ثم تأتي صورة الإيمان الواثق المطمئن ؛ وصورة المؤمنين المشرقة الوضيئة ، في مواجهة الهول ، وفي لقاء الخطر . الخطر الذي يزلزل القلوب المؤمنة ، فتتخذ من هذا الزلزال مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين :
( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله . وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . .
لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة ؛ وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة ؛ وكان الفزع الذي لقوه من العنف ، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا ، كما قال عنهم أصدق القائلين : ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) . .
لقد كانوا ناسا من البشر . وللبشر طاقة . لا يكلفهم الله ما فوقها . وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية ؛ وبشارة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لهم ، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق . . على الرغم من هذا كله ، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم .
ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يحس حالة أصحابه ، ويرى نفوسهم من داخلها ، فيقول : " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع . يشرط له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الرجعة . أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة " . . ومع هذا الشرط بالرجعة ، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله في الجنة ، فإن أحدا لا يلبي النداء . فإذا عين بالاسم حذيفة قال : فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني ! . . ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة . .
ولكن كان إلى جانب الزلزلة ، وزوغان الأبصار ، وكرب الأنفاس . . كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله ؛ والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله ؛ والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن ؛ وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها . ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر . ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله ? ألا إن نصر الله قريب ) . . وها هم أولاء يزلزلون . فنصر الله إذن منهم قريب ! ومن ثم قالوا : ( هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله ) . . ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . .
( هذا ما وعدنا الله ورسوله ) . . هذا الهول ، وهذا الكرب ، وهذه الزلزلة ، وهذا الضيق . وعدنا عليه النصر . . فلا بد أن يجيء النصر : ( وصدق الله ورسوله ) . . صدق الله ورسوله في الإمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها . . ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله : ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . .
لقد كانوا ناسا من البشر ، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر ، وضعف البشر . وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ؛ ولا أن يخرجوا من إطار هذا الجنس ؛ ويفقدوا خصائصه ومميزاته . فلهذا خلقهم الله . خلقهم ليبقوا بشرا ، ولا يتحولوا جنسا آخر . لا ملائكة ولا شياطين ، ولا بهيمة ولا حجرا . . كانوا ناسا من البشر يفزعون ، ويضيقون بالشدة ، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة . ولكنهم كانوا - مع هذا - مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله ؛ و تمنعهم من السقوط ؛ وتجدد فيهم الأمل ، وتحرسهم من القنوط . . وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير .
وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور . علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرا ، لم يتخلوا عن طبيعة البشر ، بما فيها من قوة و ضعف . وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان ، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء .
وحين نرانا ضعفنا مرة ، أو زلزلنا مرة ، أو فزعنا مرة ، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق . . فعلينا ألا نيأس من أنفسنا ، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا ؛ أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا ! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية ! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا ! هنالك العروة الوثقى . عروة السماء . وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة ، ونسترد الثقة والطمأنينة ، ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر . فنثبت ونستقر ، ونقوى ونطمئن ، ونسير في الطريق . .
{ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } بقوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا أن الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } الآية ، وقوله عليه الصلاة والسلام " سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم " وقوله عليه الصلاة والسلام " إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر " وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الراء وفتح الهمزة . { وصدق الله ورسوله } ظهر صدق خبر الله ورسوله أو صدقا في النصرة والثواب كما صدقا في البلاء ، وإظهار الاسم للتعظيم . { وما زادهم } فيه ضمير { لما رأوا } ، أو الخطب أو البلاء . { إلا إيمانا } بالله ومواعيده . { وتسليما } لأوامره ومقاديره .
لما ذكرت أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض المؤذنة بما يداخل قلوبهم من الخوف وقلة الإيمان والشك فيما وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من النصر ابتداء من قوله { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 12 ] قوبلت أقوال أولئك بأقوال المؤمنين حينما نزلت بهم الأحزاب ورأوا كثرتهم وعددهم وكانوا على بصيرة من تفوقهم عليهم في القوة والعدد أضعافاً وعلموا أنهم قد ابتلوا وزلزلوا ، كل ذلك لم يُخِرْ عزائمهم ولا أدخل عليهم شكاً فيما وعدهم الله من النصر .
وكان الله وعدهم بالنصر غير مرة منها قوله في سورة البقرة { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مَسَّتْهُمُ البأساءُ والضَّراءُ وزُلْزِلُوا حتى يقولُ الرسول والذين ءامنوا معه مَتَى نصرُ الله ألا إن نصر الله قريب } [ البقرة : 214 ] . فلما رأى المسلمون الأحزاب وابتُلوا وزُلْزِلوا ورأوا مثل الحالة التي وصفت في تلك الآية علموا أنهم منصورون عليهم ، وعلموا أن ذلك هو الوعد الذي وعدهم الله بآية سورة البقرة . وكانت آية البقرة نزلت قبل وقعة الأحزاب بعام ، كذا روي عن ابن عباس ، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر المسلمين : أن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع أو عشر ، فلما رأى المؤمنون الأحزاب وزُلزلوا راجعهم الثبات الناشىء عن قوة الإيمان وقالوا : { هذا ما وعدنا الله ورسوله } أي : من النظر ومن الإخبار بمسير الأحزاب وصدَّقوا وعد الله إياهم بالنصر وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بمسير الأحزاب ، فالإشارة { بهذا } إلى ما شاهدوه من جيوش الأحزاب وإلى ما يتبع ذلك من الشدة والصبر عليها وكل ذلك وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم أخبروا عن صدق الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فيما أخبرا به وصدَقوا الله فيما وعدهم من النصر خلافاً لقول المنافقين : { ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً } [ الأحزاب : 12 ] فالوعد راجع إلى الأمرين والصدق كذلك .
والوعد : إخبار مخبر بأنه سيعمل عملاً للمُخبَر بالفتح .
ففعل { صدق } فيما حكي من قول المؤمنين { وصدق الله ورسوله } مستعمل في الخبر عن صدق مضى وعن صدق سيقع في المستقبل محقق وقوعه بحيث يُجعل استقباله كالمضي مثل { أتى أمرُ الله } [ النحل : 1 ] فهو مستعمل في معنى التحقق . أو هو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، ولا شك أن محمل الفعل على الصدق في المستقبل أنسب بمقام الثناء على المؤمنين وأعلق بإناطة قولهم بفعل { رأى المؤمنون الأحزاب } دون أن يقال : ولما جاءت الأحزاب . فإن أبيتَ استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فاقصره على المجاز واطرح احتمال الإخبار عن الصدق الماضي .
وضمير { زادهم } المستتر عائد إلى ما عاد إليه اسم الإشارة ، أي : وما زادهم ما رأوا إلا إيماناً وتسليماً ، أي : بعكس حال المنافقين إذ زادهم شكاً في تحقق الوعد ، والمعنى : وما زاد ذلك المؤمنين إلا إيماناً ، أي : ما زاد في خواطر نفوسهم إلا إيماناً ، أي : لم يزدهم خوفاً على الخوف الذي من شأنه أن يحصل لكل مترقِّب أن ينازله العدوّ الشديد ، بل شغلهم عن الخوف والهلع شاغل الاستدلال بذلك على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به وفيما وعدهم الله على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام من النصر فأعرضت نفوسهم عن خواطر الخوف إلى الاستبشار بالنصر المترقب .
والتسليم : الانقياد والطاعة لأن ذلك تسليمُ النفس للمنقاد إليه ، وتقدم في قوله تعالى { ويسلّموا تسليماً } في سورة النساء ( 65 ) . ومن التسليم هنا تسليم أنفسهم لملاقاة عدوّ شديد دون أن يتطلبوا الإلقاء بأيديهم إلى العدوّ وأن يصالحوه بأموالهم . فقد ذكر ابن إسحاق وغيره أنه لما اشتدّ البلاء على المسلمين استشار رسول الله السعدَيْن سعدَ بن عُبادة وسعدَ بن معاذ في أن يعطي ثلث ثمار المدينة تلك السنة عيينةَ بنَ حصن ، والحارثَ بن عوف وهما قائدا غطفان على أن يرجعا عن المدينة ، فقالا : يا رسول الله أهو أمر تحبه فنصنعه ، أم شيء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به ، أم شيء تصنعه لنا ؟ قال رسول الله : بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتْكم عن قوس واحد وكَالَبُوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ مَّا . فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قِرى أو بَيْعاً أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزَّنا بك وبه نعطيهم أموالنا ؟ ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيفَ حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، قال رسول الله : فأنت وذاك . فهذا موقف المسلمين في تلك الشدة وهذا تسليم أنفسهم للقتال .
ومن التسليم الرضى بما يأمر به الرسول من الثبات معه كما قال تعالى : { ويُسَلِّمُوا تَسلِيماً } [ النساء : 65 ] .
وإذ قد علم أنهم مؤمنون لقوله { ولمَّا رأى المؤمنون الأحزاب } إلى آخره . . . فقد تعين أن الإيمان الذي زادهم ذلك هو زيادة على إيمانهم ، أي : إيمان مع إيمانهم .
والإيمان الذي زادهُمُوه أريد به مظهر من مظاهر إيمانهم القويّ ، فجعل تكرر مظاهر الإيمان وآثاره كالزيادة في الإيمان لأن تكرر الأعمال يقوِّي الباعث عليها في النفس يباعد بين صاحبه وبين الشك والارتداد فكأنه يزيد في ذلك الباعث ، وهذا من قبيل قوله تعالى : { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } [ الفتح : 4 ] وقوله : { فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيماناً } كما تقدم في سورة براءة ( 124 ) ، فكذلك القول في ضد الزيادة وهو النقص ، وإلا فإن حقيقة الإيمان وهو التصديق بالشيء إذا حصلت بمقوماتها فهي واقعة ، فزيادتها تحصيل حاصل ونقصها نقض لها وانتفاء لأصلها . وهذا هو محمل ما ورد في الكتاب والسنة من إضافة الزيادة إلى الإيمان وكذلك ما يضاف إلى الكفر والنفاق من الزيادة كقوله تعالى : { الأعراب أشدُّ كُفْراً ونِفاقاً } [ التوبة : 97 ] وقوله : { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [ التوبة : 125 ] . وإلى هذا المحمل يرجع خلاف الأيمة في قبول الإيمان الزيادة والنقص فيؤول إلى خلاف لفظي .