المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (33)

33- قل يا محمد : إنما حرم ربى الأمور المتزايدة في القبح كالزنا ، سواء منها ما يرتكب سراً وما يرتكب علانية ، والمعصية أياً كان نوعها ، والظلم الذي ليس له وجه من الحق ، وحرَّم أن تشركوا به دون حُجة صحيحة ، أو دليل قاطع ، وأن تفتروا عليه سبحانه بالكذب في التحليل والتحريم وغيرهما .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (33)

26

فأما الذي حرمه الله حقاً ، فليس هو الزينة المعتدلة من اللباس ، وليس هو الطيب من الطعام والشراب - في غير سرف ولا مخيلة - إنما الذي حرمه الله حقاً هو الذي يزاولونه فعلاً !

( قل : إنما حرم ربي الفواحش - ما ظهر منها وما بطن - والإثم والبغي بغير الحق ، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) . .

هذا هو الذي حرمه الله . الفواحش من الأعمال المتجاوزة لحدود الله . ظاهرة للناس أوخافية . والإثم . وهو كل معصية لله على وجه الإجمال . والبغي بغير الحق . وهو الظلم الذي يخالف الحق والعدل - كما بينهما الله أيضاً - وإشراك ما لم يجعل الله به قوة ولا سلطاناً مع الله - سبحانه - في خصائصه . ومنه هذا الذي كان واقعاً في الجاهلية ، وهو الواقع في كل جاهلية . من إشراك غير الله ليشرع للناس ؛ ويزاول خصائص الألوهية . وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون . كالذي كانوا يقولونه من التحليل والتحريم . ومن نسبتهم هذا إلى أمر الله بغير علم ولا يقين . .

ومن عجيب ما روي من حال المشركين الذين خوطبوا بهذه الآيات أول مرة ؛ ووجه إليهم هذا الإستنكار الوارد في قوله تعالى : ( قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده . . ) ما رواه الكلبي قال :

" لما لبس المسلمون الثياب ، وطافوا بالبيت عيرهم المشركون بها . . فنزلت الآية . . "

فانظر كيف تصنع الجاهلية بأهلها ! ناس يطوفون ببيت الله عرايا ؛ فسدت فطرتهم وانحرفت عن الفطرة السليمة التي يحكيها القرآن الكريم عن آدم وحواء في الجنة : ( فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) . . فإذا رأوا المسلمين يطوفون بالبيت مكسوين ، في زينة الله التي أنعم بها على البشر ؛ لإرادته بهم الكرامة والستر ، ولتنمو فيهم خصائص فطرتهم الإنسانية في سلامتها وجمالها الفطري ، وليتميزوا عن العري الحيواني . . الجسمي والنفسي . . إذا رأوا المسلمين يطوفون ببيت الله في زينة الله وفق فطرة الله " عيروهم " !

إنه هكذا تصنع الجاهلية بالناس . . هكذا تمسخ فطرهم وأذواقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم ! وماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس في هذا الأمر غير الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين العرب ؟ وجاهلية المشركين الإغريق ؟ وجاهلية المشركين الرومان ؟ وجاهلية المشركين الفرس ؟ وجاهلية المشركين في كل زمان وكل مكان ؟ !

ماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس إلا أن تعريهم من اللباس ، وتعريهم من التقوى والحياء ؟ ثم تدعو هذا رقياً وحضارة وتجديداً ؛ ثم تعير الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات ، بأنهن " رجعيات " . " تقليديات " . " ريفيات " !

المسخ هوالمسخ . والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس . وانقلاب الموازين هو انقلاب الموازين . والتبجح بعد ذلك هو التبجح . . ( أتواصوا به ؟ بل هم قوم طاغون ! ) .

وما الفرق كذلك في علاقة هذا العري ، وهذا الانتكاس ، وهذه البهيمية ، وهذا التبجح ، بالشرك ، وبالأرباب التي تشرع للناس من دون الله ؟

لئن كان مشركو العرب قد تلقوا في شأن ذلك التعري من الأرباب الأرضية التي كانت تستغل جهالتهم وتستخف بعقولهم ، لضمان السيادة لها في الجزيرة . . ومثلهم بقية الجاهليات القديمة التي تلقت من الكهنة والسدنة والرؤساء . . فإن مشركي اليوم ومشركاته يتلقون في هذا عن الأرباب الأرضية كذلك . . ولا يملكون لأمرهم رداً . .

إن بيوت الأزياء ومصمميها ، وأساتذة التجميل ودكاكينها ، لهي الأرباب التي تكمن وراء هذا الخبل الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية الحاضرة ولا رجالها كذلك ! إن هذه الأرباب تصدر أوامرها ، فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية ! وسواء كان الزي الجديد لهذا العام يناسب قوام أية امرأة أو لا يناسبه ، وسواء كانت مراسم التجميل تصلح لها أو لا تصلح ، فهي تطيع صاغرة . . تطيع تلك الأرباب . وإلا " عيرت " من بقية البهائم المغلوبة على أمرها !

ومن ذا الذي يقبع وراء بيوت الأزياء ؟ ووراء دكاكين التجميل ؟ ووراء سعار العري والتكشف ؟ ووراء الأفلام والصور والروايات والقصص ، والمجلات والصحف ، التي تقود هذه الحملة المسعورة . . وبعضها يبلغ في هذا إلى حد أن تصبح المجلة أو القصة ماخوراً متنقلاً للدعارة ؟ !

من الذي يقبع وراء هذا كله ؟

الذي يقبع وراء هذه الأجهزه كلها ، في العالم كله . . يهود . .

يهود يقومون بخصائص الربوبية على البهائم المغلوبة على أمرها ! ويبلغون أهدافهم كلها من إطلاق هذه الموجات المسعورة في كل مكان . . أهدافهم من تلهية العالم كله بهذا السعار ؛ وإشاعة الانحلال النفسي والخلقي من ورائه ، وإفساد الفطرة البشرية ، وجعلها ألعوبة في أيدي مصممي الأزياء والتجميل ! ثم تحقيق الأهداف الاقتصادية من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل وسائر الصناعات الكثيرة التي تقوم على هذا السعار وتغذيه !

إن قضية اللباس والأزياء ليست منفصلة عن شرع الله ومنهجه للحياة . . ومن ثم ذلك الربط بينها وبين قضية الإيمان والشرك في السياق .

أنها ترتبط بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى :

إنها تتعلق قبل كل شيء بالربوبية ، وتحديد الجهة التي تشرع للناس في هذه الأمور ، ذات التأثير العميق في الأخلاق والاقتصاد وشتى جوانب الحياة .

كذلك تتعلق بإبراز خصائص " الإنسان " في الجنس البشري ، وتغليب الطابع " الإنساني " في هذا الجنس على الطابع الحيواني .

والجاهلية تمسخ التصورات والأذواق والقيم والأخلاق . وتجعل العري - الحيواني - تقدماً ورقياً . والستر - الإنساني - تأخراً ورجعية ! وليس بعد ذلك مسخ لفطرة الإنسان وخصائص الإنسان .

وبعد ذلك عندنا جاهليون يقولون : ما للدين والزي ؟ ما للدين وملابس النساء ؟ ما للدين والتجميل ؟ . . إنه المسخ الذي يصيب الناس في الجاهلية في كل زمان وفي كل مكان ! ! !

/خ34

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (33)

لما تقدم إنكار ما حرمه الكفار بآرائهم ، أتبعه ذكر ما حرم الله عز وجل وتقديره ، و { الفواحش } ما فحش وشنع وأصله من القبح في المنظر ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش*** إذا هي نصته ولا بمعطل

ثم استعمل فيما ساء من الخلق وألفاظ الحرج والرفث ، ومنه الحديث ليس بفاحش في صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنه قوله لسلمة بن سلامة بن وقش «أفحشت على الرجل » في حديث السير ، ومنه قوله الحزين في كثير عزة : [ الطويل ]

قصير القميص فاحش عند بيته*** وكذلك استعمل فيما شنع وقبح في النفوس . والحسن في المعاني إنما يتلقى من جهة الشرع ، والفاحش كذلك ، فقوله هنا { الفواحش } إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه في مواضع أخر ، فكل ما حرمه الشرع فهو فاحش وإن كان العقل لا ينكره كلباس الحرير والذهب للرجال ونحوه ، وقوله : { ما ظهر منها وما بطن } يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء ، وهو لفظ عام في جميع الفواحش وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال { ما ظهر } الطواف عرياناً ، والبواطن الزنى ، وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال ، و { ما } بدل من الفواحش وهو بدل بعض من كل ، ومجموع القسمين يأتي بدل الشيء من الشيء وهو هو ، { والإثم } أيضاً : لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم ، هذا قول الجمهور ، وقال بعض الناس : هي الخمر واحتج على ذلك بقوله الشاعر : [ الوافر ]

شربت الإثم حتى طار عقلي***

قال القاضي وأبو محمد : وهذا قول مردود لأن هذه السورة مكية ولم تعن الشريعة لتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء ، وهي في أجوافهم ، وأيضاً فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق ، وإن صح فهو على حذف مضاف ، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } وهو في هذه الآية قد حرم ، فيأتي من هذا الخمر والإثم محرم فالخمر محرمة .

قال القاضي أبو محمد : ولكن لا يصح هذا لأن قوله { فيهما إثم } لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة ، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه ، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله { قل فيهما إثم } وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع ، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة .

{ والبغي } : التعدي وتجاوز الحد ، كان الإنسان مبتدئاً بذلك أو منتصراً فإذا جاوز الحد في الانتصار فهو باغ ، وقوله : { بغير الحق } زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحق فلا يسمى بغياً ، { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } المراد بها الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله ، و «السلطان » البرهان والحجة ، { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } من أنه حرم البحيرة والسائبة ونحوه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (33)

لَمَّا أنبأ قوله : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } [ الأعراف : 32 ] إلى آخره ، بأنّ أهل الجاهليّة حُرِموا من الزّينة والطّيبات من الرّزق ، وأنبأ قوله تعالى قبل ذلك { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } [ الأعراف : 28 ] بأنّ أهل الجاهليّة يَعْزُون ضلالهم في الدّين إلى الله ، فأنتج ذلك أنّهم ادّعوا أنّ ما حَرّموه من الزّينة والطّيبات قد حرّمه الله عليهم ، أعقب مجادلتهم ببيان ما حرّمه الله حقّاً وهم ملتبسون به وعاكفون على فعله .

فالقصر المفاد من { إنَّما } قصر إضافي مُفَادُهُ أنّ الله حرّم الفَواحش وما ذُكر معها لاَ ما حرّمتموه من الزّينة والطّيّبات ، فأفاد إبطال اعتقادهم ، ثمّ هو يفيد بطريق التّعريض أنّ ما عدّه الله من المحرّمات الثّابت تحريمها قد تلبّسوا بها ، لأنّه لمّا عدّ أشياء ، وقد علم النّاس أنّ المحرّمات ليست محصورة فيها ، عَلم السّامع أنّ ما عيّنه مقصود به تعيين ما تلبّسوا به فحصل بصيغة القصر ردّ عليهم من جانبي ما في صيغة ( إنّما ) من إثبات ونفي : إذ هي بمعنى ( مَا وإلاّ ) ، فأفاد تحليل ما زعموه حراماً وتحريم ما استبَاحوه من الفواحش وما معها .

والفواحش جمع فاحشة وقد تقدّم ذكر معنى الفاحشة عند قوله تعالى : { إنه كان فاحشة ومقتاً } في سورة النّساء ( 22 ) وتقدّم آنفاً عند قوله تعالى : { وإذا فعلوا فاحشة } [ الأعراف : 28 ] .

و { ما ظهر منها } هو ما يظهره النّاس بين قرنائهم وخاصتهم مثل البغاء والمخادنة ، وما بطن هو ما لا يظهره النّاس مثل الوأد والسّرقة ، وقد تقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } في سورة الأنعام ( 151 ) . وقد كانوا في الجاهليّة يستحلّون هذه الفواحش وهي مفاسد قبيحة لا يشكّ أولو الألباب ، لو سئلوا ، أنّ الله لا يرضى بها ، وقيل المراد بالفواحش : الزّنا ، وما ظهر منه وما بطن حالان من أحوال الزّناة ، وعلى هذا يتعيّن أن يكون الإتيان بصيغة الجمع لاعتبار تعدّد أفعاله وأحواله وهو بعيد .

وأمّا الإثم فهو كلّ ذنب ، فهو أعمّ من الفواحش ، وتقدّم في قوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير } في سورة البقرة ( 219 ) . وقوله : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } في سورة الأنعام ( 120 ) ، فيكون ذكر الفواحش قبلَه للاهتمام بالتّحذير منها قبل التّحذير من عموم الذّنوب ، فهو من ذكر الخاص قبل العام للاهتمام ، كذكر الخاص بعد العام ، إلاّ أنّ الاهتمام الحاصل بالتّخصيص مع التّقديم أقوى لأنّ فيه اهتماماً من جهتين .

وأمّا البغي فهو الاعتداء على حقّ الغير بسلب أموالِهم أو بأذاهم ، والكبرُ على النّاس من البغي ، فما كان بوجه حقّ فلا يسمّى بَغياً ولكنّه أذىً ، قال الله تعالى : { والّذان يأتيانها منكم فآذوهما } [ النساء : 16 ] وقد كان البغي شائعاً في الجاهليّة فكان القوي يأكل الضّعيف ، وذو البأس يغير على أنعام النّاس ويقتل أعداءه منهم ، ومن البغي أن يضربوا من يطوف بالبيت بثيابه إذا كان من غير الحُمْس ، وأن يُلزموه بأن لا يأكل غير طعام الحُمْس ، ولا يطوف إلاّ في ثيابهم .

وقوله : { بغير حق } صفة كاشفة للبغي مثل العشاء الآخرة لأنّ البغي لا يكون إلاّ بغير حقّ .

وعطف { البغي } على { الإثم } من عطف الخاص على العام للاهتمام به ، لأنّ البغي كان دأبهم في الجاهليّة ، قال سوار بن المضرِّب السّعدي :

وأنَّي لاَ أزَالُ أخَا حُروب *** إذا لم أجْنِ كنت مِجَنَّ جان

والإشراك معروف وقد حرّمَه الله تعالى على لسان جميع الأنبياء منذ خلَق البشر .

و { ما لم ينزّل به سلطانا } موصول وصلته ، و ( مَا ) مفعول { تشركوا بالله } ، والسّلطان البرهان والحجّة ، والمجرور في قوله : { به } صفة ل { سلطانا } ، والباء للمصاحبة بمعنى معه أي لم ينزّل حجّة مصاحبة له ، وهي مصاحبة الحجّة للمدّعي وهي مصاحبة مجازية ويجوز أن يكون الباء بمعنى على للاستعلاء المجازي على حدّ قوله تعالى : { من إن تأمنه بقنطار } [ آل عمران : 75 ] أي سلطاناً عليه ، أي دليلاً . وضمير ( به ) عائد إلى ( ما ) وهو الرابط للصّلة . فمعنى نفي تنزيل الحجّة على الشّركاء : نفي الحجّة الدّالة على إثبات صفة الشّركة مع الله في الإلهيّة ، فهو من تعليق الحكم بالذّات والمرادُ وصفُها ، مثلُ حرّمت عليكم الميتة أي أكلها . وهذه الصّلة مؤذنة بتخطئة المشركين ، ونفيِ معذرتهم في الإشراك ، بأنّه لا دليل يشتبه على النّاس في عدم استحقاق الأصنام العبادة ، فَعَرّف الشّركاء المزعومين تعريفاً لطريق الرسم بأنّ خاصّتهم : أنّ لا سُلطان على شركتهم لله في الإلهية ، فكلّ صنم من أصنامهم واضحة فيه هذه الخاصّة ، فإنّ الموصول وصلته من طرق التّعريف ، وليس ذلك كالوصف ، وليس للموصول وصلته مفهوم مخالفة ، ولا الموصولاتُ معدودة في صِيَغ المفاهيم ، فلا يتّجه ما أورده الفخر من أن يقول قائل : هذا يوهم أن مِن بين الشّرك ما أنزل الله به سلطاناً واحتياجِه إلى دفع هذا الإيهام ، ولا ما قفاه عليه صاحب « الانتصاف » من تنظير نفي السّلطان في هذه الآية بنحو قول امرىء القيس :

على لا حبٍ لا يُهتدَى بمناره

ولا يتّجه ما نحاه صاحبُ « الكشاف » من إجراء هذه الصّلة على طريقة التّهكّم .

وقولُه : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } تقدّم نظيره آنفاً عند قوله تعالى ، في هذه السّورة : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } [ الأعراف : 28 ] .

وقد جمعت هذه الآية أصول أحوال أهل الجاهليّة فيما تلبسوا به من الفواحش والآثام ، وهم يزعمون أنّهم يتورّعون عن الطّواف في الثّياب ، وعن أكل بعض الطّيّبات في الحجّ . وهذا من ناحية قوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عنه الله والفتنة أكبر من القتل } [ البقرة : 217 ] .