يمضي هذا الدرس في بيان حال أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - وكشف الانحراف فيما يعتقدون ، وكشف السوء فيما يصنعون ؛ في تاريخهم كله - وبخاصة اليهود - كما يمضي في تقرير نوع العلاقة بنيهم وب إنه الأمر الجازم الحاسم للرسول [ ص ] أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه كاملا ، وألا يجعل لأي اعتبار من الاعتبارات حسابا وهو يصدع بكلمة الحق . . هذا ، وإلا فما بلغ وما أدى وما قام بواجب الرسالة . . والله يتولى حمايته وعصمته من الناس ، ومن كان الله له عاصما فماذا يملك له العباد المهازيل !
إن كلمة الحق في العقيدة لا ينبغي أن تجمجم ! إنها يجب أن تبلغ كاملة فاصلة ؛ وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء ؛ وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل ؛ فإن كلمة الحق في العقيدة لا تملق الأهواء ؛ ولا تراعي مواقع الرغبات ؛ إنما تراعي أن تصدع حتى تصل إلى القلوب في قوة وفي نفاذ . .
وكلمة الحق في العقيدة حين تصدع تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى . . وحين تجمجم لا تلين لها القلوب التي لا استعداد فيها للإيمان ؛ وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة !
( إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) . .
وإذن فلتكن كلمة الحق حاسمة فاصلة كاملة شاملة . . والهدى والضلال إنما مناطهما استعداد القلوب وتفتحها ، لا المداهنة ولا الملاطفة على حساب كلمة الحق أو في كلمة الحق !
إن القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة ، لا يعني الخشونة والفظاظة ؛ فقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة - وليس هنالك تعارض ولا اختلاف بين التوجيهات القرآنية المتعددة - والحكمة والموعظة الحسنة لا تجافيان الحسم والفصل في بيان كلمة الحق . فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه . والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة في العقيدة ، وعدم اللقاء في منتصف الطريق في الحقيقة ذاتها . فالحقيقة الاعتقادية ليس فيها أنصاف حلول . . ومنذ الأيام الأولى للدعوة كان الرسول [ ص ] يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة في طريقة التبليغ ، وكان يفاصل مفاصلة كاملة في العقيدة ، فكان مأمورا أن يقول : ( يا أيها الكافرون : لا أعبد ما تعبدون . . ) فيصفهم بصفتهم ؛ ويفاصلهم في الأمر ، ولا يقبل أنصاف الحلول التي يعرضونها عليه ، ولا يدهن فيدهنون ، كما يودون ! ولا يقول لهم : إنه لا يطلب إليهم إلا تعديلات خفيفة فيما هم عليه ، بل يقول لهم : إنهم على الباطل المحض ، وإنه على الحق الكامل . . فيصدع بكلمة الحق عالية كاملة فاصلة ، في أسلوب لا خشونة فيه ولا فظاظة . .
وهذا النداء ، وهذا التكليف ، في هذه السورة :
( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته - والله يعصمك من الناس . . إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) . .
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة ، وآمرًا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به ، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك ، وقام به أتمّ القيام .
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : من حَدّثَك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم{[10073]} كتم شيئًا مما أُنزل عليه{[10074]} فقد كذب ، الله{[10075]} يقول : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } الآية .
هكذا رواه ههنا مختصرًا ، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا . وكذا رواه مسلم في " كتاب الإيمان " ، والترمذي والنسائي في " كتاب التفسير " من سننهما من طرق ، عن عامر الشعبي ، عن مسروق بن الأجدع ، عنها رضي الله عنها . {[10076]}
وفي الصحيحين عنها أيضا{[10077]} أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما من القرآن شيئًا لكتم هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } [ الأحزاب : 37 ] . {[10078]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد ، عن{[10079]} هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : كنت عند ابن عباس فجاء{[10080]} رجل فقال له : إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يبده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس . فقال : ألم تعلم أن الله تعالى قال : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداءَ في بيضاء .
وهذا إسناد جيد ، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جُحَيفَة وهب بن عبد الله السّوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذي{[10081]} فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فَهْمًا يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفَكَاك الأسير ، وألا يقتل مسلم بكافر{[10082]} .
وقال البخاري : قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم . {[10083]}
وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل ، في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من الصحابة{[10084]} نحو من أربعين ألفًا{[10085]} كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس ، إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك قد بَلّغت وأدّيتَ ونصحت . فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ويَقلبها{[10086]} إليهم ويقول : " اللهم هل بَلَّغْتُ ، اللهم هل بلغت " . {[10087]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمير ، حدثنا فضيل - يعني ابن غَزْوان - عن عِكْرمَة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " يأيها الناس ، أيّ يوم هذا ؟ " قالوا : يوم حرام . قال : " أيّ بلد هذا ؟ " قالوا : بلد حرام . قال : " فأيّ شهر هذا ؟ " قالوا : شهر حرام . قال : " فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا " . ثم أعادها مرارًا . ثم رفع إصبعه{[10088]} إلى السماء فقال : " اللهم هل بلغت ! " مرارًا - قال : يقول ابن عباس : والله لَوصِيَّةٌ إلى ربه عز وجل - ثم قال : " ألا فليبلغ الشاهدُ الغائِبَ ، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض " .
وقد روى البخاري عن علي بن المديني ، عن يحيى بن سعيد عن فضيل بن غزوان ، به نحوه . {[10089]}
وقوله : { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني : وإن لم تُؤد إلى الناس ما أرسلتك به { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : وقد عَلِم ما يترتب على ذلك لو وقع .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني : إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي : حدثنا قُبَيْصة بن عُقْبَةَ{[10090]} حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } قال : " يا رب ، كيف أصنع وأنا وحدي ؟ يجتمعون عليَّ " . فنزلت { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }
ورواه ابن جرير ، من طريق سفيان - وهو الثوري - به .
وقوله : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } أي : بلغ أنت رسالتي ، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم ، فلا تخف ولا تحزن ، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يُحْرَس{[10091]} كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا يحيى ، قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث : أن عائشة كانت تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهِر ذات ليلة ، وهي إلى جنبه ، قالت : فقلتُ : ما شأنك يا رسول الله ؟ قال : " ليت رجلا صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة ؟ " قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال : " من هذا ؟ " فقال : أنا سعد بن مالك . فقال : " ما جاء بك ؟ " قال : جئت لأحرسك يا رسول الله . قالت : فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه . أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري ، به . {[10092]}
وفي لفظ : سَهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مَقْدَمِه المدينة . يعني : على أثر هجرته [ إليها ]{[10093]} بعد دخوله بعائشة ، رضي الله عنها ، وكان ذلك في سنة ثنتين منها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري نزيل مصر ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عُبَيد - يعني أبا قدامة - عن الجُرَيري ، عن عبد الله بن شَقِيق ، عن عائشة [ رضي الله عنها ]{[10094]} قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } قالت : فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة ، وقال : " يأيها الناس ، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل " .
وهكذا رواه الترمذي ، عن عبد بن حُمَيد وعن نصر بن علي الجَهْضمي ، كلاهما عن مسلم بن إبراهيم ، به . ثم قال : وهذا حديث غريب .
وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه ، من طرق مسلم بن إبراهيم ، به . ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وكذا رواه سعيد بن منصور ، عن الحارث بن عُبَيد أبي قدامة [ الأيادي ]{[10095]} عن الجُرَيري ، عن عبد الله بن شَقِيق ، عن عائشة ، به . {[10096]}
ثم قال الترمذي : وقد روى بعضهم هذا عن الجُرَيري ، عن ابن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس . ولم يذكر عائشة .
قلت : هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن عُلَيَّةَ ، وابن مردويه من طريق وُهَيْب{[10097]} كلاهما عن الجُرَيري ، عن عبد الله بن شقيق مرسلا{[10098]} وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبَيْر ومحمد بن كعب القُرَظي ، رواهما ابن جرير{[10099]} والربيع بن أنس رواه ابن مردويه ، ثم قال :
حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن رِشدِين المصري ، حدثنا خالد بن عبد السلام الصَّدفي ، حدثنا الفضل بن المختار ، عن عبد الله{[10100]} بن مَوْهَب ، عن عصمة بن مالك الْخَطمي{[10101]} قال : كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل حتى نزلت : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فترك الحرس . {[10102]}
حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا حمد{[10103]} بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي ، حدثنا كُرْدُوس بن محمد الواسطي ، حدثنا معلي بن عبد الرحمن{[10104]} عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم رسول الله{[10105]} صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } ترك رسول الله{[10106]} صلى الله عليه وسلم الحرس . {[10107]}
حدثنا علي بن أبي حامد المديني ، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن مُفَضَّل بن إبراهيم الأشعري ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن معاوية بن عمار ، حدثنا أبي قال : سمعت أبا الزبير المكي يحدث ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه ، حتى نزلت : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فذهب ليبعث معه ، فقال : " يا عم ، إن الله قد عصمني ، لا حاجة لي إلى من تبعث " .
وهذا حديث غريب وفيه نكارة{[10108]} فإن هذه الآية مدنية ، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية .
ثم قال : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبد الحميد الحمَّاني ، عن النضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ، فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا{[10109]} من بني هاشم يحرسونه ، حتى نزلت عليه هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : " إن الله قد عصمني من الجن والإنس " .
ورواه الطبراني عن يعقوب بن غَيْلان العماني ، عن أبي كريب به . {[10110]}
وهذا أيضا غريب . والصحيح أن هذه الآية مدنية ، بل هي من أواخر ما نزل بها ، والله أعلم .
ومن عصمة الله [ عز وجل ]{[10111]} لرسوله حفْظُه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومُعَانديها ومترفيها ، مع شدة العداوة والبَغْضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارًا ، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته{[10112]} العظيمة . فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب ، إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش ، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية ، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها ، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه ، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا ، ثم قيض الله [ عز وجل ]{[10113]} له الأنصار فبايعوه على الإسلام ، وعلى أن يتحول إلى دارهم - وهي المدينة ، فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود ، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه ، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم ، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء ، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر ، أعلمه{[10114]} الله به وحماه [ الله ]{[10115]} منه ؛ ولهذا أشباه كثيرة جدًا يطول ذكرها ، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة :
فقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا أبو مَعْشَرٍ ، عن محمد بن كعب القُرَظِي وغيره قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها . فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ فقال : " الله عز وجل " ، فَرُعِدَت يد الأعرابي وسقط السيف منه ، قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله عز وجل : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }{[10116]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القَطَّان ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار ، نزل ذات الرِّقاع{[10117]} بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ، فقال غَوْرَث بن الحارث{[10118]} من بني النجار : لأقتلن محمدًا . فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال : أقول له : أعطني سيفك . فإذا أعطانيه قتلته به ، قال : فأتاه فقال : يا محمد ، أعطني سيفك أشيمُه . فأعطاه إياه ، فَرُعدت يده حتى سقط السيف من يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حال الله بينك وبين ما تريد " فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة " غَوْرَث بن الحارث " مشهورة في الصحيح . {[10119]}
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا{[10120]} رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها ، فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها ، فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد ، من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله يمنعني منك ، ضع السيف " . فوضعه ، فأنزل الله ، عز وجل : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }
وكذا رواه أبو حاتم بن حِبَّان في صحيحه ، عن عبد الله بن محمد ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن المؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، به . {[10121]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت أبا إسرائيل - يعني الجُشَمي - سمعت جَعْدَة - هو ابن خالد بن الصِّمَّة الجشمي - رضي الله عنه ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلا سمينًا ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول : " لو كان هذا في غير هذا لكان خيرًا لك " . قال : وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقال : هذا أراد أن يقتلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لم تُرَع ، ولم تُرَع ، ولو أردتَ ذلك لم يسلطك{[10122]} الله عليَّ " . {[10123]}
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } أي : بلغ أنت ، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كما قال : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : 272 ] وقال { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] .
{ يََأَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } . .
وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قصّ الله تعالى قصصهم في هذه السورة وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم على ربهم وتوثبهم على أنبيائهم وتبديلهم كتابه وتحريفهم إياه ورداءة مطاعمهم ومآكلهم وسائر المشركين غيرهم ، ما أنزل عليه فيهم من معايبهم والإزراء عليهم والتقصير بهم والتهجين لهم ، وما أمرهم به ونهاهم عنه ، وأن لا يشعر نفسه حذرا منهم أن يصيبه في نفسه مكروه ، ما قام فيهم بأمر الله ، ولا جزعا من كثرة عددهم وقلة عدد من معه ، وأن لا يتقى أحدا في ذات الله ، فإن الله تعالى كافيه كلّ أحد من خلقه ، ودافعٌ عنه مكروه كل من يتقي مكروهه . وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم ، فهو في تركه تبليغ ذلك وإن قلّ ما لم يبلغ منه ، فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئا .
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ يعني : إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك ، لم تبلغ رسالتي .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ . . . الاَية ، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس ويعصمه منهم ، وأمره بالبلاغ . ذكِر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له : لو احتجبت فقال : «واللّهِ لأُبْدِيَنّ عَقِبي للنّاسِ ما صَاحَبْتُهُمْ » .
حدثني الحارث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان الثوريّ ، عن رجل ، عن مجاهد ، قال : لما نزلت : بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ قال : «إنّما أنا وَاحِدٌ ، كَيْفَ أصْنَعُ ؟ تَجْتَمِعُ عليّ الناسُ » فنزلت : وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ . . . الاَية .
حدثنا هناد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن ثعلبة ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، قال : لمّا نزلت : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ واللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَحْرُسُونِي إنّ رَبيّ قَدْ عَصَمَنِي » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن عُلَية ، عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه ، فلما نزلت : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ خرج فقال : «يا أيّها النّاسُ الْحَقُوا بِمَلاحِقِكُمْ ، فإنّ اللّهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ النّاسِ » .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن عاصم بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتحارسه أصحابه ، فأنزل الله : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رَسالَتَهُ . . . إلى آخرها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا الحارث بن عبيدة أبو قدامة الإيادي ، قال : حدثنا سعيد الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة ، قالت : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحرس ، حتى نزلت هذه الاَية : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ قالت : فأخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة ، فقال : «أيّها النّاسُ انْصَرِفُوا ، فإنّ اللّهَ قَدْ عَصَمَنِي » .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن القرظي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحرس حتى أنزل الله : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ .
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الاَية ، فقال بعضهم : نزلت بسب أعرابيّ كان همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكفاه الله إياه . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي وغيره ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة ، فيقيل تحتها ، فأتاه أعرابي ، فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ قال : «الله » . فرعدت يد الأعرابي ، وسقط السيف منه . قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ .
وقال آخرون : بل نزلت لأنه كان يخاف قريشا ، فأومن من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يهاب قريشا ، فلما نزلت : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ استلقى ثم قال : «مَنْ شاءَ فَلْيَخْذُلْنِي » مرّتين أو ثلاثا .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي خالد ، عن عامر ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : من حدّثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب . ثم قرأت : «يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن المغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : قالت عائشة : من قال إن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم فقد كذب وأعظم الفرية على الله ، قال الله : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ . . . الاَية .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : قال عائشة : من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّك . . . الاَية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن محمد بن الحميم ، عن مسروق بن الأجدع ، قال : دخلت على عائشة يوما ، فسمعتها تقول : لقد أعظم الفرية من قال : إن محمدا كتم شيئا من الوحي ، والله يقول : يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ .
ويعني بقوله : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ : يمنعك من أن ينالوك بسوء ، وأصله من عصام القربة ، وهو ما توكأ به من سير وخيط ، ومنه قول الشاعر :
وَقُلْتُ عَلَيْكُمْ مالِكا إنّ مالِكا ***سيَعْصِمُكْم إنْ كانَ فِي النّاسِ عاصِمُ
يعني : يمنعكم . وأما قوله : إنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ فإنه يعني : إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحقّ وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئته به من عند الله ، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه .
إنّ موضع هذه الآية في هذه السورة معضل ، فإنّ سورة المائدة من آخر السور نزولاً إن لم تكن آخرها نزولاً ، وقد بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريعة وجميعَ ما أنزل إليه إلى يوم نزولها ، فلو أنّ هذه الآية نزلت في أوّل مدّة البعثة لقلنا هي تثبيت للرسول وتخفيف لأعباء الوحي عنه ، كما أنزل قوله تعالى : { فاصْدَعْ بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنّا كفيناك المستهزئين } [ الحجرات : 94 ، 95 ] وقوله : { إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً إلى قوله { واصبِر على ما يقولون } [ المزمل : 5 10 ] الآيات ، فأمّا وهذه السورة من آخر السور نزولاً وقد أدّى رسول الله الرسالة وأُكْمِل الدّينُ فليس في الحال ما يقتضي أن يؤمر بتبليغ ، فنحن إذنْ بين احتمالين :
أحدهما : أن تكون هذه الآية نزلت بسبب خاصّ اقتضى إعادة تثبيت الرسول على تبليغ شيء ممّا يثقل عليه تبليغه .
وثانيهما : أن تكون هذه الآية نزلت من قبلِ نزول هذه السورة ، وهو الّذي تواطأت عليه أخبار في سبب نزولها .
فأمّا هذا الاحتمال الثّاني فلا ينبغي اعتباره لاقتضائه أن تكون هذه الآية بقيت سنين غير ملحقة بسورة ، ولا جائز أن تكون مقروءة بمفردها ، وبذلك تندحض جميع الأخبار الواردة في أسباب النزول الّتي تَذْكُر حوادث كلَّها حصلت في أزمان قبل زمن نزول هذه السورة . وقد ذكر الفخر عشرة أقوال في ذلك ، وذكر الطبري خبرين آخرين ، فصارت اثني عشر قولاً .
وقال الفخر بعد أن ذكر عشرة الأقوال : إنّ هذه الروايات وإن كثرت فإنّ الأوْلى حمل الآية على أنّ الله آمنَه مكر اليهود والنّصارى ، لأنّ ما قبلها وما بعدها كان كلاماً مع اليهود والنّصارى فامتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين فتكونُ أجنبية عمّا قبلها وما بعدها اهـ . وأمّا ما ورد في الصّحيح أنّ رسول الله كان يُحرَس حتّى نزل { والله يعصمك من النّاس } فلا يدلّ على أنّ جميع هذه الآية نزلت يومئذٍ ، بل اقتصر الراوي على جزء منها ، وهو قوله : { والله يعصمك من النّاس } فلعلّ الّذي حدّثت به عائشة أنّ الله أخبر رسوله بأنّه عصمه من النّاس فلمّا حكاه الراوي حكاه باللّفظ الواقع في هذه الآية .
فتعيّن التعويل على الاحتمال الأوّل : فإمّا أن يكون سبب نزولها قضية ممّا جرى ذكره في هذه السورة ، فهي على وتيرة قوله تعالى : { يأيّها الرسول لا يحزنك الّذي يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] وقوله : { ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } [ المائدة : 49 ] فكما كانت تلك الآية في وصف حال المنافقين تليتْ بهذه الآية لوصف حال أهل الكتاب . والفريقان متظاهران على الرسول صلى الله عليه وسلم فريق مجاهر ، وفريق متستر ، فعاد الخطاب للرسول ثانية بتثبيت قلبه وشرْح صدره بأن يدوم على تبليغ الشريعة ويجهد في ذلك ولا يكترث بالطاعنين من أهل الكتاب والكفّار ، إذ كان نزول هذه السورة في آخر مدّة النّبيء صلى الله عليه وسلم لأنّ الله دائم على عصمته من أعدائه وهم الّذين هوّن أمرهم في قوله :
{ يأيّها الرسول لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] فهم المعنيّون من { الناس } في هذه الآية ، فالمأمور بتبليغه بعض خاصّ من القرآن .
وقد علم من خُلق النّبيء صلى الله عليه وسلم أنّه يحبّ الرفق في الأمور ويقول : إنّ الله رفيق يحبّ الرفق في الأمر كلّه ( كما جاء في حديث عائشة حين سلَّم اليهود عليه فقالوا : السامُ عليكم ، وقالت عائشة لهم : السامُ عليكم واللّعنة ) ، فلمّا أمره الله أن يقول لأهل الكتاب { وأنّ أكثركَم فاسقون قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله مَن لعنه الله وغضب عليه } [ المائدة : 59 ، 60 ] الآية ، وكان ذلك القول مجاهرة لهم بسوءٍ أعلمه الله بأنّ هذا لا رفق فيه فلا يدخل فيما كان يعاملهم به من المجادلة بالّتي هي أحسن ، فتكون هذه الآية مخصّصة لما في حديث عائشة وتدخل في الاستثناء الّذي في قوله تعالى : { لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلاّ من ظُلم } [ النساء : 148 ] .
ولذلك أعيد افتتاح الخطاب له بوصف الرسول المشعِر بمنتهى شرفه ، إذ كان واسطة بين الله وخلقه ، والمذكِّر له بالإعراض عمّن سوى من أرسله .
ولهذا الوصف في هذا الخطاب الثّاني موقع زائد على موقعه في الخطَاب الأول ، وهو ما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الكلام الآتي بعده ، وهو قوله : { وإن لم تفعل فما بلّغت رسالاته } ، كما قال تعالى : { ما على الرسول إلاّ البلاغ } [ المائدة : 99 ] .
فكما ثبّت جَنَانُه بالخطاب الأوّل أن لا يهتمّ بمكائد أعدائه ، حُذّر بالخطاب الثّاني من ملاينتهم في إبلاغهم قوارع القرآن ، أو من خشيته إعراضهم عنه إذا أنزل من القرآن في شأنهم ، إذ لعلّه يزيدهم عناداً وكفراً ، كما دلّ عليه قوله في آخر هذه الآية { وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين } [ المائدة : 68 ] .
ثم عُقّب ذلك أيضاً بتثبيت جنانه بأن لا يهتمّ بكيدهم بقوله : { والله يعصمك من النّاس } وأنّ كيدهم مصروف عنه بقوله : { إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين } . فحصل بآخر هذا الخطاب ردّ العجز على الصدر في الخطاب الأوّل الّتي تضمّنه قوله : { لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] فإنّهم هم القوم الكافرون والّذين يسارعون في الكفر . فالتّبليغ المأمور به على هذا الوجه تبليغُ ما أنزل من القرآن في تقريع أهل الكتاب . وما صدق { ما أنزل إليك من ربّك } شيء معهود من آي القرآن ، وهي الآي المتقدّمة على هذه الآية . وما صدقُ { ما أنزل إليك من ربّك } هو كلّ ما نزل من القرآن قبل ذلك اليوم .
والتّبليغ جعل الشيء بالغاً . والبلوغ الوصول إلى المكان المطلوب وصوله ، وهو هنا مجاز في حكاية الرّسالة للمرسل بها إليه من قولهم : بَلَغ الخبر وبلغَت الحاجة . والأمر بالتّبليغ مستعمل في طلب الدّوام ، كقوله تعالى : { يأيّها الّذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] . ولمّا كان نزول الشريعة مقصوداً به عمل الأمّة بها ( سواء كان النّازل متعلّقاً بعمل أم كان بغير عمل ، كالّذي ينزل ببيان أحوال المنافقين أو فضائل المؤمنين أو في القصص ونحوها ، لأنّ ذلك كلّه إنّما نزل لفوائد يتعيّن العلم بها لحصول الأغراض الّتي نزلت لأجلها ، على أنّ للقرآن خصوصية أخرى وهي ما له من الإعجاز ، وأنّه متعبَّد بتلاوته ، فالحاجة إلى جميع ما ينزل منه ثابتة بقطع النّظر عمّا يحويه من الأحكام وما به من مواعظ وعبر ) ، كان معنى الرّسالة إبلاغ ما أنزل إلى مَن يراد علمه به وهو الأمّة كلّها ، ولأجل هذا حذف متعلِّق { بلِّغ } لقصد العموم ، أي بلّغ ما أنزل إليك جميع من يحتاج إلى معرفته ، وهو جميع الأمّة ، إذ لا يُدرى وقت ظهور حاجة بعض الأمّة إلى بعض الأحكام ، على أنّ كثيراً من الأحكام يحتاجها جميع الأمّة .
والتّبليغ يحصل بما يكفل للمحتاج إلى معرفة حكممٍ تَمكُّنَه من معرفته في وقت الحاجة أو قبله ، لذلك كان الرسول عليه الصّلاة والسّلام يقرأ القرآن على النّاس عند نزول الآية ويأمر بحفظها عن ظهر قلب وبكتابتها ، ويأمر النّاس بقراءته وبالاستماع إليه . وقد أرسل مصعباً بن عُمير إلى المدينة قبل هجرته ليعلّم الأنصار القرآن . وكان أيضاً يأمر السامع مقالتَه بإبلاغها مَن لم يسمعها ، ممّا يكفل ببلوغ الشّريعة كلّها للأجيال من الأمّة . ومن أجل ذلك كان الخلفاء مِن بعدِه يعطون النّاس العطاءَ على قدر ما معهم من القرآن . ومن أجل ذلك أمر أبو بكر بكتابة القرآن في المصحف بإجماع الصّحابة ، وأكمل تلك المزيّة عثمان بن عفّان بانتساخ القرآن في المصاحف وإرسالها إلى أمصار الإسلام ، وقد كان رسول الله عيَّن لأهل الصّفَّة الانقطاع لحفظ القرآن .
والّذي ظهر من تتبّع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان يبادر بإبلاغ القرآن عند نزوله ، فإذا نزل عليه ليلاً أخبر به عند صلاة الصّبح . وفي حديث عمر ، قال رسول الله : " لقد أنزِلت عليّ اللّيلة سورة لَهِي أحبّ إليّ ممّا طلعتْ عليه الشّمس " ثمّ قرأ : { إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [ الفتح : 1 ] . وفي حديث كعب بن مالك في تخلّفه عن غزوة تبوك « فأنزل الله توبتنا على نبيّه حين بقي الثلثُ الآخر من اللّيل ورسُولُ الله عند أمّ سلمة ، فقال : يأمّ سلمة تِيب على كعب بن مالك ، قالت : أفَلا أرْسِلُ إليه فأبشِّرَهُ ، قال : « إذاً يَحطمُكم النّاسُ فيمنعونَكم النّومَ سائر اللَّيلة .
حتّى إذا صلّى رسول الله صلاة الفجر آذَنَ بتوبة الله علينا » . وفي حديث ابن عبّاس : أنّ رسول الله نزلت عليه سورة الأنعام جملة واحدة بمكّة ودعا رسول الله الكتَّاب فكتبوها من ليلتهم .
وفي الإتيان بضمير المخاطب في قوله : { إليك من ربّك } إيماء عظيم إلى تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بمرتبة الوساطة بين الله والنّاس ، إذ جَعل الإنزال إليه ولم يقل إليكم أو إليهم ، كما قال في آية [ آل عمران : 199 ] { وإنّ من أهل الكتاب لَمَنْ يؤمن بالله وما أنزل إليكم } وقوله : { لتُبيّن للنّاس ما نُزّل إليهم } [ النحا : 44 ] . وفي تعليق الإنزال بأنّه من الرّب تشريف للمنزّل .
والإتيان بلفظ الرّب هنا دون اسم الجلالة لما في التذكير بأنّه ربّه من معنى كرامته ، ومن معنى أداء ما أراد إبلاغه ، كما ينبغي من التعجيل والإشاعة والحثّ على تناوله والعمل بما فيه .
وعلى جميع الوجوه المتقدّمة دلّت الآية على أنّ الرسول مأمور بتبليغ ما أنزل إليه كلِّه ، بحيث لا يتوهّم أحد أنّ رسول الله قد أبقى شيئاً من الوحي لم يبلِّغه . لأنّه لو ترك شيئاً منه لم يبلّغه لكان ذلك ممّا أنزل إليه ولم يَقَع تبليغه ، وإذ قد كانت هذه الآية من آخر ما نَزَل من القرآن علمنا أنّ من أهمّ مقاصدها أنّ الله أراد قطْع تخرّص من قد يزعمون أنّ الرسول قد استبقى شيئاً لم يبلِّغه ، أو أنّه قد خصّ بعض النّاس بإبلاغ شيء من الوحي لم يبلِّغه للنّاس عامّة . فهي أقطع آية لإبطال قول الرافضة بأنّ القرآن آكثرُ ممّا هو في المصحف الّذي جمَعه أبو بكر ونسخَه عثمان ، وأنّ رسول الله اختصّ بكثير من القرآن عليّاً بن أبي طالب وأنّه أورثه أبناءه وأنّه يبلُغ وقرَ بعير ، وأنّه اليوم مختزن عند الإمام المعصوم الّذي يلقّبه بعض الشيعة بالمهدي المنتظر وبالوصيّ .
وكانت هذه الأوهام ألَمَّتْ بأنفس بعض المتشيّعين إلى عليّ رضي الله عنه في مدّة حياته ، فدعا ذلك بعض النّاس إلى سؤاله عن ذلك . روى البخاري أنّ أبا جُحَيْفة سأل عليّاً : هل عندكم شيء ما ليس في القرآن وما ليس عند النّاس ، فقال : « لا والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن إلاّ فهما يُعطَى رجل في كتاب الله وما في الصحيفة ، قلت : وما في الصّحيفة ، قال : العقل ، وفَكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر » . وحديث مسروق عن عائشة الّذي سنذكره ينبىءُ بأنّ هذا الهاجس قد ظهر بين العامّة في زمانها . وقد يخُصّ الرّسولُ بعض النّاس ببيان شيء من الأحكام ليس من القرآن المنزّل إليه لحاجة دعت إلى تخصيصه ، كما كَتب إلى عليّ ببيان العَقْل ، وفَكَاك الأسير ، وأن لا يُقتل مسلم بكافر ، لأنّه كان يومئذٍ قاضياً باليمن ، وكما كتب إلى عمرو بن حزم كتاب نصاب الزّكاة لأنّه كان بعثه لذلك ، فذلك لا ينافي الأمر بالتّبليغ لأنّ ذلك بيان لما أنزل وليس عين ما أنزل ، ولأنّه لم يقصد منه تخصيصه بعلمه ، بل قد يخبر به من تدعو الحاجة إلى علمه به ، ولأنّه لمّا أمَرَ مَنْ سَمِع مقالته بأن يَعيها ويؤيّديها كمَا سمعها ، وأمَر أن يبلِّغ الشّاهدُ الغائبَ ، حصل المقصود من التّبليغ ؛ فأمّا أن يدع شيئاً من الوحي خاصّاً بأحد وأن يكتمه المودع عنده عن النّاس فمعاذَ الله من ذلك .
وقد يَخُصّ أحداً بعلم ليس ممّا يرجع إلى أمور التّشريع ، من سرّ يلقيه إلى بعض أصحابه ، كما أسرّ إلى فاطمة رضي الله عنْها بأنّه يموت يومئذٍ وبأنّها أوّلُ أهله لحاقاً به . وأسرّ إلى أبي بكر رضي الله عنه بأنّ الله أذِنَ له في الهجرة . وأسرّ إلى حذيفة خبر فتنة الخارجين على عثمان ، كما حدّث حذيفةُ بذلك عمرَ بن الخطّاب . وما روي عن أبي هريرة أنّه قال : حَفِظت من رسول الله وِعائيْن ، أمّا أحدهما فبثثته ، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع منّي هذا البلعوم .
ومن أجل ذلك جزمنا بأن الكتاب الّذي هَمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابته للنّاس ، وهو في مرض وفاته ، ثمّ أعرض عنه ، لم يكن فيما يرجع إلى التشريع لأنّه لو كان كذلك لمَا أعرض عنه والله يقول له : { بَلّغْ ما أنزِل إليك من ربّك } . روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت لمَسْروق : « ثلاث من حدّثك بهن فقد كذبَ ، من حدّثك أنّ محمّداً كتم شيئاً ممّا أنزل عليه فقد كذَب ، والله يقول : { يأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فمّا بلغت رسالاته } الحديث .
وقوله : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته } جاء الشّرط بإنْ الّتي شأنها في كلام العرب عدم اليقين بوقوع الشرط ، لأنّ عدم التّبليغ غيرُ مظنون بمحمدّ صلى الله عليه وسلم وإنّما فُرض هذا الشّرط ليبني عليه الجوابُ ، وهو قوله : { فمَا بَلَّغْتَ رسالاته } ، ليستفيق الّذين يرجون أن يسكت رسول الله عن قراءة القرآن النّازل بفضائحهم من اليهود والمنافقين ، وليبكت من علم الله أنّهم سيفترون ، فيزعمون أنّ قُرآناً كثيراً لم يبلّغه رسول الله الأمَّةَ .
ومعنى { لم تفعل } لم تفعل ذلك ، وهو تبليغ ما أنزل إليك . وهذا حذف شائع في كلامهم ، فيقولون : فإن فعلت ، أو فإن لم تَفعل . قال تعالى : { ولا تَدْعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فَعَلْتَ فإنّك إذاً من الظّالمين } [ يونس : 106 ] أي إن دعوتَ ما لا ينفعك ، يَحذفون مفعول فعلتَ ولم تَفْعَل لدلالة ما تقدّم عليه ، وقال تعالى : { فإن لم تَفْعَلوا ولن تفعلوا } في سورة [ البقرة : 24 ] . وهذا ممّا جرى مجرى المثل فلا يتصرّف فيه إلاّ قليلاً ولم يتعرّض له أيمّة الاستعمال .
ومعنى تَرَتّب هذا الجواب على هذا الشّرط أنّك إنْ لم تُبلّغ جميع ما أنزل إليك فتركت بعضه كنت لم تبلّغ الرّسالة ، لأنّ كتم البعض مثل كتمان الجميع في الاتّصاف بعدم التّبليغ ، ولأنّ المكتوم لا يدري أن يكون في كتمانه ذهاب بعض فوائد ما وقع تبليغه ، وقد ظهر التّغاير بين الشّرط وجوابه بما يدفع الاحتياج إلى تأويل بناء الجواب على الشّرط ، إذ تقدير الشّرط : إنْ لم تبلّغ مَا أنزل ، والجزاءُ ، لم تُبلّغ الرّسالة ، وذلك كافٍ في صحّة بناءِ الجواب على الشرط بدون حاجة إلى ما تأوّلوه ممّا في > وغيره . ثمّ يعلم من هذا الشّرط أنّ تلك منزلة لا تليق بالرسل ، فينتج ذلك أنّ الرسول لا يكتم شيئاً ممّا أرسل به . وتظهر فائدة افتتاح الخطاب ب { يأيّها الرسول } للإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي بعده ، وفائدة اختتامه بقوله : { فما بلّغتَ رسالته } .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر ، وأبو جعفر { رسَالاته } بصيغة الجمع . وقرأه الباقون { رِسالته } بالإفراد . والمقصود الجنس فهو في سياق النّفي سواء مفرده وجمعهُ . ولا صحّة لقول بعض علماء المعاني استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ، وأنّ نحو : لا رجال في الدار ، صادق بما إذا كان فيها رجلان أو رجل واحد ، بخلاف نحو لا رجُلَ في الدّار . ويظهر أنّ قراءة الجمع أصرح لأنّ لفظ الجمع المضاف من صيغ العموم لا يحتمل العهد بخلاف المفرد المضاف فإنّه يحتمل الجنس والعهد ، ولا شكّ أن نفي اللّفظ الّذي لا يحتمل العهد أنصّ في عموم النّفي لكن القرينة بيّنت المراد .
وقوله : { والله يعصمك من النّاس } افتتح باسم الجلالة للاهتمام به لأنّ المخاطب والسّامعين يترقّبون عقب الأمر بتبليغ كلّ ما أنزل إليه ، أن يلاقي عنتاً وتكالباً عليه من أعدائه فافتتح تطمينه بذكر اسم الله ، لأنّ المعنى أنّ هذا ما عليك . فأمّا ما علينا فالله يعصمك ، فموقع تقديم اسم الجلالة هنا مغن عن الإتيان بأمَّا . على أنّ الشيخ عبد القاهر قد ذكر في أبواب التّقديم من « دلائل الإعجاز » أنّ ممَّا يحسن فيه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ويكثرُ ؛ الوعدُ والضّمانُ ، لأنّ ذلك ينفي أن يشكّ من يُوعَد في تمام الوعد والوفاءِ به فهو من أحوج النّاس إلى التّأكيد ، كقول الرّجل : أنا أكفيك ، أنا أقوم بهذا الأمر آهـ . ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف { وأنَا به زعيم } [ يوسف : 72 ] . فقوله : { والله يعصمك من النّاس فيه هذا المعنى أيضاً . والعصمة هنا الحفظ والوقاية من كيد أعدائه .
{ والنّاس } في الآية مراد به الكفّار من اليهود والمنافقين والمشركين ، لأنّ العصمة بمعنى الوقاية تؤذن بخوف عليه ، وإنّما يَخاف عليه أعداءَه لا أحبّاءه ، وليس في المؤمنين عدوّ لرسوله . فالمراد العصمة من اغتيال المشركين ، لأنّ ذلك هو الّذي كان يهمّ النّبيء صلى الله عليه وسلم إذ لو حصل ذلك لتعطّل الهدي الّذي كان يحبّه النّبيء للنّاس ، إذ كان حريصاً على هدايتهم ، ولذلك كان رسول الله ، لمّا عرض نفسه على القبائل في أوّل بعثته ، يقول لهم « أنْ تمنعوني حتّى أبيّنَ عنِ الله ما بعثني به أو حتّى أبلِّغ رسالات ربّي » فأمّا ما دون ذلك من أذى وإضرار فذلك ممّا نال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون ممّن أوذي في الله : فقد رماه المشركون بالحجارة حتّى أدْموه وقد شُجّ وجهه . وهذه العصمة الّتي وُعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكرّر وعدُه بها في القرآن كقوله : { فسيكفيكهم الله } [ البقرة : 137 ] . وفي غير القرآن ، فقد جاء في بعض الآثار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر وهو بمكّة أنّ الله عَصمه من المشركين . وجاء في الصّحيح عن عائشة أنّ رسول الله كان يُحرس في المدينة ، وأنّه حَرَسه ذَاتَ ليلة سعدُ بن أبي وقّاص وحذيفة وأنّ رسول الله أخرَج رأسهُ من قُبّة وقال لهم : « الحَقُوا بملاحقكم فإنّ الله عصمني » ، وأنّه قال في غزوة ذات الرقاع سنة ستّ للأعرابي غَوْرَثٍ بنِ الحارث الّذي وجد رسول الله نائماً في ظلّ شجرة ووجد سيفَه معلّقاً فاخترطه وقال للرسول : مَن يمنعك منّي ، فقال : اللّهُ ، فسقَط السيف من يد الأعرابي . وكلّ ذلك كان قبل زمن نزول هذه الآية . والَّذين جعلوا بعض ذلك سبباً لنزول هذه الآية قد خلطوا . فهذه الآية تثبيت للوعد وإدامة له وأنّه لا يتغيّر مع تغيّر صنوف الأعداء .
ثمّ أعقبه بقوله : { إنّ الله لا يهدي القوْمَ الكافرين } ليتبيّن أنّ المراد بالنّاس كفّارهم ، وليؤمي إلى أنّ سبب عدم هدايتهم هو كفرهم . والمراد بالهداية هنا تسديد أعمالهم وإتمام مرادهم ، فهو وعد لرسوله بأنّ أعداءه لا يزالون مخذولين لا يهتدون سبيلاً لكيدِ الرّسول والمؤمنين لطفاً منه تعالى ، وليس المراد الهداية في الدّين لأنّ السياق غير صالح له .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قصّ الله تعالى قصصهم في هذه السورة وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم على ربهم وتوثبهم على أنبيائهم وتبديلهم كتابه وتحريفهم إياه ورداءة مطاعمهم ومآكلهم وسائر المشركين غيرهم، ما أنزل عليه فيهم من معايبهم والإزراء عليهم والتقصير بهم والتهجين لهم، وما أمرهم به ونهاهم عنه، وأن لا يشعر نفسه حذرا منهم أن يصيبه في نفسه مكروه، ما قام فيهم بأمر الله، ولا جزعا من كثرة عددهم وقلة عدد من معه، وأن لا يتقي أحدا في ذات الله، فإن الله تعالى كافيه كلّ أحد من خلقه، ودافعٌ عنه مكروه كل من يتقى مكروهه. وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم، فهو في تركه تبليغ ذلك وإن قلّ ما لم يبلغ منه، فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئا.
عن ابن عباس، قوله:"يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ" يعني: إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك، لم تبلغ رسالتي.
حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع، قالا: حدثنا ابن عُلَية، عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه، فلما نزلت: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ خرج فقال: «يا أيّها النّاسُ الْحَقُوا بِمَلاحِقِكُمْ، فإنّ اللّهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ النّاسِ».
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية؛ فقال بعضهم: نزلت بسب أعرابيّ كان همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفاه الله إياه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة، فيقيل تحتها، فأتاه أعرابي، فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ قال: «الله». فرعدت يد الأعرابي، وسقط السيف منه. قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ.
وقال آخرون: بل نزلت لأنه كان يخاف قريشا، فأومن من ذلك.
حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، قال: قالت عائشة: من حدّثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب. ثم قرأت: «يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ... الآية.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن المغيرة، عن الشعبيّ، قال: قالت عائشة: من قال إن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم فقد كذب وأعظم الفرية على الله، قال الله: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ... الآية.
"وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ": يمنعك من أن ينالوك بسوء، وأصله من عصام القربة، وهو ما توكأ به من سير وخيط، "إنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ": إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحقّ وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئته به من عند الله، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وذلك أن أهل الكفر كانوا على طبقات ثلاث: منهم من يقول: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه، وقولهم: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا} [فصلت: 26]، ومنهم من كان يخوفه، ويمكر به، ليقتلوه كقوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} الآية [الأنفال: 30]، ومنهم من كان يعرض عليه النساء والقصور ليترك ذلك، وألا يدعوهم إلى دينه الذي هو عليه. كانوا على الوجوه التي ذكرنا، فأمر الله عز وجل أن يقوم على تبليغ رسالته، وألا يمنعه ما يخشى من مكرهم وكيدهم على قتله. لأن المرء قد يمتنع عن القيام بما عليه إذا كذب في القوم، ولحقه أذى بذلك. فأمر الله عز وجل نبيه [صلى الله عليه وسلم] بتبليغ ما أنزل إليه، وإن خشي على نفسه الهلاك أو التكذيب في القول والأذى وترك طلب الموالاة. أي لا يمنعك شيء من ذلك من تبليغ ما أنزل إليك. وقوله تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} أي وإن [لم] تبلغ ما أنزل لما تخشى من الهلاك والمكر بك فكأنك لم تبلغ الرسالة رأسا. لم يعذر نبيه صلى الله عليه وسلم في ترك تبليغ الرسالة وإن خاف على نفسه الهلاك، ليس كمن أكره على الكفر أبيح له أن يتكلم بكلام الكفر بعد أن يكون قلبه مطمئنا بالإيمان إذا خاف الهلاك على نفسه. ولم يبح له ترك تبليغ الرسالة، وإن خشي على نفسه الهلاك. ذلك، والله أعلم، أن تبليغ الرسالة يتعلق باللسان دون القلب، والإيمان تعلقه بالقلب دون اللسان. فإذا أكره على الكفر أبيح له التكلم به بعد أن يكون القلب على حاله مطمئنا بالإيمان. إذا خاف الهلاك على نفسه. ولم يبح له ترك تبليغ الرسالة، وإن خشي على نفسه الهلاك. {والله يعصمك من الناس} دليل إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم لأنه عز وجل أخبر أنه عصمه من الناس، فكان ما قال، فدل أنه علم ذلك بالله. وكذلك في قوله تعالى: {من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون} [هود: 55] كأن يقول بين ظهراني الكفرة: كيدوني جميعا، ثم لم يلحقه من كيدهم شيء. دل أنه كان بالله تعالى [معتصما]. وعن عائشة رضي الله عنها [أنها قالت]: كان النبي صلى الله عليه وسلم [يحرسه أصحابه]. فلما نزل قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} قال: «انصرفوا إلى منازلكم فإن الله عصمني من الناس» [القرطبي: 6/180] فانصرفوا. ويحتمل قوله تعالى: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} أي بلغ ما أنزل إليك من الآيات والحجج والبراهين التي جعلها الله أعلاما لرسالتك وآثارا لنبوتك، ليلزمهم الحجة بذلك، والله أعلم.
فيه أمرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الناس جميعاً ما أرسله به إليهم من كتابه وأحكامه، وأن لا يكتم منه شيئاً خوفاً من أحد ولا مداراةً له، وأخبر أنه إن ترك تبليغ شيء منه فهو كمن لم يبلغ شيئاً.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس}، يحفظك ويمنعك من الناس، فإن قيل: أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته، وأوذي بضروب من الأذى؟ قيل: معناه يعصمك من القتل، فلا يصلون إلى قتلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} جميع ما أنزل إليك وأي شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً، ولا خائف أن ينالك مكروه {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وقرئ: «رسالاته»، فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالات، ولم تؤدّ منها شيئاً قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، وإن لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها. وكونا كذلك في حكم شيء واحد. والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ، مؤمناً به غير مؤمن به.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} إلى قوله {على القوم الكافرين} هذه الآية أمر من الله رسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال. لأنه قد كان بلغ، فإنما أمر في هذه الآية بأن لا يتوقف عن شيء مخافة أحد، وذلك أن رسالته صلى الله عليه وسلم تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وبيان فساد حالهم فكان يلقى منهم عنتاً وربما خافهم أحياناً قبل نزول هذه الآية، فقال الله له {بلغ ما أنزل إليك من ربك} أي كاملاً متمماً، ثم توعده تعالى بقوله: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته}، أي إنك إن تركت شيئاً فكأنما قد تركت الكل، وصار ما بلغت غير معتدّ به، فقوله تعالى: {وإن لم تفعل} معناه وإن لم تستوف.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؛ فإن قيل: فأين ضمان العصمة وقد شُج جبينه، وكسرت رباعيته، وبولغ في أذاه؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه عصمه من القتل والأسر وتلف الجملة، فأما عوارض الأذى، فلا تمنع عصمة الجملة. والثاني: أن هذه الآية نزلت بعدما جرى عليه ذلك، لأن "المائدة "من أواخر ما نزل.
المسألة الأولى: قرأ نافع {رسالاته} في هذه الآية وفي الأنعام {حيث يجعل رسالته} على الجمع، وفي الأعراف {برسالاتي} على الواحد، وقرأ حفص عن عاصم على الضد، ففي المائدة والأنعام على الواحد، وفي الأعراف على الجمع، وقرأ ابن كثير في الجميع على الواحد، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم كله على الجمع.
حجة من جمع أن الرسل يبعثون بضروب من الرسالات وأحكام مختلفة في الشريعة، وكل آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم فهي رسالة، فحسن لفظ الجمع، وأما من أفرد فقال: القرآن كله رسالة واحدة، وأيضا فإن لفظ الواحد قد يدل على الكثرة وإن لم يجمع كقوله {وادعوا ثبورا كثيرا} فوقع الاسم الواحد على الجمع، وكذا هاهنا لفظ الرسالة وإن كان واحدا إلا أن المراد هو الجمع.
المسألة الثانية: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}: فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته، يعني أنه لا يمكن أن يوصف ترك التبليغ بتهديد أعظم من أنه ترك التبليغ، فكان ذلك تنبيها على غاية التهديد والوعيد والله أعلم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} هذا نداء بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الإنساني، وأمر بتبليغ ما أنزل إليه وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أنزل إليه، فهو أمر بالديمومة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: من حَدّثَك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أُنزل عليه فقد كذب، الله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية. هكذا رواه ههنا مختصرًا، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا. وكذا رواه مسلم في "كتاب الإيمان"، والترمذي والنسائي في "كتاب التفسير "من سننهما من طرق، عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عنها رضي الله عنها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أتم ذلك سبحانه وعلم منه أن من أريدت سعادته يؤمن ولا بد، ومن أريدت شقاوته لا يؤمن أصلاً، ومن أقام ما أنزل عليه سعد، ومن كفر بشيء منه شقي، وكان ذلك ربما فتر عن الإبلاغ، قرن بقوله تعالى {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} [المائدة: 41] قولَه حاثاً على الإبلاغ لإسعاد من أريد للسعادة، وهم الأمة المقتصدة منهم وإن كانوا قليلاً، وكذا إبلاغ جميع من عداهم: {يا أيها الرسول} أي الذي موضوع أمره البلاغ {بلغ} أي أوصل إلى من أرسلت إليهم {ما أنزل إليك} أي كله {من ربك} أي المحسن إليك بإنزاله غير مراقب أحداً، ولا خائف شيئاً، لتعلم ما لم تكن تعلم، ويهدي على يدك من أراد الله هدايته، فيكون لك مثل أجره.
ولما كان إبلاغ ما يخالف الأهواء من الشدة على النفوس بمكان لا يعلمه إلا ذوو الهمم العالية والأخلاق الزاكية، كان المقام شديد الاقتضاء لتأكيد الحث على الإبلاغ، فدل على ذلك بالاعتراض بين الحال والعامل فيها، بالتعبير بالفعل الدال على داعية هي الردع بأن قال: {وإن لم تفعل} أي وإن لم تبلغ جميع ذلك، أو إن لم تعمل به {فما بلغت رسالته} لأن من المعلوم أن ما تقع على كل جزء مما أنزل، فلو ترك منه حرف واحد صدق نفي البلاغ لما أنزل، ولأن بعضها ليس بأولى بالإبلاغ من بعض، فمن أغفل شيئاً منها فكأنه أغفل الكل، كما أن من لم يؤمن ببعضها لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يدليه الآخر، فكانت لذلك في حكم شيء واحد، والمعنى: فلنجازينك، ولكنه كنى بالسبب عن المسبب إجلالاً له صلى الله عليه وسلم وإفادة لأن المؤاخذة تقع على الكل، لأنه ينتفي بانتفاء الجزء.
ولما تقدم أنهم يسعرون الحروب، ويسعون في إيقاع أشد الكروب، وكان ذلك -وإن وعد سبحانه بإخماده عند إيقاده- لا يمنع من تجويز أنه لا يخمد إلا بعد قتل ناس وجراح آخرين، وكان كأنه قيل: إذا بلغ ذلك وهو ينقّص أديانهم خيف عليه، قال: {والله} أي بلغ أنت والحال أن الذي أمرك بذلك وهو الملك الأعلى الذي لا كفوء له {يعصمك} أي يمنعك منعاً تاماً {من الناس} أي من أن يقتلوك قبل إتمام البلاغ وظهور الدين، فلا مانع من إبلاغ شيء منها لأحد من الناس كائناً من كان.
ولما آذن ضمان العصمة بالمخالفة المؤذنة بأن فيهم من لا ينفعه البلاغ فهو لا يؤمن، فلا يزال يبغي الغوائل. أقر على هذا الفهم بتعليل عدم الإيمان بقوله: {إن الله} أي الذي لا أمر لغيره {لا يهدي القوم الكافرين} أي المطبوع على قلوبهم في علم الله مطابقة لقوله {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً} [المائدة: 41] ويهدي المؤمنين في علمه المشار إليهم في قوله {ويغفر لمن يشاء} والحاصل أنه تبين من الآية الإرشاد إلى أن لترك البلاغ سببين: أحدهما خوف فوات النفس، والآخر خوف فوات ثمرة الدعاء، فنفي الأول بضمان العصمة، والثاني بختام الآية، أي ليس عليك إلاّ البلاغ، فلا يحزنك من لا يقبل، فليس إعراضه لقصور في إبلاغك ولا حظك، بل لقصور إدراكه وحظه لأن الله حتم بكفره وختم على قلبه لما علم من فساد طبعه، والله لا يهدي مثله، وتلخيصه: بلغ، فمن أجابك ممن أشير إليه -فيما سلف من غير الكثير الذين يزيدهم ما أنزل إليك عمى على عماهم ومن الأمة المقتصدة وغيرهم- فهو حظه في الدنيا والآخرة، ومن أبى فلا يحزنك أمره، لأن الله هو الذي أراد ضلاله. فالتقدير: بلغ، فليس عليك إلاّ البلاغ، وإلى الله الهدى والضلال، إن الله لا يهدي القوم الكافرين ويهدي القوم المؤمنين، أو فإذا بلغت هدى بك ربُّك من أراد إيمانه، ليكتب لك مثل أجرهم، وأضل من شاء كفرانه، ولا يكون عليك شيء من وزرهم، إن الله لا يهدي القوم الكافرين، والمعنى كما تقدم: يعصمك من أن ينالوك بما يمنعك من الإبلاغ حتى يتم دينك ويظهر 187 على الدين كله كما وعدتك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} تقدم أن نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلقب الرسول لم يرد إلا في موضعين من هذه السورة، وهذا ثانيهما؛ وكلاهما جاء في سياق الكلام في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام ومحاجتهم في الدين. وقد اختلف مفسرو السلف وفي وقت نزول هذه الآية، فروى ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس، وأبو الشيخ عن الحسين، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد – ما يدل على أنها نزلت في أوائل الإسلام، وبدء العهد بالتبليغ العام. وكأنها على هذا القول وضعت في آخر [سورة] مدنية للتذكير بأول العهد بالدعوة في آخر العهد بها، وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.
وروت الشيعة عن الإمام محمد الباقر أن المراد بما أنزل إليه من ربه النص على خلافة علي بعده، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخاف أن يشق ذلك على بعض أصحابه فشجعه الله تعالى بهذه الآية. وفي رواية عن ابن عباس أن الله أمره أن يخبر الناس بولاية علي فتخوفوا أن يقولوا: حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه. فلما نزلت الآية عليه في غدير خم أخذ بيد علي وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) ولهم في ذلك روايات وأقوال في التفسير مختلفة.
ومنها: ما ذكره الثعلبي في تفسيره أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موالاة علي شاع وطار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهري، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ناقته وكان بالأبطح فنزل وعقل ناقته وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ملأ من أصحابه: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؛ فقبلنا منك – ثم ذكر سائر أركان الإسلام وقال – ثم لم ترض بهذا حتى مددت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا، وقلت (من كنت مولاه فعلي مولاه) فهذا منك أم من الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم (والله الذي إله إلا هو، هو أمر الله) فولى الحارث يريد راحلته وهو يقول: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره، وأنزل الله تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع للكافرين} [المعارج: 1، 2] الخ وهذه الرواية موضوعة. وسورة المعارج هذه مكية. وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} كان تذكيرا بقول قالوه قبل الهجرة، وهذا التذكير في سورة الأنفال وقد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين، وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلما فارتد، ولم يعرف في الصحابة، والأبطح بمكة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرجع من غدير خم إلى مكة؛ بل نزل فيه منصرفه من حجة الوداع إلى المدينة.
أما حديث (من كنت مولاه فعلي مولاه) فقد رواه أحمد في المسند من حديث البراء وبريدة، والترمذي والنسائي والضياء في المختار من حديث زيد ابن أرقم، وابن ماجه عن البراء، وحسنه بعضهم وصححه الذهبي بهذا اللفظ، ووثق أيضا سنده من زاد فيه (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) الخ وفي رواية أنه خطب الناس فذكر أصول الدين، ووصى بأهل بيته فقال: إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما. فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، الله مولاي، وأنا ولي كل مؤمن) ثم أخذ بيد علي ثم قال – الحديث. ورواه غير من ذكر بأسانيد ضعيفة ومنها أن عمر لقيه فقال له: هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. وذكروا أن سببه تبرئة علي مما كان قاله فيه بعض من كان معه من اليمن واستمالتهم إليه، وذلك أن عليا كرم الله وجهه كان وجهه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية إلى اليمن، فقاتل من قاتل وأسلم على يديه من أسلم، ثم إنه تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدرك معه الحج واستخلف على جنده رجلا من أصحابه فكسا ذلك الرجل كل واحد منهم حلة من البز الذي مع علي. فلما دنا جيشه خرج إليهم فوجد عليهم الحلل فأنكر ذلك وانتزعها منهم، فأظهر الجيش شكواه من ذلك.
وروي أيضا عن بريدة الأسلمي أنه كان مع علي في غزوة اليمن وأنه رأى منه جفوة فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض المؤمنين يشكو عليا بغير حق، إذ لم يفعل إلا ما يرضي الحق، خطب الناس في غدير خم، وأظهر رضاه عن علي وولايته له وما ينبغي للمؤمنين من موالاته. وغدير خم مكان بين الحرمين قريب من رابغ على بعد ميلين من الجحفة، قالوا وقد نزله النبي صلى الله عليه وسلم وخطب الناس فيه في اليوم الثامن من ذي الحجة. وقد اتخذته الشيعة عيدا على عهد بني بويه في حدود الاربع مئة.
ويقول أهل السنة إن الحديث لا يدل على ولاية السلطة التي هي الإمامة أو الخلافة، ولم يستعمل هذا اللفظ في القرآن بهذا المعنى. بل المراد بالولاية فيه ولاية النصرة والمودة التي قال الله فيها في كل من المؤمنين والكافرين {بعضهم أولياء بعض} [المائدة:51] معناه من كنت ناصرا ومواليا له فعلي ناصره ومواليه، أو من والاني ونصرني فليوال عليا وينصره. وحاصل معناه أنه يقفو أثر النبي صلى الله عليه وسلم فينصر من ينصر النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى من ينصر النبي أن ينصره. وهذه مزية عظيمة. وقد نصر علي كرم الله وجهه أبا بكر وعمر وعثمان ووالاهم. فالحديث ليس حجة على من والاهم مثله، بل حجة له على من يبغضهم ويتبرأ منهم. وإنما يصح أن يكون حجة على من والى معاوية ونصره، فهو لا يدل على الإمامة بل يدل على نصره إماما ومأموما. ولو دل على الإمامة عند الخطاب لكان إماما مع وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والشيعة لا تقول بذلك، وللفريقين أقوال في ذلك لا نحب استقصاءها والترجيح بينها، لأنها من الجدل الذي فرق بين المسلمين، وأوقع بينهم العداوة والبغضاء. وما دامت عصبية المذاهب غالبة على الجماهير فلا رجاء في تحريهم الحق في مسائل الخلاف، ولا في تجنبهم ما يترتب على الخلاف من التفرق والعداء. ولو زالت تلك العصبية ونبذها الجمهور لما ضر المسلمين حينئذ ثبوت هذا القول أو ذاك، لأنهم لا ينظرون فيه حينئذ إلا بمرآة الإنصاف والاعتبار، فيحمون المحقين، ويستغفرون للمخطئين {ربنا اغفر لنا وإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} {الحشر:10].
ثم إننا نجزم بأن مسألة الإمامة لو كان فيها نص من القرآن أو الحديث لتواتر واستفاض، ولم يقع فيها ما وقع من الخلاف، ولتصدى علي للقيام بأمر المسلمين يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخطبهم وذكرهم بالنص، وبين لهم ما يحسن بيانه في ذلك الوقت. وكان هو الواجب عليه لو كان يعتقد أنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله ورسوله. ولكنه لم يقل ذلك ولا احتج بالآية هو ولا أحد من آل بيته وأنصاره الذي يفضلونه على غيره، يوم السقيفة ولا يوم الشورى بعد عمر، ولا قبل ذلك و بعده في زمنه، وهو هو الذي كان لا تأخذه في الله لومة لائم، ولم يعرف التقية في قول ولا عمل؛ وإنما وجدت هذه المسائل، ووضعت لها روايات واستنبطت الدلائل، بعد تكون الفرق وعصبية المذاهب. والوصية بالخلافة لا مناسبة لها في سياق محاجة أهل الكتاب، فهي مما لا ترضاه بلاغة القرآن. بل لو أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم النص على خلافته من بعده وتبليغ ذلك للناس لقاله في خطبته في حجة الوداع. وهي التي استشهد الناس فيها على تبليغه فشهدوا، وأشهد الله على ذلك. دع سياق الآية وما قبلها وما بعدها، فإنها هي نفسها تقبل أن يكون المراد التبليغ فيها تبليغ الناس إمارة علي، فإن جملة (إن لم تفعل) الشرطية، التي بعد جملة (بلغ) الأمرية، وجملة الأمر بالعصمة، وجملة التذييل التعليلي بنفي هداية الكافرين-لا يناسب شيء منها تبليغ الناس مسألة الإمارة، فتأمل الآية في ذاتها بعين البصيرة لا بعين التقليد.
وأما الحديث فنهتدي به: نوالي عليا المرتضى ونوالي من والاهم، ونعادي من عاداهم، ونعد ذلك كموالاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ونؤمن بأن عترته صلى الله عليه وآله وسلم لا تجمع على مفارقة الكتاب الذي أنزله الله عليه، وأن الكتاب والعترة خليفتا الرسول، فقد صح الحديث بذلك في غير قصة الغدير؛ فإذا أجمعوا على أمر قبلناه واتبعناه. وإذا تنازعوا في أمر رددناه إلى الله والرسول.
وأما المتبادر من الآية فالظاهر أنه الأمر بالتبليغ العام في أول الإسلام، كما رواه أهل التفسير بالمأثور، ولولاه لاحتمل أن يكون المراد به تبليغ أهل الكتاب ما بعده هذه الآية. كأنه قال: بلغ ما أنزل إليك في شأن أهل الكتاب، واذكر لهم ما يكون فصل الخطاب، فإن سألت عن ذلك الجواب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [المائدة:68] الخ ما سيأتي. وإذا صح حديث ابن عباس الذي رواه ابن مردويه والضياء لا يبقى للاحتمال مجال. قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي آية من السماء أنزلت أشد عليك؟ فقال: (كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم، فنزل علي جبريل فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه} الآية. – قال – فقمت عند العقبة فقلت: يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة؟ أيها الناس قولوا لا إله إلا الله، وأنا رسول الله إليكم، تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة – قال صلى الله عليه وآله وسلم فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة ويقولون كذاب صابئ: فعرض علي عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك) فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه. وسيأتي لهذا مزيد تأكيد.
قال تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} أي وإن لم تفعل ما أمرت به التبليغ العام لما أنزل إليك كله – وهو ما عليه الجمهور – أو الخاص بأهل الكتاب – على ما سبق من الاحتمال – بأن كتمته ولو مؤقتا خوفا من الأذى بالقول أو الفعل أو بهما جميعا، {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه} أي فحسبك جرما أنك ما بلغت الرسالة ولا قمت بما بعثت لأجله، وهو تبليغ الناس ما أنزل إليهم من ربهم {إن عليك إلا البلاغ} وذهب الجمهور إلى أن معناه: وإن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك من ربك بأن كتمت بعضه فكأنك لم تبلغ منه شيئا قط، لأن كتمان البعض ككتمان الجميع. فهو من قبيل قوله تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] ويقويه قراءة نافع وابن عامر وابن أبي بكر (رسالاته) بالجمع.
فمعنى هذه القراءة إفادة استغراق النفي لكل مسألة من مسائل الوحي الذي كلف الرسول تبليغه، لكن في الحكم لا في الواقع. فكأنه قال: وإن لم تفعل كنت كأنك ما بلغت شيئا ما من مسائل الرسالة لأنها لا تتجرأ. وقد ضعف هذا الوجه الإمام الرازي وإن كان رأي الجمهور، لأنه يقتضي أن ترك تبليغ بعض المسائل ترك لتبليغ كل مسألة بالفعل، وذلك خلاف الواقع؛ أو في الحكم، ولا يصح أن يجعل تارك صلاة واحدة كتارك جميع الصلوات. وإنما المعنى التشبيه من بعض الوجوه. ولا يعارض ما لا يتجزأ في الحكم كالإيمان والكفر بما يتجزأ كالعبادات والمعاصي. وترك التبليغ لو جاز وقوعه كفر. ولهذا المعنى نظير يؤيده وهو حكم الله بأن من كذب بعض الرسل كان كمن كذبهم كلهم، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:149] بل ورد ما يؤيد الوجه الآخر أيضا، وهو تشبيه قاتل النفس الواحدة بقاتل الناس جميعا، وتقدمت الآية في ذلك. وأما معنى قراءة الآخرين (رسالته) بالإفراد فهو نفي القيام بمنصب الرسالة.
وقد جاء في القرآن ذكر تبليغ الرسالات بالجمع في قوله تعالى من سورة الأحزاب بعد قصة زيد وزينب {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه و يخشون أحد إلا الله} [الأحزاب: 39] هكذا فقرأ الجماعة كلهم (رسالات) بالجمع، وإنما قرئ بالإفراد في الشواذ. وجاء في مواضع أخرى من سورة الأعراف وغيرها. والاستشهاد بآية الأحزاب أنسب في هذا المقام، لأن ما نزل في قصة زيد وزينب هو أشد ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم متعلقا بشخصه الكريم، وهو قوله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أمسك عليك زوجك واتق الله. وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37] حتى روي عن عائشة وأنس (رض) أنهما قالا: لو كتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن شيئا لكتم هذه الآية.
فإن قيل: إن الله تعالى قد عصم الرسل عليهم السلام من كتمان شيء كما أمرهم بتبليغه، ولولا ذلك لبطلت حكمة الرسالة بعدم ثقة الناس بالتبليغ، فما حكمة التصريح مع هذا بالأمر بالتبليغ، وتأكيده بجعل كتمان بعضه ككتمان كله؟ قلت: حكمته بالنسبة إلى الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعلام الله تعالى إياه بأن التبليغ حتم لا تخيير فيه، و لا يجوز كتمانه ولو مؤقتا بتأخير شيء منه عن وقته على سبيل الاجتهاد. إذ كان يجوز لولا هذا النص أن يكون من اجتهاد الرسول تأخير بعض الوحي إلى أن يقوى استعداد الناس لقبوله، ولا يحملهم سماعه على رده، وإيذاء الرسول لأجله، -وحكمته بالنسبة إلى الناس أن يعرفوا هذه الحقيقة بالنص، فلا يعذروا إذا اختلفوا فيها اختلاف الرأي والفهم...
والحق الذي لا مرية فيه أن الرسول بلغ جميع ما أنزل الله إليه من القرآن وبينه، ولم يخص أحدا بشيء من علم الدين...
{وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} روى أهل التفسير بالمأثور والترمذي وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي والطبراني عن بضعة رجال من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية فلما نزلت ترك الحرس، وكان أبو طالب أول الناس اهتماما بحراسته، وحرسه العباس أيضا، ومما روي في ذلك عن جابر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرس وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت الآية فقال (يا عم! إن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من تبعث) ومعنى (يعصمك من الناس) يمنعك من فتكهم، مأخوذ من عصام القربة، وهو ما توكأ به – أي ما يربط به فمها – من سير جلد أو خيط. والمراد بالناس الكفار الذين يتضمن تبليغ الوحي بيان كفرهم وضلالهم، وفساد عقائدهم وأعمالهم، والنعي عليهم وعلى سلفهم، فإن ذلك يغيظهم ويحملهم على الإيذاء، لذلك كان المشركون يتصدون لإيذائه صلى الله عليه وآله وسلم بالقول والفعل. وائتمروا به بعد موت أبي طالب وقرروا قتله في دار الندوة، ولكن الله تعالى عصمه منهم. وكذلك فعل اليهود بعد الهجرة. ولذلك قيل: إن هذه الآية نزلت مرتين، فإن لم تكن نزلت مرتين فقد وضعت في سياق تبليغ أهل الكتاب لتدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عرضة لإيذائهم، وإن الله تعالى هو الذي عصمه من كيدهم، وللتذكير بما كان من إيذاء مشركي قومه من قبلهم.
أما قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} فهو تذييل تعليلي للعصمة، أي أنه تعالى لا يهدي أولئك الناس الذين هم بصدد إيذائك على التبليغ – وهم القوم الكافرون – إلى ما يهمون به من ذلك، بل يكونون خائبين وتتم كلمات الله تعالى حتى يكمل بها الدين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يمضي هذا الدرس في بيان حال أهل الكتاب -من اليهود والنصارى- وكشف الانحراف فيما يعتقدون، وكشف السوء فيما يصنعون؛ في تاريخهم كله -وبخاصة اليهود- كما يمضي في تقرير نوع العلاقة بنيهم وب إنه الأمر الجازم الحاسم للرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه كاملا، وألا يجعل لأي اعتبار من الاعتبارات حسابا وهو يصدع بكلمة الحق.. هذا، وإلا فما بلغ وما أدى وما قام بواجب الرسالة.. والله يتولى حمايته وعصمته من الناس، ومن كان الله له عاصما فماذا يملك له العباد المهازيل!
إن كلمة الحق في العقيدة لا ينبغي أن تجمجم! إنها يجب أن تبلغ كاملة فاصلة؛ وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء؛ وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل؛ فإن كلمة الحق في العقيدة لا تملق الأهواء؛ ولا تراعي مواقع الرغبات؛ إنما تراعي أن تصدع حتى تصل إلى القلوب في قوة وفي نفاذ..
وكلمة الحق في العقيدة حين تصدع تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى.. وحين تجمجم لا تلين لها القلوب التي لا استعداد فيها للإيمان؛ وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة!
(إن الله لا يهدي القوم الكافرين)..
وإذن فلتكن كلمة الحق حاسمة فاصلة كاملة شاملة.. والهدى والضلال إنما مناطهما استعداد القلوب وتفتحها، لا المداهنة ولا الملاطفة على حساب كلمة الحق أو في كلمة الحق!
إن القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة، لا يعني الخشونة والفظاظة؛ فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة -وليس هنالك تعارض ولا اختلاف بين التوجيهات القرآنية المتعددة- والحكمة والموعظة الحسنة لا تجافيان الحسم والفصل في بيان كلمة الحق. فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه. والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة في العقيدة، وعدم اللقاء في منتصف الطريق في الحقيقة ذاتها. فالحقيقة الاعتقادية ليس فيها أنصاف حلول.. ومنذ الأيام الأولى للدعوة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة في طريقة التبليغ، وكان يفاصل مفاصلة كاملة في العقيدة، فكان مأمورا أن يقول: (يا أيها الكافرون: لا أعبد ما تعبدون..) فيصفهم بصفتهم؛ ويفاصلهم في الأمر، ولا يقبل أنصاف الحلول التي يعرضونها عليه، ولا يدهن فيدهنون، كما يودون! ولا يقول لهم: إنه لا يطلب إليهم إلا تعديلات خفيفة فيما هم عليه، بل يقول لهم: إنهم على الباطل المحض، وإنه على الحق الكامل.. فيصدع بكلمة الحق عالية كاملة فاصلة، في أسلوب لا خشونة فيه ولا فظاظة..
وهذا النداء، وهذا التكليف، في هذه السورة:
(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك -وإن لم تفعل فما بلغت رسالته- والله يعصمك من الناس.. إن الله لا يهدي القوم الكافرين)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...والتّبليغ جعل الشيء بالغاً. والبلوغ الوصول إلى المكان المطلوب وصوله، وهو هنا مجاز في حكاية الرّسالة للمرسل بها إليه من قولهم: بَلَغ الخبر وبلغَت الحاجة. والأمر بالتّبليغ مستعمل في طلب الدّوام، كقوله تعالى: {يأيّها الّذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله} [النساء: 136]. ولمّا كان نزول الشريعة مقصوداً به عمل الأمّة بها (سواء كان النّازل متعلّقاً بعمل أم كان بغير عمل، كالّذي ينزل ببيان أحوال المنافقين أو فضائل المؤمنين أو في القصص ونحوها، لأنّ ذلك كلّه إنّما نزل لفوائد يتعيّن العلم بها لحصول الأغراض الّتي نزلت لأجلها، على أنّ للقرآن خصوصية أخرى وهي ما له من الإعجاز، وأنّه متعبَّد بتلاوته، فالحاجة إلى جميع ما ينزل منه ثابتة بقطع النّظر عمّا يحويه من الأحكام وما به من مواعظ وعبر)، كان معنى الرّسالة إبلاغ ما أنزل إلى مَن يراد علمه به وهو الأمّة كلّها، ولأجل هذا حذف متعلِّق {بلِّغ} لقصد العموم، أي بلّغ ما أنزل إليك جميع من يحتاج إلى معرفته، وهو جميع الأمّة، إذ لا يُدرى وقت ظهور حاجة بعض الأمّة إلى بعض الأحكام، على أنّ كثيراً من الأحكام يحتاجها جميع الأمّة.
والتّبليغ يحصل بما يكفل للمحتاج إلى معرفة حكمٍ تَمكُّنَه من معرفته في وقت الحاجة أو قبله، لذلك كان الرسول عليه الصّلاة والسّلام يقرأ القرآن على النّاس عند نزول الآية ويأمر بحفظها عن ظهر قلب وبكتابتها، ويأمر النّاس بقراءته وبالاستماع إليه. وقد أرسل مصعباً بن عُمير إلى المدينة قبل هجرته ليعلّم الأنصار القرآن. وكان أيضاً يأمر السامع مقالتَه بإبلاغها مَن لم يسمعها، ممّا يكفل ببلوغ الشّريعة كلّها للأجيال من الأمّة. ومن أجل ذلك كان الخلفاء مِن بعدِه يعطون النّاس العطاءَ على قدر ما معهم من القرآن. ومن أجل ذلك أمر أبو بكر بكتابة القرآن في المصحف بإجماع الصّحابة، وأكمل تلك المزيّة عثمان بن عفّان بانتساخ القرآن في المصاحف وإرسالها إلى أمصار الإسلام، وقد كان رسول الله عيَّن لأهل الصّفَّة الانقطاع لحفظ القرآن.
والّذي ظهر من تتبّع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان يبادر بإبلاغ القرآن عند نزوله، فإذا نزل عليه ليلاً أخبر به عند صلاة الصّبح. وفي حديث عمر، قال رسول الله:"لقد أنزِلت عليّ اللّيلة سورة لَهِي أحبّ إليّ ممّا طلعتْ عليه الشّمس" ثمّ قرأ: {إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً} [الفتح: 1]. وفي حديث كعب بن مالك في تخلّفه عن غزوة تبوك « فأنزل الله توبتنا على نبيّه حين بقي الثلثُ الآخر من اللّيل ورسُولُ الله عند أمّ سلمة، فقال: يا أمّ سلمة تِيب على كعب بن مالك، قالت: أفَلا أرْسِلُ إليه فأبشِّرَهُ، قال: « إذاً يَحطمُكم النّاسُ فيمنعونَكم النّومَ سائر اللَّيلة.
حتّى إذا صلّى رسول الله صلاة الفجر آذَنَ بتوبة الله علينا». وفي حديث ابن عبّاس: أنّ رسول الله نزلت عليه سورة الأنعام جملة واحدة بمكّة ودعا رسول الله الكتَّاب فكتبوها من ليلتهم.
وفي الإتيان بضمير المخاطب في قوله: {إليك من ربّك} إيماء عظيم إلى تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بمرتبة الوساطة بين الله والنّاس، إذ جَعل الإنزال إليه ولم يقل إليكم أو إليهم، كما قال في آية [آل عمران: 199] {وإنّ من أهل الكتاب لَمَنْ يؤمن بالله وما أنزل إليكم} وقوله: {لتُبيّن للنّاس ما نُزّل إليهم} [النحل: 44]. وفي تعليق الإنزال بأنّه من الرّب تشريف للمنزّل.
والإتيان بلفظ الرّب هنا دون اسم الجلالة لما في التذكير بأنّه ربّه من معنى كرامته، ومن معنى أداء ما أراد إبلاغه، كما ينبغي من التعجيل والإشاعة والحثّ على تناوله والعمل بما فيه.
... وقوله: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته} جاء الشّرط بإنْ الّتي شأنها في كلام العرب عدم اليقين بوقوع الشرط، لأنّ عدم التّبليغ غيرُ مظنون بمحمدّ صلى الله عليه وسلم وإنّما فُرض هذا الشّرط ليبني عليه الجوابُ، وهو قوله: {فمَا بَلَّغْتَ رسالاته}، ليستفيق الّذين يرجون أن يسكت رسول الله عن قراءة القرآن النّازل بفضائحهم من اليهود والمنافقين، وليبكت من علم الله أنّهم سيفترون، فيزعمون أنّ قُرآناً كثيراً لم يبلّغه رسول الله الأمَّةَ.
ومعنى {لم تفعل} لم تفعل ذلك، وهو تبليغ ما أنزل إليك. وهذا حذف شائع في كلامهم، فيقولون: فإن فعلت، أو فإن لم تَفعل. قال تعالى: {ولا تَدْعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فَعَلْتَ فإنّك إذاً من الظّالمين} [يونس: 106] أي إن دعوتَ ما لا ينفعك، يَحذفون مفعول فعلتَ ولم تَفْعَل لدلالة ما تقدّم عليه، وقال تعالى: {فإن لم تَفْعَلوا ولن تفعلوا} في سورة [البقرة: 24]. وهذا ممّا جرى مجرى المثل فلا يتصرّف فيه إلاّ قليلاً ولم يتعرّض له أيمّة الاستعمال.
ومعنى تَرَتّب هذا الجواب على هذا الشّرط أنّك إنْ لم تُبلّغ جميع ما أنزل إليك فتركت بعضه كنت لم تبلّغ الرّسالة، لأنّ كتم البعض مثل كتمان الجميع في الاتّصاف بعدم التّبليغ، ولأنّ المكتوم لا يدري أن يكون في كتمانه ذهاب بعض فوائد ما وقع تبليغه، وقد ظهر التّغاير بين الشّرط وجوابه بما يدفع الاحتياج إلى تأويل بناء الجواب على الشّرط، إذ تقدير الشّرط: إنْ لم تبلّغ مَا أنزل، والجزاءُ، لم تُبلّغ الرّسالة، وذلك كافٍ في صحّة بناءِ الجواب على الشرط بدون حاجة إلى ما تأوّلوه ممّا في وغيره. ثمّ يعلم من هذا الشّرط أنّ تلك منزلة لا تليق بالرسل، فينتج ذلك أنّ الرسول لا يكتم شيئاً ممّا أرسل به. وتظهر فائدة افتتاح الخطاب ب {يأيّها الرسول} للإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي بعده، وفائدة اختتامه بقوله: {فما بلّغتَ رسالته}.