المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

13- وألزمنا كل إنسان عمله لزوم القلادة للعنق ، ونخرج له يوم القيامة كتاباً فيه أعماله ، يلقاه مفتوحاً ، ليسرع في قراءته .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

قوله عز وجل : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } ، قال ابن عباس : عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان . وقال الكلبي و مقاتل : خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسبه به . وقال الحسن : يمنه وشؤمه . وعن مجاهد : ما من مولود إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد . وقال أهل المعاني : أراد بالطائر ما قضى الله عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة سمي طائراً على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها . وقال أبو عبيدة و القتيبي : أراد بالطائر حظه من الخير والشر ، من قولهم : طار سهم فلان بكذا ، وخص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزين أو يشين ، فجرى على كلام العرب بتشبيه الأشياء اللازمة إلى الأعناق . { ونخرج له } ، يقول الله تعالى : ونحن نخرج له ، { يوم القيامة كتاباً } ، وقرأ الحسن و مجاهد و يعقوب : { ونخرج له } بفتح الياء وضم الراء ، معناه : ويخرج له الطائر يوم القيامة كتاباً . وقرأ أبو جعفر يخرج بالياء وضمها وفتح الراء . { يلقاه } ، قرأ ابن عامر و أبو جعفر يلقاه بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، يعني : يلقى الإنسان ذلك الكتاب ، أي : يؤتاه . وقرأ الباقون بفتح الياء خفيفة أي لا يراه { منشوراً } ، وفي الآثار : إن الله تعالى يأمر الملك بطي الصحيفة إذا تم عمر العبد فلا تنشر إلى يوم القيامة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

ثم ساق - سبحانه - صورة من صور هذا التفصيل المحكم فى كل شئ فقال - تعالى - : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } .

والمراد بطائره : عمله الصادر عنه باختياره وكسبه ، حسبما قدره الله - تعالى - عليه من خير وشر .

أى : وألزمنا كل إنسان مكلف عمله الناتج عنه ، إلزاما لا فكاك له منه ، ولا قدرة له على مفارقته .

وعبر - سبحانه - عن عمل الإِنسان بطائره ، لأن العرب كانوا - كما يقول الآلوسى - يتفاءلون بالطير ، فإذا سافروا ومر بهم الطير زجروه ، فإن مر بهم سانحا - أى من جهة الشمال إلى اليمين - تيمنوا وتفاءلوا ، وإن مر بارحا ، أى : من جهة اليمين الى الشمال تشاءموا ، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر ، استعير استعارة تصريحية ، لما يشبههما من قدر الله - تعالى - وعمل العبد ، لأنه سبب للخير والشر .

وقوله - سبحانه - : { فى عنقه } تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط بين الإِنسان وعمله .

وخص - سبحانه - العنق بالذكر من بين سائر الأعضاء ، لأن اللزوم فيه أشد ، ولأنه العضو الذى تارة يكون عليه ما يزينه كالقلادة وما يشبهها ، وتارة يكون فيه ما يشينه كالغل والقيد وما يشبههما .

قال الامام ابن كثير : وطائره : هو ما طار عنه من عمله كما قال ابن عباس ومجاهد ، وغير واحد - من خير أو شر ، يلزم به ويجازى عليه : كما قال - تعالى - : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وكما قال - تعالى - : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه ، قليله وكثيره : ويكتب عليه ليلا ونهارا ، صباحا ومساء .

وقوله - سبحانه - : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } بيان لحاله فى الآخرة بعد بيان حاله فى الدنيا .

والمراد بالكتاب هنا صحائف أعماله التى سجلت عليه فى الدنيا .

أى : ألزمنا كل إنسان مكلف عمله الصادر عنه فى الدنيا ، وجعلناه مسئولا عنه دون غيره . أما فى الآخرة فسنخرج له ما عمله من خير أو شر " في كتاب يلقاه منشورا " أى : مفتوحا بحيث يستطيع قراءته ، ومكشوفا بحيث لا يملك إخفاء شئ منه ، أو تجاهله ، أو المغالطة فيه .

كتاب ظهرت فيه الخبايا والأسرار ظهورا يغنى عن الشهود والجدال .

كتاب مشتمل على كل صغيرة وكبيرة من أعمال الإِنسان ، كما قال - تعالى - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكُلّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } .

يقول تعالى ذكره : وكلّ إنسان ألزمناه ما قضى له أنه عامله ، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه . وإنما قوله ألْزَمْناهُ طائِرَهُ مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها ، فأعلمهم جلّ ثناؤه أن كلّ إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر ، وشقاء يورده سعيرا ، أو كان سعدا يورده جنات عدن . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن جابر بن عبد الله أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَه فِي عُنُقِهِ » .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال : الطائر : عمله ، قال : والطائر في أشياء كثيرة ، فمنه التشاؤم الذي يتشاءم به الناس بعضهم من بعض .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قوله : وكُلّ إنْسانٍ ألْزمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال : عمله وما قدر عليه ، فهو ملازمه أينما كان ، فزائل معه أينما زال . قال ابن جريج : وقال : طائره : عمله .

قال : ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : عمله وما كتب الله له .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : طائره : عمله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو جميعا عن منصور ، عن مجاهد وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال : عمله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن الحسن بن عمرو الفقيمي ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في قوله : وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال : ما من مولدو يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقيّ أو سعيد . قال : وسمعته يقول : أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ، قال : هو ما سبق .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ : إي والله بسعادته وشقائه بعمله .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : طائره : عمله .

فإن قال قائل : وكيف قال : ألزمناه طائره في عنقه إن كان الأمر على ما وصفت ، ولم يقل : ألزمناه في يديه ورجليه أو غير ذلك من أعضاء الجسد ؟ قيل : لأن العنق هو موضع السمات ، وموضع القلائد والأطوقة ، وغير ذلك مما يزين أو يشين ، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة بني آدم وغيرهم من ذلك إلى أعناقهم وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق ، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد ، فقالوا : ذلك بما كسبت يداه ، وإن كان الذي جرّ عليه لسانه أو فرجه ، فكذلك قوله ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كتابا يَلْقاهُ مَنْشُورا فقرأه بعض أهل المدينة ومكة ، وهو نافع وابن كثير وعامة قرّاء العراق ونُخْرِجُ بالنون لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلْقاه مَنْشُورا بفتح الياء من يَلْقاه وتخفيف القاف منه ، بمعنى : ونخرج له نحن يوم القيامة ردّا على قوله ألْزَمْناهُ ونحن نخرج له يوم القيامة كتاب عمله منشورا . وكان بعض قرّاء أهل الشام يوافق هؤلاء على قراءة قوله ونُخْرِجُ ويخالفهم في قوله يَلْقاهُ فيقرؤه : «يُلَقّاهُ » بضم الياء وتشديد القاف ، بمعنى : ونخرج له نحن يوم القيامة كتابا يلقاه ، ثم يردّه إلى ما لم يسمّ فاعله ، فيقول : يلقى الإنسان ذلك الكتاب منشورا . وذكر عن مجاهد ما :

حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا يزيد ، عن جرير بن حازم عن حميد ، عن مجاهد أنه قرأها ، «وَيَخْرَجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا » قال : يزيد : يعني يَخرج الطائر كتابا ، هكذا أحسبه قرأها بفتح الياء ، وهي قراءة الحسن البصري وابن محيصن وكأن من قرأ هذه القراءة وجّه تأويل الكلام إلى : ويخرج له الطائر الذي ألزمناه عنق الإنسان يوم القيامة ، فيصير كتابا يقرؤه منشورا .

وقرأ ذلك بعض أهل المدينة : «ويُخَرجُ لَهُ » بضم الياء على مذهب ما لم يسمّ فاعله ، وكأنه وجّه معنى الكلام إلى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا ، يريد : ويخرج الله ذلك الطائر قد صيره كتابا ، إلا أنه نحاه نحو ما لم يسمّ فاعله .

وأولى القراءات في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأه : ونُخْرِجُ بالنون وضمها لَهُ يَوْمَ القيامَةِ كِتابا يَلقاهُ منْشُورا بفتح الياء وتخفيف القاف ، لأن الخبر جري قبل ذلك عن الله تعالى أنه الذي ألزم خلقه ما ألزم من ذلك فالصواب أن يكون الذي يليه خبرا عنه ، أنه هو الذي يخرجه لهم يوم القيامة ، أن يكون بالنون كما كان الخبر الذي قبله بالنون . وأما قوله : يَلقاهُ فإنّ في إجماع الحجة من القرّاء على تصويب ما اخترنا من القراءة في ذلك ، وشذوذ ما خالفه الحجة الكافية لنا على تقارب معنى القراءتين : أعني ضمّ الياء وفتحها في ذلك ، وتشديد القاف وتخفيفها فيه فإذا كان الصواب في القراءة هو ما اخترنا بالذي عليه دللنا ، فتأويل الكلام : وكلّ إنسان منكم يا معشر بني آدم ، ألزمناه نحسه وسعده ، وشقاءه وسعادته ، بما سبق له في علمنا أنه صائر إليه ، وعامل من الخير والشرّ في عنقه ، فلا يجاوز في شيء من أعماله ما قضينا عليه أنه عامله ، وما كتبنا له أنه صائر إليه ، ونحن نخرج له إذا وافانا كتابا يصادفه منشورا بأعماله التي عملها في الدنيا ، وبطائره الذي كتبنا له ، وألزمناه إياه في عنقه ، قد أحصى عليه ربه فيه كلّ ما سلف في الدنيا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ونُخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورا قال : هو عمله الذي عمل أحصي عليه ، فأخرج له يوم القيامة ما كتب عليه من العمل يلقاه منشورا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ونُخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورا : أي عمله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ألزَمناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال : عمله ونُخرِجُ لَهُ قال : نخرج ذلك العمل كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورا قال معمر : وتلا الحسن : عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشّمالِ قَعِيدٌ يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ، ووكل بك ملَكان كريمان ، أحدهما عن يمينك ، والاَخر عن يسارك . فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك . وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا متّ طُويت صحيفتك ، فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كِتابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيكَ حَسِيبا قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : طائره : عمله ، ونخرج له بذلك العمل كتابا يلقاه منشورا .

وقد كان بعض أهل العربية يتأوّل قوله وكُلّ إنْسانٍ ألزَمناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ : أي حظه ، من قولهم : طار سهم فلان بكذا : إذا خرج سهمه على نصيب من الأنصباء وذلك وإن كان قولاً له وجه ، فإن تأويل أهل التأويل على ما قد بينت ، وغير جائز أن يتجاوز في تأويل القرآن ما قالوه إلى غيره ، على أن ما قاله هذا القائل ، إن كان عنى بقوله حظه من العمل والشقاء والسعادة ، فلم يبعد معنى قوله من معنى قولهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

لما كان سياق الكلام جارياً في طريق الترغيب في العمل الصالح والتحذير من الكفر والسيئات ابتداء من قوله تعالى : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين } إلى قوله تعالى : { عذاباً أليماً } [ الإسراء : 9 10 ] وما عقبه مما يتعلق بالبشارة والنذارة وما أدمج في خلال ذلك من التذكير ثم بما دل على أن علم الله محيط بكل شيء تفصيلاً ، وكان أهم الأشياء في هذا المقام إحاطة علمه بالأعمال كلها ، فأعقب ذكر ما فصله الله من الأشياء بالتنبيه على تفصيل أعمال الناس تفصيلاً لا يقبل الشك ولا الإخفاء وهو التفصيل المشابه للتقييد بالكتابة ، فعطف قوله : { وكل إنسان } الخ على قوله : { وكل شيء فصلناه تفصيلاً } [ الإسراء : 12 ] عطف خاص على عام للاهتمام بهذا الخاص . والمعنى : وكل إنسان قدرنا له عمله في علمنا فهو عامل به لا محالة وهذا من أحوال الدنيا .

والطائر : أطلق على السهم ، أو القرطاس الذي يُعين فيه صاحب الحَظّ في عطاء أو قرعة لقسمة أو أعشار جزور الميسر ، يقال : اقتسموا الأرض فطار لفلان كذا ، ومنه قول أم العَلاء الأنصارية في حديث الهجرة : اقتسم الأنصارُ المهاجرين فطار لنا عُثمان بن مظعون . . . وذكرت قصة وفاته .

وأصل إطلاق الطائر على هذا : إما لأنهم كانوا يرمون السهام المرقومة بأسماء المتقاسمين على صبر الشيء المقسوم المعدة للتوزيع . فكل من وقع السهم المرقوم باسمه على شيء أخذَه . وكانوا يطلقون على رمي السهم فعل الطيران لأنهم يجعلون للسهم ريشاً في قُذذه ليخف به اختراقه الهواء عند رميه من القوس ، فالطائر هنا أطلق على الحظ من العمل مثل ما يطلق اسم السهم على حظ الإنسان من شيء ما .

وإما من زجر الطير لمعرفة بختِ أو شُؤم الزاجر من حالة الطير التي تعترضه في طريقه ، والأكثر أن يفعلوا ذلك في أسفارهم ، وشاع ذلك في الكلام فأطلق الطائر على حظ الإنسان من خير أو شر .

والإلزام : جعله لازماً له ، أي غير مفارق ، يقال : لَزمه إذا لم يفارقه .

وقوله : { في عُنُقِهِ } يجوز أن يكون كناية عن الملازمة والقرب ، أي عمله لازم له لزوم القلادة . ومنه قول العرب تقلدها طَوْقَ الحمامة ، فلذلك خصت بالعنق لأن القلادة توضع في عنق المرأة . ومنه قول الأعشى :

والشِعْرَ قلدتُه سَلامَةَ ذَا فا *** ئش والشيءُ حيثما جُعلا{[269]}

ويحتمل أن يكون تمثيلاً لحالة لعلها كانت معروفة عند العرب وهي وضع علامات تعلق في الرقاب للذين يعيّنون لعمل ما أو ليؤخذ منهم شيء ، وقد كان في الإسلام يجعل ذلك لأهل الذمة ، كما قال بشار

كَتب الحبُّ لها في عُنقي *** مَوْضِعَ الخَاتم من أهله الذِمم

ويجوز أن يكون { في عنقه } تمثيلاً بالبعير الذي يوسم في عنقه بسمة كيلا يختلط بغيره ، أو الذي يوضع في عنقه جلجل لكيلا يضل عن صاحبه .

والمعنى على الجميع أن كل إنسان يعامل بعمله من خير أو شر لا يُنقص له منه شيء . وهذا غير كتابة الأعمال التي ستذكر عقب هذا بقوله : { ونخرج له يوم القيامة كتاباً } الآية .

وعَطف جملة { ونخرج له يوم القيامة كتاباً } إخبار عن كون تلك الأعمال المعبر عنها بالطائر تظهر يوم القيامة مفصلة معينة لا تغادَر منها صغيرةٌ ولا كبيرة إلا أحصيت للجزاء عليها .

وقرأ الجمهور { ونخرج } بنون العظمة وبكسر الراء ، وقرأه يعقوب بياء الغيبة وكسر الراء ، والضمير عائد إلى الله المعلوم من المقام ، وهو التفات . وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة في أوله مبنياً للنائب على أن { له } نائب فاعل و { وكتاباً } منصوباً على المفعولية وذلك جائز .

والكتاب : ما فيه ذكر الأعمال وإحصاؤها . والنشر : ضد الطي .

ومعنى { يلقاه } يجده . استعير فعل يلقى لمعنى يَجد تشبيهاً لوجدان النسبة بلقاء الشخص . والنشر كناية عن سرعة اطلاعه على جميع ما عمله بحيث إن الكتاب يحضر من قبل وصُول صاحبه مفتوحاً للمطالعة .

وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر { يُلَقّاه بضم الياء وتشديد ، القاف مبنياً للمجهول على أنه مضاعف لقي تضعيفاً للتعدية ، أي يجعله لاقياً كقوله : { ولقاهم نضرة وسروراً } [ الإنسان : 11 ] . وأسند إلى المفعول بمعنى يجعله لاقياً . كقوله : { وما يلقاها إلا الذين صبروا } [ فصّلت : 35 ] وقوله : { ويلقون فيها تحية وسلاما } [ الفرقان : 75 ] .

ونشر الكتاب إظهاره ليقرأ ، قال تعالى : { وإذا الصحف نشرت } [ التكوير : 10 ] .


[269]:- كذا في تفسير ابن عطية والذي في ديوان الأعشى: قلدته الشعر يا سلامة ذا *** التفضال والشيء حيثما جعلا