28- إن حالكم تثير العجب ! كيف تكفرون ولا توجد شبهة تعتمدون عليها في كفركم ؟ ونظرة إلى حالكم تأبى هذا الكفر ولا تدع لكم عذراً فيه ، فقد كنتم أمواتاً فخلقكم الله ووهبكم الحياة وحسن التقويم ، ثم هو الذي يعيدكم أمواتاً عند انتهاء أجلكم ، ثم يبعثكم أحياء مرة أخرى للحساب والعقاب ثم إليه - لا إلى غيره - تعودون فيحاسبكم ويجازيكم على أعمالكم .
وعند هذا البيان الكاشف لآثار الكفر والفسوق في الأرض كلها يتوجه إلى الناس باستنكار كفرهم بالله المحيي المميت الخالق الرازق المدبر العليم :
( كيف تكفرون بالله ، وكنتم أمواتا فأحياكم ، ثم يميتكم ، ثم يحييكم ، ثم إليه ترجعون ؟ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ؛ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ) . .
والكفر بالله في مواجهة هذه الدلائل والآلاء كفر قبيح بشع ، مجرد من كل حجة أو سند . . والقرآن يواجه البشر بما لا بد لهم من مواجهته ، والاعتراف به ، والتسليم بمقتضياته . يواجههم بموكب حياتهم وأطوار وجودهم . لقد كانوا أمواتا فأحياهم . كانوا في حالة موت فنقلهم منها إلى حالة حياة ولا مفر من مواجهة هذه الحقيقة التي لا تفسير لها إلا بالقدرة الخالقة . إنهم أحياء ، فيهم حياة . فمن الذي أنشأ لهم هذه الحياة ؟ من الذي أوجد هذه الظاهرة الجديدة الزائدة على ما في الأرض من جماد ميت ؟ إن طبيعة الحياة شيء آخر غير طبيعة الموت المحيط بها في الجمادات . فمن أين جاءت ؟ إنه لا جدوى من الهروب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على العقل والنفس ؛ ولا سبيل كذلك لتعليل مجيئها بغير قدرة خالقة ذات طبيعة أخرى غير طبيعة المخلوقات . من أين جاءت هذه الحياة التي تسلك في الأرض سلوكا آخر متميزا عن كل ما عداها من الموات ؟ . . لقد جاءت من عند الله . . هذا هو أقرب جواب . . وإلا فليقل من لا يريد التسليم : أين هو الجواب !
وهذه الحقيقة هي التي يواجه بها السياق الناس في هذا المقام :
( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ؟ ) . .
كنتم أمواتا من هذا الموات الشائع من حولكم في الأرض فأنشا فيكم الحياة ( فأحياكم ) . . فكيف يكفر بالله من تلقى منه الحياة ؟
ولعل هذه لا تلقى مراء ولا جدلا ، فهي الحقيقة التي تواجه الأحياء في كل لحظة ، وتفرض نفسها عليهم فرضا ، ولا تقبل المراء فيها ولا الجدال .
وهذه كانوا يمارون فيها ويجادلون ؛ كما يماري فيها اليوم ويجادل بعض المطموسين ، المنتكسين إلى تلك الجاهلية الأولى قبل قرون كثيرة . وهي حين يتدبرون النشأة الأولى ، لا تدعو إلى العجب ، ولا تدعو إلى التكذيب .
كما بدأكم تعودون ، وكما ذرأكم في الأرض تحشرون ، وكما انطلقتم بإرادته من عالم الموت إلى عالم الحياة ، ترجعون إليه ليمضي فيكم حكمه ويقضي فيكم قضاءه . .
وهكذا في آية واحدة قصيرة يفتح سجل الحياة كلها ويطوى ، وتعرض في ومضة صورة البشرية في قبضة الباريء : ينشرها من همود الموت أول مرة ، ثم يقبضها بيد الموت في الأولى ، ثم يحييها كرة أخرى ، وإليه مرجعها في الآخرة ، كما كانت منه نشأتها في الأولى . . وفي هذا الاستعراض السريع يرتسم ظل القدرة القادرة ، ويلقي في الحس إيحاءاته المؤثرة العميقة .
{ كيف تكفرون بالله } استخبار فيه إنكار ، وتعجيب لكفرهم بإنكار الحال التي يقع عليها على الطريق البرهاني ، فإن صدوره لا ينفك عن حال وصفة فإذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها استلزم ذلك إنكار وجوده ، فهو أبلغ وأقوى في إنكار الكفر ، من ( أتكفرون ) وأوفق لما بعده من الحال ، والخطاب مع الذين كفروا لما وصفهم بالكفر وسوء المقال وخبث الفعال ، خاطبهم على طريقة الالتفات ، ووبخهم على كفرهم مع علمهم بحالهم المقتضية خلاف ذلك ، والمعنى أخبروني على أي حال تكفرون .
{ وكنتم أمواتا } أي أجساما لا حياة لها ، عناصر وأغذية ، وأخلاطا ونطفا ، ومضغا مخلفة وغير مخلفة .
فأحياكم بخلق الأرواح ونفخها فيكم ، وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي .
{ ثم يميتكم } عندما تقضي آجالكم . { ثم يحييكم } بالنشور يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور { ثم إليه ترجعون } بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم . أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب ، فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه . فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم ، لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون . قلت تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر ، سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو : أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا قدر على أن يحييهم ثانيا ، فإن بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته . أو الخطاب مع القبيلين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوة ، ووعدهم على الإيمان ، وأوعدهم على الكفر ، أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة والخاصة ، واستقبح صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة ، فإن عظم النعم يوجب عظم معصية النعم ، فإن قيل : كيف تعد الإماتة من النعم المقتضية للشكر ؟ قلت : لما كانت وصلة إلى الحياة الثانية التي هي الحياة الحقيقية كما قال تعالى : { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } ، كانت من النعم العظيمة مع أن المعدود عليهم نعمة هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها ، كما أن الواقع حالا هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل ، فإن بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح أن يقع حالا . أو مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم ، وتبعيد الكفر عنهم على معنى ، كيف يتصور منكم الكفر وكنتم أمواتا جهالا ، فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ، ثم يميتكم الموت المعروف ، ثم يحييكم الحياة الحقيقية ، ثم إليه ترجعون ، فيثيبكم بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . والحياة حقيقة في القوة الحساسة ، أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيوانا مجازا في القوة النامية ، لأنها من طلائعها ومقدماتها ، وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها ، والموت بإزائها على ما يقابلها في كل مرتبة قال تعالى : { قل الله يحييكم ثم يميتكم } . وقال { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } وقال : { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } وإذا وصف به الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا ، أو معنى قائم بذاته يقتضي ذلك على الاستعارة . وقرأ يعقوب ترجعون بفتح التاء في جميع القرآن .
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 28 )
وقوله تعالى : { كيف تكفرون } لفظه الاستفهام وليس به ، بل هو تقرير وتوبيخ ، أي كيف تكفرون بالله ونعمه عليكم وقدرته هذه ؟ و { كيف } في موضع نصب على الحال والعامل فيها { تكفرون } ، وتقديرها أجاحدين تكفرون أمنكرين تكفرون ؟ و { كيف } مبنية ، وخصت بالفتح لخفته ، ومن قال إن { كيف } تقرير وتعجب فمعناه إن هذا الأمر إن عن فحقه أن يتعجب منه لغرابته وبعده عن المألوف من شكر المنعم ، والواو في قوله { وكنتم } واو الحال( {[389]} ) ، واختلف في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين : فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد .
«فالمعنى كنتم أمواتاً معدومين قبل أن تخلقوا دارسين ، كما يقال للشيء الدارس ميت ، ثم خلقتم وأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم أماتكم الموت المعهود ، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة »( {[390]} ) .
وقال آخرون : «كنتم أمواتاً بكون آدم من طين ميتاً قبل أن يُحيى ثم نفخ فيه الروح فأحياكم بحياة آدم ثم يميتكم ثم يحييكم على ما تقدم » .
وقال قتادة : «كنتم أمواتاً في أصلاب آبائكم فأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم كما تقدم » .
وقال غيره : «كنتم أمواتاً في الأرحام قبل نفخ الروح ثم أحياكم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم » .
وقال ابن زيد : «إن الله تعالى أخرج نسم بني آدم أمثال الذر ثم أماتهم بعد ذلك فهو قوله وكنتم أمواتاً ، ثم أحياهم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم » .
وقال ابن عباس وأبو صالح : «كنتم أمواتاً بالموت المعهود ثم أحياكم للسؤال في القبور ، ثم أماتكم فيها ، ثم أحياكم للبعث » .
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : «وكنتم أمواتاً بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والقول الأول هو أولى هذه الأقوال ، لأنه الذي لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه ، ثم إن قوله أولاً { كنتم أمواتاً } وإسناده آخراً الإماتة إليه تبارك وتعالى مما يقوي ذلك القول ، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتاً معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر ، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها ، والضمير في { إليه } عائد على الله تعالى أي إلى ثوابه أو عقابه ، وقيل هو عائد على الاحياء ، والأول أظهر .
وقرأ جمهور الناس «تُرجَعون » بضم التاء وفتح الجيم .
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن يعمر وسلام والفياض بن غزوان( {[391]} ) ويعقوب الحضرمي : «يَرجع ويَرجعون وتَرجعون » بفتح الياء والتاء حيث وقع . ( {[392]} )
ثُني عنان الخطاب إلى الناس الذين خوطبوا بقوله آنفاً : { يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ] ، بعد أن عقب بأفانين من الجمل المعترضة من قوله : { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري } [ البقرة : 25 ] إلى قوله : { الخاسرون } [ البقرة : 27 ] .
وليس في قوله : { كيف تكفرون بالله } تناسب مع قوله : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما } [ البقرة : 26 ] وما بعده مما حكى عن الذين كفروا في قولهم : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } [ البقرة : 26 ] حتى يكون الانتقالُ إلى الخطاب في قوله : { تكفرون } التفاتاً ، فالمناسبة بين موقع هاته الآية بعد ما قبلها هي مناسبة اتحاد الغرض ، بعد استيفاء ما تخلل واعترض .
ومن بديع المناسبة وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات أن كانت العلل التي قرن بها الأمر بعبادة الله تعالى في قوله : { يأيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] الخ هي العلل التي قرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر به تعالى في قوله هنا : { كيف تكفرون بالله } فقال فيما تقدم : { الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } [ البقرة : 21 ] { الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء } [ البقرة : 22 ] الآية وقال هنا : { وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء } [ البقرة : 29 ] وكان ذلك مبدأ التخلص إلى ما سيرد من بيان ابتداء إنشاء نوع الإنسان وتكوينه وأطواره .
فالخطاب في قوله : { تكفرون } متعين رجوعه إلى { الناس } وهم المشركون لأن اليهود لم يكفروا بالله ولا أنكروا الإحياء الثاني .
و { كيف } اسم لا يعرف اشتقاقه يدل على حالة خاصة وهي التي يقال لها الكيفية نسبة إلى كيف ويتضمن معنى السؤال في أكثر موارد استعماله فلدلالته على الحالة كان في عداد الأسماء لأنه أفاد معنى في نفسه إلا أن المعنى الاسمي الذي دل عليه لما كان معنى مبهماً شابه معنى الحرف فلما أشربوه معنى الاستفهام قوي شبهه بالحروف لكنه لا يخرج عن خصائص الأسماء فلذلك لا بد له من محلِّ إعراب ، وأكثر استعماله اسمُ استفهام فيعرب إعراب الحال . ويستفهم بكيف عن الحال العامة . والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والإنكار بقرينة قوله : { وكنتم أمواتاً } الخ أي إن كفركم مع تلك الحالة شأنه أن يكون منتفياً لا تركن إليه النفس الرشيدة لوجود ما يصرف عنه وهو الأحوال المذكورة بعْدُ فكان من شأنه أن يُنكر فالإنكار متولد من معنى الاستفهام ولذلك فاستعماله فيهما من إرادة لازم اللفظ ، وكأن المنكر يريد أن يقطع معذرة المخاطب فيظهر له أنه يتطلب منه الجواب بما يُظهر السبب فيُبطل الإنكار والعجَب حتى إذا لم يبد ذلك كان حقيقاً باللوم والوعيد .
والكفر بضم الكاف مصدر سماعي لكَفَر الثلاثي القاصر وأصله جَحْد المنعَم عليه نعمةَ المنْعِم ، اشتق من مادة الكَفر بفتح الكاف وهو الحَجب والتغطية لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها كما أن شاكرها أعلنها .
وضده الشكر ولذلك صيغ له مصدر على وزان الشُّكر وقالوا أيضاً كفران على وزن شُكران ، ثم أطلق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة بناء على أنه أشد صور كفر النعمة إذ الذي يترك عبادة من أنعم عليه في وقت من الأوقات قد كفر نعمته في تلك الساعة إذ توجَّهَ بالشكر لغير المنعِم وتركَ المنعِم حين عزمه على التوجه بالشكر ولأن عزم نفسه على مداومة ذلك استمرار في عقد القلب على كفر النعمة وإن لم يتفطن لذلك ، فكان أكثرُ إطلاق الكفر بصيغة المصدر في القرآن على الإشراك بالله ولم يَرد الكفر بصيغة المصدر في القرآن لغير معنى الإشراك بالله . وقل ورود فعل الكفر أو وصف الكافر في القرآن لجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك حيث تكون قرينة على إرادة ذلك كقوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } [ البقرة : 105 ] وقولِه : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة : 44 ] يريد اليهود .
وأما إطلاقه في السنة وفي كلام أئمة المسلمين فهو الاعتقاد الذي يخرج معتقده عن الإسلام وما يدل على ذلك الاعتقاد من قول أو فعل دلالة لا تحتمل غير ذلك .
وقد ورد إطلاق الكفر في كلام الرسول عليه السلام وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام إطلاقاً على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل الكفر ولكن بعض فرق المسلمين يتشبثون بظاهر ذلك الإطلاق فيقضون بالكفر على مرتكب الكبائر ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله . وفرق المسلمين يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر وفي أن إثبات بعض الصفات لله تعالى أو نفي بعض الصفات عنه تعالى داخل في ماهية الكفر على مذاهب شتى .
ومذهب أهل الحق من السلف والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب أو ذنوب من الكبائر فقد ارتكبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين ، والقول بتكفير العصاة خطر على الدين لأنه يؤول إلى انحلال جامعة الإسلام ويهون على المذنب الانسلاخ من الإسلام منشداً « أنا الغريق فما خوفي من البلل » .
ولا يكفر أحد بإثبات صفة لله لا تنافي كماله ولا نفي صفة عنه ليس في نفيها نقصان لجلاله فإن كثيراً من الفرق نفوا صفات ما قصدوا بنفيها إلا إجلالاً لله تعالى وربما أفرطوا في ذلك كما نفى المعتزلة صفات المعاني وجواز رؤية الله تعالى ، وكثير من الفرق أثبتوا صفات ما قصدوا من إثباتها إلا احترام ظواهر كلامه تعالى كما أثبت بعض السلف اليد والإصبع مع جزمهم بأن الله لا يشبه الحوادث .
والإيمان ذكر معناه عند قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] .
وقوله : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } جملة حالية وهي تخلص إلى بيان ما دلت عليه { كيف } بطريق الإجمال وبيان أولى الدلائل على وجوده وقدرته وهي ما يشعر به كل أحد من أنه وجد بعد عدم .
ولقد دل قوله تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } أن هذا الإيجاد على حال بديع وهو أن الإنسان كان مركب أشياء موصوفاً بالموت أي لا حياة فيه إذ كان قد أخذ من العناصر المتفرقة في الهواء والأرض فجمعت في الغذاء وهو موجود ثانٍ ميت ثم استخلصت منه الأمزجة من الدم وغيره وهي ميتة ، ثم استخلص منه النطفتان للذكر والأنثى ، ثم امتزج فصار علقة ثم مضغة كل هذه أطوار أولية لوجود الإنسان وهي موجودات ميتة ثم بثت فيه الحياة بنفخ الروح فأخذ في الحياة إلى وقت الوضع فما بعده ، وكان من حقهم أن يكتفوا به دليلاً على انفراده تعالى بالإلهية .
وإطلاق الأموات هنا مجاز شائع بناء على أن الموت هو عدم اتصاف الجسم بالحياة سواء كان متصفاً بها من قبل كما هو الإطلاق المشهور في العرف أم لم يكن متصفاً بها إذا كان من شأنه أن يتصف بها فعلى هذا يقال للحيوان في أول تكوينه نطفة وعلقة ومضغة ميت لأنه من شأنه أن يتصف بالحياة فيكون إطلاق الأموات في هذه الآية عليهم حين كانوا غير متصفين بالحياة إطلاقاً شائعاً والمقصود به التمهيد لقوله : { فأحياكم } ثم التمهيد والتقريب لقوله : { ثم يميتكم ثم يحييكم } .
وقال كثير من أئمة اللغة الموت انعدام الحياة بعد وجودها وهو مختار الزمخشري والسكاكي وهو الظاهر ، وعليه فإطلاق الأموات عليهم في الحالة السابقة على حلول الحياة استعارة . واتفق الجميع على أنه إطلاق شائع في القرآن فإن لم يكن حقيقة فهو مجاز مشهور قد ساوى الحقيقة وزال الاختلاف .
والحياة ضد الموت ، وهي في نظر الشرع نفخ الروح في الجسم . وقد تعسر تعريف الحياة أو تعريف دوامها على الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين تعريفاً حقيقياً بالحد ، وأوضح تعاريفها بالرسم أنها قوة ينشأ عنها الحس والحركة وأنها مشروطة باعتدال المزاج والأعضاء الرئيسية التي بها تدوم الدورة الدموية ، والمراد بالمزاج التركيب الخاص المناسب مناسبة تليق بنوع ما من المركبات العنصرية وذلك التركيب يحصل من تعادل قوى وأجزاء بحسب ما اقتضته حالة الشيء المركب مع انبثاث الروح الحيواني ، فباعتدال ذلك التركيب يكون النوع معتدلاً ولكل صنف من ذلك النوع مزاج يخصه بزيادة تركيب ، ولكل شخص من الصنف مزاج يخصه ويتكون ذلك المزاج على النظام الخاص تنبعث الحياة في ذي المزاج في إبان نفخ الروح فيه وهي المعبر عنها بالروح النفساني .
وقد أشار إلى هذا التكوين حديث الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه المَلك فينفخ فيه الروح " فأشار إلى حالات التكوين التي بها صار المزاج مزاجاً مناسباً حتى انبعثت فيه الحياة ، ثم بدوام انتظام ذلك المزاج تدوم الحياة وباختلاله تزول الحياة ، وذلك الاختلال هو المعبر عنه بالفساد ، ومن أعظم الاختلال فيه اختلال الروح الحيواني وهو الدم إذا اختلت دورته فعرض له فساد ، وبعروض حالة توقف عمل المزاج وتعطل آثاره يصير الحي شبيهاً بالميت كحالة المغمى عليه وحالة العضو المفلوج ، فإذا انقطع عمل المزاج فذلك الموت . فالموت عدم والحياة ملكة وكلاهما موجود مخلوق قال تعالى : { الذي خلق الموت والحياة } في سورة الملك ( 2 ) .
وليس المقصود من قوله : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } الامتنان بل هو استدلال محض ذكر شيئاً يعده الناس نعمة وشيئاً لا يعدونه نعمة وهو الموتتان فلا يشكل وقوع قوله : { أمواتاً } وقوله : { ثم يميتكم } في سياق الآية .
وأما قوله : { ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } فذلك تفريع عن الاستدلال وليس هو بدليل ، إذ المشركون ينكرون الحياة الآخرة فهو إدماج وتعليم وليس باستدلال ، أو يكون ما قام من الدلائل على أن هناك حياة ثانية قد قام مقام العلم بها وإن لم يحصل العلم فإن كل من علم وجود الخالق العدل الحكيم ورأى الناس لا يجْرُون على مقتضى أوامره ونواهيه فيرى المفسد في الأرض في نعمة والصالح في عناء علم أن عدل الله وحكمته ما كان ليُضيع عمل عامل وأن هنالك حياة أحكم وأعدل من هذه الحياة تكون أحوال الناس فيها على قدر استحقاقهم وسمو حقائقهم .
وقوله : { ثم إليه ترجعون } أي يكون رجوعكم إليه ، شُبِّه الحضور للحساب برجوع السائر إلى منزله باعتبار أن الله خلق الخلق فكأنهم صَدروا من حضرته فإذا أحياهم بعد الموت فكأنهم أرجعَهم إليه وهذا إثبات للحشر والجزاء .
وتقديم المتعلِّق على عامله مفيد القصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطَبين لإفادتهم ذلك إذ كانوا منكرين ذلك وفيه تأييس لهم من نفع أصنامهم إياهم إذ كان المشركون يحاجون المسلمين بأنه إن كان بعث وحشر فسيجدون الآلهة ينصرونهم .
و { تُرجَعون } بضم التاء وفتح الجيم في قراءة الجمهور ، وقرأهُ يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم والقراءة الأولى على اعتبار أن الله أرجعهم وإن كانوا كارهين لأنهم أنكروا البعث والقراءة الثانية باعتبار وقوع الرجوع منهم بقطع النظر عن الاختيار أو الجبر .