19- أو حالهم في حيرتهم وشدة الأمر عليهم وعدم إدراكهم لما ينفعهم ويضرهم ، كحال قوم نزل عليهم مطر من السماء ورعد وصواعق ، يضعون أطراف أصابعهم في آذانهم كي لا يسمعوا أصوات الصواعق خائفين من الموت ، زاعمين أن وضع الأصابع يمنعهم منه .
وهؤلاء إذا نزل القرآن - وفيه بيان لظلمات الكفر والوعيد عليه ، وبيان الإيمان ونوره المتألق ، وبيان النذر وألوان العذاب - أعرضوا عنه وحاولوا الخلاص منه زاعمين أن إعراضهم عنه سيعفيهم من العقاب ولكن الله عليم بالكافرين مسيطر عليهم من كل جهة بعلمه وقدرته .
ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة :
( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت . والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم . إن الله على كل شيء قدير ) . .
إنه مشهد عجيب ، حافل بالحركة ، مشوب بالاضطراب . فيه تيه وضلال ، وفيه هول ورعب ، وفيه فزع وحيرة ، وفيه أضواء وأصداء . . صيب من السماء هاطل غزير ( فيه ظلمات ورعد وبرق ) . . ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ) . . ( وإذا أظلم عليهم قاموا ) . . أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون . وهم مفزعون : ( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ) .
إن الحركة التي تغمر المشهد كله : من الصيب الهاطل ، إلى الظلمات والرعد والبرق ، إلى الحائرين المفزعين فيه ، إلى الخطوات المروعة الوجلة ، التي تقف عندما يخيم الظلام . . إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيحائي - حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون . . بين لقائهم للمؤمنين ، وعودتهم للشياطين . بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة . بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام . . فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ؛ ويجسم صورة شعورية . وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس .
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 )
{ أو } للتخيير ( {[301]} ) ، معناه مثلوهم بهذا أو بهذا ، لا على الاقتصار( {[302]} ) على أحد الأمرين ، وقوله : { أو كصيّب } معطوف على { كمثل الذي } . وقال الطبري : { أو } بمعنى( {[303]} ) الواو .
قال القاضي أبو محمد وهذه عجمة ، والصيب المطر من صاب يصوب إذا انحط من علو إلى سفل ، ومنه قول علقمة بن عبدة( {[304]} ) : [ الطويل ]
كأنهمُ : صابتْ عليهمْ سحابةٌ . . . صواعقها لطيرِهِنَّ دبيبُ
وقول الآخر( {[305]} ) : [ الطويل ]
فلستِ لإنسيٍّ ولكن لملأكٍ . . . تنّزلَ من جوِّ السماءِ يصوبُ( {[306]} )
وأصل صيّب صَيْوب اجتمع الواو والياء وسبقت إحدهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ، كما فعل في سَيّد ومَيّت .
وقال بعض الكوفيين : أصل صيّب صَوِيب على مثال فعيل وكان يلزمه أن لا يعل كما لم يعل طويل( {[307]} ) ، فبهذا يضعف هذا القول .
وقوله تعالى : { ظلمات } بالجمع ، إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن( {[308]} ) ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت ، وكون الدجن مظلماً هول وغم للنفس ، بخلاف السحاب والمطر إذا انجلى دجنه ، فإنه سارٌّ جميل ، ومنه قول قيس بن الخطيم : [ المتقارب ]
فما رَوْضةٌ من رياضِ القطا *** كأَنَّ الْمَصَابِيحَ حوذانها
بأحسنَ مِنْها ولا مَزنةٌ *** دلوحٌ تَكشّفُ أدجانُها( {[309]} )
واختلف العلماء في الرعد : فقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب وغيرهم : هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفت سحابة صاح بها ، فإذا اشتد غضبه طار النار من فيه ، فهي { الصواعق } ، واسم هذا الملك الرعد ، وقيل الرعد ملك ، وهذا الصوت تسبيحه ، وقيل الرعد اسم الصوت المسموع ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهذا هو المعلوم في لغة العرب ، وقد قال لبيد في جاهليته : [ المنسرح ]
فجعني الرعدُ والصواعقُ بال . . . فارسِ يومَ الكريهةِ النجدِ( {[310]} )
وروي عن ابن عباس أنه قال : «الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت » . وقيل : «الرعد اصطكاك أجرام السحاب »( {[311]} ) . وأكثر العلماء على أن الرعد ملك ، وذلك صوته يسبح ويزجر السحاب . ( {[312]} )
فقال علي بن أبي طالب : «هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب » .
وقال ابن عباس : «هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب » .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن البرق يتراءى ، وقال قوم : «البرق ماء » ، وهذا قول ضعيف .
والصاعقة : قال الخليل : «هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد يكون معها أحياناً نار ، يقال إنها من المخراق الذي بيد الملك ، وقيل في قطعة النار إنها ماء يخرج من فم الملك عند غضبه » .
وحكى الخليل عن قوم من العرب «الساعقة » بالسين .
وقال النقاش : «يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد » .
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من الصواقع » بتقديم القاف . قال أبو عمرو : «وهي لغة تميم » .
وقرأ الضحاك بن مزاحم «حذار الموت » بكسر الحاء وبألف . واختلف المتأولون في المقصد بهذا المثل وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة لما في المثل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق .
فقال جمهور المفسرين : «مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم . والعمى : هو الظلمات ، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد ، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أن تبهرهم هو البرق وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل أصابعهم في آذانهم ، وفضح نفاقهم ، واشتهار كفرهم ، وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا كله صحيح بين .
وروي عن ابن مسعود أنه قال : «إن رجلين من المنافقين هربا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله وأيقنا بالهلاك ، فقالا : ليتنا أصبحنا فنأتي محمداً ونضع أيدينا في يده ، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما ، فضرب الله ما نزل بهما مثلاً للمنافقين »( {[313]} ) .
وقال أيضاً ابن مسعود : «إن المنافقين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعون القرآن ، فضرب الله المثل لهم » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وفاق لقول الجمهور الذي ذكرناه .
وقل قوم : «الرعد والبرق هما بمثابة زجر القرآن ، ووعيده » .
و { محيط بالكافرين } معناه بعقابه وأخذه( {[314]} ) ، يقال أحاط السلطان بفلان إذا أخذه حاصراً من كل جهة ، ومنه قوله تعالى : { وأحيط بثمره }( {[315]} ) [ الكهف : 42 ] ففي الكلام حذف مضاف .