاني : أن قوله : { فينا } يبطل هذا الوجه ؛ ألا ترى أنه لو قال : إنا لنراك أعمى فينا كان فاسدا ، لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم . الثالث : أنهم قالوا بعد ذلك { ولولا رهطك لرجمناك } فنفوا عنه القوة التي أثبتوها في رهطه ، ولما كان المراد بالقوة التي أثبتوها للرهط هي النصرة ، وجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النصرة ، والذين حملوا اللفظ على ضعف البصر لعلهم إنما حملوه عليه ، لأنه سبب للضعف .

واعلم أن أصحابنا يحوزون العمى على الأنبياء ، إلا أن هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى لما بيناه . وأما المعتزلة فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال : إنه لا يجوز لكونه متعبدا فإنه لا يمكنه الاحتراز عن النجاسات ، ولأنه ينحل بجواز كونه حاكما وشاهدا ، فلأن يمنع من النبوة كان أولى ، والكلام فيه لا يليق بهذه الآية ، لأنا بينا أن الآية لا دلالة فيها على هذا المعنى .

والنوع الثالث : من الأشياء التي ذكروها قولهم : { ولولا رهطك لرجمناك } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف » : الرهط من الثلاثة إلى العشرة ، وقيل إلى السبعة ، وقد كان رهطه على ملتهم . قالوا لولا حرمة رهطك عندنا بسبب كونهم على ملتنا لرجمناك ، والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا أنه لا حرمة له عندهم ، ولا وقع له في صدورهم ، وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترامهم رهطه .

المسألة الثانية : الرجم في اللغة عبارة عن الرمي ، وذلك قد يكون بالحجارة عند قصد القتل ، ولما كان هذا الرجم سببا للقتل لا جرم سموا القتل رجما ، وقد يكون بالقول الذي هو القذف ، كقوله : { رجما بالغيب } وقوله : { ويقذفون بالغيب من مكان بعيد } وقد يكون بالشتم واللعن ، ومنه قوله : { الشيطان الرجيم } وقد يكون بالطرد كقوله : { رجوما للشياطين } .

إذا عرفت هذا ففي الآية وجهان : الأول : { لرجمناك } لقتلناك . الثاني : لشتمناك وطردناك .

النوع الرابع : من الأشياء التي ذكروها قولهم : { وما أنت علينا بعزيز } ومعناه أنك لما لم تكن علينا عزيزا سهل علينا الإقدام على قتلك وإيذائك .

واعلم أن كل هذه الوجوه التي ذكروها ليست دافعا لما قرره شعيب عليه السلام من الدلائل والبينات ، بل هي جارية مجرى مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة .