هذه السورة هي الثامنة وثلاثون من سور القرآن الكريم ، وهي مكية وآياتها ثمان وثمانون آية . وقد صورت لنا لونا من عناد المشركين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وحسدهم على ما كرمه الله به من شرف الرسالة ونزول القرآن . فردت عليهم ما تعلقوا به من أوهام باطلة ، وبينت أن الذي حملهم على محاربة الدعوة ما هم فيه من أنفة كاذبة وحب للمخالفة والشقاق ، وأنه لو نزل بهم عذاب الله لما كان موقفهم من الرسول صلوات الله وسلامه عليه هذا الموقف . ثم ضرب الله الأمثال بالأمم السابقة ، ليكون ذلك زجرا لهم عن العناد واللجاج ، وتثبيتا لرسوله صلى الله عليه وسلم على ؟ إبلاغ الدعوة مهما يلاقي في سبيلها من عنت المشركين ومكرهم ، وليشكر الله على ما يفيء عليه من نعم ، كما فعل إخوانه من الأنبياء والمرسلين . وعقب هذا ذكر ما أعده الله للمتقين من حسب المآب ، وما أعده للطاغين من شر المآل ، ثم ذكرهم بما كان بين أبيهم آدم عليه السلام وعدوه إبليس ، ليعلموا أن ما يدعوهم إليه من التكبر عن اتباع الحق خلق من أخلاقه ، وأن هذا الاستكبار كان سببا لطرده من رحمة الله .
ص : حرف بدئت به السورة على طريقة القرآن في بدء بعض السور بالحروف المقطعة ، أقسم بالقرآن ذي الشرف والشأن العظيم إنه لحق لا ريب فيه .
بسم الله الرحمن الرحيم { ص } وقرئ بالكسر لالتقاء الساكنين ، وقيل إنه أمر من المصاداة بمعنى المعارضة ، ومنه الصدى فإنه يعارض الصوت الأول أي عارض القرآن بعملك ، وبالفتح لذلك أو لحذف حرف القسم وإيصال فعله إليه ، أو إضماره والفتح في موضع الجر فإنها غير مصروفة لأنها علم السورة وبالجر والتنوين على تأويل الكتاب . { والقرآن ذي الذكر } الواو للقسم إن جعل { ص } اسما للحرف أو مذكور للتحدي ، أو للرمز بكلام مثل صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، أو للسورة خبر المحذوف أو لفظ الأمر ، وللعطف إن جعل مقسما به كقولهم : الله لأفعلن بالجر والجواب محذوف دل عليه ما في { ص } من الدلالة على التحدي ، أو الأمر بالمعادلة أي إنه لمعجز أو لواجب العمل به ، أو إن محمدا صادق أو قوله :{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة مكية، تعالج من موضوعات السور المكية قضية التوحيد، وقضية الوحي إلى محمد [صلى الله عليه وسلم] وقضية الحساب في الآخرة. وتعرض هذه القضايا الثلاث في مطلعها الذي يؤلف الشوط الأول منها. وهو الآيات الكريمة التي فوق هذا الكلام. وهي تمثل الدهش والاستغراب والمفاجأة التي تلقى بها كبار المشركين في مكة دعوة النبي [صلى الله عليه وسلم] لهم إلى توحيد الله؛ وإخبارهم بقصة الوحي واختياره رسولاً من عند الله: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم. وقال الكافرون هذا ساحر كذاب، أجعل الآلهة إلهاً واحداً: إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم: أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق. أأنزل عليه الذكر من بيننا؟).. كما تمثل استهزاءهم واستنكارهم لما أوعدهم به جزاء تكذيبهم من عذاب: (وقالوا: ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب)..
لقد استكثروا أن يختار الله -سبحانه- رجلاً منهم، لينزل عليه الذكر من بينهم. وأن يكون هذا الرجل هو محمد بن عبد الله. الذي لم تسبق له رياسة فيهم ولا إمارة! ومن ثم ساءلهم الله في مطلع السورة تعقيباً على استكثارهم هذا واستنكارهم وقولهم: (أأنزل عليه الذكر من بيننا) ساءلهم: (أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب؟ أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما؟ فليرتقوا في الأسباب).. ليقول لهم: إن رحمة الله لا يمسكها شيء إذا أراد الله أن يفتحها على من يشاء. وإنه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض، وإنما يفتح الله من رزقه ورحمته على من يشاء وإنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير، وينعم عليهم بشتى الإنعامات بلا قيد ولا حد، ولا حساب.. وفي هذا السياق جاءت قصة داود وقصة سليمان؛ وما أغدق الله عليهما من النبوة والملك، ومن تسخير الجبال والطير، وتسخير الجن والريح، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع.
وهما -مع هذا كله- بشر من البشر؛ يدركهما ضعف البشر وعجز البشر؛ فتتداركهما رحمة الله ورعايته، وتسد ضعفهما وعجزهما، وتقبل منهما التوبة والإنابة، وتسدد خطاهما في الطريق إلى الله.
وجاء مع القصتين توجيه النبي [صلى الله عليه وسلم] إلى الصبر على ما يلقاه من المكذبين، والتطلع إلى فضل الله ورعايته كما تمثلهما قصة داود وقصة سليمان: (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب...) الخ..
كذلك جاءت قصة أيوب تصور ابتلاء الله للمخلصين من عباده بالضراء. وصبر أيوب مثل في الصبر رفيع. وتصور حسن العاقبة، وتداركه برحمة الله، تغمره بفيضها، وتمسح على آلامه بيدها الحانية.. وفي عرضها تأسية للرسول [صلى الله عليه وسلم] وللمؤمنين، عما كانوا يلقونه من الضر والبأساء في مكة؛ وتوجيه إلى ما وراء الابتلاء من رحمة، تفيض من خزائن الله عندما يشاء.
وهذا القصص يستغرق معظم السورة بعد المقدمة، ويؤلف الشوط الثاني منها.
كذلك تتضمن السورة رداً على استعجالهم بالعذاب، وقولهم: (ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب).. فيعرض بها -بعد القصص- مشهد من مشاهد القيامة، يصور النعيم الذي ينتظر المتقين. والجحيم التي تنتظر المكذبين. ويكشف عن استقرار القيم الحقيقية في الآخرة بين هؤلاء وهؤلاء. حين يرى الملأ المتكبرون مصيرهم ومصير الفقراء الضعاف الذين كانوا يهزأون بهم في الأرض ويسخرون، ويستكثرون عليهم أن تنالهم رحمة الله، وهم ليسوا من العظماء ولا الكبراء. وبينما المتقون لهم حسن مآب (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب، متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب. وعندهم قاصرات الطرف أتراب).. فإن للطاغين لشر مآب (جهنم يصلونها فبئس المهاد. هذا فليذوقوه حميم وغساق، وآخر من شكله أزواج).. وهم يتلاعنون في جهنم ويتخاصمون، ويذكرون كيف كانوا يسخرون بالمؤمنين: (وقالوا: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار. أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار؟) فإنهم لا يجدونهم في جهنم. وقد عُرف أنهم هنالك في الجنان! فهذا هو جواب ذلك الاستعجال والاستهزاء!
وهذا المشهد يؤلف الشوط الثالث في السورة.
كما يرد على استنكارهم لما يخبرهم به الرسول [صلى الله عليه وسلم] من أمر الوحي. ويتمثل هذا الرد في قصة آدم في الملأ الأعلى. حيث لم يكن النبي [صلى الله عليه وسلم] حاضراً؛ إنما هو إخبار الله له بما كان، مما لم يشهده -غير آدم- إنسان.. وفي ثنايا القصة يتبين أن الذي أردى إبليس، وذهب به إلى الطرد واللعنة، كان هو حسده لآدم -عليه السلام- واستكثاره أن يؤثره الله عليه ويصطفيه. كما أنهم هم يستكثرون على محمد [صلى الله عليه وسلم] أن يصطفيه الله من بينهم بتنزيل الذكر؛ ففي موقفهم شبه واضح من موقف إبليس المطرود اللعين!
وتختم السورة بختام هذا الشوط الرابع والأخير فيها؛ بقول النبي [صلى الله عليه وسلم] لهم: إن ما يدعوهم إليه لا يتكلفه من عنده، ولا يطلب عليه أجراً، وإن له شأناً عظيماً سوف يتجلى: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين. إن هو إلا ذكر للعالمين. ولتعلمن نبأه بعد حين)..
هذه الأشواط الأربعة التي تجري بموضوعات السورة هذا المجرى؛ تجول بالقلب البشري في مصارع الغابرين، الذين طغوا وتجبروا واستعلوا على الرسل والمؤمنين، ثم انتهوا إلى الهزيمة والدمار والخذلان: (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب. كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد. وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب. إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب)..
تعرض على القلب البشري هذه الصفحة. صفحة الهزيمة والدمار والهلاك للطغاة المكذبين. ثم تعرض بإزائها صفحة العز والتمكين والرحمة والرعاية لعباد الله المختارين، في قصص داود وسليمان وأيوب.
هذا وذلك في واقع الأرض.. ثم تطوف بهذا القلب في يوم القيامة وما وراءه من صور النعيم والرضوان. وصور الجحيم والغضب. حيث يرى لوناً آخر مما يلقاه الفريقان في دار البقاء. بعدما لقياه في دار الفناء..
والجولة الأخيرة في قصة البشرية الأولى وقصة الحسد والغواية من العدو الأول، الذي يقود خطى الضالين عن عمد وعن سابق إصرار. وهم غافلون.
كذلك ترد في ثنايا القصص لفتة تلمس القلب البشري وتوقظه إلى الحق الكامن في بناء السماء والأرض. وأنه الحق الذي يريد الله بإرسال الرسل أن يقره بين الناس في الأرض. فهذا من ذلك: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً).. وهي لفتة لها في القرآن نظائر. وهي حقيقة أصيلة من حقائق هذه العقيدة التي هي مادة القرآن المكي الأصيلة..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة والآثار عن السلف {سورة صاد} كما ينطق باسم حرف الصاد تسمية لها بأول كلمة منها هي صاد (بصاد فألف فدال ساكنة سكون وقوف) شأن حروف التهجي عند التهجي بها أن تكون موقوفة، أي ساكنة الأعجاز...
جاءت فاتحتها مناسبة لجميع أغراضها إذ ابتدئت بالقسم بالقرآن الذي كذب به المشركون، وجاء المقسم عليه أن الذين كفروا في عزة وشقاق وكل ما ذكر فيها من أحوال المكذبين سببه اعتزازهم وشقاقهم، ومن أحوال المؤمنين سببه ضد ذلك، مع ما في الافتتاح بالقسم من التشويق إلى ما بعده فكانت فاتحتها مستكملة خصائص حسن الابتداء...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
فصول السورة وآياتها مترابطة منسجمة ومتوازنة، مما يدل على وحدة نزولها أو تلاحق فصولها في النزول، وفيها قرائن على صحة ترتيب نزولها وبخاصة بعد سورتي القمر وق...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... وقوله:"والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ" هذا قسم أقسمه الله تبارك وتعالى بهذا القرآن فقال: والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ذِي الذّكْرِ"؛
فقال بعضهم: معناه: ذي الشرف...
وقال بعضهم: بل معناه: ذي التذكير، ذكّركمُ الله به... وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ذي التذكير لكم، لأن الله أتبع ذلك قولَه: "بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزّةٍ وَشِقاقٍ "فكان معلوما بذلك أنه إنما أخبر عن القرآن أنه أنزله ذكرا لعباده ذكّرهم به، وأن الكفار من الإيمان به في عزّة وشقاق.
واختلف في الذي وقع عليه اسم القسم؛
فقال بعضهم: وقع القسم على قوله: "بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزّةٍ وَشِقاقٍ"...
وكان بعض أهل العربية يقول: «بل» دليل على تكذيبهم، فاكتفى ببل من جواب القسم، وكأنه قيل: ص، ما الأمر كما قلتم، بل أنتم في عزّة وشقاق. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: زعموا أن موضع القسم في قوله: "إنْ كُلٌ إلاّ كَذّبَ الرّسُلَ". وقال بعض نحويي الكوفة: قد زعم قوم أن جواب "والقُرآنِ" قوله: "إنّ ذلكَ لَحَقّ تَخاصُمُ أهْلِ النّارِ"، قال: وذلك كلام قد تأخر عن قوله: "والقُرآنِ" تأخرا شديدا، وجرت بينهما قصص مختلفة، فلا نجد ذلك مستقيما في العربية، والله أعلم.
قال: ويقال: إن قوله: "والقُرآنِ" يمين اعترض كلام دون موقع جوابها، فصار جوابها للمعترض ولليمين، فكأنه أراد: والقرآن ذي الذكر، لَكَمْ أهلكنا، فلما اعترض قوله "بَل الّذِينَ كَفَرُوا فِي عزّةٍ" صارت كم جوابا للعزّة واليمين. قال: ومثله قوله: "والشّمْسِ وضُحاها" اعترض دون الجواب قوله: "وَنَفْسٍ وَما سَوّاها فأَلْهَمَها" فصارت قد أفلح تابعة لقوله: فألهمها، وكفى من جواب القسم، فكأنه قال: والشمس وضحاها لقد أفلح.
والصواب من القول في ذلك عندي... أن قوله: "بَلْ" لما دلّت على التكذيب وحلّت محلّ الجواب، استغني بها من الجواب، إذ عُرف المعنى، فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك: "ص والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ" ما الأمر كما يقول هؤلاء الكافرون، "بل هم في عزّة وشقاق".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ص}...إنما هو من فواتح السور...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أحدهما: أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدّي والتنبيه على الإعجاز كما مرّ في أوّل الكتاب، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدّي عليه، كأنه قال: {والقرءان ذِي الذكر} إنه لكلام معجز.
والثاني: أن يكون {ص} خبر مبتدأ محذوف على أنها اسم للسورة كأنه قال: هذه ص، يعني: هذه السورة التي أعجزت العرب، والقرآن ذي الذكر، كما تقول: هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء والله؛ وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمت بص والقرآن ذي الذكر إنه لمعجز.
ثم قال: بل الذين كفروا في عزة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق وشقاق لله ورسوله. وإذا جعلتها مقسماً بها وعطفت عليها {والقرءان ذِي الذكر} جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله، وأن تريد السورة بعينها؛ ومعناه: أقسم بالسورة الشريفة والقرآن ذي الذكر كما تقول: مررت بالرجل الكريم وبالنسمة المباركة، ولا تريد بالنسمة غير الرجل.
الذكر: الذكرى والموعظة، أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع وغيرها، كأقاصيص الأنبياء والوعد والوعيد.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الضحاك: ذي الشرف أي من آمن به كان شرفا له في الدارين، كما قال تعالى:"لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم" [الأنبياء: 10] أي شرفكم.
وأيضا القرآن شريف في نفسه لإعجازه واشتماله على ما لا يشتمل عليه غيره. وقيل: "ذي الذكر "أي فيه ذكر أسماء الله وتمجيده.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
هذه حروف يراد بها تنبيه المخاطب للإصغاء إلى ما يراد بعده من الكلام لأهميته نحو ألا، ويا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الحرف من صنعة الله تعالى فهو موجده، موجده صوتاً في حناجر البشر؛ وموجده حرفاً من حروف الهجاء التي يتألف من جنسها التعبير القرآني وهي في متناول البشر ولكن القرآن ليس في متناولهم لأنه من عند الله، وهذا الصوت
(صاد) الذي تخرجه حنجرة الإنسان، إنما يخرج هكذا من هذه الحنجرة بقدرة الخالق المبدع، الذي صنع الحنجرة وما تخرجه من أصوات، وما يملك البشر أن يصنعوا مثل هذه الحنجرة الحية التي تخرج هذه الأصوات! وإنها لمعجزة خارقة لو كان الناس يتدبرون الخوارق المعجزة في كل جزئية من جزئيات كيانهم القريب! ولو عقلوها ما دهشوا لوحي يوحيه الله لبشر يختاره منهم، فالوحي ليس أكثر غرابة من إيداع تكوينهم هذه الخصائص المعجزات! صاد. والقرآن ذي الذكر..
والقرآن يشتمل الذكر كما يشتمل غيره من التشريع والقصص والتهذيب.. ولكن الذكر والاتجاه إلى الله هو الأول. وهو الحقيقة الأولى في هذا القرآن. بل إن التشريع والقصص وغيرهما إن هي إلا بعض هذا الذكر. فكلها تذكر بالله وتوجه القلب إليه في هذا القرآن. وقد يكون معنى ذي الذكر. أي المذكور المشهور. وهو وصف أصيل للقرآن.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ص} القول في هذا الحرف كالقول في نظائره من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل بعض السور بدون فرق أنها مقصودة للتهجِّي تحدِّياً لبلغاء العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن وتورُّكاً عليهم إذ عجزوا عنه...
{والقرءان ذِي الذِّكْرِ}، الواو للقسم أقسم بالقرآن قسَم تنويه به. ووصف ب {ذِي الذِّكر} لأن {ذي} تضاف إلى الأشياء الرفيعة فتجري على متصف مقصود التنويه به.
و {الذكر}: التذكير، أي تذكير الناس بما هم عنه غافلون. ويجوز أن يراد بالذكر ذكر اللسان وهو على معنى: الذي يُذكر، بالبناء للنائب، أي والقرآن المذكور، أي الممدوح المستحِق الثناء على أحد التفسيرين في قوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم} [الأنبياء: 10] أي شرفكم.
وقد تردد المفسرون في تعيين جواب القسم على أقوال سبعة أو ثمانية وأحسن ما قيل فيه هنا أحد وجهين: أولهما أن يكون محذوفاً دلّ عليه حرف {ص} فإن المقصود منه التحدّي بإعجاز القرآن وعجزهم عن معارضته بأنه كلام بلُغتهم ومؤلَّفٌ من حروفها فكيف عجزوا عن معارضته. فالتقدير: والقرآن ذي الذكر إنه لمن عند الله لهذا عجزتم عن الإِتيان بمثله.
وثانيهما: الذي أرى أن الجواب محذوف أيضاً دل عليه الإِضراب الذي في قوله: {بَلِ الذين كفروا في عزَّة وشِقَاقٍ} [ص: 2] بعد أن وُصف القرآن ب {ذِي الذِّكر}، لأن ذلك الوصف يشعر بأنه ذِكر ومُوقظ للعقول فكأنه قيل: إنه لذكر ولكن الذين كفروا في عزة وشقاق يجحدون أنه ذكر ويقولون: سِحر مفترىً وهم يعلمون أنه حق كقوله تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللَّه يجحدون} [الأنعام: 33]، فجواب القسم محذوف يدل عليه السياق، وليس حرف {ص} هو المقسم عليه مقدماً على القسم، أي ليس دليلُ الجواب من اللفظ بل من المعنى والسياق.
والغرض من حذف جواب القسم هنا الإِعراض عنه إلى ما هو أجدر بالذكر وهو صفة الذين كفروا وكذبوا القرآن عناداً أو شقاقاً منهم.
... معنى {ذِي الذِّكْرِ} أي: صاحب الذكر، وكلمة الذكر تُطلَق على معان عدة...
فكلمة الذكر تطلق على القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] ويُطلق الذكر على كتب الرسل السابقين، كما في قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
ويُطلق الذكر على الصِّيت والسمعة، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44] أي: القرآن.
وفي قوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ..} [الأنبياء: 10] وما ارتفع العرب ولا علَتْ لغتهم إلا لأنها لغة القرآن.
ويُطلق الذكر أيضاً على التذكُّر، كما في قوله تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ..} [يوسف: 42].
ويُطلق الذكر على التسبيح، كما في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 36-37].
ويُطلق الذكر على معنى آخر، هو العطاء الجيد من الله، والعمل الطيِّع من العبد.
إذن: فلفظ الذكر أشبه في القرآن بالماسة تتلألأ في يدك، كلما قلَّبتها وجدتَ لها بريقاً. فكلُّ هذه المعاني تدخل تحت قوله تعالى: {صۤ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يقسم الله تعالى بالقرآن ذي الذكر والذي هو حقّاً معجزة إلهيّة (والقرآن ذي الذكر). فالقرآن ذكر ويشتمل على الذكر، والذكر يعني التذكير وصقل القلوب من صدأ الغفلة، تذكّر الله، وتذكّر نعمه، وتذكّر محكمته الكبرى يوم القيامة، وتذكّر هدف خلق الإنسان، فالنسيان والغفلة هما من أهمّ عوامل تعاسة الإنسان، والقرآن الكريم خير دواء لعلاجهما. فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين في الآية (67) من سورة التوبة: (نسوا الله فنسيهم) أي إنّهم نسوا الله، والله في المقابل نسيهم وقطع رحمته عنهم. ونقرأ في نفس هذه السورة الآية (26) عن الضالّين، قوله تعالى: (إنّ الذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب). نعم، فالنسيان هو الابتلاء الكبير الذي ابتلي به الضالّون والمذنبون، حتّى إنّهم نسوا أنفسهم وقيمة وجودها، كما قال القرآن الكريم: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون).