213- وإنَّ الناس طبيعة واحدة فيها الاستعداد للضلالة ، ومنهم من تستولي عليه أسباب الهداية ، ومنهم من تغلب عليه الضلالة ، ولذلك اختلفوا ، فبعث الله إليهم الأنبياء هداة ومبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتب مشتملة على الحق ، لتكون هي الحكم بين الناس فينقطع التنازع ، ولكن الذين انتفعوا بهدى النبيين هم الذين آمنوا فقط ، والذين هداهم الله في موضع الاختلاف إلى الحق ، والله هو الذي يوفق أهل الحق إذا أخلصوا .
قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو داود ، أخبرنا هَمَّام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان بين نوح وآدم{[3739]} عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق . فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله : " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا " .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث بُنْدَار عن محمد بن بشار . ثم قال : صحيح ولم يخرجاه{[3740]} .
وكذا روى أبو جعفر الرازي ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : أنه كان يقرؤها : " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّيِّنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ " .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } قال : كانوا على الهدى جميعًا ، " فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين منذرين " فكان أول نَبي بعث نوحًا . وهكذا قال مجاهد ، كما قال ابن عباس أولا .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } يقول : كانوا كفارًا ، { فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ }
والقول الأول عن ابن عباس أصح سندًا ومعنى ؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم ، عليه السلام ، حتى عبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم نوحًا ، عليه السلام ، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض .
ولهذا قال : { وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ }
أي : من بعد ما قامت عليهم الحجج وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض ، { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
وقال عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة في قوله : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن الآخرون الأولون{[3741]} يوم القيامة ، نحن أوّلُ الناس دخولا الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، فهدانا له {[3742]} فالناس لنا فيه تبع ، فغدًا لليهود ، وبعد غد للنصارى " .
ثم رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة{[3743]} .
وقال ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه في قوله : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } فاختلفوا في يوم الجمعة ، فاتخذ اليهود يوم السبت ، والنصارى يوم الأحد . فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة . واختلفوا في القبلة ؛ فاستقبلت النصارى المشرق ، واليهود بيت المقدس ، فهدى الله أمة محمد للقبلة . واختلفوا في الصلاة ؛ فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك . واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم بعض النهار ، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك . واختلفوا في إبراهيم ، عليه السلام ، فقالت اليهود : كان يهوديًا ، وقالت النصارى : كان نصرانيًا ، وجعله الله حنيفًا مسلمًا ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك . واختلفوا في عيسى ، عليه السلام ، فكذّبت به اليهود ، وقالوا لأمه بهتانًا عظيمًا ، وجعلته النصارى إلهًا وولدًا ، وجعله الله روحه ، وكلمته ، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك .
وقال الربيع بن أنس في قوله : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } أي : عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف ، أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده ، وعبادته لا شريك له ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف ، واعتزلوا الاختلاف ، وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهودًا{[3744]} على قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وآل فرعون ، أنّ رسلهم قد بلغوهم ، وأنهم قد كذبوا رسلهم .
وفي{[3745]} قراءة أبي بن كعب : " وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " ، وكان أبو العالية يقول : في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن .
وقوله : { بِإِذْنِهِ } أي : بعلمه ، بما هداهم له . قاله ابن جرير : { وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي : منْ خلقه { إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : وله الحكم{[3746]} والحجة البالغة . وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول : " اللهم ، رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم{[3747]} بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلفَ فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " {[3748]} . وفي الدعاء المأثور : اللهم ، أرنا الحق حَقّا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا ووفّقنا لاجتنابه ، ولا تَجْعَلْه ملتبسًا علينا فنضل ، واجعلنا للمتقين إمامًا .
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 213 )
قال أبي بن كعب وابن زيد : المراد ب { الناس } بنو آدم حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم ، أي كانوا على الفطرة .
وقال مجاهد : «الناس آدم وحده »( {[1983]} ) .
وقال ابن عباس وقتادة : { الناس } القرون التي كانت بين آدم ونوح ، وهي عشرة ، كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله تعالى نوحاً فمن بعده .
وقال قوم : الناس نوح ومن في سفينته ، كانوا مسلمين ثم بعد ذلك اختلفوا( {[1984]} ) .
وقال ابن عباس أيضاً : كان الناس أمة واحدة كفاراً ، يريد في مدة نوح حين بعثه الله( {[1985]} ) ، و { كان } على هذه الأقوال هي على بابها من المضي المنقضي ، وتحتمل الآية معنى سابعاً وهو أن يخبر عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق . لولا منّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم ، ف { كان } على هذا الثبوت لا تختص بالمضي فقط ، وذلك كقوله تعالى : { وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 96-99-100-152 ، الفرقان : 70 ، الأحزاب : 5 - 59 ، الفتح : 14 ] ، والأمة الجماعة على المقصد الواحد ، ويسمى الواحد أمة إذا كان منفرداً بمقصد ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قس بن ساعدة : «يحشر يوم القيامة أمة وحده »( {[1986]} ) ، وقرأ أبي كعب «كان البشر أمة واحدة » ، وقرأ ابن مسعود «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث » ، وكل من قدر { الناس } في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا( {[1987]} ) ، وكل من قدرهم كفاراً كانت بعثة { النبيين } إليهم( {[1988]} ) ، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة نوح ، لأن الناس يقولون له : أنت أول الرسل ، والمعنى إلى تقويم كفار وإلا فآدم مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان ، و { مبشرين } معناه بالثواب على الطاعة ، و { منذرين } معناه من العقاب على المعاصي ، ونصب اللفظتين على الحال ، و { الكتاب } اسم الجنس ، والمعنى جميع الكتب .
وقال الطبري : «الألف واللام في الكتاب للعهد ، والمراد التوارة » ، و { ليحكم } مسند إلى الكتاب في قول الجمهور .
وقال قوم : المعنى ليحكم الله( {[1989]} ) ، وقرأ الجحدري( {[1990]} ) «ليُحَكم » على بناء الفعل للمفعول ، وحكى عنه مكي «لنحكم » .
قال القاضي أبو محمد : وأظنه تصحيفاً لأنه لم يحك عنه البناء للمفعول كما حكى الناس ، والضمير في { فيه } عائد على { ما } من قوله : { فيما } ، والضمير في { فيه } الثانية يحتمل العود على الكتاب ويحتمل على الضمير الذي قبله ، والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له ، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه تعالى على الشنعة في فعلهم والقبح الذي واقعوه . و { البينات } الدلالات والحجج ، و { بغياً } منصوب على المفعول له ، والبغي التعدي بالباطل ، و { هدى } معناه أرشد ، وذلك خلق الإيمان في قلوبهم ، وقد تقدم ذكر وجوه الهدى في سورة الحمد ، والمراد ب { الذين آمنوا } .
من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم .
فقالت طائفة : معنى الآية : أن الأمم كذب( {[1991]} ) بعضهم كتاب بعض فهدى الله أمة محمد التصديق بجميعها .
وقالت طائفة : إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين من قولهم : إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً .
وقال ابن زيد : من قبلتهم ، فإن قبلة اليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق ، ومن يوم الجمعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ، فلليهود غد ، وللنصارى بعد غد »( {[1992]} ) ، ومن صيامهم( {[1993]} ) وجميع ما اختلفوا فيه .
وقال الفراء : في الكلام قلب ، واختاره الطبري ، قال : وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه . ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه وعساه غير الحق في نفسه ، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء .
قال القاضي أبو محمد : وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز( {[1994]} ) وسوء نظر ، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ورصفه ، لأن قوله { فهدى } يقتضي أنهم أصابوا الحق ، وتم المعنى في قوله { فيه } ، وتبين بقوله { من الحق } جنس ما وقع الخلاف فيه .
قال المهدوي : «وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماماً ، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وليس هذا عندي بقوي ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «لما اختلفوا عنه من الحق » أي عن الإسلام .
و { بإذنه } قال الزجّاج : معناه بعلمه ، وقيل : بأمره ، والإذن( {[1995]} ) هو العلم والتمكين ، فإن اقترن بذلك أمر صار أقوى من الإذن بمزية ، وفي قوله تعالى : { والله يهدي من يشاء } رد على المعتزلة في قولهم إن العبد يستبد بهداية نفسه .