ويمضي السياق يأمر رسول الله [ ص ] وهو رسول الله أن يبدأ أولئك الذين أسبغ عليهم فضل السبق بالاسلام ؛ والذين يسخر منهم أولئك الكبراء الأشراف ! . . أن يبدأهم بالسلام . . وأن يبشرهم بما كتبه الله على نفسه من الرحمة ؛ متمثلا في معفرته لمن عمل منهم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح :
( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ، ثم تاب من بعده وأصلح ، فأنه غفور رحيم ) . .
وهو التكريم - بعد نعمة الإيمان واليسر في الحساب ، والرحمة في الجزاء ، حتى ليجعل الله - سبحانه - الرحمة كتابا على نفسه للذين آمنوا بآياته ؛ ويأمر رسوله [ ص ] أن يبلغهم ما كتبه ربهم عل نفسه . وحتى لتبلغ الرحمة أن يشمل العفو والمغفرة الذنب كله ، متى تابوا من بعده وأصلحوا - إذ يفسر بعضهم الجهالة بأنها ملازمة لارتكاب الذنب ؛ فما يذنب الإنسان إلا من جهالة ؛ وعلى ذلك يكون النص شاملا لكل سوء يعمله صاحبه ؛ متى تاب من بعده وأصلح . ويؤيد هذا الفهم النصوص الأخرى التي تجعل التوبة من الذنب - أيا كان - والإصلاح بعده ، مستوجبة للمغفرة بما كتب الله على نفسه من الرحمة . .
ونعود - قبل الانتهاء من استعراض هذه الفقرة من السورة - إلى بعض الآثار التي وردت عن ملابسات نزول هذه الآيات ؛ وعن دلالة هذه الآثار مع النصوص القرآنية على حقيقة النقلة الهائلة التي كان هذا الدين ينقل إليها البشرية يومذاك ؛ والتي ما تزال البشرية حتى اليوم دون القمة التي بلغتها يومها ثم تراجعت عنها جدا . .
قال أبو جعفر الطبري : حدثنا هناد بن السري ، حدثنا أبو زبيد ، عن أشعث ، عن كردوس الثعلبي ، عن ابن مسعود ، قال : مر الملأ من قريش بالنبي [ ص ] وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ، ونحوهم من ضعفاء المسلمين . فقالوا : يا محمد ، رضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك ! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ! فنزلت هذه الآية : ( ولا تطردالذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . . ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ) إلى آخر الآية .
وقال : حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن أبى سعيد الأزدي - وكان قارى ء الأزد - عن أبى الكنود ، عن خباب في قول الله تعالى ذكره : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . . إلى قوله : فتكون من الظالمين . . قال : جاء الأقرع ابن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجد النبي [ ص ] قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب ، في أناس من الضعفاء من المؤمنين . فلما رأوهم حقروهم . فأتوه فقالوا : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك ، فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ؛ فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ؛ فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ! قال : نعم ! قالوا : فاكتب لنا عليك بذلك كتابا . قال : فدعا بالصحيفة ، ودعا عليا ليكتب . قال : ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبريل بهذه الآية :
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، فتطردهم ، فتكون من الظالمين ) . . ثم قال( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين ؟ ) ثم قال : ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة ) . . فألقى رسول الله [ ص ] الصحيفة من يده ؛ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول : " سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة " . . فكنا نقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا . فأنزل الله تعالى : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) . . [ سورة الكهف : 28 ] قال : فكان رسول الله [ ص ] يقعد معنا بعد ، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم !
وكان [ ص ] بعدها إذا رآهم بدأهم بالسلام ، وقال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني ربي أن أبدأهم بالسلام " .
وفي صحيح مسلم : عن عائذ بن عمرو ، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ، ونفر . فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها ! قال : فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟ فأتى النبي [ ص ] فأخبره . فقال : " يا أبا بكر ، لعلك أغضبتهم . لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك " . فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه ، أغضبتكم ؟ قالوا : لا يغفر الله لك يا أخي . .
نحن في حاجة إلى وقفة طويلة أمام هذه النصوص . . والبشرية بجملتها في حاجة إلى هذه الوقفة كذلك . . إن هذه النصوص لا تمثل مجرد مبادى ء وقيم ونظريات في " حقوق الإنسان ! " . . إنها أكبر من ذلك بكثير . . إنها تمثل شيئا هائلا تحقق في حياة البشرية فعلا . . تمثل نقلة واسعة نقلها هذا الدين للبشرية بجملتها . . تمثل خطا وضيئا على الأفق بلغته هذه البشرية ذات يوم في حياتها الحقيقة . . ومهما يكن من تراجع البشرية عن هذا الخط الوضيء الذي صعدت إليه في خطو ثابت على حداء هذا الدين ، فإن هذا لا يقلل من عظمة تلك النقلة ؛ ومن ضخامة هذا الشيء الذي تحقق يوما ؛ ومن أهمية هذا الخط الذي ارتسم بالفعل في حياة البشرالواقعية . . إن قيمة ارتسام هذا الخط وبلوغه ذات يوم . أن تحاول البشرية مرة ومرة ومرة الارتفاع إليه ؛ ما دام أنها قد بلغته ؛ فهو في طوقها إذن وفي وسعها . . والخط هناك على الأفق ، والبشرية هي البشرية ؛ وهذا الدين هو هذا الدين . . فلا يبقى إلا العزم والثقة واليقين . .
وقيمة هذه النصوص أنها ترسم للبشرية اليوم ذلك الخط الصاعد بكل نقطه ومراحله . . من سفح الجاهلية الذي التقط الإسلام منه العرب ، إلى القمة السامقة التي بلغ بهم إليها ، وأطلعتهم في الأرض يأخذون بيد البشرية من ذلك السفح نفسه إلى تلك القمة التي بلغوها !
فأما ذلك السفح الهابط الذي كان فيه العرب في جاهليتهم - وكانت في البشرية كلها - فهو يتمثل واضحا في قوله : " الملأ " من قريش : " يا محمد ، رضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعًا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك ! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ! " . . أو في احتقار الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، للسابقين من أصحاب رسول الله [ ص ] بلال ، وصهيب ، وعمار ، وخباب ، وأمثالهم من الضعفاء ؛ وقولهما للنبي [ ص ] : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا ؛ فإن وفود العرب تأتيك ، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ! " . .
. . هنا تتبدى الجاهلية بوجهها الكالح ! وقيمها الهزيلة ، واعتباراتها الصغيرة . . عصبية النسب والجنس واعتبارات المال والطبقة . . وما إلى ذلك من اعتبارات . هؤلاء بعضهم ليسوا من العرب ! وبعضهم ليسوا من طبقة الأشراف ! وبعضهم ليسوا من ذوي الثراء ! . . ذات القيم التي تروج في كل جاهلية ! والتي لا ترتفع عليها جاهليات الأرض اليوم في نعراتها القومية والجنسية والطبقية !
هذا هو سفح الجاهلية . . وعلى القمة السامقة الإسلام ! الذي لا يقيم وزنا لهذه القيم الهزيلة ولهذه الاعتبارات الصغيرة ، ولهذه النعرات السخيفة ! . . الإسلام الذي نزل من السماء ولم ينبت من الأرض . فالأرض كانت هي هذا السفح . . هذا السفح الذي لا يمكن أن ينبت هذه النبتة الغريبة الجديدة الكريمة . . الإسلام الذي يأتمر به - أول من يأتمر - محمد [ ص ] محمد رسول الله الذي يأتيه الوحي من السماء ؛ والذي هو من قبل في الذؤابة من بني هاشم في الذروة من قريش . . والذي يأتمر به أبو بكر صاحب رسول الله [ ص ] ؛ في شأن " هؤلاء الأعبد " . . نعم هؤلاء الأعبد الذين خلعوا عبودية كل أحد ؛ وصاروا أعبدا لله وحده ؛ فكان من أمرهم ما كان !
وكما أن سفح الجاهلية الهابط يرتسم في كلمات الملأ من قريش ، وفي مشاعر الأقرع وعيينة . . فإن قمة الإسلام السامقة ترتسم في أمر الله العلي الكبير ، لرسوله [ ص ] - :
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين . وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين ؟ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة : أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ، ثم تاب من بعده وأصلح ، فأنه غفور رحيم ) . .
ويتمثل في سلوك رسول الله [ ص ] مع " هؤلاء الأعبد " . . الذين أمره ربهم أن يبدأهم بالسلام وأن يصبر معهم فلا يقوم حتى يقوموا وهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم - وهو بعد ذلك - رسول الله وخير خلق الله ، وأعظم من شرفت بهم الحياة !
ثم يتمثل في نظرة " هؤلاء الأعبد " لمكانهم عند الله ؛ ونظرتهم لسيوفهم واعتبارها " سيوف الله " ونظرتهملأبي سفيان " شيخ قريش وسيدهم " بعد أن أخره في الصف المسلم كونه من الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح وذهبوا طلقاء عفو رسول الله [ ص ] وقدمهم هم في الصف كونهم من السابقين إلى الإسلام وهو في شدة الابتلاء . . فلما أن عاتبهم أبو بكر - رضي الله عنه - في أمر أبى سفيان ، حذره صاحبه رسول الله [ ص ] أن يكون قد أغضب " هؤلاء الأعبد " ! فيكون قد أغضب الله - يا الله ! فما يملك أي تعليق أن يبلغ هذا المدى وما نملك إلا أن نتملاه ! ويذهب أبو بكر - رضي الله عنه - يترضى " الأعبد " ليرضى الله : " يا إخوتاه . أغضبتكم " ؟ فيقولون : " لا يا أخي . يغفر الله لك " !
أي شيء هائل هذا الذي تحقق في حياة البشرية ؟ أية نقلة واسعة هذه التي قد تمت في واقع الناس ؟ أي تبدل في القيم والأوضاع ، وفي المشاعر والتصورات ، في آن ؟ والأرض هي الأرض والبيئة هي البيئة ، والناس هم الناس ، والاقتصاد هو الاقتصاد . . وكل شيء على ما كان ، إلا أن وحيا نزل من السماء ، على رجل من البشر ، فيه من الله سلطان . . يخاطب فطرة البشر من وراء الركام ، ويحدو للهابطين هنالك عند السفح ، فيستجيشهم الحداء - على طول الطريق - إلى القمة السامقة . . فوق . . فوق . . هنالك عند الإسلام !
ثم تتراجع البشرية عن القمة السامقة ؛ وتنحدر مرة أخرى إلى السفح . وتقوم - مرة أخرى - في نيويورك ، وواشنطن ، وشيكاغو . . وفي جوهانسبرج . . وفي غيرها من أرض " الحضارة ! " تلك العصبيات النتنة . عصبيات الجنس واللون ، وتقوم هنا وهناك عصبيات " وطنية " و " قومية " و " طبقية " لا تقل نتنا عن تلك العصبيات . .
ويبقى الإسلام هناك على القمة . . حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية . . يبقى الإسلام هناك - رحمة من الله بالبشرية - لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل ، وترفع عينيها عن الحمأة . . وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء ؛ وتسمع مرة أخرى حداء هذا الدين ؛ وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حداء الإسلام . .
ونحن لا نملك - في حدود منهجنا في هذه الظلال - أن نستطرد إلى أبعد من هذه الإشارة . . لا نملك أن نقف هنا تلك " الوقفة الطويلة " التي ندعو البشرية كلها أن تقفها أمام هذه النصوص ودلالتها . لتحاول أن تستشرف المدى الهائل الذي يرتسم من خلالها في تاريخ البشرية ؛ وهي تصعد على حداء الإسلام من سفح الجاهلية الهابط ، إلى تلك القمة السامقة البعيدة . . ثم تهبط مرة أخرى على عواء " الحضارة المادية " الخاوية من الروح والعقيدة ! . . ولتحاول كذلك أن تدرك إلى أين يملك الإسلام اليوم أن يقود خطاها مرة أخرى ؛ بعد أن فشلت جميع التجارب ، وجميع المذاهب ، وجميع الأوضاع ، وجميع الأنظمة ، وجميع الأفكار ؛ وجميع التصورات ، التي ابتدعها البشر لأنفسهم بعيدا عن منهج الله وهداه . . فشلت في أن ترتفع بالبشرية مرة أخرى إلى تلك القمة ؛ وأن تضمن للإنسان حقوقه الكريمة في هذه الصورة الوضيئة ؛ وأن تفيض على القلوب الطمأنينة - مع هذه النقلة الهائلة - وهي تنقل البشرية إليها بلا مذابح ؛ وبلا اضطهادات ؛ وبلا إجراءات استثنائية تقضي على الحريات الأساسية ؛ وبلا رعب ، وبلا فزع ، وبلا تعذيب ، وبلا جوع ، وبلا فقر ، وبلا عرض واحد من أعراض النقلات التي يحاولها البشر في ظل الأنظمة البائسة التي يضعها البشر ؛ ويتعبد فيها بعضهم بعضا من دون الله . .
فحسبنا هذا القدر هنا . . وحسبنا الإيحاءات القوية العميقة التي تفيض بها النصوص ذاتها ، وتسكبها في القلوب المستنيرة .
قال جمهور المفسرين : { الذين } يراد بهم القوم الذين كان ُعرض طردهم فنهى الله عز وجل عن طردهم ، وشفع ذلك بأن أمر بأن يسلم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ويؤنسهم ، وقال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد { الذين } يراد بهم القوم من المؤمنين الذين صوبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة فأمر الله نبيه أن يسلم عليهم ويعلمهم أن الله يغفر لهم مع توبتهم من ذلك السوء وغيره ، وأسند الطبري عن ماهان أنه قال نزلت الآية في قوم من المؤمنين استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب سلفت منهم فنزلت الآية بسببهم .
قال القاضي أبو محمد : وهي على هذا تعم جميع المؤمنين دون أن تشير إلى فرقة ، وقال الفضيل بن عياض : قال قوم للنبي صلى الله عليه وسلم إنَّا قد أصبنا ذنوباً فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الآية ، وقوله { بآياتنا } يعم آيات القرآن وأيضاً علامات النبوة كلها ، و { سلام عليكم } ابتداء والتقدير : سلام ثابت أو واجب عليكم ، والمعنى : أمنة لكم من عذاب الله في الدنيا والآخرة ، وقيل المعنى أن الله يسلم عليكم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا معنى لا يقتضيه لفظ الآية حكاه المهدوي ، ولفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء ، وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت ، و { كتب } بمعنى أوجب ، والله تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً إلا إذا أعلمنا أنه قد حتم بشيء ما فذلك الشيء واجب ، وفي : أين هذا الكتاب اختلاف ؟ قيل في اللوح المحفوظ ، وقيل في كتاب غيره لقوله عليه السلام في صحيح البخاري : إن الله تعالى كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي{[4933]} .
وقرأ عاصم وابن عامر : «أنه » بفتح الهمزة في الأولى والثانية ، ف «أنه » الأولى بدل من الرحمة و «أنه » الثانية خبر ابتداء مضمر تقديره : فأمره أنه غفور رحيم ، هذا مذهب سيبويه وقال أبو حاتم «فإنه » ابتداء ولا يجوز هذا عند سيبويه ، وقال النحاس : هي عطف على الأولى وتكرير لها لطول الكلام ، قال أبو علي . ذلك لا يجوز لأن { من } لا يخلو أن تكون موصولة بمعنى الذي فتحتاج إلى خبر أو تكون شرطية فتحتاج إلى جواب ، وإذا جعلنا «فأنه » تكريراً للأولى عطفاً عليها بقي المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جواب ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «إنه » بكسر الهمزة في الأولى والثانية ، وهذا على جهة التفسير للرحمة في الأولى والقطع فيها ، وفي الثانية إما في موضع الخبر أو موضع جواب الشرط وحكم ما بعد الفاء إنما هو الابتداء ، وقرأ نافع بفتح الأولى وكسر الثانية ، وهذا على أن أبدل من الرحمة واستأنف بعد الفاء ، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاه الزهراوي عن الأعرج وأظنه وهماً ، لأن سيبويه حكاه عن الأعرج مثل قراءة نافع ، وقال أبو عمرو الداني : قراءة الأعرج ضد قراءة نافع ، و «الجهالة » في هذا الموضع تعم التي تضاد العلم والتي ُتَشَّبه بها ، وذلك أن المتعمد لفعل الشيء الذي قد نهي عنه تشمل معصيته تلك جهالة ، إذ قد فعل ما يفعله الذي لم يتقدم له علم ، قال مجاهد : من الجهالة أن لا يعلم حلالاً من حرام ومن جهالته أن يركب الأمر ، ومن هذا الذي لا يضاد العلم قول النبي عليه السلام في استعاذته «أو أجهل أو يجهل عليّ »{[4934]} ، ومنه قول الشاعر [ عمرو بن كثلوم ] : [ الوافر ]
ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أحَدُ عَلَيْنَا . . . فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا{[4935]}
والجهالة المشبهة ليست بعذر في الشرع جملة والجهالة الحقيقية يعذر بها في بعض ما يخف من الذنوب ولا يعذر بها في كبيرة ، و «التوبة » الرجوع ، وصحتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في الشيء الذي تيب منه .