ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفورا يوم التقى الجمعان في الغزوة . إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها ؛ فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها ، فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ ، واستزلهم فزلوا وسقطوا :
( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم ، إن الله غفور حليم ) . .
وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم . فكان هذا هو الذي كسبوه ، وهو الذي استزلهم الشيطان به . .
ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة ، فتفقد ثقتها في قوتها ، ويضعف بالله ارتباطها ، ويختل توازنها وتماسكها ، وتصبح عرضة للوساوس والهواجس ، بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه ! وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس ، فيقودها إلى الزلة بعد الزلة ، وهي بعيدة عن الحمى الآمن ، والركن الركين .
ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الربيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء . الاستغفار الذي يردهم إلى الله ، ويقوي صلتهم به ، ويعفي قلوبهم من الأرجحة ، ويطرد عنهم الوساوس ، ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان ، ثغرة الانقطاع عن الله ، والبعد عن حماه . هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة ، حتى ينقطع بهم في التيه ، بعيدا بعيدا عن الحمى الذي لا ينالهم فيه !
ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم ، فلم يدع الشيطان ينقطع بهم ، فعفا عنهم . . ويعرفهم بنفسه - سبحانه - فهو غفور حليم . لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم ؛ متى علم من نفوسهم التطلع إليه ، والاتصال به ؛ ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق !
اختلف المتأولون في من المراد بقوله تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان }{[3637]} فقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه : المراد بها جميع من تولى ذلك اليوم عن العدو .
قال القاضي أبو محمد : يريد على جميع أنحاء التولي الذي لم يكن تحرفاً لقتال ، وأسند الطبري رحمه الله قال : خطب عمر رضي الله عنه يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى قوله { إن الذين تولوْا منكم يوم التقى الجمعان } ، قال : لما كان يوم -أحد- هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأني أروى{[3638]} ، والناس يقولون قتل محمد ، فقلت : لا أجد أحداً يقول : قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت هذه الآية كلها ، قال قتادة : هذه الآية في كل من فر بتخويف الشيطان وخدعه ، وعفا الله عنهم هذه الزلة ، قال ابن فورك : لم يبق مع النبي يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلاً ، أبو بكر ، وعلي ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسائرهم من الانصار أبو طلحة وغيره وقال السدي وغيره : إنه لما انصرف المسلمون عن حملة المشركين عليه صعد قوم الجبل ، وفر آخرون حتى أتوا المدينة ، فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة .
قال القاضي : جعل الفرار إلى الجبل تحيزاً إلى فئة ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية فيمن فر من المؤمنين فراراً كثيراً ، منهم رافع بن المعلى{[3639]} ، وأبو حذيفة بن عتبة{[3640]} ورجل آخر ، قال ابن إسحاق : فر عثمان بن عفان ، وعقبة بن عثمان وأخوه سعد ، ورجلان من الأنصار زرقيان ، حتى بلغوا الجلعب ، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص ، فأقاموا به ثلاثة أيام ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضة{[3641]} ، قال ابن زيد : فلا أدري هل عفا عن هذه الطائفة خاصة ؟ أم على المؤمنين جميعاً ؟ و «استزل » - معناه طلب منهم أن يزلوا ، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه ، وقوله تعالى : { ببعض ما كسبوا } ظاهره عند جمهور المفسرين : أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم ، وبخلق ما اكتسبوه أيضاً هم من الفرار ، وذهب الزجّاج وغيره : إلى أن المعنى ، أن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة ، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها ، قال المهدوي : بما اكتسبوا من حب الغنيمة والحرص على الحياة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في قوله : { ببعض ما كسبوا } إلى هذه العبرة ، أي كان للشيطان في هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم ، فهو شريك في بعضه ، ثم أخبر تعالى بعفوه عنهم ، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في الدنيا والآخرة ، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبد الله بن عدي بن الخيار{[3642]} ، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل العراقي{[3643]} ، وقال ابن جريج : معنى الآية ، { عفا الله عنهم } إذ لم يعاقبهم ، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت ، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرها{[3644]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.