37- وما تأخير هذه الأشهر الحرم أو بعضها عما رتَّبها الله عليه - كما كان يفعله أهل الجاهلية - إلا إمعان في الكفر ، يزداد به الذين كفروا ضلالا فوق ضلالهم ، وكان العرب في الجاهلية يجعلون الشهر الحرام حلالا إذا احتاجوا القتال فيه ، ويجعلون الشهر الحلال حراماً ، ويقولون : شهر بشهر ، ليوافقوا عدد الأشهر التي حرمها الله ، وقد حسَّنت لهم أهواؤهم أعمالهم السيئة ، والله لا يهدى القوم المصرين على كفرهم إلى طريق الخير .
{ إنما النّسيء } أي تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد ، وعن نافع برواية ورش " إنما النسي " بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها . وقرئ " النسي " بحذفها والنسء والنساء وثلاثتها مصادر نسأه إذا أخره . { زيادة في الكفر } لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم . { يُضل به الذين كفروا } ضلالا زائدا . وقرأ حمزة والكسائي وحفص { يضل } على البناء للمفعول ، وعن يعقوب { يضل } على أن الفعل لله تعالى . { يحلّونه عاما } يحلون المنسي من الأشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهرا آخر . { ويحرّمونه عاما } فيتركونه على حرمته . قيل : أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل في الموسم فينادي : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم ينادي في القبائل إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه . والجملتان تفسير للضلال أو حال . { ليواطئوا عدة ما حرّم الله } أي ليوافقوا عدة الأربعة المحرمة ، واللام متعلقة بيحرمونه أو بما دل عليه مجموع الفعلين { فيحلّوا ما حرّم الله } بمواطأة العدة وحدها من غير مراعاة الوقت . { زُيّن لهم سوء أعمالهم } وقرئ على البناء للفاعل وهو الله تعالى ، والمعنى خذلهم وأضلهم حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسنا . { والله لا يهدي القوم الكافرين } هداية موصلة إلى الاهتداء .
استئناف بياني ناشئ عن قوله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله } [ التوبة : 36 ] الآية لأنّ ذلك كالمقدّمة إلى المقصود وهو إبطال النسيء وتشنيعه .
والنسيء يطلق على الشهر الحرام الذي أرجئت حرمتُه وجعلت لشهر آخر فالنسيء فَعِيل بمعنى مفعول من نَسَأ المهموز اللام ، ويطلق مصدراً بوزن فعيل مثل نَذير من قوله : { كيف نذير } [ الملك : 17 ] ، ومثل النكير والعذر وفعله نسأ المهموز ، أي أخّر ، فالنسيء بهمزة بعد الياء في المشهور . وبذلك قرأه جمهور العشرة . وقرأه ورش عن نافع بياء مشدّدة في آخره على تخفيف الهمزة ياء وإدغامِها في أختها ، والإخبارُ عن النسيء بأنّه زيادة إخبار بالمصدر كما أخبر عن هاروت وماروت بالفتنة في قوله : { إنما نحن فتنة } [ البقرة : 102 ] .
والنسيءُ عند العرب تأخير يجعلونه لشهرٍ حرام فيصيرونه حلالاً ويحرّمون شهراً آخر من الأشهر الحلال عوضاً عنه في عامه .
والداعي الذي دعا العرب إلى وضع النسيء أنّ العرب سَنَتهم قمرية تبعاً للأشهر ، فكانت سنتهم اثني عشر شهراً قمرية تامة ، وداموا على ذلك قروناً طويلة ثم بدا لهم فجعلوا النسيء .
وأحسن ما روي في صفة ذلك قول أبي وائل أنّ العرب كانوا أصحاب حروب وغارات فكان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها فقالوا لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نُصيب فيها شيئاً لنهلِكَنّ . وسكت المفسّرون عمّا نشأ بعد قول العرب هذا ، ووقع في بعض ما رواه الطبري والقرطبي ما يوهم أنّ أوّل من نسأ لهم النسيء هو جنادة بن عوف وليس الأمر ذلك لأنّ جنادة بن عوف أدرك الإسلام وأمر النسيء متوغّل في القدم والذي يجب اعتماده أنّ أول من نسأ النسيء هو حذيفة بن عبد نعيم أو فقيم ( ولعل نعيم تحريف فقيم لقول ابن عطية اسم نعيم لم يعرف في هذا ) . وهو الملقب بالقَلَمَّس ولا يوجد ذكر بني فقيم في « جمهرة ابن حزم » وقد ذكره صاحب « القاموس » وابن عطية . قال ابن حزم أول من نسأ الشهور سرير ( كذا ولعلّه سري ) بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ثم ابن أخيه عدي بن عامر بن ثعلبة . وفي ابن عطية خلاف ذلك قال : انتدب القلمس وهو حذيفة بن عبدِ فقيم فنسأ لهم الشهور . ثم خلفه ابنه عبّاد . ثم ابنه قُلَع ، ثم ابنه أمية ، ثم ابنه عوف ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة وعليه قام الإسلامُ قال ابن عطية كان بنو فقيم أهل دين في العرب وتمسُّكِ بشرع إبراهيم فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب . وفي « تفسير القرطبي » عن الضحّاك عن ابن عباس أول من نسأ عَمْرو بن لُحَي ( أي الذي أدخل عبادة الأصنام في العرب وبحر البحيرة وسيّب السائبة ) .
وقال الكلبي أول من نسأ رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة .
قال ابن حزم : كلّ من صارت إليه هذه المرتبة ( أي مرتبة النسيء ) كان يسمّى القلمس . وقال القرطبي : كان الذي يلي النسيء يظفر بالرئاسة لترييس العرب إيّاه . وكان القلمس يقف عند جمرة العقبة ويقول : اللهم إنّي ناسىءُ الشهور وواضعُها مواضعها ولا أعاب ولا أجاب . اللهم أنّي قد أحللت أحد الصفرين وحرمت صفر المؤخّر انفروا على اسم الله تعالى . وكان آخر النسأة جنادة بن عوف ويكنى أبا ثمامة وكان ذا رأي فيهم وكان يحضر الموسم على حمار له فينادي أيها الناس ألا إنّ أبا ثمامة لا يُعاب ولا يجاب . ولا مرد لما يقول فيقولون أنْسئنا شهراً ، أي أخِّرْ عنّا حرمة المحرّم واجعلها في صفر فيُحل لهم المحرّم وينادي : ألا إنّ آلهتكم قد حرمت العام صفر فيحرّمونه ذلك العام فإذا حجّوا في ذي الحجّة تركوا المحرّم وسَمّوه صفراً فإذا انسلخ ذو الحجّة خرجوا في محرّم وغزوا فيه وأغاروا وغنموا لأنّه صار صفراً فيكون لهم في عامهم ذلك صفران وفي العام القابل يصير ذو الحجة بالنسبة إليهم ذا القعدة ويصير محرّم ذا الحجة فيحجون في محرم يفعلون ذلك عامين متتابعين ثم يبدلون فيحجّون في شهر صفر عامين ولاءً ثم كذلك .
وقال السهيلي في « الروض الأنف » إنّ تأخير بعض الشهور بعد مدة لقصد تأخير الحج عن وقته القمري ، تحرياً منهم للسنة الشمسية ، فكانوا يؤخّرونه في كلّ عام أحد عشر يوماً أو أكثر قليلاً ، حتى يعود الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة ، فيعود إلى وقته ونسَب إلى شيخه أبي بكر بن العربي أنّ ذلك اعتبار منهم بالشهور العجمية ولعلّه تبع في هذا قول إياس بن معاوية الذي ذكره القرطبي ، وأحسب أنّه اشتباه .
وكان النسيء بأيدي بني فقيم من كنانة وأول من نسأ الشهور هو حذيفة بن عبد بن فقيم .
وتقريب زمن ابتداء العمل بالنسيء أنّه في أواخر القرن الثالث قبل الهجرة ، أي في حدود سنة عشرين ومائتين قبل الهجرة .
وصيغة القصر في قوله : { إنما النسىء زيادة في الكفر } تقتضي أنّه لا يعدو كونه من أثر الكفر لمحبّة الاعتداءِ والغارات فهو قصر حقيقي ، ويلزم من كونه زيادة في الكفر أنّ الذين وضعوه ليسوا إلاّ كافرين وما هم بمصلحين ، وما الذين تابعوهم إلاّ كافرون كذلك وما هم بمتّقين .
ووجه كونه كفراً أنّهم يعلمون أنّ الله شرع لهم الحجّ ووقتَّه بشهر من الشهور القمرية المعدودة المسمّاة بأسماء تميّزها عن الاختلاط ، فلمّا وضعوا النسيء قد علموا أنّهم يجعلون بعض الشهور في غير موقعه ، ويسمّونه بغير اسمه ، ويصادفون إيقاع الحج في غير الشهر المعيّن له ، أعني شهر ذي الحجّة ولذلك سمّوه النسيء اسماً مشتقّاً من مادة النَّسَاء وهو التأخير ، فهم قد اعترفوا بأنّه تأخير شيء عن وقته ، وهم في ذلك مستخفّون بشرع الله تعالى ، ومخالفون لما وقّت لهم عن تعمّد مثبتين الحلَّ لشهر حرام والحرمةَ لشهر غير حرام ، وذلك جرأة على دين الله واستخفاف به ، فلذلك يشبه جعلَهم لله شركاء ، فكما جعلوا لله شركاء في الإلهية جعلوا من أنفسهم شركاء لله في التشريع يخالفونه فيما شرعه فهو بهذا الاعتبار كالكفر ، فلا دلالة في الآية على أنّ الأعمال السيّئة توجب كفر فاعلها ولكن كفر هؤلاء أوجب عملهم الباطل .
وحرف { في } المفيد الظرفية متعلّق « بزيادة » لأنّ الزيادة تتعدّى بفي { يزيد في الخلق ما يشاء } [ فاطر : 1 ] فالزيادة في الأجسام تقتضي حلول تلك الزيادة في الجسم المشابهِ للظرف ويجوز أن يكون تأويله أنّه لمّا كان إحداثه من أعمال المشركين في شؤون ديانتهم وكان فيه إبطال لمواقيت الحجّ ولحرمة الشهر الحرام اعتبر زيادة في الكفر بمعنى في أعمال الكفر وإن لم يكن في ذاته كفراً وهذا كما يقول السلف : إنّ الإيمان يزيد وينقص يريدون به يزيد بزيادة الأعمال الصالحة وينقص بنقصها مع الجزم بأنّ ماهية الإيمان لا تزيد ولا تنقص وهذا كقوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] ، أي صلاتكم . على أنّ إطلاق اسم الإيمان على أعمال دين الإسلام وإطلاق اسم الكفر على أعمال الجاهلية ممّا طفحت به أقوال الكتاب والسنّة مع اتّفاق جمهور علماء الأمّة على أنّ الأعمال غيرَ الاعتقاد لا تقتضي إيماناً ولا كفراً .
وعلى الاحتمال الثاني فتأويله بتقدير مضاف ، أي زيادة في أحوال أهل الكفر ، أي أمر من الضلال زيد على ما هم فيه من الكفر بضدّ قوله تعالى : { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } [ مريم : 76 ] . وهذان التأويلان متقاربان لا خلاف بينهما إلا بالاعتبار ، فالتأويل الأول يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه مجاز مرسل والتأويل الثاني يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه إيجازُ حذف بتقدير مضاف .
وجملة { يضل به الذين كفروا } خبر ثان عن النسيء أي هو ضلال مستمرّ ، لما اقتضاه الفعل المضارع من التجدّد .
وجملة { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } بيان لسبب كونه ضلالاً .
وقد اختير المضارع لهذه الأفعال لدلالته على التجدّد والاستمرار ، أي هم في ضلال متجدّد مستمرّ بتجدّد سببه ، وهو تحليله تارة وتحريمه أخرى ، ومواطأة عدّة ما حرم الله .
وإسناد الضلال إلى الذين كفروا يقتضي أنّ النسيء كان عمله مطّرداً بين جميع المشركين من العرب فما وقع في « تفسير الطبري » عن ابن عباس والضحّاك من قولهما وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يفعلونه ويعظمونه ليس معناه اختصاصهم بالنسيء ولكنّهم ابتدأوا بمتابعته .
وقرأ الجمهور { يضل } بفتح التحتية وقرأه حفص عن عاصم ، وحمزةُ ، والكسائي وخلَف ، ويعقوب بضمّ التحتية على أنّهم يضلّون غيرهم .
والتنكير والوحدة في قوله : { عاماً } في الموضعين للنوعية ، أي يحلّونه في بعض الأعوام ويحرّمونه في بعض الأعوام ، فهو كالوحدة في قول الشاعر :
وليس المراد أنّ ذلك يوماً غبّ يوم ، فكذلك في الآية ليس المراد أنّ النسيء يقع عاماً غبّ عام كما ظنّه بعض المفسّرين . ونظيرُه قول أبي الطيّب :
فيوماً بخيل تطْرُد الرومَ عنهم *** ويوماً بجُود تَطرد الفقرَ والجَدْبا
( يريد تارة تدفع عنهم العدوّ وتارة تدفع عنهم الفقر والجدب ) وإنّما يكون ذلك حين حلول العدوّ بهم وإصابةِ الفقر والجدب بلادَهم ، ولذلك فسّره المعري في كتاب « مُعْجِز أحمد » بأنْ قال : « فإنّ قَصَدَهم الرومُ طَرَدْتَهم بخيلك وإن نازَلَهم فقر وجدب كشفتَه عنهم بجُودك وإفضالك » .
وقد أبقي الكلام مجملاً لعدم تعلّق الغرض في هذا المقام ببيان كيفية عمل النسيء ، ولعلّ لهم فيه كيفيات مختلفة هي معروفة عند السامعين .
ومحلّ الذمّ هو ما يحصل في عمل النسيء من تغيير أوقات الحجّ المعيّنة من الله في غير أيامها في سنين كثيرة ، ومن تغيير حرمة بعض الأشهر الحرم في سنين كثيرة ويتعلّق قوله : { ليواطئوا عدة ما حرم الله } بقوله : { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } أي يفعلون ذلك ليوافقوا عدد الأشهر الحرم فتبقى أربعة .
والموطأة الموافقة ، وهي مفاعلة عن الوَطىء شبه التماثل في المقدار وفي الفعل بالتوافق ( في ) وطيء الأرجل ومن هذا قولهم ( وقوع الحافر على الحافر ) .
و { عِدّة ما حرم الله } هي عدّة الأشهر الحرم الأربعة .
وظاهر هذا أنّه تأويل عنهم وضربٌ من المعذرة ، فلا يناسب عده في سياق التشنيع بعملهم والتوبيخ لهم ، ولكن ذِكْره ليُرتَّب عليه قولُه : { فيحلوا ما حرم الله } فإنّه يتفرّع على محاولتهم موافقة عدّة ما حرم الله أن يحلّوا ما حرّم الله ، وهذا نداء على فساد دينهم واضطرابه فإنّهم يحتفظون بعدد الأشهر الحرم الذي ليس له مزيد أثر في الدين ، وإنّما هو عدد تابع لتعيين الأشهر الحرم ، ويفرّطون في نفس الحُرمة فيحلون الشهر الحرام ، ثم يزيدون باطلاً آخر فيحرّمون الشهر الحلال . فقد احتفظوا بالعدد وأفسدوا المعدود .
وتوجيه عطف { فيحلوا } على مجرور لام التعليل في قوله : { ليواطئوا عدة ما حرم الله } هو تنزيل الأمر المترتّب على العلّة منزلة المقصود من التعليل وإن لم يكن قصد صاحبه به التعليل ، على طريقة التهكّم والتخطئة مثل قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] .
والإتيان بالموصول في قوله : { عدة ما حرم الله } دون أن يعبّر بنحو عدة الأشهر الحرم ، للإشارة إلى تعليل عملهم في اعتقادهم بأنّهم حافظوا على عدة الأشهر التي حرّمها الله تعظيماً . ففيه تعريض بالتهكّم بهم .
والإظهار في قوله : { فيحلوا ما حرم الله } دون أن يقال فيُحلوه ، لزيادة التصريح بتسجيل شناعة عملهم ، وهو مخالفتهم أمر الله تعالى وإبطالُهم حرمة بعض الأشهر الحرم ، تلك الحرمة التي لأجلها زعموا أنّهم يحرّمون بعض الأشهر الحلال حفاظاً على عدّة الأشهر التي حرّمها الله تعالى .
وجملة { زين لهم سوء أعمالهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً : لأنّ ما حكي من اضطراب حالهم يثير سؤال السائلين عن سبب هذا الضغث من الضلال الذي تمَلأُوه فقيل : لأنّهم زيّن لهم سوء أعمالهم ، أي لأنّ الشيطان زيّن لهم سوء أعمالهم فحسّن لهم القبيح .
والتزيين التحسين ، أي جعلُ شيء زيْناً ، وهو إذا يسند إلى مَا لا تتغيّر حقيقته فلا يصير حسناً ، يؤذن بأنّ التحسين تلبيس . وتقدّم التزيينُ في قوله تعالى : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } في سورة البقرة ( 212 ) . وقوله : { كذلك زينا لكل أمة عملهم } في سورة الأنعام ( 108 ) .
وفي هذا الاستئناف معنى التعليل لحالهم العجيبة حتّى يزول تعجّب السامع منها .
وجملة { والله لا يهدي القوم الكافرين } عطف على جملة { زين لهم سوء أعمالهم } فهي مشمولة لمعنى الاستئناف البياني المراد منه التعليل لتلك الحالة الغريبة ، لأنّ التعجيب من تلك الحالة يستلزم التعجيب من دوامهم على ضلالهم وعدم اهتدائهم إلى ما في صنيعهم من الاضطراب ، حتّى يقلعوا عن ضلالهم ، فبعد أن أفيد السائل بأنّ سبب ذلك الاضطراب هو تزيين الشيطان لهم سوءَ أعمالهم ، أفيد بأنّ دوامهم عليه لأنّ الله أمسك عنهم اللطف والتوفيق ، اللذيْن بهما يتفطّن الضالّ لضلاله فيقلع عنه ، جزاءاً لهم على ما أسلفوه من الكفر ، فلم يزالوا في دركات الضلال إلى أقصى غاية .
والإظهار في مقام الإضمار بقوله : { القوم الكافرين } لقصد إفادة التعميم الذي يشملهم وغيرهم ، أي : هذا شأن الله مع جميع الكافرين .
واعلم أنّ حرمة الأزمان والبقاع إنّما تُتلقَّى عن الوحي الإلهي لأنّ الله الذي خلق هذا العالم هو الذي يسُنّ له نظامَه فبذلك تستقرّ حرمة كلّ ذي حرمة في نفوس جميع الناس إذ ليس في ذلك عمل لبعضهم دون بعض ، فإذا أدخل على ما جعله الله من ذلك تغييرٌ تقشّعت الحرمة من النفوس فلا يرضى فريق بما وضعه غيره من الفرق ، فلذلك كان النسيء زيادة في الكفر لأنّه من الأوضاع التي اصطلح عليها الناس ، كما اصطلحوا على عبادة الأصنام بتلقين عمرو ابن لحَيّ .
وقد أوْحَى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنّ العامَ الذي يَحُجّ فيه يصادف يومُ الحجّ منه يومَ تسعة من ذي الحجة ، على الحساب الذي يتسلسل من يوم خلق الله السماوات والأرض ، وأنّ فيه يندحض أثر النسيء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع « إنّ الزمان قد استدار كهيئتِه يومَ خلق اللَّهُ السماوات والأرض » ، قالوا فصادفت حجّة أبي بكر سنة تسع أنّها وقعت في شهر ذي القعدة بحساب النسيء ، فجاءت حجّةُ النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجّة في الحساب الذي جعله الله يومَ خلق السماوات والأرض .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنما النسيء زيادة}، يعني به في المحرم زيادة {في الكفر}، وذلك أن أبا ثمامة الكناني، اسمه جبارة بن عوف بن أمية بن فقيم بن الحارث، وهو أول من ذبح لغير الله الصفرة في رجب، كان يقف بالموسم، ثم ينادي: إن آلهتكم قد حرمت صفر العام، فيحرمون فيه الدماء والأموال، ويستحلون ذلك في المحرم، فإذا كان من قابل نادى: إن آلهتكم قد حرمت المحرم العام، فيحرمون فيه الدماء والأموال، فيأخذ به هوازن وغطفان، وسليم، وثقيف، وكنانة، فذلك قوله: {إنما النسيء} يعني ترك المحرم {زيادة في الكفر} {يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما}، يقول: يستحلون المحرم عاما، فيصيبون فيه الدماء والأموال، ويحرمونه عاما، فلا يصيبون فيه الدماء والأموال، ولا يستحلونها فيه، {ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا} في المحرم {ما حرم الله} فيه من الدماء والأموال، {زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين}...
قال ابن القاسم، وأشهب: سمعنا مالكا يقول: كان أهل الجاهلية يحلون صفرين...
أكره أن يقال للمحرَّم: صفر، ولكن يقال له: المحرم. وإنما كرهت أن يقال للمحرم صفر، من قبل أن أهل الجاهلية كانوا يعدون، فيقولون: صَفَرَان، للمحرم وصفر، وينسئون، فيحجون عاما في شهر وعاما في غيره. ويقولون: إن أخطأنا موضع المحرم في عام أصبناه في غيره، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّمَا اَلنَّسِيء زِيَادَةٌ فِي اِلْكُفْرِ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السَّنَةُ: اثنا عشر شهرا منها أربع حُرُم: ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب شهر مُضَر الذي بين جمادى وشعبان». قال الشافعي: فلا شهر ينسأ. وسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرَّم. (أحكام الشافعي: 2/195-197. ون السنن الكبرى: 5/165.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما النسيء إلا زيادة في الكفر، والنسيء مصدر من قول القائل: نسأت في أيامك ونسأ الله في أجلك: أي زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك حتى تبقى فيها حيّا. وكل زيادة حدثت في شيء، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه نسيء ولذلك قيل للبن إذا كثر بالماء نسيء، وقيل للمرأة الحبلى نسوء، ونُسئت المرأة، لزيادة الولد فيها وقيل: نسأت الناقة وأنسأتها: إذا زجرتها ليزداد سيرها. وقد يحتمل أن النسيء فعيل صرف إليه من مفعول، كما قيل: لعين وقتيل، بمعنى: ملعون ومقتول، ويكون معناه: إنما الشهر المؤخر زيادة في الكفر. وكأنّ القول الأول أشبه بمعنى الكلام، وهو أن يكون معناه: إنما التأخير الذي يؤخره أهل الشرك بالله من شهور الحرم الأربعة وتصييرهم الحرام منهن حلالاً والحلال منهنّ حراما، زيادة في كفرهم وجحودهم أحكام الله وآياته. وقد كان بعض القرّاء يقرأ ذلك: «إنّمَا النّسي» بترك الهمز وترك مده: يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا.
واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة الكوفيين:"يُضِلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا" بمعنى: يضل الله بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه الذين كفروا. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: "يَضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا "بمعنى: يزول عن حجة الله التي جعلها لعباده طريقا يسلكونه إلى مرضاته الذين كفروا. وقد حُكي عن الحسن البصري: "يُضِلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا" بمعنى: يضلّ بالنسيء الذي سنة الذين كفروا، الناس.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: هما قراءتان مشهورتان، قد قرأت بكلّ واحدة القرّاء أهل العلم بالقرآن والمعرفة به، وهما متقاربتا المعنى، لأن من أضله الله فهو ضالّ ومن ضلّ فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضلّ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب في ذلك مصيب...
وأما قوله: "يُحِلّونَهُ عاما" فإن معناه: يحلّ الذين كفروا النسيء، والهاء في قوله: "يُحِلّونَهُ" عائدة عليه. ومعنى الكلام: يحلون الذي أخروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم عاما ويحرّمونه عاما، "لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّهُ" يقول: ليوافقوا بتحليلهم ما حللوا من الشهور وتحريمهم ما حرّموا منها، عدّة ما حرّم الله "فَيْحِلّوا ما حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوءُ أعمالِهِمُ" يقول: حسن لهم وحبّب إليهم سيئ أعمالهم وقبيحها وما خولف به أمر الله وطاعته. "وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينِ" يقول: والله لا يوفّق لمحاسن الأفعال وحلها وما لله فيه رضا القوم الجاحدين توحيده والمنكرين نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه يخذلهم عن الهدى كما خذل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم...
عن ابن عباس، قوله: "إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ" قال: النسيء: هو أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يْحَابُ ولا يعاب، ألا وإن صفر العام الأوّل حلال فيحلّه الناس، فيحرّم صفر عاما، ويحرّم المحرّم عاما، فذلك قوله تعالى: "إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ..." إلى قوله: "الكَافِرينَ". وقوله: "إنّمَا النّسِيء زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ" يقول: يتركون المحرّم عاما، وعاما يحرّمُونه...
وأما قوله: "زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ" فإن معناه: زيادة كفر بالنسيء إلى كفرهم بالله. وقيل ابتداعهم النسيء... عن مجاهد: "إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يقول: ازدادوا به كفرا إلى كفرهم".
وأما قوله: "لِيُوَاطِئُوا" فإنه من قول القائل: واطأت فلانا على كذا أواطئه مواطأة: إذا وافقته عليه، معينا له، غير مخالف عليه... عن ابن عباس، قوله: لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّهُ يقول: يشبهون. وذلك قريب المعنى مما بيّنا، وذلك أن ما شابه الشيء فقد وافقه من الوجه الذي شابهه. وإنما معنى الكلام: أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرّمونها عدة الأشهر الأربعة التي حرّمها الله، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها، وإن قدّموا وأخّروا فذلك مواطأة عدتهم عدّة ما حرّم الله.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ...} أما النسيء في الأشهر فهو تأخيرها، مأخوذ من بيع النسيئة... وفي نَسْء الأشهر قولان: أحدهما: أنهم كانوا يؤخرون السنة أحد عشر يوماً حتى يجعلوا المحرم صفراً، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا يؤخرون الحج في كل سنتين شهراً...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الدِّينُ: ملاحظةُ الأمر ومجانَبَةُ الوِزر وتركُ التقدم بين يدي الله سبحانه -في جميع أحكام الشرع، فالآجالُ في الطاعاتِ مضروبة، والتوفيقُ في عرفانه متَّبع، والصلاح في الأمور بالإقامة على نعت العبودية؛ فالشهرُ ما سمَّاه الله شهراً، والعامُ والحوْلُ ما أعْلمَ الخَلْقَ أنه قَدْرُ ما بَيَّنه شرعاً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والنسيء: تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شقّ عليهم ترك المحاربة، فيحلّونه ويحرّمون مكانه شهر آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرّمون من شقّ شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله تعالى: {لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} أي ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين. وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت. ولذلك قال عزّ وعلا {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْرا} [التوبة: 36] يعني من غير زيادة زادوها. والضمير في: يحلونه، ويحرّمونه للنسيء. أي إذا أحلّوا شهراً من الأشهر الحرم عاماً، رجعوا فحرّموه في العام القابل، وروي: أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في الجاهلية، وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته: إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم في القابل فيقول: إنّ آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه. جعل النسيء زيادة في الكفر، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً، {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]، كما أن المؤمن إذا أحدث الطاعة ازداد إيماناً {فَزَادَتْهُمْ إيمانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124]...
فإن قلت: ما معنى قوله: {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله}؟ قلت: معناه فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرّم الله من القتال، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها.
{زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم} خذلهم الله فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة. {والله لاَ يَهْدِى} أي لا يلطف بهم بل يخذلهم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة، وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله، فإنهم كان فيهم من القوة الغضَبِية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم وتأخيره إلى صفر، فيحلون الشهر الحرام، ويحرمون الشهر الحلال، ليواطئوا عدة الأشهر الأربعة... وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية، قال: هذا رجل من بني كنانة يقال له: "القَلَمَّس"، وكان في الجاهلية، وكانوا في الجاهلية لا يغيرُ بعضهم على بعض في الشهر الحرام، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يَمُدُّ إليه يده، فلما كان هو، قال: اخرجوا بنا. قالوا له: هذا المحرم! قال: ننسئه العام، هما العام صفران، فإذا كان العام القابل قضينا جعلناهما مُحرَّمين. قال: ففعل ذلك، فلما كان عام قابل قال: لا تغزُوا في صفر، حرموه مع المحرم، هما محرمان. فهذه صفة غريبة في النسيء، وفيها نظر؛ لأنهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة أشهر فقط، وفي العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر، فأين هذا من قوله تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}...
وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضا، فقال عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية، قال: فرض الله، عز وجل، الحج في ذي الحجة. قال: وكان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوالا وذا القعدة. وذا الحجة يحجون فيه مرة أخرى ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفر صفر، ثم يسمون رجب جمادى الآخرة، ثم يسمون شعبان رمضان، ثم يسمون شوالا رمضان، ثم يسمون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة، ثم عادوا بمثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عامين، حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج، فوافق ذا الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض". وهذا الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضا، وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة، وأنى هذا؟ وقد قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} الآية [التوبة: 3]، وإنما نودي بذلك في حجة أبي بكر، فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ} ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره، من دوران السنة عليهم، وحجهم في كل شهر عامين؛ فإن النسيء حاصل بدون هذا، فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفرا، وبعده ربيع وربيع إلى آخر [السنة والسنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها...
ثم في العام القابل يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه، وبعده صفر، وربيع وربيع إلى آخرها] فيحلونه عاما ويحرمونه عاما؛ ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، أي: في تحريم أربعة أشهر من السنة، إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم، وتارة ينسئونه إلى صفر، أي: يؤخرونه. وقد قدمنا الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم:... إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر"، أي: أن الأمر في عدة الشهور وتحريم ما هو محرم منها، على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي، لا كما يعتمده جهلة العرب، من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض، والله أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما فهم من هذا إبطال النسيء لأنه فعل أهل الجاهلية فلا تقوى فيه، كان كأنه قيل: أفما في النسيء تقوى فإن سببه إنما هو الخوف من انتهاك حرمة الله بالقتال في الشهر الذي حرمه؟وذلك أنهم كانوا أصحاب غارات وحروب، وكانوا يحترمون الأشهر الحرم عن القتال حتى لو رأى الإنسان قاتل أبيه لا مانع منه لم يعرض له، فكان إذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم تركه، وكان يشق عليهم ترك ذلك ثلاثة أشهر متوالية، فجعلوا النسيء لذلك، فقيل تصريحاً بما أفهمه ما مضى: ليس فيه شيء من ذلك: {إنما النسيء} أي تأخير الشهر إلى شهر آخر على أنه مصدر نسأ نسيئاً -إذا أخره، أو هو اسم مفعول، أي الشهر الذي تؤخر العرب حرمته من الأشهر الحرم عن وقتها {زيادة في الكفر} أي لأنه على خلاف ما شرعه الله، ستر تحريم ما أظهر الله تحريمه. ولما بين ما في النسيء من القباحة، تحرر أنهم وقعوا على ضد مرادهم فإنهم كانوا لو قاتلوا في الشهر الحرام قاتلوا وهم معتقدون الحرمة خائفون عاقبتها فكانوا غير خارجين عن دائرة التقوى بالكلية، فإذا هم بتحليله قد صاروا خارجين عن دائرتها بمراحل لارتكابهم فيه كل عظيمة مع الأمن لاعتقاد الحل بتحليل ذلك الذي اعتقدوه رباُ، فكان يقول: إني لا أجاب ولا أعاب، وإنه لا مراد لقضائي، وإني حللت المحرم وحرمت صفراً- إلى غير ذلك من الكلام الذي لايليق إلا بالإله؛ وذلك الذي معنى قوله تعالى بياناً لما قبله: {يضل به} أي بهذا التأخير الذي هو النسيء {الذين كفروا} أي يحصل لهم بذلك ضلال عما شرعه الله -هذا على قراءة الجماعة والمعنى على قراءة حمزة والكسائي وحفص- بالبناء للمفعول: يضلهم مضل من قبل الله، وعلى قراءة يعقوب -بالضم: يضلهم الله؛ ثم بين ضلالهم بقوله: {يحلونه} أي ذلك الشهر، وعبر عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة إشارة إلى أنهم يفعلونه ولو لم يضطرهم إلى ذلك جدب سنة ولا عض زمان، بل بمجرد التشهي فقال: {عاماً ويحرمونه عاماً} هكذا دائماً كلما أرادوا. وليس المراد أنهم كل سنة يفعلون ذلك من غير إجلال لسنة من السنين، وهذا الفعل نسخ منهم مع أنهم يجعلون النسخ من معايب الدين {ليواطئوا} أي يوافقوا {عدة ما حرم الله} أي المحيط بالجلال والإكرام في كون الأشهر الحرم أربعة {فيحلوا} أي فيتسبب عن هذا الفعل أن يحلوا {ما حرم الله} أي الملك الأعظم منها كلها، فلا يدع لهم هذا الفعل شهراً إلا انتهكوا حرمته فأرادوا بذلك عدم انتهاك الحرمة فإذا هم لم يدعوا حرمة إلا انتهكوها، فما أبعده من ضلال! ولما انهتكت بهذا البيان قباحة فعلهم، كان كأنه قيل: إن هذا لعجب! ما حملهم على ذلك؟ فقيل: {زين} أي زين مزين، وقرىء شاذاً بإسناد الفعل إلى الله {لهم سوء أعمالهم} أي حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن فضلوا ولم يهتدوا، فعل الله بهم ذلك لما علم من طبعهم على الكفر فلم يهدهم {والله} أي الذي له صفات الكمال {لا يهدي} أي يخلق الهداية في القلوب {القوم الكافرين *} أي الذي طبعهم على الكفر فهم عريقون فيه لا ينفكون عنه؛ والنسيء- قال في القاموس -: الاسم من نسأ الشيء بمعنى زجره وساقه وأخره، قال: وشهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية فنهى الله عز وجل عنه؛ وقال ابن الأثير في النهاية؛ والنسيء فعول بمعنى مفعول، وقال ابن فارس في المجمل: والنسيء في كتاب الله التأخير، وكانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء! فيقولون: أنسئنا شهراً، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر -انتهى. ومادة نسأ تدور على التغريب، وسبب فعلهم هذا أنهم كانوا ربما أرادوا قتالاً في شهر حرام فيحلونه، ويحرمون مكانه شهراً من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر؛ قال ابن فارس: وذلك أنهم كانوا يكرهون أن يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها، لأن معاشهم في الغارة فيحل لهم الكناني المحرم- انتهى. وكان النسأة من بني فقيم من كنانة، وكان أول من فعل ذلك منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد ابن فقيم، وآخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة. نسأ أربعين سنة، كانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فحرم الأشهر الحرم الأربعة، فإذا أرادوا أن يحل منها شيئاً أحل المحرم فأحلوه، وحرم مكانه صفراً فحرموه، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم، فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال: اللهم إني قد أحللت لهم أحد الصفرين الصفر الأول، ونسأت الآخر للعام المقبل -ذكر ذلك أهل السير، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول من نسأ عمرو بن لحي. و تحقيق معنى ما كانت العرب تفعله واختلاف أسماء الشهور به حتى يوجب دوران السنين فلا تصادف أسماء الشهور مسمياتها إلا الحين بعد الحين عسر قل من أتى فيه بما يتضح به قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما مضى "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض "وها أنا أذكر فيه ما لا يبقى بعده لبس إن شاء الله تعالى، فمعنى قوله: ونسأت الآخر للعام المقبل، أنه إذا أحل المحرم وسماه صفراً ابتدأ السنة بعده بالمحرم ثم صفر إلى آخرها، فيصير بين صفر وذي الحجة الذي وقع النسيء فيه شهران، وقد كان ينبغي أن يكون بينهما شهر واحد، فأخر هذا الذي ينبغي إلى العام المقبل، فالمعنى: وأخرت الصفر الآخر عن محله إلى العام المقبل فإذا جاء العام المقبل انتهى تأخره، وإذا انتهى رجع إلى محله، ويمكن أن يتنزل على هذا قول أبي عبيد في غريب الحديث، قال بعد النصف من الجزء الثالث منه في شرح الاستدارة: إن بدء ذلك- والله أعلم -أن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم، فيكرهون أن يستحلوه ويكرهون تأخير حربهم فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم، وهذا هو النسيء الذي قال الله {إنما النسيء} [براءة: 37] الآية، وكان ذلك في كنانة هم الذين كانوا ينسأون الشهور على العرب، والنسيء هو التأخير، فكانوا يمكثون بذلك زماناً يحرمون صفراً وهم يريدون بذلك المحرم ويقولون: هو أحد الصفرين، وقد تأول بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا صفر" على هذا، ثم يحتاجون أيضاً إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله ثم يحتاجون إلى مثله ثم كذلك، فكذلك يتدافع شهر بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به، وذلك بعد دهر طويل، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" يقول: رجعت الأشهر الحرم إلى موضعها وبطل النسيء، وقد زعم بعض الناس أنهم كانوا يستحلون المحرم عاماً، فإذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه، قال أبو عبيد: الأول أحب إليّ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الزمان قد استدار" وليس في التفسير الأخير استدارة، وعلى هذا التفسير الذي فسرناه قد يكون قوله {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} مصدقاً له لأنهم إذا حرموا العام المحرم وفي قابل صفراً ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضاً أحلوه وحرموا الذي بعده، فهذا تأويل قوله في التفسير، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً. وقال أبو حيان في النهر ما حاصله: كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات، فيشق عليهم توالي الأشهر الحرم، وكان بنو فقيم أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم، فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ثم خلفه ابنه قلع ثم خلفه ابنه أمية ثم خلفه ابنه عوف ثم ابنه جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام، كانوا إذا فرغوا من حجهم جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا: أنسئنا شهراً، فيحل المحرم، ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ويسمون ذلك الصفر المحرم ويسمون ربيعاً الأول صفراً وربيعاً الآخر ربيعاً الأول- وهكذا سائر الشهور، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم الذي هو في الحقيقة صفر؛ وقال البغوي: قال مجاهد: كانوا يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين وحجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذلك في الشهور، فوافقت حجة أبي بكر السنة الثانية من ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوادع، فوافق حجه أشهر الحج المشروع وهو ذو الحجة، وقال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله {إنما النسيء زيادة في الكفر} قال: فرض الله الحج في ذي الحجة، فكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذا القعدة وذا الحجة، ثم يحجون فيه مرة أخرى، ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه، فيسمونه -أحسبه قال- المحرم صفر، ثم يسمون رجب بجمادى الآخرة، ثم يسمون شعبان رمضان، ورمضان شوالاً. ثم يسمون ذا القعدة شوالاً. ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة، ثم عادوا كمثل هذه الصفة فكانوا يحجون عامين في كل شهر حتى وافق حجة أبي بكر الآخرة من العامين في ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج، فوافق ذلك ذا الحجة، فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" وقال ابن إسحاق في السيرة؛ سألت ابن أبي نجيح عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال؛ كانت قريش يدخلون في كل سنة شهراً، وإنما كانوا يوافقون ذا الحجة كل اثنتي عشرة سنة مرة، فوفق الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي حج ذا الحجة، فحج فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض"، فقلت لابن أبي نجيح: فكيف بحجة أبي بكر وعتاب بن أسيد؟ فقال: على ما كان الناس يحجون عليه، ثم قال ابن أبي نجيح: كانوا يحجون في الحجة ثم العام المقبل في المحرم ثم صفر حتى يبلغوا اثنى عشر شهراً -انتهى. وقوله هذا يوهم أن في حج أبي بكر وعتاب رضي الله عنهما اختلالاً، وتقدم عن المهدوي وغيره التصريح بأنه كان في ذي القعدة- وفيه نظر، لأن السنة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه نودي فيها بتحريم النسيء وغيره من أمور الجاهلية، فلا شك أنه لم يكن في ذلك العام إنساء، ولما مضى من الشهر الذي حج فيه عشرة أشهر، وكان الحادي عشر وهو ذو القعدة سار النبي صلى الله عليه وسلم في أواخره إلى الحج موافياً لهلال ذي الحجة، فلما وقف بعرفة أخبر أن الزمان قد استدار، فعلم قطعاً أن استدارته كانت في حجة أبي بكر، وكذا في سنة ثمان وهي السنة التي حج فيها عتاب بالمسلمين، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يكونوا يعتبرون حساب أهل الجاهلية لا نسأتهم ولا غير نسأتهم، لأنه يلزم من القول بأنهم اعتبروا أمر النسأة أنهم اعتبروا ما هو زيادة من الكفر، وهذا ما لا يقوله ذو مسكة، وقد تقدم النقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله عنه إلى الحج في أواخر ذي القعدة أو بعد انقضائه من سنة تسع، ووافاه العرب في ذي الحجة: الكفار وغيرهم، فوقع إعلامهم ببراءة في أيام الحج وأماكنه، فلو كان حصل في سنة عتاب اختلال في ذي القعدة بنسيء لكان ذو الحجة بحساب الكفار وهو المحرم بحساب الإسلام، فكان يتأخر مجيء الكفار للحج عن مجيء المسلمين، فثبت بهذا أيضاً أن حجه رضي الله عنه كان في ذي الحجة، فحفظ الله أهل الإسلام من أن يقع في حجهم اختلال في سنة من السنين، وما هي بأول نعمة عليهم -والله الموفق؛ وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي أحمد المشهور بابن القاص من أكابر متقدمي أصحاب الشافعي رحمه الله في كتابه دلائل القبلة في باب معرفة عدد أيام السنة: فالسنة اثنا عشر شهراً بالأهلة، وربما كان الشهر ثلاثين وربما كان تسعاً وعشرين، فمبلغ السنة الهلالية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثماني ساعات وأربعة أخماس ساعة، وقالت الهند: السنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وست ساعات وخمس ساعة وجزء من أربعمائة جزء من ساعة، وذلك من دخول الشمس برأس الحمل إلى أن تدخل فيه من قابل، ففضل ما بين السنة الهلالية والسنة الشمسية عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمسا ساعة، فإذا زيدت عليها هذه الساعات والأيام استقام حسابه مع دوران الشمس، وكانت العرب تزيده في الجاهلية، وكان الذي أبدع لهم ذلك رجل من كنانة يقال له القلمس، وذلك أنه يجمع هذه الزيادة فإذا تمت شهراً زاده في السنة وجعل تلك السنة ثلاثة عشر شهراً، وسماه نسيئاً، ويحج بهم تلك السنة في المحرم، فأنزل الله تعالى {إنما النسيء زيادة في الكفر} فلما كانت السنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وافق الحج في تلك السنة ذا الحجة لما أراد الله تعالى بإثبات الحج في تلك السنة، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أيها الناس! ألا إن السنة قد استدارت كهيئتها يوم خلق الله السماوات والأرض {منها أربعة حرم ذلك الدين القيم} "يعنى به الحساب القيم، فالحرم رجب جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فسمي ذلك الحج الأقوم، وقال الشاعر:وأبطل ذو العرش النسي وقلمسا *** وفاز رسول الله بالحج الأقوم- انتهى والقلمس بفتح اللام وتشديد الميم، فالنسيء في البيت متروك الهمز ليصح الوزن، والأقوم منقول حركة الهمزة، وقوله: إن علة النسيء التطبيق بين السنة الشمسية والقمرية -فيه نظر، والظاهر أن علته ما ذكر في السير من اضطرارهم إلى القتال، وأمر الاستدارة في كل من هذه الأقوال واضح الاستنارة، وليس المراد بها مصادفة كل فصل من فصول السنة لموضعه من الحر والبرد، ومصادفة اسم كل شهر لمسماه بحسب اشتقاقه حتى يكون رمضان في شدة الحر مثلاً وكذلك غيره وإن كان الواقع أن الأمر كان في هذه الحجة كذلك، لما تقدم من أن غزوة تبوك كان ابتداؤها في شهر رجب، وكان ذلك كما تقدم في شدة الحر وحين طابت الثمار، وإنما المراد الأعظم بالاستدارة مصادفة اسم كل شهر لمسماه لا لمسمى شهر آخر لأجل الدوران بالنسيء بدليل أنه صلى الله عليه وسلم ما ذكر إلا لأجله، فقال في بعض طرق حديث جابر الطويل رضي الله عنه:"إن النسيء زيادة في الكفر، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً "فانظر إلى تعقيبه بحصر الأشهر في الاثنى عشر نفياً لجعلهم إياها سنة النسيء ثلاثة عشر شهراً، وقال: منها أربعة حرم، وعينها وقال: أيّ شهر هذا؟ فلما سكتوا قال: ذو الحجة شهر حرام، كل هذا لبيان أن المراد بالاستدارة رجوع كل شهر عما غيره أهل الجاهلية إلى موضعه الذي وضعه الله به موافقاً اسمه لمسماه، وجعلت أشهرنا هلالية مع المنع من النسيء لتحصل الاستدارة فيحصل بسببها كل عبادة تعبدنا بها من صوم وعيد وحج وغيره في كل فصل من فصول السنة بخلاف من شهوره بالحساب، فإن عباداتهم خاصة بوقت من السنة لا تتعداه- والله الموافق له، وقال القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره، حدثنا ابن أبي عمرثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاووس قال؛ الشهر الذي انتزعه الله من الشيطان المحرم. والحاصل أنه لا شك في أن النسيء لم يكن قط إلا للمحرم لما تقدم، وأن الحج لم يكن قط في جاهلية ولا إسلام إلا في شهر يسمى ذا الحجة لما قاله نقلة اللغة والحديث والأخبار، قال ابن الأثير في النهاية ونشوان اليمني في شمس العلوم والقزاز في ديوانه وابن مكتوم في ترتيب العباب والمحكم: ذو الحجة بالكسر: شهر الحج، زاد المحكم: سمي بذلك للحج، وقال القزاز؛ إن الفتح فيه أشهر، وفي النهاية: يوم التروية هو الثامن من ذي الحجة، سمى به لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده، أي يستقون ويسقون؛ وقال المجد في القاموس: يوم عرفة التاسع من ذي الحجة، وفي كتاب أسواق العرب لأبي المنذر هشام بن محمد الكلبي رواية أبي سعيد السكري أن عكاظ كانت من أعظم أسواق العرب. فإذا أهل أهلها هلال ذي الحجة ساروا بأجمعهم إلى ذي المجاز وهي قريب من عكاظ، وعكاظ في أعلى نجد، فأقاموا بها حتى يوم التروية، و وافاهم بمكة حجاج العرب ورؤوسهم ممن أراد الحج بمن لم يكن شهد تلك الأسواق. وقال الأزرقي في تاريخ مكة: فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز فأقاموا بها ثماني ليال أسواقهم قائمة، ثم يخرجون يوم التروية في ذي المجاز إلى عرفة فيتروون ذلك اليوم من الماء بذي المجاز، وإنما سمي يوم التروية لترويهم الماء بذي المجاز، ينادي بعضهم بعضاً: ترووا من الماء، إنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة يومئذ، ثم ذكر أنه لا يحضر ذلك إلا التجار، قال: ومن لم يكن له تجارة فإنه يخرج من أهله متى أراد، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية. وروى البيهقي في دلائل النبوة بسندة عن عروة وموسى بن عقبة -فرقهما- قالا: وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة من الجعرانة في ذي القعدة، ثم أسند عن ابن إسحاق أنه قال: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم، فكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة أو في الحجة، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب يحج عليه، وحج تلك السنة عتاب بن أسيد في سنة ثمان، وحديث اعتماره صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة رواه الشيخان ومضى على ما كانت العرب من الطواف عراة ونحوه؛ وذكره الواقدي عن مشايخ قالوا: وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلاً فأحرم -فذكرعمرته ثم قال: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين، وأقام للناس الحج عتاب بن أسيد رضي الله عنه عن تلك السنة وهي سنة ثمان، وحج ناس من المسلمين والمشركين على مدتهم، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي القعدة، قال الواقدي: فأقام بقية ذي القعدة وذا الحجة، فلما رأى هلال المحرم بعث المصدقين- انتهى. إذا تقرر هذا علم أن الحج لم يكن قط إلا في شهر يسمونه ذا الحجة، وهو مما لا يدور في خَلَد ولا يقع في وهم فيه تردد، ولا يحتاج إلى تطويل بذكره ولا إطناب في أمره، وتارة يوافق اسمه مسماه وتارة لا يوافقه لأجل النسيء، وعلم أيضاً أن حج عتاب بن أسيد كان في ذي الحجة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة إلى المدينة الشريفة، أنه ما تأخر عن ذي الحجة إلا لنقل، وأن حج أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع كان في ذي الحجة لذلك ولما تقدم من أن سفره له من المدينة الشريفة كان في آخر ذي القعدة أو أول ذي الحجة ولقولهم: إن الأربعة الأشهر التي ضربت للمشركين من يوم النحر و لقولهم: إن الأربعة الأشهر كان آخرها عاشر ربيع الآخر، وعلم أن ذا الحجة تلك السنة لو كان وافق مسمى ذي القعدة لم يقع ذو الحجة سنة عشر التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم في موضعه الذي وضعه الله به إلا بأن تكون تلك السنة ثلاثة عشر شهراً بنسيء أو غيره، وكل من الأمرين باطل، أما الأول فلأن الله تعالى أبطل النسيء في تلك السنة فيما أبطله من أمور الجاهلية في هذه السورة، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم بالمناداة بها كما مر، وأما الثاني فهو أمر خارق للعادة لم يكن مثله من حين خلق الله السماوات والأرض، والخارق مما تتوفر الدواعي [على] نقله، ولا ناقل لهذا أصلاً فبطل، وإذا بطل ثبت أن سنة عشر كانت اثني عشر شهراً ولا سيما بعد إنزال الله تعالى في ذلك ما أنزل في هذه السورة، وإذا كان الأمر كذلك كان الشهر الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم في موضع الشهر الذي وقف فيه الصديق رضي الله عنه سواء بسواء، وقد ثبت أن الزمان كان فيه قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، فثبت من غير مرية أن شهر الصديق رضي الله عنه كذلك كان، وثبت أيضاً أن سنة عتاب ابن أسيد رضي الله عنه كذلك كانت بما قدمتُ من أنه لم يكن فيها نسيء لتوافق حج المسلمين والمشركين في سنة تسع. فدل ذلك على أنها كانت اثنى عشر شهراً، فكان ذو الحجة فيها في موضعه الذي وضعه الله به كما كانت سنة تسع، بل ظاهر قوله أبي عبيد: فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه -كما مضى- أن الله حفظ زمن الإسلام كله عن نسيء، وهو الذي اعتقده، وقد لاح بذلك أن السبب في قول من قال: إن حج الصديق رضي الله عنه وافق ذا القعدة، أنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم" إن الزمان قد استدار "أن الاستدارة لم تكن إلا في تلك السنة وليس ذلك مدلول هذا التركيب كما لا يخفي والله الموفق: ثم وجدت النقل الصريح في زوائد معجمي الطبراني: الأوسط والأصغر للحافظ نور الدين الهيثمي بمثل ما فهمته، قال في تفسير براءة: حدثنا إبراهيم -يعني ابن هشام- البغوي ثنا الصلت بن مسعود الجحدري ثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ثنا دواد بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يعني عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كانت العرب يحلون عاماً شهراً وعاماً شهرين ولا يصيبون الحج إلا في كل ست وعشرين سنة مرة، وهو النسيء الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، فلما كان عام حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس وافق ذلك العام الحج فسماه الله الحج الأكبر، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض "لم يروه عن عمر إلا داود تفرد به الصلت -انتهى. وهو حديث حسن إن شاء الله تعالى، ثم رأيت الهيثمي في مجمع الزوائد قال: رجاله ثقات، فأكد ذلك الجزم بما فهمت من أنه حسن، وإنما أطلت هذا بما قد لا يحتاج في إيضاحه إليه لكثرة جدال المجادلين المعاندين ومحال المماحلين الجامدين...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... عُلم من هذا أن النسيء تشريع ديني ملتزم غيروا به ملة إبراهيم بسوء التأويل واتباع الهوى، فلهذا سماه الله زيادة في الكفر، أي أنه كفر بشرع دين لم يأذن به الله زائد على أصل كفرهم بالشرك بالله تعالى، فإن شرع الحلال والحرام والعبادة حق له وحده، فمنازعته فيه شرك في ربوبيته كما تقدم في مواضع أقربها تفسير قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا} [التوبة: 31]، وأنهم يضلون به سائر الكفار الذين يتبعونهم فيه فيتوهمون أنهم لم يخرجوا به عن ملة إبراهيم؛ إذ واطئوا فيه عدة ما حرمه الله من الشهور في ملته، وإن أحلوا ما حرمه الله، وهو المقصود بالذات من شرعه في هذه المسألة لا مجرد العدد، فهل يعتبر بهذا من يتجرؤون على التحليل والتحريم بآرائهم وتقاليدهم من غير نص قطعي عن الله ورسوله؟
{زين لهم سوء أعمالهم} قال ابن عباس: يريد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة، وهي أنهم يحرمون العدد الذي حرمه الله تعالى لم ينقصوا منه شيئا. وقد أسند التزيين في بعض الآيات إلى الله تعالى لظهور خيريته وحكمته، وفي بعضها إلى الشيطان لوضوح مفسدته، وفي بعضها إلى المفعول لإبهامه، وبينا مناسبة كل منها للموضوع الذي ورد فيه.
{والله لا يهدي القوم الكافرين} إلى حكمه في أحكام شرعه، وبنائها على مصالح الناس، وإصلاح أفرادهم ومجتمعهم في أمور دينهم ودنياهم، فإن هذه الهداية الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة من توابع الإيمان وآثاره، كما قال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} [يونس: 9]، وأما الكافرون فيتبعون فيها أهواءهم وشهواتهم وما يزينه لهم الشيطان، وهي سبب الشقاء ودخول النار.
روى الشيخان وغيرهما من حديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض: السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»، قال هذا في منى عام حجة الوداع. وله ألفاظ أخرى بزيادة عما هنا. والمراد من استدارة الزمان عودة حساب الشهور إلى ما كان عليه من أول نظام الخلق بعد أن كان قد تغير عند العرب بسبب النسيء في الأشهر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
قال مجاهد -رضي اللّه عنه -: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول: أيها الناس. إني لا أعاب ولا أخاب، ولا مرد لما أقول. أنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته، ويقول: إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله: (ليواطئوا عدة ما حرم اللّه) قال: يعني الأربعة. فيحلوا ما حرم اللّه تأخير هذا الشهر الحرام. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: هذا رجل من بني كنانة يقال له القلمس، وكان في الجاهلية وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده؛ فلما كان هو قال: اخرجوا بنا. قالوا له: هذا المحرم. قال: ننسئه العام. هما العام صفران. فإذا كان العام القابل قضينا.. جعلناهما محرمين.. قال ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال لا تغزوا في صفر. حرموه مع المحرم. هما محرمان...
. فهذان قولان في الآية، وصورتان من صور النسيء. في الصورة الأولى يحرم صفر بدل المحرم فالشهور المحرمة أربعة في العدد، ولكنها ليست هي التي نص عليها اللّه، بسبب إحلال شهر المحرم. وفي الصورة الثانية يحرم في عام ثلاثة أشهر وفي عام آخر خمسة أشهر فالمجموع ثمانية في عامين بمتوسط أربعة في العام ولكن حرمة المحرم ضاعت في أحدهما، وحل صفر ضاع في ثانيهما! وهذه كتلك في إحلال ما حرم اللّه؛ والمخالفة عن شرع اللّه...
. (زيادة في الكفر).. ذلك أنه- كما أسلفنا -كفر مزاولة التشريع إلى جانب كفر الاعتقاد...
(يضل به الذين كفروا).. ويخدعون بما فيه من تلاعب وتحريف وتأويل...
(زين لهم سوء أعمالهم).. فإذا هم يرون السوء حسناً، ويرون قبح الانحراف جمالاً، ولا يدركون ما هم فيه من ضلال ولجاج في الكفر بهذه الأعمال...
الذين ستروا قلوبهم عن الهدى وستروا دلائل الهدى عن قلوبهم. فاستحقوا بذلك أن يتركهم اللّه لما هم فيه من ظلام وضلال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. والنسيء يطلق على الشهر الحرام الذي أرجئت حرمتُه وجعلت لشهر آخر فالنسيء فَعِيل بمعنى مفعول من نَسَأ المهموز اللام، ويطلق مصدراً بوزن فعيل مثل نَذير من قوله: {كيف نذير} [الملك: 17]، ومثل النكير والعذر وفعله نسأ المهموز، أي أخّر، فالنسيء بهمزة بعد الياء في المشهور. وبذلك قرأه جمهور العشرة. وقرأه ورش عن نافع بياء مشدّدة في آخره على تخفيف الهمزة ياء وإدغامِها في أختها، والإخبارُ عن النسيء بأنّه زيادة إخبار بالمصدر كما أخبر عن هاروت وماروت بالفتنة في قوله: {إنما نحن فتنة} [البقرة: 102].
والنسيءُ عند العرب تأخير يجعلونه لشهرٍ حرام فيصيرونه حلالاً ويحرّمون شهراً آخر من الأشهر الحلال عوضاً عنه في عامه.
والداعي الذي دعا العرب إلى وضع النسيء أنّ العرب سَنَتهم قمرية تبعاً للأشهر، فكانت سنتهم اثني عشر شهراً قمرية تامة، وداموا على ذلك قروناً طويلة ثم بدا لهم فجعلوا النسيء.
وأحسن ما روي في صفة ذلك قول أبي وائل أنّ العرب كانوا أصحاب حروب وغارات فكان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها فقالوا لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نُصيب فيها شيئاً لنهلِكَنّ ...
... وصيغة القصر في قوله: {إنما النسىء زيادة في الكفر} تقتضي أنّه لا يعدو كونه من أثر الكفر لمحبّة الاعتداءِ والغارات فهو قصر حقيقي، ويلزم من كونه زيادة في الكفر أنّ الذين وضعوه ليسوا إلاّ كافرين وما هم بمصلحين، وما الذين تابعوهم إلاّ كافرون كذلك وما هم بمتّقين.
ووجه كونه كفراً أنّهم يعلمون أنّ الله شرع لهم الحجّ ووقتَّه بشهر من الشهور القمرية المعدودة المسمّاة بأسماء تميّزها عن الاختلاط، فلمّا وضعوا النسيء قد علموا أنّهم يجعلون بعض الشهور في غير موقعه، ويسمّونه بغير اسمه، ويصادفون إيقاع الحج في غير الشهر المعيّن له، أعني شهر ذي الحجّة ولذلك سمّوه النسيء اسماً مشتقّاً من مادة النَّسَاء وهو التأخير، فهم قد اعترفوا بأنّه تأخير شيء عن وقته، وهم في ذلك مستخفّون بشرع الله تعالى، ومخالفون لما وقّت لهم عن تعمّد مثبتين الحلَّ لشهر حرام والحرمةَ لشهر غير حرام، وذلك جرأة على دين الله واستخفاف به، فلذلك يشبه جعلَهم لله شركاء، فكما جعلوا لله شركاء في الإلهية جعلوا من أنفسهم شركاء لله في التشريع يخالفونه فيما شرعه فهو بهذا الاعتبار كالكفر، فلا دلالة في الآية على أنّ الأعمال السيّئة توجب كفر فاعلها ولكن كفر هؤلاء أوجب عملهم الباطل.
وحرف {في} المفيد الظرفية متعلّق « بزيادة» لأنّ الزيادة تتعدّى بفي {يزيد في الخلق ما يشاء} [فاطر: 1] فالزيادة في الأجسام تقتضي حلول تلك الزيادة في الجسم المشابهِ للظرف ويجوز أن يكون تأويله أنّه لمّا كان إحداثه من أعمال المشركين في شؤون ديانتهم وكان فيه إبطال لمواقيت الحجّ ولحرمة الشهر الحرام اعتبر زيادة في الكفر بمعنى في أعمال الكفر وإن لم يكن في ذاته كفراً وهذا كما يقول السلف: إنّ الإيمان يزيد وينقص يريدون به يزيد بزيادة الأعمال الصالحة وينقص بنقصها مع الجزم بأنّ ماهية الإيمان لا تزيد ولا تنقص وهذا كقوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143]، أي صلاتكم. على أنّ إطلاق اسم الإيمان على أعمال دين الإسلام وإطلاق اسم الكفر على أعمال الجاهلية ممّا طفحت به أقوال الكتاب والسنّة مع اتّفاق جمهور علماء الأمّة على أنّ الأعمال غيرَ الاعتقاد لا تقتضي إيماناً ولا كفراً.
وعلى الاحتمال الثاني فتأويله بتقدير مضاف، أي زيادة في أحوال أهل الكفر، أي أمر من الضلال زيد على ما هم فيه من الكفر بضدّ قوله تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} [مريم: 76]. وهذان التأويلان متقاربان لا خلاف بينهما إلا بالاعتبار، فالتأويل الأول يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه مجاز مرسل والتأويل الثاني يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه إيجازُ حذف بتقدير مضاف.
وجملة {يضل به الذين كفروا} خبر ثان عن النسيء أي هو ضلال مستمرّ، لما اقتضاه الفعل المضارع من التجدّد.
وجملة {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} بيان لسبب كونه ضلالاً.
وقد اختير المضارع لهذه الأفعال لدلالته على التجدّد والاستمرار، أي هم في ضلال متجدّد مستمرّ بتجدّد سببه، وهو تحليله تارة وتحريمه أخرى، ومواطأة عدّة ما حرم الله.
وإسناد الضلال إلى الذين كفروا يقتضي أنّ النسيء كان عمله مطّرداً بين جميع المشركين من العرب فما وقع في « تفسير الطبري» عن ابن عباس والضحّاك من قولهما وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يفعلونه ويعظمونه ليس معناه اختصاصهم بالنسيء ولكنّهم ابتدأوا بمتابعته.
وقرأ الجمهور {يضل} بفتح التحتية وقرأه حفص عن عاصم، وحمزةُ، والكسائي وخلَف، ويعقوب بضمّ التحتية على أنّهم يضلّون غيرهم.
والتنكير والوحدة في قوله: {عاماً} في الموضعين للنوعية، أي يحلّونه في بعض الأعوام ويحرّمونه في بعض الأعوام، فهو كالوحدة...
والموطأة الموافقة، وهي مفاعلة عن الوَطىء شبه التماثل في المقدار وفي الفعل بالتوافق (في) وطيء الأرجل ومن هذا قولهم (وقوع الحافر على الحافر).
و {عِدّة ما حرم الله} هي عدّة الأشهر الحرم الأربعة.
وظاهر هذا أنّه تأويل عنهم وضربٌ من المعذرة، فلا يناسب عده في سياق التشنيع بعملهم والتوبيخ لهم، ولكن ذِكْره ليُرتَّب عليه قولُه: {فيحلوا ما حرم الله} فإنّه يتفرّع على محاولتهم موافقة عدّة ما حرم الله أن يحلّوا ما حرّم الله، وهذا نداء على فساد دينهم واضطرابه فإنّهم يحتفظون بعدد الأشهر الحرم الذي ليس له مزيد أثر في الدين، وإنّما هو عدد تابع لتعيين الأشهر الحرم، ويفرّطون في نفس الحُرمة فيحلون الشهر الحرام، ثم يزيدون باطلاً آخر فيحرّمون الشهر الحلال. فقد احتفظوا بالعدد وأفسدوا المعدود.
وتوجيه عطف {فيحلوا} على مجرور لام التعليل في قوله: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} هو تنزيل الأمر المترتّب على العلّة منزلة المقصود من التعليل وإن لم يكن قصد صاحبه به التعليل، على طريقة التهكّم والتخطئة مثل قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8].
والإتيان بالموصول في قوله: {عدة ما حرم الله} دون أن يعبّر بنحو عدة الأشهر الحرم، للإشارة إلى تعليل عملهم في اعتقادهم بأنّهم حافظوا على عدة الأشهر التي حرّمها الله تعظيماً. ففيه تعريض بالتهكّم بهم.
والإظهار في قوله: {فيحلوا ما حرم الله} دون أن يقال فيُحلوه، لزيادة التصريح بتسجيل شناعة عملهم، وهو مخالفتهم أمر الله تعالى وإبطالُهم حرمة بعض الأشهر الحرم، تلك الحرمة التي لأجلها زعموا أنّهم يحرّمون بعض الأشهر الحلال حفاظاً على عدّة الأشهر التي حرّمها الله تعالى.
وجملة {زين لهم سوء أعمالهم} مستأنفة استئنافاً بيانياً: لأنّ ما حكي من اضطراب حالهم يثير سؤال السائلين عن سبب هذا الضغث من الضلال الذي تمَلأُوه فقيل: لأنّهم زيّن لهم سوء أعمالهم، أي لأنّ الشيطان زيّن لهم سوء أعمالهم فحسّن لهم القبيح.
والتزيين التحسين، أي جعلُ شيء زيْناً، وهو إذا يسند إلى مَا لا تتغيّر حقيقته فلا يصير حسناً، يؤذن بأنّ التحسين تلبيس. وتقدّم التزيينُ في قوله تعالى: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا} في سورة البقرة (212). وقوله: {كذلك زينا لكل أمة عملهم} في سورة الأنعام (108).
وفي هذا الاستئناف معنى التعليل لحالهم العجيبة حتّى يزول تعجّب السامع منها.
وجملة {والله لا يهدي القوم الكافرين} عطف على جملة {زين لهم سوء أعمالهم} فهي مشمولة لمعنى الاستئناف البياني المراد منه التعليل لتلك الحالة الغريبة، لأنّ التعجيب من تلك الحالة يستلزم التعجيب من دوامهم على ضلالهم وعدم اهتدائهم إلى ما في صنيعهم من الاضطراب، حتّى يقلعوا عن ضلالهم، فبعد أن أفيد السائل بأنّ سبب ذلك الاضطراب هو تزيين الشيطان لهم سوءَ أعمالهم، أفيد بأنّ دوامهم عليه لأنّ الله أمسك عنهم اللطف والتوفيق، اللذيْن بهما يتفطّن الضالّ لضلاله فيقلع عنه، جزاءاً لهم على ما أسلفوه من الكفر، فلم يزالوا في دركات الضلال إلى أقصى غاية.
والإظهار في مقام الإضمار بقوله: {القوم الكافرين} لقصد إفادة التعميم الذي يشملهم وغيرهم، أي: هذا شأن الله مع جميع الكافرين.
واعلم أنّ حرمة الأزمان والبقاع إنّما تُتلقَّى عن الوحي الإلهي لأنّ الله الذي خلق هذا العالم هو الذي يسُنّ له نظامَه فبذلك تستقرّ حرمة كلّ ذي حرمة في نفوس جميع الناس إذ ليس في ذلك عمل لبعضهم دون بعض، فإذا أدخل على ما جعله الله من ذلك تغييرٌ تقشّعت الحرمة من النفوس فلا يرضى فريق بما وضعه غيره من الفرق، فلذلك كان النسيء زيادة في الكفر لأنّه من الأوضاع التي اصطلح عليها الناس، كما اصطلحوا على عبادة الأصنام بتلقين عمرو ابن لحَيّ.
وقد أوْحَى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنّ العامَ الذي يَحُجّ فيه يصادف يومُ الحجّ منه يومَ تسعة من ذي الحجة، على الحساب الذي يتسلسل من يوم خلق الله السماوات والأرض، وأنّ فيه يندحض أثر النسيء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع « إنّ الزمان قد استدار كهيئتِه يومَ خلق اللَّهُ السماوات والأرض»، قالوا فصادفت حجّة أبي بكر سنة تسع أنّها وقعت في شهر ذي القعدة بحساب النسيء، فجاءت حجّةُ النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجّة في الحساب الذي جعله الله يومَ خلق السماوات والأرض.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ختم الله تعالى الآية السابقة بقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} لإشعار المؤمنين بأنه من التقوى إطاعة الله في تحريم القتال في الأشهر الحرم حقنا للدماء، وأن الله تعالى لا يصاحب ولا ينصر إلا المتقين، وأكد ذلك بالأمر بالعلم، كما أكده بالصحبة السامية لله تعالى، وبالجملة الاسمية. ولذلك ذكر من بعد ذلك الاعتداء على الأشهر الحرم بالنسيء، والنسيء معناه التأخير والتأجيل، يقال: (نسأ) بمعنى أخر وأجل، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم (من أراد منكم أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه) (1). وكانت طريقة النسيء أن يجيء إلى المحرم وهو من الشهر الحرام فيستبيح القتال فيه، ويؤجل التحريم إلى صفر، فيستبدل بالشهر الحرام شهرا حلالا، ولأنه يريد الغارة، وقالوا: إنما كانوا يفعلون ذلك رغبة في الغارات، وطمعا في الأموال من النعم، ويذكر ابن إسحاق في سيرته أن أول من فعل ذلك رجل من كنانة اسمه (القلمس). ولقد ذم الله النسيء أشد الذم فقال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} أي ليس النسيء إلا زيادة في الكفر، ف (إنما) أداة قصر، فهو ليس إلا زيادة فيه؛ كفروا بملة إبراهيم عليه السلام فعبدوا الأوثان وطافوا بالبيت عراة، وكان شرع إبراهيم تحريم القتال في أربعة أشهر معينة بالتعيين، فغيروا فيها بالنسيء، فزادوا بذلك كفرا إلى كفرهم. وقال تعالى: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي أن شهواتهم في الغارات والقتل والقتال وتحكم الشيطان في نفوسهم يضلهم، ويلاحظ أنه بني للمجهول للدلالة على أن عوامل الضلال كثيرة رأسها شهواتهم في الحرب، وسيطرة الشيطان على نفوسهم، والعداوة والبغضاء بينهم، وكان هذا لأنهم أصحاب غارات وحروب مستمرة، فإذا جاء الشهر الحرام، لم يحرموا ما هم عليه من قتال، بل يستمرون سادرين في غيهم، ويؤخرون التحريم إلى الشهر الذي يليه، ثم يسيرون في غيهم، ويقول الزمخشري: ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهرا أو أربعة عشر. ويقول سبحانه وتعالى: {يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} يحلون النسيء عاما، ويمنعونه عاما حسب سيطرة هوى الحرب على أنفسهم، وتحكم شهواتها في نفوسهم، وقد يقصرون السنة عن اثني عشر شهرا، ليعوضوا الزيادة التي زادوها، وذلك ليوطئوا عدة ما حرم الله، (العدد الذي حرمه الله تعالى وهو أربعة أشهر). وإنهم بذلك يخالفون ما شرعه الله تعالى، وهو أنه حرم أشهرا معدودة بأربعة، ومعينة بالتعيين، حسب ميقات كل شهر وموضعه من السنة، وبالنسبة لما قبله، وما بعده، فبالنسيء خالفوا التعيين، ووضعوا شهرا في موضع شهر من عند أنفسهم من غير علم أوتوه، ولا حجة اعتمدوا عليها، بل هو الهوى، فهم نظروا إلى العدد، ولذلك قال تعالى: {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ}، أي ليوافقوا العدد، لا الأوقات ذاتها، وبذلك أحلوا ما حرم الله، فكان المحرم هو شهر المحرم، فأحلوه، وكان الحلال صفر فحرموه، ولما اضطربت الأشهر وتغيرت مواضعها، أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله، ولذلك عندما أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحريم الأشهر الحرم قال: (إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض) أي صار كل شهر في موضعه لا يبتعد عنه، فرمضان هو رمضان كيوم خلق الله السماوات والأرض، وذو القعدة كذلك، وذو الحجة المحرم، وبذلك يكون الحلال من الأشهر حلالا والحرام حراما. ثم يقول سبحانه: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} أي زين لهم الشيطان والهوى سوء عملهم القبيح، وبني للمجهول للإشارة إلى أن عوامل كثيرة سولها لهم كفرهم، جعلتهم يغيرون خلق الله في الأشهر، ثم قال تعالى: {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}؛ لأنهم سلكوا سبيل الغواية، واختاروا الضلال، فساروا فيه، فكان في ذلك ضلالهم، والله سبحانه مع من سلك طريق الحق مختارا هداه إلى نهايته، ومن سلك طريق الباطل مختارا أنهاه تعالى إليه.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 36]
والآية التي بعدها وما ورد في صددهما من روايات وما انطوى فيهما من صور ودلالات وتلقين وأحكام المستلهم من روح الآيتين وفحواهما أنهما بسبيل التنبيه على حرمة الأشهر الحرم بأعيانها وأعدادها معا. والتنديد بالنسيء الذي يؤدي إلى الإخلال بحرمة أعيانها مع محافظته على أعدادها. وأسلوب الآيتين تقريري يتضمن تقرير ما يلي: إن الله قد جعل للزمن منذ خلق السماوات والأرض دورة تتجدد كل سنة. وجعل في كل سنة اثني عشرة دورة ثانية متجددة تظهر في مشاهد القمر وهي الشهور. ومن هذه الشهور أربعة محرمة بأعيانها. وهذا هو الحق القويم ويجب على المسلمين مراعاته وعدم ظلم أنفسهم بفعل ما يخل به وفي عادة النسيء الذي سار عليها العرب في الجاهلية إخلال به. وفي سير الكفار عليه زيادة في الكفر؛ لأنه وإن كان فيه رعاية للعدد فإن فيه تحليلا لأشهر حرمها الله بأعيانها وتحريما لأشهر أحلها الله بأعيانها والاكتفاء بالمحافظة على العدد وحسب، مع أن الواجب أن ترعى حرمة العين كما ترعى حرمة العدد. وهذا مما زين للكافرين من عاداتهم السيئة فلا يجوز للمسلمين أن يتبعوه. وقد جاء في الفقرة الأخيرة من الآية الأولى حث للمسلمين على قتال المشركين كافة ومجتمعين ومتضامنين كما يقاتلهم المشركون كذلك. وتطمين لهم بأن الله تعالى مع المتقين لحرماته يؤيدهم وينصرهم. ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في سبب نزول الآيتين اللتين تبدوان في الظاهر أن لا صلة لهما بما قبلهما ولا بما بعدهما. وكل ما قاله الطبري أن فيهما حثا للمسلمين على قتال المشركين جميعا متفقين ومؤتلفين وغير متفرقين كما يفعلون هم ذلك. ولم يذكر تأويلا لسبب ذكر عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء. وقال البغوي وابن كثير عن جملة: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} هي في صدد تبرير حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للطائف في شهر ذي القعدة المحرم استمرارا لما بدأ به في شوال. وحصار الطائف كان بعد قليل من فتح مكة ويوم حنين أي في السنة الثامنة على ما ذكرناه قبل. وهذه الآيات نزلت في سياق آيات أخرى بين يدي غزوة تبوك التي كانت بعد سنة تقريبا من ذلك. ولا تبدو حكمة من إقحام ذلك في هذا السياق. ولم يذكر المفسران بدورهما شيئا من أسباب وحكمة ذكر عدة الشهور والنسيء. وليس في كتب التفسير الأخرى التي بين أيدينا شيء مهم آخر في هذا الصدد. ولقد ذكرت الروايات أن غزوة تبوك قد كانت في شهر رجب من العام الهجري التاسع (1). وذكرت كذلك أن وقفة الحج في الحجة التي حجها أبو بكر رضي الله عنه في هذا العام بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونيابة عنه كانت في شهر ذي القعدة بدلا من شهر ذي الحجة (2). بناء على إعلان إنساء في العام السابق؛ حيث صار بهذا الإعلان الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية شوال وذا القعدة وذا الحجة بدلا من ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وصارت الوقفة في ذي القعدة وصار المحرم حلالا. ونتيجة لذلك تغير رجب عن مكانه الصحيح وهو رابع الأشهر الحرم بسبب موسم ديني كان يقوم في الحجاز فيه، وقد سمي لذلك رجب مضر على ما شرحناه في سياق تفسير سورة البقرة. فالذي يخطر بالبال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما استنفر الناس إلى غزوة تبوك، وكان ذلك في رجب اعترض البعض على السير للقتال في هذا الشهر لأنه شهر محرم أو لاحظوا ذلك فنزلت الآيتان ليعلن بهما: أولا: إن هذا الرجب ليس هو الرجب المحرم الأصلي، وإن مكان الرجب المحرم الأصلي هو جمادى الثانية؛ لأن رجب يأتي بعد المحرم بستة أشهر. وقد صار ذو الحجة في هذا العام بديلا عن المحرم فصار رجب هذا العام غير الرجب الأصلي ويكون الرجب الأصلي هو جمادى الآخرة. وثانيا: إن السير إلى غزوة تبوك في رجب هذا العام ليس فيه إحلال بحرمة شهر المحرم؛ لأن رجب هذا العام ليس هو الشهر المحرم الأصلي. وثالثا: إن تقليد النسيء باطل وكفر وضلال، ولو أن فيه مواطأة لعدة الأشهر المحرمة؛ لأن الحرمة ليست للعدة فقط بل هي لعين الأشهر أيضا. فإذا صح هذا ونرجو أن يكون صحيحا والشرح يقوي صحته ورجحانه على أي احتمال آخر، فتكون الآيتان قد نزلتا في المناسبة التي نزلت فيها الآيات السابقة واللاحقة ويكون السياق منسجما ومتلاحقا. ولقد حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العام الثاني لحجة أبي بكر أي في العام العاشر للهجرة. وكان ترتيب الأشهر قد عاد إلى أصله فكان مما قاله في خطبة الوداع: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض: السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) (1). وهكذا حسم أمر وجوب الاحتفاظ بأعداد الأشهر الحرم وأعيانها وترتيبها دون أي إخلال. وجملة: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} قد تبدو ولا صلة لها بالمناسبة. غير أن التمعن في الآية (31) يكشف عن صلتها الوثيقة بها؛ لأنها حكت نسبة اليهود عزيرا إلى الله بالبنوة ونسبة النصارى المسيح إلى الله بالبنوة واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله في حين أنهم لم يؤمروا إلا بعبادة إله واحد ونزهت الله تعالى عما يشركون. وبهذا دخلوا في زمرة المشركين. وهكذا يطرد الكلام ويستقيم ويتوثق الانسجام في السياق. ولقد دأب المفسرون على وصف هذه الجملة بآية السيف مثل الآية: (5) من هذه السورة وظلوا يقررون أنها ناسخة لكل ما جاء في القرآن في صدد التساهل والتعاقد مع المشركين وقبول غير الإسلام منهم على ما ذكرناه في مناسبات عديدة سابقة. ولقد أدخلت الآية: (31) النصارى واليهود – أهل الكتاب – في زمرة المشركين وأذنت بالكف عن الأعداء المحاربين منهم إذا رضخوا للمسلمين وأعطوهم الجزية. وهذا دليل قرآني على عدم نسخ الآية للآيات الأخرى فضلا عن كون ذلك غير متسق مع المبادئ القرآنية العامة ولا مع طبائع الأمور على ما شرحناه قبل قليل. وفي الجملة تفسير لمقصدها. فالأعداء المشركون – ومنهم المنحرفون من أهل الكتاب – يقاتلون المسلمين كافة ومجتمعين وبكل حماسة فيجب أن يكون قتال المسلمين لهم مثل ذلك. وفي الجملة والحالة هذه توكيد على المبادئ القرآنية العامة التي نبهنا عليها بدلا من كونها تنقضها وتنسخها!. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره (1)، عن أهل التأويل في صدد جملة: {تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}. فهناك من صرفها إلى جميع الأشهر، وهناك من صرفها إلى الأشهر الحرم، وهناك من أول الظلم بالإثم والمنكر عامة. والذين صرفوها إلى الأشهر الحرم وصرفوا الظلم إلى الإثم والمنكر قالوا: إن النهي هو بسبب كون الظلم فيها أشد إثما منه في غيرها. وهناك من صرف الظلم إلى الإخلال بحرمة الأشهر الحرم وعمل ما هو محرم فيها مما هو غير محرم في غيرها كالصيد والقتال أو تبديل أعيانها وجعل حلالها حراما وحرامها حلالا. وقد رجح الطبري قول من قال: إنها في صدد الأشهر الحرم وتنظيم حرمتها وعدم استحلال حرامها. وهو الصواب المتبادر من مقام الجملة وروحها. والله أعلم. والنسيء تقليد جاهلي متصل بحرمة الأشهر الحرم. ويظهر من فحوى الآية وروحها أنه بدعة ابتدعت فيما بعد. ومما روي (1)، عن ذلك أنه كان يتولى إعلان النسيء زعيم بيت معين من بيوتات العرب يوم الحج الأكبر إذا رأى ذلك مناسبا أو طلب منه الناس فيعلن مثلا بأن يكون شهر شوال القادم حراما فيصبح شهر المحرم حلالا ويتغير موعد الحج فتكون الوقفة في شهر ذي القعدة بدلا من ذي الحجة. ويكون ذو الحجة بديلا عن المحرم. ثم يعلن في سنة ثانية بأن يعود المحرم محرما، فتعود الأشهر الحرم إلى ترتيبها أو يعلن أن صفر العام القابل محرما فيصير بدء الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية ذا الحجة، وتكون الوقفة في شهر المحرم. وقد روي أن صاحب النسيء في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية الكناني؛ حيث كان يوافي الموسم فينادي يوم الحج الأكبر فيقول: ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يخاب فيقال له: نعم فيعلن تقديم الأشهر الحرم أو تأخيرها شهرا. ويروى أن أبا ثمامة ورث المهمة عم أبيه أمية. وهذا عن أبيه قلع وهذا عن أبيه عباد وهذا عن أبيه حذيفة الذي كان أول من تولى مهمة إعلان النسيء. ومما يروى أن العرب كانوا يطلبون من صاحب النسيء إعلان ذلك ليتمكنوا من متابعة حرب تعطلت بدخول الأشهر الحرم دون انتظار طويل. ويروى إلى هذا ما يفيد أن هذا التقليد قد ابتدع لموازنة الفصول؛ حيث كان من شأن السير في حساب أشهر السنة على حساب القمر أن تتبدل مواعيد الحج وتدور على الفصول، فكان يراد بالنسيء إبقاؤه في موسم أو فصل واحد. ونحن نميل إلى ترجيح كون الأصل في النسيء هو الرواية الأخيرة لأنها متسقة مع طبائع الأشياء كما أن من الممكن الاستدلال على رجحانه بأسماء الأشهر نفسها. ففي أسماء الأشهر العربية المستعملة دلالات على الفصول وموسم الحج معا مثل ذي الحجة وربيع الأول وربيع الثاني ورمضان. وأسماء الأشهر المتداولة الآن مبدلة عن أسماء سابقة؛ حيث كانت الأسماء هكذا: المؤتمر بدلا من المحرم، ثم ناجر وخوات ومصان وحنتم ورباء والأصم وعاذل ونافق وغل وهواع وبرك. وهناك روايات فيها أسماء بدلا من أسماء. وفي تسمية رمضان دلالة على شدة الحرارة لأنها من الرمضاء على ما هو متفق عليه عند علماء اللغة. ويعقبه شوال وهو ليس محرما ثم تأتي الأشهر المحرمة الثلاثة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهي أشهر الحج. فمن المحتمل أن يكون تقليد الأشهر الحرم للحج قد ضعف لسبب ما، ثم جاءت ظروف قضت تقويته وتجديده. وربما كان ذلك لاتجاه أنظار العرب إلى الكعبة في الظرف الذي غزا الأحباش فيه اليمن، وقوضوا السلطان العربي عنها وسيطروا عليها. وكان الرومان مسيطرين على بلاد الشام وعربها والفرس مسيطرين على بلاد العراق وعربها. وكانت الحجاز وحدها تحتفظ باستقلالها. وربما كان ذلك في آخر صيف وكان رمضان يصادف شهر آب وشوال يصادف شهر أيلول فصارت أشهر الحج الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم مصادفة لأشهر تشرين أول وتشرين ثاني وكانون أول، وهي أشهر معتدلة الطقس يمكن السير فيها في جزيرة العرب بسهولة ويسر. فلما أخذت الفصول تتبدل لأنها تابعة لدورة الشمس ورأى العرب أن أشهر الحج صارت تصادف موسم البرد الشديد أو الحر الشديد ابتدعوا تقليد النسيء، وصاروا في كل بضع سنين يقدمون وقت الأشهر المحرمة شهرا أو يؤخرونه شهرا حتى تظل أشهر الحج تأتي في موسم معتدل الطقس. ولما كانت اللغة الفصحى قد صارت كذلك قبل البعثة النبوية بمائة وخمسين سنة أو نحوها، ولما كانت أسماء الأشهر العربية هي من الفصحى فيمكن القول: إن هذه البدعة ابتدعت من نحو مائة وخمسين سنة. وإذا صح ما روي أن حذيفة الكناني هو أول من قام بمهمة النسيء فيكون هذا التقدير في محله؛ لأنه أعقبه إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة أجيال. ولا نريد أن ننفي بترجيحنا القول الثاني نفي القول الأول. فإن ما يحتمل كثيرا أن يكون النسيء الذي جعل في أول أمره لموازنة الفصول قد أسيء استعماله مؤخرا فصار الناس يطلبونه لأغراض حربية وثأرية. ولعل هذا كان من أسباب إلغائه المباشرة فضلا عن حكمة أخرى تنطوي في الإلغاء، وهي سد الباب أمام الجرأة على انتقاص الحرمات والتلاعب فيها. وهذا المعنى منطو في الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما. والله تعالى أعلم. وتقليد الأشهر الحرم هو تقليد عربي خاص كما هو واضح في حين أن عدة الشهور: {اثنا عشر شهرا} هو ناموس كوني؛ ولهذا فالمتبادر أن تعبير: {منها أربعة حرم} مرتبط بما بعده وليس بما قبله. وكتب التفسير تذكر تعليلا لتسمية ذي القعدة بأنه الشهر الذي كان العرب الذين يعتزمون الحج يرتحلون فيه إلى مكة ويقعدون بسبيل ذلك على رواحلهم ولتسمية ذي الحجة بأنه الشهر الذي يتم فيه الحج. أما تسمية المحرم الذي لا تكون فيه مناسك حج فقد قالوا: إنها بسبيل توكيد تحريم القتال فيه؛ لأن الشهر الذي ينصرف الحجاج فيه إلى منازلهم فيكون فيه مجال اللقاء والقتال، وفي التعليلات وجاهة ظاهرة. أما تسمية رجب وهو الشهر المحرم الرابع، فهي مشتقة من الترجيب وهو التعظيم على ما قالوه فينطوي فيها سبب أو مدى تحريمه كما هو المتبادر. ولقد تعددت أقوال المؤولين في جملة: {ذلك الدين القيم} فمنهم من قال: إنها بمعنى الحساب الصحيح، أو الحق دون تبديل وتعديل بالنسيء. ومنهم من قال: إن معناها أن ذلك هو الأصل الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل، وكلا القولين وجيه. والثاني متصل بما كان يتداوله العرب من إرجاع أصول الحج إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام على ما مر شرحه في مناسبات سابقة. وعلى كل حال فإن في الجملة إيذانا بأن التقليد على وجه المحدد هو من حيث الأصل من التقاليد الدينية الملهمة أو الموحاة من الله عز وجل. ويؤيد هذا جملة: {لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ} وفي هذا توكيد لما قلناه في المناسبات السابقة من أن العرب في الجاهلية كانوا يعتقدون أن تقاليد الحج هي تقاليد دينية موحاة من الله عز وجل ومن هنا استحكم فيهم التنديد. والأشهر الحرم الثلاثة هي أشهر الحج. ويبدو أنها قدرت لتكون كافية لرحلة أي عربي من أي منزل ومن أي بلد إلى الحج وعودته إلى مأمنه. أما شهر رجب فيستفاد من الروايات أنه كان يقام في أثنائه موسم ديني في الحجاز. لا صلة له بموسم الحج ولعله موسم زيارة الكعبة المعروفة بالعمرة. وعند المسلمين تقليد أو اصطلاح (الزيارة الرجبية) ولعله متصل بذلك. ويبدو من خلال الروايات ومن قصر المدة أنه كان موسما حجازيا لا يشترك فيه إلا أهل الحجاز (1). والله أعلم.
والنسيء هو التأخير، فكأنهم إذا ما دخلوا في قتال وجاء شهر حرام قالوا: ننقله إلى شهر قادم، واستمروا في قتالهم؛ وهم بذلك قد أحلّوا الشهر الذي كان محرما وجعلوا الشهر الذي لم تكن له حرمة؛ شهرا حراما، وهنا يوضح الحق سبحانه أن هذا العمل زيادة في الكفر؛ لأنه أدخل في المحلل ما ليس منه، وأدخل في المحرم ما ليس منه؛ لأن الكفر هو عدم الإيمان فإذا بَدّلْتَ وغَيّرْتَ في منهج الإيمان، فهذا زيادة في الكفر. ثم يقول سبحانه: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا} و {يُضَلُّ} هنا مبنية للمجهول؛ ومعنى ذلك أن هناك من يقوم بإضلال الذين كفروا، وهذه مهمة الشيطان، لأن هناك فرقا بين الضلال والإضلال، فالضلال في الذات والنفس، أما الإضلال فيتعدى الغير، فهناك ضال لا يكتفي بضلال نفسه، بل يأتي لغيره ويضله ويغويه على المعصية بأن ينزلها له. ولذلك هناك جزاء على الضلال، وجزاء أشد على الإضلال، فإذا كان هناك إنسان ضال فهو في نفسه غير مؤمن، أي أن ضلاله لم يتجاوز ذاته، ولم ينتقل إلى غيره. ولكن إذا حاول أي يغري غيره بالضلال والمعصية يكون بذلك قد ضلَّ وأضلَّ غيره. ويتخذ بعض المستشرقين هذه القضية مطعنا في القرآن-بلا وعي منهم أو فهم- فيقولون: إن القرآن يقول: {ولا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى} (فاطر 18)، ثم يأتي في آية أخرى فيقول: {ولَيحملنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهمْ} (العنكبوت 13). فكيف يقول القرآن: إن أحدا لا يتحمل إلا وزره، ثم يقول: إن هناك من سيتحمل وزره ووزر غيره؟. ونقول لهم: أنتم لم تفهموا المعنى، فالأول: هو الضَّالُّ الذي يرتكب المعاصي ولكنه لم يُغْرِ بها غيره، أي: أنه عصى الله ولم يتجاوز المعصية. أما الثاني: فقد ضلَّ وأضلَّ غيره.. أي: أنه لم يكتف بارتكاب المعصية بل أخذ يغري الناس على معصية الله. وكلما أغرى واحدا على المعصية كان عليه نفس وِزْر مرتكب المعصية. وهنا يقول الحق: {يُضلّ به الذين كفروا يُحلّونه عاما ويُحرّمونه عاما} وطبعا التحليل والتحريم هنا حدث منهم لظنهم أن هذه مصلحتهم، أي أنهم أخضعوا الأشهر الحرم لشهواتهم الخاصة، وخرجوا من مرادات الله في كونه، يوم خلق السماوات والأرض. ولكن لماذا يُحلّونه عاما ويُحرّمونه عاما؟ تأتي الإجابة من الحق: {لِيُواطِئوا عِدّة ما حرّم الله} أي: ليوافقوا عدة ما أحلّ الله حتى يبرروا ويقولوا لأنفسهم: نحن لسنا عاصين، فإن كان الله يريد أربعة أشهر حرم، فنحن قد التزمنا بذلك! ولكن تشريع الله ليس في العدد فقط ولكن في المعدود أيضا، وقد حدد لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشهر الحرم. وكان عمر بن لحي أو نعيم بن ثعلبة هما أول من قاما بعملية النسئ هذه، فأحلَّ شهر المحرم، وحرَّم غيره. وهؤلاء الذين قاموا بهذا العمل كانوا يعرفون أن هناك أربعة أشهر حرم بدليل أنهم أحلوا وحرموا. ولو لم يعرفوها ما أحلوا ولا حرموا، ولكن هم أرادوا أن يُخضعوا تشريع الله لأهوائهم. وهذا هو المغزى من تحليل شهر المحرم وتحريم شهر آخر، وأرادوا بذلك إخضاع مرادات الله لشهوات نفوسهم؛ لأن المحرم ثابت فيه التحريم، وهو شهر حرام سواء قام الإنسان بتأجيله أم لم يؤجله، فهو شهر حرام بمشيئة الله لا بمشيئة الناس. ولذلك حكم الحق سبحانه على النسئ بأنه زيادة في الكفر؛ لأنك حين تؤخر حرمة شهر المحرم إلى شهر غيره، تكون قد قُمتَ بعمليتين؛ أحللت شهرا حراما وهذا كفر، وحرمت شهرا حلالا وهذا كفر آخر.. أي: زيادة في الكفر. ثم يقول الحق سبحانه: {لِيُواطِئوا عِدّة ما حرّم الله} وقد حكم الله عليهم بالكفر بأنهم أحلوا ما حرمه الله. ثم يقول الحق: {زُيّن لهم سوءُ أعمالهم} والتزيين: هو أمر طارئ أو زائد على حقيقة الذات مما يجعله مقبولا عند الناس، فالمرأة مثلا لها جمال طبيعي، ولكنها تتزين بأن تبالغ في إظهار مفاتنها حتى تكون أجمل في عيون الرجال، هذا هو التزيين. إذن: فالتزيين تغيير في المظهر وليس في الجوهر. وهناك تزيين في أشياء كثيرة، تزيين في الفكر مثلا، بأن يكون هناك استعداد للقتال فيأتي القائد فيزين للمقاتلين دخول المعركة، ويقول: أنتم ستنصرون في ساعات، ولن يصاب منكم أحد وسيفرّ عدوكم؛ هذا تزيين محمود. ولذلك أراد الحق أن يكشف لنا حقيقة التزيين الذي قاموا به حين حللوا حرمة الأشهر الحُرُم، وكشف لنا سبحانه أن هذا لون من التزيين غير المحمود فقال: {زُيّن لهم سوءُ أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين} وما دام قد زُيِّنَ لهم السوء فهذا العمل قد خرج عن منطقة الهداية، وخرج عن نطاق التزيين المحمود إلى التزيين السيئ. وما داموا قد خرجوا عن هداية الله فلن يعينهم الله؛ لأنه سبحانه لا يعين من كفر، ولا يعين من ظلم، ولا يعين من فسق. ولذلك قال سبحانه: {والله لا يهدي القوم الكافرين} أي: أنهم بكفرهم قد أخرجوا أنفسهم عن هداية الله، فالحق سبحانه لم يمنع عنهم الهداية، بل هم الذين منعوها عن أنفسهم بأن كفروا فأخرجوا أنفسهم عن مشيئة هداية الله لهم، وهذا ينطبق على هداية المعونة، ونحن نعلم أن لله سبحانه هداية دلالة وهداية معونة؛ هداية الدلالة هي للمؤمن وللكافر، ويدل الله الجميع على المنهج، ويريهم آياته، وتبلغ الرسل منهج السماء الذي يوضح الطريق إلى رضاء الله والطريق إلى سخطه وعذابه. فمن آمن بالله دخل في مشيئة هداية المعونة، فيعينه الله في الدنيا ويعطيه الجنة في الآخرة. أما من يرفض هداية الدلالة من الله، فالله لا يعطيه هداية المعونة، لأن الكفر قد سبق من العبد. وكذلك الظلم والفسق، فيكون قد منع نفسه هداية المعونة بارتكابه لتلك الآثام. ولذلك يقول الحق سبحاه وتعالى: {والله لا يهدي القوم الكافرين (37) (التوبة) {والله لا يهدي القوم الظالمين (19)} (التوبة) {والله لا يهدي القوم الفاسقين} (التوبة). إذن: هم الذين قدَّموا الكفر والظلم والفسوق، فمنعوا عن أنفسهم هداية المعونة التي قال الحق عنها: {والذين اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم} (محمد: 17).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{النَّسِىءُ}: التأخير. وهو شهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية بحسب مصلحتهم. {لِّيُوَاطِئُواْ}: المواطأة: الموافقة. النسيء زيادة في الكفر {إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْر} وامتدادٌ فيه بتغيير شريعة الله من عند أنفسهم في ما لم يأذن به الله، فيتصرّفون من خلال ذلك، على أساس أنه الشريعة التي يريد الله أن يُطاع من خلالها، وبذلك فإنهم يضيفون إلى كفرهم بالله وبتوحيده كفراً بحدود الشريعة ونظامها. أمّا النسيء، فالمراد به ما كانت تفعله العرب في الجاهلية، فإنهم ربما كانوا يؤخرون حرمة بعض الأشهر الحرم إلى غيره، تبعاً لمصالحهم في الحرب والسلم، فإذا كانت مصلحتهم في الحرب جعلوا محرّمهم صفراً، واعتبروا صفراً في السنة الثانية محرّماً، يمنعون فيه أنفسهم من القتال عوضاً عما مضى، فهم لا يرفضون الشريعة من الأساس، بل يحاولون أن يتلاعبوا بعملية توقيتها وتحديدها في التقديم والتأخير، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان الأساس الذي يرتكز عليه التشريع في إقامة الحياة على قواعد ثابتةٍ يخضع لها الجميع من دون تمييز ومن دون إشكال. {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي الناس الآخرون في ما يفرضونه عليهم من هذا التغيير في حدود الله والتجاوز لها، {يُحِلُّونَهُ عَامًا} فيرون محرّماً صفراً في هذه السنة {وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} فيجرونه على ما كان عليه ويضيفون إليه بدله في العام القابل {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} ليوافقوا العدد المحرّم وإن ابتعدوا عن المضمون التشريعي له، فتبقى الأشهر الأربعة في السنة موقع تحريم، ولكن في أشهر أخرى غير ما شرّعها الله، {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} من دون أن يأخذوا إذناً في ذلك، فيشرّعون لأنفسهم ظلماً وضلالاً {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} فخيّل إليهم في ما زيَّنه لهم الشيطان أنهم يملكون أمر ذلك كله، لأن المهم هو العدد، بعيداً عن خصوصية هذا الشهر أو ذاك، لأن الزمن يشبه بعضه بعضاً، فلا مانع من وجهة نظرهم أن نقدم ما أخّره الله أو نؤخر ما قدمه {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} بإجبارهم على الهدى، لأنه قد أقام عليهم الحجة بدلالتهم إلى طريق الهدى من خلال ما عقلوه وسمعوه من الأنبياء من وحي الله في آياته، فإذا انحرفوا إلى طرق الضلال، وظلموا أنفسهم بالسير فيها، فإن الله يتركهم لأنفسهم ولا يهديهم سواء السبيل من جديد...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -حرمة الاحتيال على الشرع بالفتاوى الباطلة لإحلال الحرام، وأن هذا الاحتيال ما هو إلا زيادة في الإِثم.- تزيين الباطل وتحسين المنكر من الشيطان. -حرمان أهل الكفر والفسق من هداية الله تعالى وتوفيقه لما هو حق وخير حالاً ومآلاً.
التفسير الميسر لمجموعة من العلماء 2007 هـ :
إن الذي كانت تفعله العرب في الجاهلية من تحريم أربعة أشهر من السنة عددًا لا تحديدًا بأسماء الأشهر التي حرَّمها الله، فيؤخرون بعضها أو يقدِّمونه ويجعلون مكانه من أشهر الحل ما أرادوا حسب حاجتهم للقتال، إن ذلك زيادة في الكفر، يضل الشيطان به الذين كفروا، يحلون الذي أخروا تحريمه من الأشهر الأربعة عامًا، ويحرمونه عاما؛ ليوافقوا عدد الشهور الأربعة، فيحلوا ما حرَّم الله منها. زَيَّن لهم الشيطان الأعمال السيئة. والله لا يوفق القوم الكافرين إلى الحق والصواب...