( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) .
هذه الثمرات المنبثقة عن الحياة التي بثها الماء النازل من السماء . تتخذون منه سكرا [ والسكر الخمر ولم تكن حرمت بعد ] ورزقا حسنا . والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر وأن الخمر ليست رزقا حسنا ، وفي هذا توطئة لما جاء بعد من تحريمها ، وإنما كان يصف الواقع في ذلك الوقت من اتخاذهم الخمر من ثمرات النخيل والأعناب ، وليس فيه نص بحلها ، بل فيه توطئة لتحريمها ( إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) . . فيدركون أن من يصنع هذا الرزق هو الذي يستحق العبودية له وهو الله . .
ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا{[16527]} ، ثَنَّى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة ، من ثمرات النخيل والأعناب ، وما كانوا يصنعون ، من النبيذ المسكر قبل تحريمه ؛ ولهذا امتن به عليهم ، فقال : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } ، دل على إباحته شرعا قبل تحريمه ، ودل على التسوية بين السَّكَر المتخذ من العنب ، والمتخذ من النخل ، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء ، وكذا حُكْم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل ، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك ، وليس هذا موضع بسط ذلك ، كما قال{[16528]} ابن عباس في قوله : { سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } ، قال : السَّكَر : ما حرم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن : ما أحل من ثمرتيهما . وفي رواية : السَّكر : حرامه ، والرزق الحسن : حلاله . يعني : ما يبس منهما من تمر وزبيب ، وما عمل منهما من طلاء - وهو الدِّبس{[16529]} - وخل ونبيذ ، حلال يشرب قبل أن يشتد ، كما وردت السنة بذلك .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، ناسب ذكر العقل هاهنا ، فإنه أشرف ما في الإنسان ؛ ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة ، صيانة لعقولها ؛ قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } [ يس : 34 - 36 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولكم أيضا أيها الناسُ عِبرةٌ ، فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، ما تَتّخِذُونَ منه سَكَرا ، ورِزْقا حَسَنا ، مع ما نسقيكم من بطون الأنعام من اللبن الخارج من بين الفرث والدم . وحذف من قوله : { وَمِنْ ثَمَراتِ النّخِيلِ والأعنابِ } ، الاسم ، والمعنى : ما وصفت ، وهو : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه ؛ لدلالة «من » عليه ، لأن «من » تدخل في الكلام مُبَعّضة ، فاستغني بدلالتها ، ومعرفة السامعين بما يقتضي من ذكر الاسم معها . وكان بعض نحويي البصرة يقول في معنى الكلام : ومن ثمرات النخيل والأعناب ، شيء تتخذون منه سَكَرا ، ويقول : إنما ذكرت الهاء في قوله : تَتّخِذُونَ مِنْهُ ؛ لأنه أريد بها الشيء ، وهو عندنا عائد على المتروك ، وهو «ما » ، وقوله : { تَتّخِذُونَ } ، من صفة «ما » المتروكة .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، فقال بعضهم : عني بالسّكَر : الخمرُ ، وبالرزق الحسن : التمرُ والزبيبُ ، وقال : أنما نزلت هذه الاَية قبل تحريم الخمر ، ثم حُرّمت بعد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أيوب بن جابر السّحَيْمي ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } قال : السّكَر : ما حُرّم من شرابه ، والرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرته .
حدثنا ابن وكيع وسعيد بن الربيع الرازي ، قالا : حدثنا ابن عيينة ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا قال : الرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرتها ، والسكَر : ما حرّم من ثمرتها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس بنحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأسود بن قيس ، قال : سمعت رجلاً يحدّث عن ابن عباس في هذه الاَية : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : السكر : ما حرّم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرتيهما .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا الحسن بن صالح ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا الأسود بن قيس ، قال : ثني عمرو بن سفيان ، قال : سمعت ابن عباس يقول ، وذكرت عنده هذه الاَية : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النّخِيلِ والأعْنابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : السكر : ما حرّم منهما ، والرزق الحسن : ما أحلّ منهما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان البصري ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } قال : فأما الرزق الحسن : فما أحلّ من ثمرتهما ، وأما السكر : فما حرّم من ثمرتهما .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا الحِمّاني ، قال : حدثنا شريك ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان البصريّ ، عن ابن عباس : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } قال : السكر : حرامه ، والرزق الحسن : حلاله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا العباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس قال : السّكَر : ما حرّم من ثمرتهما ، والرزق الحسن : ما حلّ من ثمرتهما .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسّكَر : الحرام .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : ما حرم من ثمرتهما ، وما أحلّ من ثمرتهما .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : السكر : خمر ، والرزق الحسن : الحلال .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مسعر وسفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسّكَر : الحرام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في هذه الاَية : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : السكَر : الحرام ، والرزق الحسن : الحلال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي رزين : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا قال : نزل هذا وهم يشربون الخمر ، فكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مَهديّ ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم والشعبي وأبي رزين ، قالوا : هي منسوخة في هذه الاَية : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا أبو قطن ، عن سعيد ، عن المُغيرة ، عن إبراهيم والشعبيّ ، وأبي رزين ، بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : هي منسوخة ، نسخها تحريم الخمر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور وعوف ، عن الحسن ، قال السكر : ما حرّم الله منه ، والرزق : ما أحلّ الله منه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن الحسن ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسكَر : الحرام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسكَر : الحرام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب ، عن ليث ، عن مجاهد قال : السكر : الخمر ، والرزق الحسن : الرّطَب والأعناب .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } ، قال : هي الخمر قبل أن تحرّم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } قال : الخمر قبل تحريمها ، وَرِزْقا حَسَنا قال : طعاما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَمِنْ ثَمَراتِ النّخِيلِ والأعنابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، أما السّكَر : فخمور هذه الأعاجم ، وأما الرزق الحسن : فما تنتبذون ، وما تُخَلّلون ، وما تأكلون . ونزلت هذه الاَية ولم تحرّم الخمر يومئذ ، وإنما جاء تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، قال : قرأت على ابن أبي عُذرة ، قال : هكذا سمعت قتادة : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، ثم ذكر نحو حديث بشر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " سَكَرا " ، قال : هي خمور الأعاجم ، ونُسخت في سورة المائدة . والرزق الحسن قال : ما تنتبذون ، وتخلّلون ، وتأكلون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النّخِيلِ والأعْنابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، وذلك أن الناس كانوا يسمّون الخمر : سكرا ، وكانوا يشربونها ، قال ابن عباس : مرّ رجال بوادي السكران ، الذي كانت قريش تجتمع فيه ، إذا تَلَقّوا مسافريهم إذا جاءوا من الشام ، وانطلقوا معهم يشيعونهم حتى يبلغوا وادي السكران ، ثم يرجعوا منه ، ثم سماها الله بعد ذلك الخمر حين حرمت . وقد كان ابن عباس يزعم أنها الخمر ، وكان يزعم أن الحبشة يسمون الخلّ : السكر . قوله : " وَرِزْقا حَسَنا " يعني بذلك الحلال : التمر والزبيب ، وما كان حلالاً لا يسكر .
وقال آخرون : السّكَر بمنزلة الخمر في التحريم ، وليس بخمر ، وقالوا : هي نقيع التمر والزبيب ، إذا اشتدّ وصار يسكر شاربه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو ، في قوله : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النّخِيلِ والأعْنابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال ابن عباس : كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر ، والسكر حرام مثل الخمر ، وأما الحلال منه : فالزبيب والتمر والخل ، ونحوه .
حدثني المثنى ، وعلي بن داود ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } ، فحرّم الله بعد ذلك ، يعني : بعد ما أنزل في سورة البقرة من ذكر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، السّكَر مع تحريم الخمر ؛ لأنه منه ، قال : " وَرِزْقا حَسَنا " فهو الحلال من الخلّ والنبيذ ، وأشباه ذلك ، فأقرّه الله وجعله حلالاً للمسلمين .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن موسى ، قال : سألت مرّة عن السّكَر ، فقال : قال عبد الله : هو : خمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي فروة ، عن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : السكر : خمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم ، قال : السكر : خمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا حسن بن صالح ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وأبي رزين ، قالا : السكر : خمر .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } ، يعني : ما أسكر من العنب والتمر ، " وَرِزْقا حَسَنا " يعني : ثمرتها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } ، قال : الحلال ما كان على وجه الحلال ، حتى غيروها ، فجعلوا منها سَكَرا .
وقال آخرون : " السّكَر " : هو كلّ ما كان حلالاً شربه ، كالنبيذ الحلال ، والخلّ والرطَب . و " الرزق الحسن " : التمر والزبيب . ذكر من قال ذلك :
حدثني داود الواسطيّ ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : أبو رَوْق : ثني قال : قلت للشعبيّ : أرأيت قوله تعالى : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا } ، أهو هذا السّكَر الذي تصنعه النّبَط ؟ قال : لا ، هذا خمر ، إنما السكر الذي قال الله تعالى ذكره : النبيذ والخلّ ، و " الرزق الحسن " : التمر والزبيب .
حدثني يحيى بن داود ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : وذكر مجالد ، عن عامر ، نحوه .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا قال : ما كانوا يتخذون من النخل النّبيذ ، والرزق الحسن : ما كانوا يصنعون من الزبيب والتمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن أبي رَوْق ، عن الشعبيّ ، قال : قلت له : ما تتخذون منه سَكَرا ؟ قال : كانوا يصنعون من النبيذ والخلّ ، قلت : والرزق الحسن ؟ قال : كانوا يصنعون من التمر والزبيب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة وأحمد بن بشير ، عن مجالد ، عن الشعبيّ ، قال : السّكَر : النبيذ ، والرزق الحسن : التمر الذي كان يؤكل .
وعلى هذا التأويل ، الآية غير منسوخة ، بل حكمها ثابت .
وهذا التأويل عندي ، هو أولى الأقوال بتأويل هذه الاَية ، وذلك أن السكر في كلام العرب ، على أحد أوجه أربعة : أحدها : ما أسكر من الشراب . والثاني : ما طُعِم من الطعام ، كما قال الشاعر :
*** جعَلْتُ عَيْبَ الأكْرَمِينَ سَكَرَا ***
أي طعما . والثالث : السّكُون ، من قول الشاعر :
*** جعَلَتْ عينْ الحَرُورِ تَسْكُرُ ***
وقد بيّنا ذلك فيما مضى . والرابع : المصدر ، من قولهم : سَكِرَ فلان ، يَسْكَرُ سُكْرا وسَكْرا وسَكَرا . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان ما يُسْكِر من الشراب حراما ، بما قد دللنا عليه في كتابنا المسمى : «لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام » ، وكان غير جائز لنا أن نقول : هو منسوخ ، إذ كان المنسوخ هو : ما نَفَى حكمه الناسخ ، وما لا يجوز اجتماع الحكم به وناسخه ، ولم يكن في حكم الله تعالى ذكره بتحريم الخمر دليل على أن السّكَر الذي هو غير الخمر ، وغير ما يسكر من الشراب ، حرام ، إذ كان السكر أحد معانيه عند العرب ، ومن نزل بلسانه القرآن هو : كلّ ما طعم ، ولم يكن مع ذلك ، إذ لم يكن في نفس التنزيل دليل على أنه منسوخ ، أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول ، ولا أجمعت عليه الأمة ، فوجب القول بما قلنا من أن معنى السّكَرَ في هذا الموضع : هو كلّ ما حلّ شربه ، مما يتخذ من ثمر النخل والكرم ، وفسد أن يكون معناه الخمر أو ما يسكر من الشراب ، وخرج من أن يكون معناه السّكَر نفسه ، إذ كان السّكَر ليس مما يتخذ من النّخْل والكَرْم ، ومن أن يكون بمعنى : السكون .
وقوله : { إنّ فِي ذلكَ لاَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، يقول : فيما إن وصفنا لكم من نعمنا التي آتيناكم أيها الناس ، من الأنعام والنخل والكرم ؛ لدلالة واضحة وآية بينة لقوم يعقلون عن الله حججه ، ويفهمون عنه مواعظه فيتعظون بها .
عطف على جملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } [ سورة النحل : 66 ] .
ووجود { من } في صدر الكلام يدلّ على تقدير فعل يدلّ عليه الفعل الذي في الجملة قبلها وهو { نسقيكم } [ النحل : 66 ] . فالتقدير : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب . وليس متعلقاً ب { تتخذون } ، كما دلّ على ذلك وجود ( من ) الثانية في قوله : { تتخذون منه سكراً } المانع من اعتبار تعلّق { من ثمرات النخيل } ب { تتخذون } ، فإن نظم الكلام يدل على قصد المتكلم ولا يصحّ جعله متعلقاً ب { تتخذون } مقدماً عليه ، لأنه يبعد المعنى عن الامتنان بلطف الله تعالى إذ جعل نفسه الساقي للناس .
وهذا عطف منّة على منّة ، لأن { نسقيكم } وقع بياناً لجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } .
ومفاد فعل { نسقيكم } مفاد الامتنان لأن السقي مزية . وكلتا العِبرتين في السقي . والمناسبةُ أن كلتيهما ماء وأن كلتيهما يضغط باليد ، وقد أطلق العرب الحَلْب على عصير الخمر والنبيذ ، قال حسّان يذكر الخمر الممزوجة والخالصة :
كلتاهما حَلَب العصير فعاطني *** بِزُجاجة أرخاهما للمفصل
ويشير إلى كونهما عبرتين من نوع متقارب جَعْل التذييل بقوله تعالى : { إن في ذلك لآية } عقب ذكر السقيين دون أن يُذيّل سقي الألبان بكونه آية ، فالعبرة في خلق تلك الثمار صالحة للعصر والاختمار ، ومشتملة على منافع للناس ولذّات . وقد دلّ على ذلك قوله تعالى : { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } . فهذا مرتبط بما تقدم من العبرة بخلق النبات والثمرات من قوله تعالى : { ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل } [ سورة النحل : 11 ] الآية .
وجملة { تتخذون منه سكراً } الخ في موضع الحال .
و ( من ) في الموضعين ابتدائية ، فالأولى متعلّقة بفعل { نسقيكم } المقدر ، والثانية متعلقة بفعل { تتخذون } . وليست الثانية تبعيضية ، لأن السكر ليس بعض الثمرات ، فمعنى الابتداء ينتظم كلا الحرفين .
والسكر بفتحتين : الشراب المُسْكِر .
وهذا امتنان بما فيه لذّتهم المرغوبة لديهم والمتفشّية فيهم ( وذلك قبل تحريم الخمر لأن هذه الآية مكّية وتحريم الخمر نزل بالمدينة ) فالامتنان حينئذٍ بمباح .
والرزق : الطعام ، ووصف ب { حسناً } لما فيه من المنافع ، وذلك التمر والعنب لأنهما حلوان لذيذان يؤكلان رطبين ويابسين قابلان للادخار ، ومن أحوال عصير العنب أن يصير خلاً ورُبّاً .
وجملة { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } تكرير لتعداد الآية لأنها آية مستقلة .
والقول في جملة { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } مثل قوله آنفاً : { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } [ سورة النحل : 65 ] . والإشارة إلى جميع ما ذكر من نعمة سقي الألبان وسقي السكر وطعم الثمر .
واختير وصف العقل هنا لأن دلالة تكوين ألبان الأنعام على حكمة الله تعالى يحتاج إلى تدبّر فيما وصفته الآية هنا ، وليس هو ببديهي كدلالة المطر كما تقدم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سبحانه: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا}، يعني بالثمرات؛ لأنها جماعة ثمر، يعني بالسكر: ما حرم من الشراب، مما يسكرون من ثمره، يعني: النخيل والأعناب،
ثم قال سبحانه: {إن في ذلك لآية لقوم يعقلون}، يعني: فيما ذكر من اللبن والثمار، لعبرة لقوم يعقلون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولكم أيضا أيها الناسُ عِبرةٌ، فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، ما "تَتّخِذُونَ منه سَكَرا، ورِزْقا حَسَنا"، مع ما نسقيكم من بطون الأنعام من اللبن الخارج من بين الفرث والدم...
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: {تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا}؛ فقال بعضهم: عني بالسّكَر: الخمرُ، وبالرزق الحسن: التمرُ والزبيبُ، وقال: إنما نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، ثم حُرّمت بعد... عن ابن عباس، قوله: {تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا} قال: السّكَر: ما حُرّم من شرابه، والرزق الحسن: ما أحلّ من ثمرته...
عن إبراهيم، في قوله: {تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا}، قال: هي منسوخة، نسخها تحريم الخمر...
وقال آخرون: السّكَر بمنزلة الخمر في التحريم، وليس بخمر، وقالوا: هي نقيع التمر والزبيب، إذا اشتدّ وصار يسكر شاربه... قال ابن عباس: كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر، والسكر حرام مثل الخمر، وأما الحلال منه: فالزبيب والتمر والخل، ونحوه...
وقال آخرون: "السّكَر ": هو كلّ ما كان حلالاً شربه، كالنبيذ الحلال، والخلّ والرطَب. و "الرزق الحسن ": التمر والزبيب... عن الشعبيّ، قال: السّكَر: النبيذ، والرزق الحسن: التمر الذي كان يؤكل.
وعلى هذا التأويل، الآية غير منسوخة، بل حكمها ثابت.
وهذا التأويل عندي، هو أولى الأقوال بتأويل هذه الآية، وذلك أن السكر في كلام العرب، على أحد أوجه أربعة: أحدها: ما أسكر من الشراب. والثاني: ما طُعِم من الطعام... والثالث: السّكُون... والرابع: المصدر، من قولهم: سَكِرَ فلان، يَسْكَرُ سُكْرا وسَكْرا وسَكَرا. فإذا كان ذلك كذلك، وكان ما يُسْكِر من الشراب حراما، بما قد دللنا عليه في كتابنا المسمى: «لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام»، وكان غير جائز لنا أن نقول: هو منسوخ، إذ كان المنسوخ هو: ما نَفَى حكمه الناسخ، وما لا يجوز اجتماع الحكم به وناسخه، ولم يكن في حكم الله تعالى ذكره بتحريم الخمر دليل على أن السّكَر الذي هو غير الخمر، وغير ما يسكر من الشراب، حرام، إذ كان السكر أحد معانيه عند العرب، ومن نزل بلسانه القرآن هو: كلّ ما طعم، ولم يكن مع ذلك، إذ لم يكن في نفس التنزيل دليل على أنه منسوخ، أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول، ولا أجمعت عليه الأمة، فوجب القول بما قلنا من أن معنى السّكَرَ في هذا الموضع: هو كلّ ما حلّ شربه، مما يتخذ من ثمر النخل والكرم، وفسد أن يكون معناه الخمر أو ما يسكر من الشراب، وخرج من أن يكون معناه السّكَر نفسه، إذ كان السّكَر ليس مما يتخذ من النّخْل والكَرْم، ومن أن يكون بمعنى: السكون.
وقوله: {إنّ فِي ذلكَ لآية لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، يقول: فيما إن وصفنا لكم من نعمنا التي آتيناكم أيها الناس، من الأنعام والنخل والكرم؛ لدلالة واضحة وآية بينة لقوم يعقلون عن الله حججه، ويفهمون عنه مواعظه فيتعظون بها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم قال "ومن ثمرات"، وهو جمع ثمرة، وهو ما يطعمه الشجر مما فيه اللذة، والثمرة خاصة طعم الشجر مما فيه اللذة...
وقوله "يتخذون منه سكرا ورزقا حسنا"...
خلق هذه الثمار لتنتفعوا بها، فاتخذتم أنتم منها ما هو محرم عليكم، وتركتم ما هو رزق حسن. وأما وجه المنة فبالأمرين معا ثابتة، لأن ما أباحه وأحله فالمنة به ظاهرة لتعجل الانتفاع به، وما حرمه الله فوجه المنة أيضا ظاهر به، لأنه إذا حرم علينا، وأوجب الامتناع منه، ضمن في مقابلته الثواب، الذي هو أعظم النعم، فهو نعمة على كل حال...
وقوله "إن في ذلك لآية لقوم يعقلون"، معناه: إن فيما ذكره دلالة ظاهرة، للذين يعقلون عن الله، ويتفهمون ويفكرون فيه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تقديره: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً؛ لأنهم يأكلون بعضها، ويتخذون من بعضها السكر...
أحدهما: أن تكون منسوخة. وممن قال بنسخها: الشعبي والنخعي.
والثاني: أن يجمع بين العتاب والمنة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما كان مفتتح الكلام: وأن لكم في الأنعام لعبرة، ناسب الختم بقوله: يعقلون، لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول...
وانظر إلى الإخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن، لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة من الناس، أخبر عن نفسه تعالى بقوله:"نسقيكم". ولما كان السكر والرزق الحسن يحتاج إلى معالجة قال: "تتخذون"، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق، ولأمر ما عجزت العرب العرباء عن معارضته...
ولما ذكر تعالى المنة بالمشروب اللبن وغيره، أتم النعمة بذكر عسل النحل...
ولما كانت المشروبات من اللبن وغيره هو الغالب في الناس أكثر من العسل، قدم اللبن وغيره عليه، وقدم اللبن على ما بعده لأنه المحتاج إليه كثيراً وهو الدليل على الفطرة. ولذلك اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم حين أسري به، وعرض عليه اللبن والخمر والعسل، وجاء ترتيبها في الجنة لهذه الآية قال تعالى: {وأنهاراً من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم عطف عليه ما هو أنفس منه عندهم، وأقرب إليه في المعاني المذكورة، فقال تعالى معلقاً ب "نسقيكم "{ومن ثمرات النخيل والأعناب}.
ولما كان لهم مدخل في اتخاذ ما ذكر منه، بخلاف اللبن الذي لا صنع لهم فيه أصلاً، أسند الأمر إليهم، وليكون ذلك إشارة إلى كراهة السكر، وتوطئة للنهي عنه، في قوله مستأنفاً: {تتخذون}، أي: باصطناع منكم وعلاج، ولأجل استئناف هذه الجملة، كان لا بد من قوله: {منه}، أي: من مائه، وعبر عن السكر بالمصدر، إبلاغاً في تقبيحه، وزاد في الإبلاغ بالتعبير بأثقل المصدرين، وهو المحرك، يقال: سكر سكْراً وسكَراً مثل رشد رشْداً ورشَداً، ونحل نحْلاً ونحَلاً، فقال تعالى: {سكراً}، أي: ذا سكر، منشّياً، مطرباً، سادّاً لمجاري العقل، قبيحاً غير مستحسن للرزق. {ورزقاً حسناً}، لا ينشأ عنه ضرر في بدن ولا عقل، من الخل والدبس وغيرهما، ولا يسد شيئاً من المجاري، بل ربما فتحها، كالحلال الطيب، فإنه ينير القلب، ويوسع العقل، والأدهان كلها تفتح سدد البدن، وهذا كما منحكم سبحانه العقل، الذي لا أحسن منه، فاستعمله قوم على صوابه في الوحدانية، وعكس آخرون فدنسوه بالإشراك؛ قال الرماني: قيل: السكر: ما حرم من الشراب، والرزق الحسن: ما أحل منه -عن ابن عباس رضي الله عنهما، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، والشعبي، وأبي رزين، والحسن، ومجاهد، وقتادة، رضي الله عنهم. والسكر في اللغة على أربعة أوجه: الأول: ما أسكر. الثاني: ما أطعم من الطعام. الثالث: السكون. الرابع: المصدر من سكر، وأصله انسداد المجاري، مما يلقى فيها، ومنه السكر- يعني بكسر ثم سكون، ومن حمل السكر على السكر قال: إنها منسوخة بآية المائدة، والتعبير عنه بما يفهم سد المجاري، يفهم كراهته عندما كان حلالاً... ولتقارب آيتي الأنعام والأشجار، جمعهما سبحانه فقال تعالى: {إن في ذلك}، أي: الأمر العظيم من هذه المنافع، {لآية}، ولوضوح أمرهما في كمال قدرة الخالق ووحدانيته، قال تعالى: {لقوم يعقلون}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الثمرات المنبثقة عن الحياة التي بثها الماء النازل من السماء. تتخذون منه سكرا [والسكر الخمر ولم تكن حرمت بعد] ورزقا حسنا. والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر وأن الخمر ليست رزقا حسنا، وفي هذا توطئة لما جاء بعد من تحريمها، وإنما كان يصف الواقع في ذلك الوقت من اتخاذهم الخمر من ثمرات النخيل والأعناب، وليس فيه نص بحلها، بل فيه توطئة لتحريمها (إن في ذلك لآية لقوم يعقلون).. فيدركون أن من يصنع هذا الرزق هو الذي يستحق العبودية له وهو الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {وإن لكم في الأنعام لعبرة} [سورة النحل: 66].
ووجود {من} في صدر الكلام يدلّ على تقدير فعل يدلّ عليه الفعل الذي في الجملة قبلها وهو {نسقيكم} [النحل: 66]. فالتقدير: ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب. وليس متعلقاً ب {تتخذون}، كما دلّ على ذلك وجود (من) الثانية في قوله: {تتخذون منه سكراً} المانع من اعتبار تعلّق {من ثمرات النخيل} ب {تتخذون}، فإن نظم الكلام يدل على قصد المتكلم ولا يصحّ جعله متعلقاً ب {تتخذون} مقدماً عليه، لأنه يبعد المعنى عن الامتنان بلطف الله تعالى إذ جعل نفسه الساقي للناس.
وهذا عطف منّة على منّة، لأن {نسقيكم} وقع بياناً لجملة {وإن لكم في الأنعام لعبرة}.
ومفاد فعل {نسقيكم} مفاد الامتنان لأن السقي مزية. وكلتا العِبرتين في السقي. والمناسبةُ أن كلتيهما ماء وأن كلتيهما يضغط باليد، وقد أطلق العرب الحَلْب على عصير الخمر والنبيذ...
ويشير إلى كونهما عبرتين من نوع متقارب جَعْل التذييل بقوله تعالى: {إن في ذلك لآية} عقب ذكر السقيين دون أن يُذيّل سقي الألبان بكونه آية، فالعبرة في خلق تلك الثمار صالحة للعصر والاختمار، ومشتملة على منافع للناس ولذّات. وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: {إن في ذلك لآية لقوم يعقلون}. فهذا مرتبط بما تقدم من العبرة بخلق النبات والثمرات من قوله تعالى: {ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل} [سورة النحل: 11] الآية.
وجملة {تتخذون منه سكراً} الخ في موضع الحال.
و (من) في الموضعين ابتدائية، فالأولى متعلّقة بفعل {نسقيكم} المقدر، والثانية متعلقة بفعل {تتخذون}. وليست الثانية تبعيضية، لأن السكر ليس بعض الثمرات، فمعنى الابتداء ينتظم كلا الحرفين.
والسكر بفتحتين: الشراب المُسْكِر.
وهذا امتنان بما فيه لذّتهم المرغوبة لديهم والمتفشّية فيهم (وذلك قبل تحريم الخمر لأن هذه الآية مكّية وتحريم الخمر نزل بالمدينة) فالامتنان حينئذٍ بمباح.
والرزق: الطعام، ووصف ب {حسناً} لما فيه من المنافع، وذلك التمر والعنب لأنهما حلوان لذيذان يؤكلان رطبين ويابسين قابلان للادخار، ومن أحوال عصير العنب أن يصير خلاً ورُبّاً.
وجملة {إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} تكرير لتعداد الآية لأنها آية مستقلة.
والقول في جملة {إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} مثل قوله آنفاً: {إن في ذلك لآية لقوم يسمعون} [سورة النحل: 65]. والإشارة إلى جميع ما ذكر من نعمة سقي الألبان وسقي السكر وطعم الثمر.
واختير وصف العقل هنا لأن دلالة تكوين ألبان الأنعام على حكمة الله تعالى يحتاج إلى تدبّر فيما وصفته الآية هنا، وليس هو ببديهي كدلالة المطر كما تقدم.