57- وقال مشركو مكة للرسول - صلى الله عليه وسلم - معتذرين عن بقائهم على دينهم : إن اتبعناك على دينك أخرجَنَا العرب من بلدنا وغلبونا على سلطاننا . وهم كاذبون فيما يعتذرون به ، فقد ثَبَّتَ الله أقدامهم ببلدهم ، وجعله حرما يأمنون فيه - وهم كفرة - من الإغارة والقتل ، وتُحمل إليه الثمرات والخيرات المتنوعة الكثيرة رزقاً يسوقه الله إليهم من كل جهة ، فكيف يستقيم أن يسلبهم الأمن ويعرضهم للتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت الإيمان بمحمد ؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون الحق ، ولو علموا لما خافوا التَّخطف .
والآن يجيء السياق إلى قولتهم التي قالوها للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] معتذرين عن اتباعه مخافة أن يفقدوا سلطانهم على قبائل العرب المجاورة ، التي تعظم الكعبة ، وتدين لسدنتها ، وتعظم أصنامها ، فتتخطفهم تلك القبائل ، أو يتخطفهم أعداؤهم من وراء شبه الجزيرة دون أن تساندهم هذه القبائل . فيبين لهم أين يكون الأمن وأين يكون الخوف من واقعهم التاريخي ، ومن حاضرهم الذي يشهدونه ، بعدما أبان لهم في هذه السورة عن ذلك في قصة موسى وفرعون . ويجول معهم جولة في مصارع الغابرين تكشف لهم كذلك عن أسباب الهلاك الحقيقية ممثلة في البطر وقلة الشكر والتكذيب بالرسل والإعراض عن الآيات . ثم جولة أخرى أبعد تكشف عن حقيقة القيم وتبدو فيها ضآلة الحياة الدنيا كلها ومتاعها إلى جوار ما عند الله .
( وقالوا : إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا . أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ? ولكن أكثرهم لا يعلمون . وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ، فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ، وكنا نحن الوارثين . وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا ، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون . وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها ، وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ? أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ? ) . .
إنها النظرة السطحية القريبة ، والتصور الأرضي المحدود ، هو الذي أوحى لقريش وهو الذي يوحي للناس أن اتباع هدى الله يعرضهم للمخافة ، ويغري بهم الأعداء ، ويفقدهم العون والنصير ، ويعود عليهم بالفقر والبوار :
( وقالوا : إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) . .
فهم لا ينكرون أنه الهدى ، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس . وهم ينسون الله ، وينسون أنه وحده الحافظ ، وأنه وحده الحامي ؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله ؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله . ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم ، ولو خالطها لتبدلت نظرتهم للقوى ، ولاختلف تقديرهم للأمور ، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله ، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه . وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة ؛ وأن هذا ليس وهما وليس قولا يقال لطمأنة القلوب . إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه ، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة . فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له . والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة ، ويأوي إلى ركن شديد ، في واقع الحياة .
إن هدى الله منهج حياة صحيحة . حياة واقعة في هذه الأرض . وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ؛ ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة . إنما هو يربطهما معا برباط واحد : صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض . ومن ثم يكون الطريق إلى الأخرة . فالدنيا مزرعة الآخرة ، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها . بشرط اتباع هدى الله . والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه .
وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف ؛ بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة . أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة .
وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه . يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم ، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم ، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية ! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ( إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) . فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان .
وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم . فمن الذي وهبهم الأمن ? ومن الذي جعل لهم البيت الحرام ? ومن الذي جعل القلوب تهوى إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعا ? تتجمع في الحرم من كل أرض ، وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة :
( أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ? ) . .
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله ، والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم ? أفمن أمنهم وهم عصاة ، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة ? !
لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة . ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله .
وقوله : { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } : [ يقول تعالى مخبرًا عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع{[22377]} الهدى حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } ] {[22378]} أي : نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى ، وخالفنا مَنْ حولنا من أحياء العرب المشركين ، أن يقصدونا بالأذى والمحاربة ، ويتخطفونا أينما كنا ، فقال الله تعالى مجيبا لهم : { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا } يعني : هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل ؛ لأن الله جعلهم في بلد أمين ، وحَرَم معظم آمن منذ وُضع ، فكيف يكون هذا الحرم آمنًا في حال كفرهم وشركهم ، ولا يكون آمنًا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق ؟ .
وقوله : { يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي : من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره ، وكذلك المتاجر والأمتعة { رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا } أي : من عندنا { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } فلهذا قالوا ما قالوا .
وقد قال{[22379]} النسائي : أنبأنا الحسن بن محمد ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جُرَيْج ، أخبرني ابن أبي مُلَيْكة قال : قال عمرو بن شعيب ، عن ابن عباس - ولم يسمعه منه - : أن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال : { إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا }{[22380]} .
والضمير في قوله { وقالوا } لقريش ، قال ابن عباس والمتكلم بذلك فيهم الحارث بن نوفل وقصد الإخبار بأن العرب تنكر عليهم رفض الأوثان وفراق حكم الجاهلية فتخطفهم من أرضهم ، وقوله و { الهدى } معناه على زعمك ، وحكى الثعلبي أنه قال له إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك تخطفنا العرب فقطعهم الله تعالى بالحجة ، أي أليس كون الحرم لكم مما يسرناه وكففنا عنكم الأيدي فيه فكيف بكم لو أسلمتم واتبعتم ديني وشرعي ، وروي عن أبي عمرو «نتخطفُ » بضم الفاء ، و «أمن الحرم » هو أن لا يغزى ولا يؤذى فيه أحد ، وقوله تعالى { يجبى إليه ثمرات كل شيء } أي تجمع وتجلب ، وقرأ نافع وحده «تجبى » بالتاء من فوق ، وقرأ الباقون «يجبى » بياء من تحت ، ورويت التاء من فوق عن أبي عمرو وأبي جعفر وشيبة بن ناصح ، وقوله تعالى : { كل شيء } ، يريد مما به صلاح حالهم وقوام أمرهم ، وليس العموم فيه على الإطلاق ، وقرأ أبان بن تغلب «ثُمُرات » بضم الثاء والميم ، ثم توعد تعالى قريشاً بضرب المثل بالقرى المهلكة ، أي فلا تغتروا بالحرم والأمن والثمرات التي تجبى ، فإن الله تعالى يهلك الكفرة على ما سلف في الأمم .