يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة : أنه يحاسب كل أمة بإمامهم .
وقد اختلفوا في ذلك ، فقال مجاهد وقتادة : أي بنبيهم . وهذا كقوله : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [ يونس : 47 ] .
وقال بعض السلف : هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث ؛ لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن زيد : بكتابهم الذي أنزل على نبيهم ، من التشريع .
واختاره ابن جرير ، وروي عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أنه قال : بكتبهم . فيحتمل أن يكون أراد هذا ، وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أي : بكتاب أعمالهم ، وكذا قال أبو العالية ، والحسن ، والضحاك . وهذا القول هو الأرجح ؛ لقوله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [ يس : 12 ] . وقال تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] .
وقال تعالى : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 28 ، 29 ] .
وهذا لا ينافي{[17686]} أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته ، فإنه لا بد أن يكون شاهدا عليها بأعمالها ، كما قال : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر : 69 ] ، وقال { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [ النساء : 41 ] . .
ولكن المراد هاهنا بالإمام{[17687]} هو كتاب الأعمال ؛ ولهذا قال تعالى : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ } أي : من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح ، يقرؤه ويحب قراءته ، كما قال تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } إلى أن قال : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 19 - 26 ] . .
وقوله : { وَلا يُظْلَمُونَ{[17688]} فَتِيلا } قد تقدم أن " الفتيل " هو الخيط المستطيل في شق النواة .
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا في هذا فقال : حدثنا محمد بن يَعْمَر{[17689]} ومحمد بن عثمان بن كرامة قالا حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السُّدِّيّ ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } قال : " يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ، ويمد له في جسمه ، ويُبَيَّض وجهه ، ويجعل على رأسه تاج من لؤْلؤة تَتَلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد ، فيقولون : اللهم ائتنا{[17690]} بهذا ، وبارك لنا في هذا . فيأتيهم فيقول لهم : أبشروا ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا . وأما الكافر فَيُسْود وجهه ، ويمدّ له في جسمه ، ويراه أصحابه فيقولون : نعوذ بالله من هذا - أو : من شر هذا - اللهم لا تأتنا به . فيأتيهم فيقولون : اللهم اخزه{[17691]} فيقول : أبعدكم الله ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا " .
ثم قال البزار : لا يروى إلا من هذا الوجه{[17692]} .
وقوله تعالى { يوم ندعو } الآية ، يحتمل قوله { يوم } أن يكون منصوباً على الظرف ، والعامل فيه : فعل مضمر تقديره أنكر{[7638]} ، أو فعل يدل عليه ، قوله { ولا يظلمون } تقديره «ولا يظلمون يوم ندعو » . ثم فسره { يظلمون } الأخير ، ويصح أن يعمل فيه { وفضلناهم } ، وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيّن ، لأنهم المنعمون المكلمون المحاسبون الذين لهم القدر ، إما أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان ، إذ يقول الكافر ؛ يا ليتني كنت تراباً{[7639]} ، ولا يعمل فيه { ندعو } لأنه مضاف إليه ، ويحتمل أن يكون { يوم } منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله { فمن أوتي } إلى قوله { ومن كان }{[7640]} . وقرأ الجمهور «ندعو » بنون العظمة ، وقرأ مجاهد «يدعو » ، بالياء على معنى يدعو الله ورويت عن عاصم .
وقرأ الحسن «يُدعو » بضم الياء وسكون الواو ، وأصلها يدعى ولكنها لغة لبعض العرب ، يقلبون هذه الألف واواً ، فيقولون افعو حبلو{[7641]} ، ذكرها أبو الفتح وأبو علي في ترجمة أعمى بعد وقرأ الحسن : «كل » بالرفع ، على معنى يدعى كل ، وذكر أبو عمرو الداني عن الحسن ، أنه قرأ «يدعى كل » { أناس } اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وقوله { بإمامهم } يحتمل أن يريد باسم إمامهم ، ويحتمل أن يريد مع إمامهم ، فعلى التأويل الأول : يقال يا أمة محمد ، ويا أتباع فرعون ، ونحو هذا ، وعلى التأويل الثاني : تجيء كل أمة معها إمامها ، من هاد أو مضل ، واختلف المفسرون في «الإمام » ، فقال مجاهد وقتادة : نبيهم ، وقال ابن زيد كتابهم الذي نزل عليهم ، وقال ابن عباس والحسن : كتابهم الذي فيه أعمالهم ، وقالت فرقة : متبعهم ، من هاد أو مضل ، ولفظة «الإمام » تعم هذا كله ، لأن الإمام هو ما يؤتم به ويهتدي به في المقصد ، ومنه قيل لخيط البناء إمام ، قال الشاعر يصف قدحاً : [ الطويل ]
وقومته حتى إذا تم واستوى . . . كمخة ساق أو كمتن إمام{[7642]}
ومنه قيل للطريق إمام ، لأنه يؤتم به في المقاصد حتى ينهي إلى المراد وقوله : { فمن أوتي كتابه بيمينه } حقيقة في أن يوم القيامة صحائف تتطاير وتوضع في الأيمان لأهل الإيمان ، وفي الشمائل لأهل الكفر ، وتوضع في أيمان المذنبين الذين ينفذ عليهم الوعيد ، فسيستفيدون منها أنهم غير مخلدين في النار ، وقوله { يقرؤون كتابهم } عبارة عن السرور بها أي يرددنها ويتأملونها ، وقوله { ولا يظلمون فتيلاً } أي ولا أقل ولا أكثر ، فهذا هو مفهوم الخطاب حكم المسكوت عنه كحكم المذكور . كقوله تعالى { فلا تقل لهما أف }{[7643]} وكقوله { إن الله لا يظلم مثقال ذرة }{[7644]} وهذا كثير ومعنى الآية : أنهم لا يبخسون من جزاء أعمالهم الصالحة شيئاً ، و «الفتيل » هو الخيط الذي في شق نواة التمرة يضرب به المثل في القلة وتفاهة القدر .