المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (22)

22- إنه وحده هو الذي مهد لكم الأرض بقدرته ، وبسط رقعتها ليسهل عليكم الإقامة فيها والانتفاع بها ، وجعل ما فوقكم من السماء وأجرامها وكواكبها كالبنيان المشيد ، وأمدكم بسبب الحياة والنعمة - وهو الماء - أنزله عليكم من السماء فجعله سبباً لإخراج النباتات والأشجار المثمرة التي رزقكم بفوائدها ، فلا يصح مع هذا أن تتصوروا أن لله نظراء تعبدونهم كعبادته لأنه ليس له مثيل ولا شريك ، وأنتم بفطرتكم الأصلية تعلمون أنه لا مثيل له ولا شريك ، فلا تحرفوا هذه الطبيعة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (22)

1

( الذي جعل لكم الأرض فراشا ) . .

وهو تعبير يشي باليسر في حياة البشر على هذه الأرض ، وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ واقيا كالفراش . . والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه . ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم وسائل العيش ، وما سخره لهم فيها من وسائل الراحة والمتاع . ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمأنينة . ولو فقد عنصر واحد من عناصر الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسي في غير البيئة التي تكفل لهم الحياة . ولو نقص عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم لشق على الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتى لو قدرت لهم الحياة !

( والسماء بناء ) . .

فيها متانة البناء وتنسيق البناء . والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض ، وبسهولة هذه الحياة . وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية اجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وبينها ، تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين عليها . فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس بقدرة الخالق ، وفضل الرازق ، واستحقاق المعبود للعبادة من العبيد المخاليق .

( وأنزل من السماء ماء ، فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) . .

وذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به ، ما يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض التذكير بقدرة الله ، والتذكير بنعمته كذلك . . والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا . فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) . . سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض ، أو كون الأنهار والبحيرات العذبة ، أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية ، التي تتفجر عيونا أو تحفر آبارا ، أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى .

وقصة الماء في الأرض ، ودوره في حياة الناس ، وتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها . . كل هذا أمر لا يقبل المماحكة ، فتكفي الإشارة إليه ، والتذكير به ، في معرض الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهاب .

وفي ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور الإسلامي : وحدة الخالق لكل الخلائق ( الذي خلقكم والذين من قبلكم ) . . ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياة وللإنسان( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء . وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) . . فهذا الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان ، وسماؤه مبنية بنظام ، معينة بالماء الذي تخرج به الثمرات رزقا للناس . . والفضل في هذا كله للخالق الواحد :

( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) . .

تعلمون أنه خلقكم والذين من قبلكم . وتعلمون أنه جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء . وأنه لم يكن له شريك يساعد ، ولا ند يعارض . فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا يليق !

والأنداد التي يشدد القرآن في النهي عنها لتخلص عقيدة التوحيد نقية واضحة ، قد لا تكون آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون . فقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية . قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة ، وفي الخوف من غير الله في أي صورة . وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أي صورة . . عن ابن عباس قال : " الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل . وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي . ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص . وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت ! وقول الرجل : لولا الله وفلان . . هذا كله به شرك " . . . وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله [ ص ] ما شاء الله وشئت . قال : " أجعلتني لله ندا ؟ " !

هكذا كان سلف هذه الأمة ينظر إلى الشرك الخفي والأنداد مع الله . . فلننظر نحن أين نحن من هذه الحساسية المرهفة ، وأين نحن من حقيقة التوحيد الكبيرة ! ! !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (22)

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )

وقوله تعالى : { الذي جعل } نصب على إتباع( {[324]} ) الذي المتقدم ، ويصح أن يكون مرفوعاً على القطع .

وما ذكر مكي من إضمار أعني أو مفعول ب { تتقون } فضعيف .

وجعل بمعنى صير في هذه الآية لتعديها إلى مفعولين ، و { فراشاً } معناه تفترشونها( {[325]} ) وتستقرون عليها ، وما في الأرض مما ليس بفراش كالجبال والبحار فهو من مصالح ما يفترش منها ، لأن الجبال كالأوتاد والبحار يركب فيها إلى سائر منافعها ، و { السماء } قيل هو اسم مفرد جمعه «سماوات » ، وقيل هو جمع واحده «سماوة » ، وكل ما ارتفع عليك في الهواء سماء ، والهواء نفسه علواً يقال له «سماء » ، ومنه الحديث : «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً »( {[326]} ) ، واللفظة من السمو وتصاريفه .

وقوله تعالى : { بناء } تشبيه بما يفهم( {[327]} ) ، كما قال تعالى : { والسماء بنيناها بأييد }( {[328]} ) [ الذاريات : 47 ] .

وقال بعض الصحابة : «بناها على الأرض كالقبة » .

وقوله : { وأنزل من السماء } يريد السحاب ، سمي بذلك تجوزاً لما كان يلي السماء ويقاربها وقد سموا المطر سماء للمجاورة ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ] .

إذا نزل السماء بأرض قوم . . . رعيناه وإن كانوا غضابا( {[329]} )

فتجوز أيضاً في رعيناه ، فبتوسط المطر جعل السماء عشباً ، وأصل { ماء } موه يدل على ذلك قولهم في الجمع مياه وأمواه ، وفي التصغير مويه ، وانطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ، أي هي معدة أن يصح الانتفاع بها فهي رزق( {[330]} ) ، ورد بهذه الآية بعض الناس قول المعتزلة إن الرزق ما يصح تملكه ، وليس الحرام برزقه ، وواحد الأنداد ند( {[331]} ) ، وهو المقاوم والمضاهي كان مثلاً أو خلافاً أو ضداً ، ومن حيث قاوم وضاهى فقد حصلت مماثلة ما .

وقال أبو عبيدة معمر والمفضل : الضد الند ، وهذا التخصيص منهما تمثيل لا حصر .

واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية ؟ فقالت جماعة من المفسرين : المخاطب جميع المشركين : فقوله على هذا : { وأنتم تعلمون }( {[332]} ) يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء وأخرج الرزق ، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار( {[333]} ) ، وقيل المراد كفار بني إسرائيل ، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم أن الله لا ند له .

وقال ابن فورك : «يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين » فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون ، وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد( {[334]} ) . وهذه الآية تعطي( {[335]} ) أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا ، فقد أخذ بطرق من جعل لله نداً ، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه وطوله ، لا رب غيره


[324]:- الأوضح أنه نعت للرب.
[325]:- قال جار الله الزمخشري "إن قلت: هل في قوله تعالى: [الذي جعل لكم الأرض فراشا] دليل على أن الأرض مسطحة، وليست كروية؟ قلت: ليس فيه إلا أن الناس يفترشونها، وسواء كانت على شكل السطح، أو شكل الكرة، فالافتراش غير مستنكر، ولا مدفوع، لعظم حجمها، واتساع جرمها، وتباعد أطرافها، والمراد أن كروية الشكل لا تمنع أن تكون فراشا لبني آدم، لأن ذلك باعتبار مجموعها، وهي في حد ذاتها واسعة الأطراف، وبعيدة الأكناف حتى كأنها مسطحة".
[326]:- زيادة (في السماء) لا توجد في الروايات المشهورة، والحديث رواه الشيخان، والإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[327]:- أي كالبناء المرتبط بعضه ببعض من كل جهة، المتماسك بالجاذبية التي تحفظ نظامها في مدارتها، فهي كالقبة المضروبة على الأرض. وقد جعل الله بين المقلة والمظلة علاقة ورابطة كرابطة النكاح، بإنزال الماء منها عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل من ألوان الثمار وأصناف النبات، رزقا لبني آدم.
[328]:- من الآية 47 من سورة الذاريات.
[329]:- هذا البيت مشهور، يمثل به علماء البيان للاستخدام حيث أطلق السماء على المطر بقرينة النزول، ثم أعيد الضمير على السماء بمعنى العشب والنبات. والبيت لمعاوية بن مالك الملقب (بمعود الحكماء) يقول في هذه القصيدة: أعود مثلها الحكماء بعدي إذا ما الحق في الحدثان نابا ومعنى البيت الذي ذكره ابن عطية: إذا نزل المطر بأرض قوم فأخصبت وبقيت أرضنا جدباء، ذهبنا فرعينا أرضهم، وإن غضب أهلها لم نهتم بغضبهم لأننا أعزة وأقوياء.
[330]:- سبق أن قلنا إن الخلاف القائم بين أهل السنة والمعتزلة منشؤه: هل الرزق ما يصح الانتفاع به أو ما يصح تملكه؟ وهذه الآية ترد على المعتزلة من حيث أن الله سبحانه أطلق الرزق على ما ينتفع به في المستقبل قبل تملكه.
[331]:- روى ابن حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا) قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوة سوداء في ظلمة الليل- ومن الشرك أن تقول: لولا الله وفلان لوقع كذا- أو ما شاء الله وشاء فلان- أو والله وحياتك يا فلان، أخرج البخاري في الأدب المفرد، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: (جعلتني لله ندا، ما شاء الله وحده). وأخرج الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك).
[332]:- وفي قوله تعالى: [وأنتم تعلمون] دليل على اعتبار العلم. واستعمال العقل، واجتناب التقليد الوتبعية.
[333]:- لأنها إنما أثبتت شيئا خاصا من العلم، وهو إنعام الله عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، فلا ينافي قوله تعالى سابقا، (ولكن لا يعلمون)- (ولكن لا يشعرون).
[334]:- هذا أولى الأقوال وأحسنها، فالمراد بالناس في الآية كافة المكلفين من مؤمنين وكافرين، وطلب العبادة من المؤمنين طلب إدامتها والثبات عليها. وطلبها من الكافرين طلب إيجادها وابتدائها.
[335]:- قال الإمام (ق): ولهذا قال عليه السلام مشيرا إلى هذا المعنى: (والله لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسال أحدا أعطاه أو منعه)، أخرجه الإمام مسلم، ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها- فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرف من جعل لله ندا- وقال علماء الصوفية: بين الله في هذه الآية سبيل الفقر، وهو أن تجعل الأرض وطاء، والسماء غطاء، والماء طيبا، والكلأ طعاما، ولا تعبد أحدا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لا بد لك منه من غير منة فيه لأحد عليك اهـ، وليس المراد من قول الصوفية أن تترك العمل، بل أن تترك التعلق والتملق، ولو أدى بك الحال إلى أن تفترش الأرض، وتتغطى بالسماء.