اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفٗاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَٰكَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡنَا بِعَزِيزٖ} (91)

قوله : { قَالُواْ يا شعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } .

قيل : المعنى : ما نفقه كثيراً ممَّا تقولُ ؛ لأنَّهُم كانوا لايلقون إليه أفهامهم لشدَّة نفورهم من كلامه ، كقوله : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [ الأنعام : 25 ] وقيل : إنَّهم فهموه ، ولكنَّهم ما أقامُوا له وزناً ، فذكروا هذا الكلام على سبيل الاستهانة ، كقول الرَّجل لمنْ لم يعْبَأ بحديثه : ما أدري ما تقولُ .

وقيل : ما ندري حصة الدَّليل الذي ذكرته على صحَّةِ التوحيد والنُّبوةِ والبعث ، وما جيبُ من ترك الظُّلمِ والسرقة .

فصل

استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الفقه : اسمٌ لعلم مخصوص ، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه ؛ لأنه أضاف الفقه إلى القولِ ، ثم صار اسماً لنوع مُعيَّن من علوم الدين ، وقيل : إنَّه اسم لملطلق الفهم ، يقال : أوتي فلانٌ فقهاً في الدِّين ، أي : فَهْماً . قال عليه الصلاة والسلام : " يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ " {[18958]} أي : يفهمه تأويله .

ثم قال : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } قيل : الضَّعيفُ الذي تعذر عليه منعُ القوم عن نفسه .

وقيل : هو الأعمى بلغة حمير وهذا ضعيفٌ ؛ لنه ترك للظاهر بغير دليل ، وأيضاً فقوله : " فِينَا " يُبطل هذا الوجه ؛ لأنَّهم لو قالوا : إنَّا لنراك أعْمَى فِينَا كان فاسداً ؛ لأنَّ الأعمى أعْمَى فيهم وفي غيرهم ، وأيضاً قولهم بعد ذلك " ولَوْلاَ رهْطُكَ لرجَمْناكَ " فنفوا عنه القُوَّة التي أثبتوها في رهطه وهي النُّصرة ؛ فوجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النُّصرة .

واستدلّ بعضُ العلماءِ بهذه الآية على تجويزِ العمى على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- . وذلك اللَّفظ لا يدلُّ عليه ، لما بيَّناه .

قال بعضُ المعتزلةِ : لا يجوزُ العَمَى على الأنبياء ، فإنَّ الأعْمَى لا يمكنه التَّجوز عن النَّجاسات ، ولأنه يخل بجواز كونه حاكماً وشاهداً ؛ فلأنْ يُمْنَع من النبوَّةِ أوْلَى .

قوله : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } " الرهط " جماعةُ الرجل . وقيل : الرَّهْط والرَّاهط لما دُون العشرة من الرَّجالِ ، ولا يقعُ الرَّهْطُ ، والعَصَب ، والنَّفَر ، إلاَّ على الرِّجالِ .

وقال الزمخشريُّ : " من الثَّلاثة إلى العشرة ، وقيل : إلى السِّبعةِ " ، ويجمع على " أرْهُط " و " أرْهُط " على " أرَاهِط " ؛ قال : [ مجزوء الكامل ]

يا بُؤسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي *** وَضَعَتْ أرَاهِطَ فاسْتَراحُوا{[18959]}

قال الرُّمَّانِيُّ : وأصلُ الكلمة من الرَّهْط ، وهو الشدُّ ، ومنه " التَّرْهيطُ " وهو شدَّة الأكل والرَّاهِطَاء اسم لجحر من جِحَرة اليَرْبُوع ؛ لأنَّه يتوثَّقُ به ويَحْيَا فيه أولاده .

فصل

المعنى : ولولا حرمة رهطك عندنا لكونهم على ملتنا لرجمناك .

والرَّجْمُ في اللغة : عبارة عن الرّمي ، وذلك قد يكونُ بالحجارة عند قصد القتل ، ولمَّا كان هذا الرَّجم سبباً للقتل سموا القتل رَجْماً ، وقد يكون بالقول الذي هو القَذْفُ كقوله تعالى : { رَجْماً بالغيب } [ الكهف : 22 ] وقوله : { وَيَقْذِفُونَ بالغيب } [ سبأ : 53 ] ، وقد يكُونُ بالشَّتم واللعن ، ومنه الشيطان الرجيم ، وقد يكون بالطرد ، قال تعالى : { رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] فعلى هذه الوجوه يكون المعنى : لقتلناك ، أو لشتمناك وطردناك .

قوله : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } قال الزمخشريُّ{[18960]} " وقد دلّ إيلاءُ ضميره حرف النَّفي على أنَّ الكلام واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنَّهُ قيل : وما أنت بعزيز علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا ؛ فلذلك قال في جوابهم : " أرَهْطي أعزُّ عليْكُم مِنَ اللَّهِ " ولو قيلَ : " ومَا عَزَزْتَ عليْنَا " لم يصحَّ هذا الجوابُ " .

والمعنى : أنك لمَّ لمْ تكن علينا عزيزاً ، سهل علينا الإقدامُ على قتلك وإيذائك .

واعلم أنَّ الوجوه التي ذكروها ليست مانعةً لما قرره شعيبٌ من الدَّلائل ، بل هي جارية مجرة مقابلة الدلي والحجة بالشتم والسَّفاهة .


[18958]:أخرجه البخاري (1/197) كتاب العلم باب من يرد الله به خيرا حديث (71) ومسلم (2/718-719) كتاب الزكاة: باب النهي عن المسألة حديث (89/1037) من حديث معاوية.
[18959]:البيت لسعيد بن مالك: ينظر: الكتاب 2/207 والخصائص 3/106 وجمل الزجاجي (188) والمحتسب 2/93 وشرح المفصل لابن يعيش 2/10، 105 وأمالي ابن الشجري 1/257 والمغني 1/216 والتصريح 1/199 والتهذيب 6/176 ومقاييس اللغة 2/451 واللسان (رهط) وشرح الحماسة 1/192 والدر المصون 4/125.
[18960]:ينظر: الكشاف 2/423-424.