18- حتى إذا بلغوا وادي النمل قالت نملة : يا أيها النمل ادخلوا مخابئكم ، لكيلا تميتكم جنود سليمان وهم لا يحسون بوجودكم{[166]} .
{ حتى إذا أتوا على وادي النمل } واد بالشام كثير النمل ، وتعدية الفعل إليه ب{ على } إما لأن إتيانهم كان من عال أو لأن المراد قطعة من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا أخريات الوادي . { قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها فصاحت صيحة نبهت بها ما بحضرتها من النمال فتبعتها ، فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم مع أنه لا يمتنع أن خلق الله سبحانه وتعالى فيها العقل والنطق . { لا يحطمنكم سليمان وجنوده } نهي لهم عن الحطم ، والمراد نهيها عن التوقف بحيث يحطمونها كقولهم : لا أرينك ها هنا ، فهو استئناف أو بدل من الأمر لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة . { وهم لا يشعرون } بأنهم يحطمونكم إذ لو شعروا لم يفعلوا كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإيذاء . وقيل استئناف أي فهم سليمان والقوم لا يشعرون .
{ حتّى } ابتدائية ، ومعنى الغاية لا يفارقها ، ولكنها مع الابتدائية غاية غيرُ نهاية .
و { إذا } ظرف زمان بمعنى حين ، وهو يقتضي فعلين بعدهُ يشبهان فعلي الشرط وجوابِه لأن { إذا } مضمَّنة معنى الشرط ، و { إذا } معمول لفعل جوابه ، وأما فعل شرطه فهو جملة مضاف إليها { إذا } . والتقدير : حتى قالت نملة حينَ أتوا على واد النمل . وواد النمل يجوز أن يكون مراداً به الجنس لأن للنمل شقوقاً ومسالك هي بالنسبة إليها كالأودية للساكنين من الناس ، ويجوز أن يراد به مكان مشتهر بالنمل غلب عليه هذا المضاف كما سمي وادي السباع موضع معلوم بين البصرة ومكة . قيل : واد النمل في جهة الطائف ، وقيل غير ذلك ، وكله غير ظاهر من سياق الآية .
و { النمل } : اسم جنس لحشرات صغيرة ذات ست أرجل تسكن في شقوق من الأرض . وهي أصناف متفاوتة في الحجم ، والواحد منه نملة بتاء الوحدة ، فكلمة نملة لا تدل إلا على فرد واحد من هذا النوع دون دلالة على تذكير ولا تأنيث فقوله : { نملة } مفاده : قال واحدٌ من هذا النوع .
واقتران فعله بتاء التأنيث جرى على مراعاة صورة لفظه لشبه هائه بهاء التأنيث وإنما هي علامة الوحدة ، والعرب لا يقولون : مشَى شاة ، إذا كان الماشي فحلاً من الغنم ، وإنما يقولون : مَشت شاة ، وطارت حمامة ، فلو كان ذلك الفرد ذكراً وكان مما يفرق بين ذكره وأنثاه في أغراض الناس وأرادوا بيان كونه ذكراً قالوا : طارت حمامة ذكر ، ولا يقولون طار حمامة ، لأن ذلك لا يفيد التفرقة . ألا ترى أنه لا يصلح أن يكون علامة على كون الفاعل أنثى ، ألا ترى إلى قول النابغة :
مَاذَا رُزئنا به من حَيَّة ذَكَر *** نَضناضة بالرزايا صِلِّ أصلال
فجاء باسم ( حية ) وهو اسم للجنس مقترن بهاء التأنيث ، ثم وصفه بوصف ذكر ثم أجرى عليه التأنيث في قوله : نضناضة ، لأنه صفة ل ( حية ) .
وفي حديث ابن عباس عن صلاة العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم « أقبلتُ راكباً على حمار أتان » فوصف ( حمارٍ ) الذي هو اسم جنس باسم خاص بأنثاه . ولذلك فاقتران فعل { قالت } هنا بعلامَة التأنيث لمراعاة اللفظ فقط ، على أنه لا يتعلق غرض بالتمييز بين أنثى النمل وذكره بلْه أن يتعلق به غرض القرآن لأن القصد وقوع هذا الحادث وبيان علم سليمان لا فيما دون ذلك من السفاسف .
وذكر في « الكشاف » : أن قتادة دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم ، وكان أبو حنيفة حاضراً وهو غلام حَدَث ، فقال لهم أبو حنيفة : سلوه عن نملة سليمان : أكانت ذكراً أم أنثى ؟ فسألوه ، فأفْحِم . فقال أبو حنيفة : كانت أنثى . فقيل له : من أين عرفت ؟ قال : من كتاب الله وهو قوله تعالى : { قالت نملة } ولو كانت ذكراً لقال : قال نملة .
قال في « الكشاف » : وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وُقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامةٍ نحو قولهم : حمامةٌ ذكر وحمامةٌ أنثى ، وقولِهم : وهُو وهِي . اه .
ولعل مراد صاحب « الكشاف » إن كان قَصَدَ تأييدَ قَولة أبي حنيفة أن يقاس على الوصف بالتذكير ما يقوم مقامه في الدلالة على التفرقة بين الذكر والأنثى فتقاس حالة الفعل على حالة الوصف ، إلا أن الزمخشري جاء بكلام غير صريح لا يدرى أهو تأييد لأبي حنيفة أم خروج من المضيق . فلم يُقدم على التصريح بأن الفعل يقترن بتاء التأنيث إذا أريد التفرقة في حالة فاعله . وقد رد عليه ابن المنيّر في « الانتصاف » وابن الحاجب في « إيضاح المفصّل » والقزويني في « الكشف على الكشاف » . ورأوا أن أبا حنيفة ذهل فيما قاله بأنه لا يساعد قول أحد من أيمة اللغة ولا يشهد به استعمال ولا سيما نحاة الكوفة ببلدِه فإنهم زادوا فجوزوا تأنيث الفعل إذا كان فعله علماً مؤنث اللفظ مثل : طلحة وحمزة . واعلم أن إمامة أبي حنيفة في الدين والشريعة لا تنافي أن تكون مقالته في العربية غير ضليعة . وأعجب من ذهول أبي حنيفة انفحام قتادة من مثل ذلك الكلام . وغالب ظني أن القصة مختلقة اختلاقاً غير متقن .
ويجوز أن يخلق الله لها دلالة وللنمل الذي معها فهما لها وأن يخلق فيها إلهاماً بأن الجيش جيشُ سليمان على سبيل المعجزة له .
والحطم : حقيقته الكسر لشيء صلب . واستعير هنا للرفس بجامع الإهلاك . و { لا يحطمنّكم } إن جعلت { لا } فيه ناهية كانت الجملة مستأنفة تكريراً للتحذير ودلالة على الفزع لأن المحذِّر من شيء مُفزِع يأتي بجمل متعددة للتحذير من فرط المخافة والنهي عن حطم سليمان إياهن كناية عن نهيهن عن التسبب فيه وإهمال الحذر منه كما يقال : لا أعرفنك تفعل كذا ، أي لا تفعله فأَعرِفَك بفعله ، والنون توكيد للنهي ؛ وإن جعلت { لا } نافية كانت الجملة واقعة في جواب الأمر فكان لها حكم جواب شرط مقدّر . فالتقدير : إن تدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان ، أي يَنْتفِ حطمُ سليمان إياكنّ ، وإلاّ حطمكم . وهذا مما جوّزه في « الكشاف » . وفي هذا الوجه كون الفعل مؤكداً بالنون وهو منفي ب { لا } وذلك جائز على رأي المحققين إلا أنه قليل . وأما من منعه من النحاة فيمنع أن تجعل { لا } نافية هنا . وصاحب « الكشاف » جعله من اقتران جواب الشرط بنون التوكيد لأن جواب الأمر في الحكم جواب الشرط وهو عنده أخف من دخولها في الفعل المنفي بناءً على أن النفي يضاد التوكيد .
وتسمية سليمان في حكاية كلام النملة يجوز أن تكون حكاية بالمعنى وإنما دلت دلالة النملة على الحذر من حطم ذلك المحاذي لواديها ، فلما حكيت دلالتها حكيتْ بالمعنى لا باللفظ ، ويجوز أن يكون قد خلق الله علماً في النملة علمت به أن المارّ بها يُدعى سليمان على سبيل المعجزة وخرق العادة .