سبب قول موسى [ عليه السلام ]{[18305]} لفتاه - وهو يُشوع بن نُون - هذا الكلام : أنه ذكر له أن عبدًا من عباد الله بمجمع البحرين ، عنده من العلم ما لم يحط به موسى ، فأحب الذهاب إليه ، وقال لفتاه ذلك : { لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } أي لا أزال سائرًا حتى أبلغ هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين ، قال الفرزدق :
فَمَا بَرحُوا حَتَّى تَهَادَتْ نسَاؤهُم *** بِبَطْحَاء ذي قار عيابَ اللطَائم{[18306]}
قال قتادة وغير واحد : وهما بحر فارس مما يلي المشرق ، وبحر الروم مما يلي المغرب .
وقال محمد بن كعب القُرظي : مجمع البحرين عند طنجة ، يعني في أقصى بلاد المغرب ، فالله أعلم .
وقوله : { أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } أي : ولو أني أسير حقبًا من الزمان .
قال ابن جرير ، رحمه الله : ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحُقُب في لغة قيس{[18307]} : سنة . ثم قد روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : الحُقُب ثمانون سنة . وقال مجاهد : سبعون خريفًا . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } قال : دهرًا . وقال قتادة ، وابن زيد ، مثل ذلك .
{ وإذ قال موسى } مقدر باذكر . { لِفتاه } يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام فإنه كان يخدمه ويتبعه ولذلك سماه فتاه وقيل لعبده . { لا أبرح } أي لا أزال أسير فحذف الخبر لدلالة حاله وهو السفر وقوله : { حتى أبلُغ مجمع البحرين } من حيث إنها تستدعي ذا غاية عليه ، ويجوز أن يكون أصله لا يبرح مسيري حتى أبلغ على أن حتى أبلغ هو الخبر ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فانقلب الضمير والفعل وأن يكون { لا أبرح } هو بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه فلا يستدعي الخبر ، و{ مجمع البحرين } ملتقى بحري فارس ولروم مما يلي المشرق وُعد لقاء الخضر فيه . وقيل البحران موسى وخضر عليهما الصلاة والسالم فإن موسى كان بحر علم الظاهر والخضر كان بحر علم الباطن . وقرئ " مِجْمَع " بكسر الميم على الشذوذ من يفعل كالمشرق والمطلع { أو امضي حُقباً } أو أسير زمانا طويلا ، والمعنى حتى يقع إما بلوغ المجمع أو مضي الحقب أو حتى أبلغ إلا أن أمضي زمانا أتيقن معه فوات المجمع ، والحقب الدهر وقيل ثمانون سنة وقيل سبعون . روي : أن موسى عليه الصلاة والسلام خطب الناس بعد هلاك القبط ودخوله مصر خطبة بليغة فأعجب بها فقيل له : هل تعلم أحدا أعلم منك فقال : لا ، فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبدنا الخضر وهو بمجمع البحرين ، وكان الخضر في أيام افريدون وكان على مقدمة ذي القرني الأكبر وبقي إلى أيام موسى . وقيل إن موسى عليه السلام سأل ربه أي عبادك أحب إليك قال الذي يذكرني ولا ينساني ، قال فأي عبادك أقضى ، قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى ، قال فأي عبادك أعلم قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ، فقال إن كان في عبادك أعلم مني فادللني عليه ، قال أعلم منك الخضر قال : أين أطلبه ، قال على الساحل عند الصخرة ، قال كيف لي به قال تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك ، فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان .
وقوله { وإذ قال موسى } الآية ابتداء قصة ليست من الكلام الأول ، المعنى : اذكر واتل ، و { موسى } هو موسى بن عمران بمقتضى الأحاديث والتواريخ وبظاهر القرآن ، إذ ليس في القرآن موسى غير واحد ، وهو ابن عمران ولو كان في هذه الآية غيره لبينه ، وقالت فرقة منها نوف البكالي أنه ليس موسى بن عمران ، وهو موسى بن مشنى ، ويقال ابن منسى ، وأما «فتاه » فعلى قول من قال موسى بن عمران ، فهو يوشع بن نون بن إفراييل بن يوسف بن يعقوب ، وأما من قال هو موسى بن مشنى فليس الفتى يوشع بن نون ، ولكنه قول غير صحيح ، رده ابن عباس وغيره و «الفتي » في كلام العرب الشاب ، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتياناً ، قيل للخادم فتى ، على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم :
«لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي »{[7841]} ، فهذا اندب إلى التواضع ، و «الفتى » في الآية هو الخادم ، ويوشع بن نون يقال هو ابن أخت موسى عليه السلام ، وسبب هذه القصة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى جلس يوماً في مجلس لبني إسرائيل ، وخطب فأبلغ ، فقيل له هل تعلم أحداً أعلم منك قال لا ، فأوحى الله إليه بلى : عبدنا خضر{[7842]} ، فقال يا رب دلني على السبيل إلى لقيه{[7843]} ، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ { مجمع البحرين } فإذا فقدت الحوت فإنه هنالك ، وأمر أن يتزود حوتاً ، ويرتقب زواله عنه ، ففعل موسى ذلك وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة { لا أبرح } أسير ، أي لا أزال ، وإنما قال هذه المقالة وهو سائر ، ومن هذا قول الفرزدق : [ الطويل ]
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم . . . ببطحاء ذي قار عياب اللطائم{[7844]}
وذكر الطبري عن ابن عباس : قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر ، أنزل قومه بمصر ، فلما استقرت الحال خطب يوماً ، فذكر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل ، ثم ذكر نحو ما تقدم ، وما مر بي قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام ، وما أراه يصح ، بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين ، وفي هذه القصة من الفقه الرحلة في طلب العلم ، والتواضع للعالم ، وقرأ الجمهور «مَجمَع » بفتح الميمين ، وقرأ الضحاك «مَجمِع » بكسر الميم الثانية ، واختلف الناس في { مجمع البحرين } أين هو ؟ فقال مجاهد وقتادة هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم .
قال القاضي أبو محمد : وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى الجنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام ، هو { مجمع البحرين } هو عند طنجة وهو حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه السائر من دبور إلى صبا . وروي عن أبي بن كعب أنه قال { مجمع البحرين } بإفريقية ، وهذا يقرب من الذي قبله ، وقال بعض أهل العلم هو بحر الأندلس من البحر المحيط ، وهذا كله واحد حكاه النقاش وهذا مما يذكر كثيراً ، ويذكر أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء ، وقالت فرقة { مجمع البحرين } يريد بحراً ملحاً وبحراً عذباً ، فعلى هذا إنما كان الخضر عند موقع نهر عظيم في البحر ، وقالت فرقة البحران إنما هما كناية عن موسى والخضر ، لأنهما بحرا علم ، وهذا قول ضعيف والأمر بين من الأحاديث أنه إنما رسم له ماء بحر ، وقوله { أو أمضي حقباً } معناه أو أمضي على وجهي زماناً ، واختلف القراء ، فقرأ الحسن والأعمش وعاصم «حقباً » بسكون القاف{[7845]} ، وقرأ الجمهور «حقباً » بضمه ، وهو تثقيل حقب ، وجمع الحقب أحقاب ، واختلف في الحقب ، فقال عبد الله بن عمرو ثمانون سنة ، وقال مجاهد سبعون ، وقال الفراء «الحقب » سنة واحدة وقال ابن عباس وقتادة أزمان غير محدودة وقالت فرقة «الحقب » جمع حقبة ، وفي السنة كأنه قال أو أمضي سنين .