الواحدة الرابعة : 60 - 82 الموضوع : قصة موسى مع الخضر
هذه الحلقة من سيرة موسى - عليه السلام - لا تذكر في القرآن كله إلا في هذا الموضع من هذه السورة . والقرآن لا يحدد المكان الذي وقعت فيه إلا بأنه ( مجمع البحرين ) ولا يحدد التاريخ الذي وقعت فيه من حياة موسى ، هل كان ذلك وهو في مصر قبل خروجه ببني إسرائيل أم بعد خروجه بهم منها ? ومتى بعد الخروج : قبل أن يذهب بهم إلى الأرض المقدسة ، أم بعد ما ذهب بهم إليها فوقفوا حيالها لا يدخلون لأن فيها قوما جبارين ? أم بعد ذهابهم في التيه ، مفرقين مبددين ?
كذلك لا يذكر القرآن شيئا عن العبد الصالح الذي لقيه موسى . من هو ? ما اسمه ? هل هو نبي أو رسول ? أم عالم ? أم ولي ?
وهناك روايات كثيرة عن ابن عباس وعن غيره في هذه القصة . ونحن نقف عند نصوص القصة في القرآن . لنعيش " في ظلال القرآن " ونعتقد أن لعرضها في القرآن على النحو الذي عرضت به ، دون زيادة ، ودون تحديد للمكان والزمان والأسماء ، حكمة خاصة . فنقف نحن عند النص القرآني نتملاه . .
( وإذ قال موسى لفتاه : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) . .
والأرجح - والله أعلم - أنه مجمع البحرين : بحر الروم وبحر القلزم . أي البحر الأبيض والبحر الأحمر . . ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح . أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر . فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر . وعلى أي فقد تركها القرآن مجملة فنكتفي بهذه الإشارة .
ونفهم من سياق القصة فيما بعد - أنه كان لموسى - عليه السلام - هدف من رحلته هذه التي اعتزمها ، وأنه كان يقصد من ورائها أمرا ، فهو يعلن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة ، ومهما يكن الزمن الذي ينفقه في الوصول . وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه القرآن من قوله : ( أو أمضي حقبا )والحقب قيل عام ، وقيل ثمانون عاما . على أية حال فهو تعبير عن التصميم ، لا عن المدة على وجه التحديد .
سبب قول موسى [ عليه السلام ]{[18305]} لفتاه - وهو يُشوع بن نُون - هذا الكلام : أنه ذكر له أن عبدًا من عباد الله بمجمع البحرين ، عنده من العلم ما لم يحط به موسى ، فأحب الذهاب إليه ، وقال لفتاه ذلك : { لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } أي لا أزال سائرًا حتى أبلغ هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين ، قال الفرزدق :
فَمَا بَرحُوا حَتَّى تَهَادَتْ نسَاؤهُم *** بِبَطْحَاء ذي قار عيابَ اللطَائم{[18306]}
قال قتادة وغير واحد : وهما بحر فارس مما يلي المشرق ، وبحر الروم مما يلي المغرب .
وقال محمد بن كعب القُرظي : مجمع البحرين عند طنجة ، يعني في أقصى بلاد المغرب ، فالله أعلم .
وقوله : { أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } أي : ولو أني أسير حقبًا من الزمان .
قال ابن جرير ، رحمه الله : ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحُقُب في لغة قيس{[18307]} : سنة . ثم قد روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : الحُقُب ثمانون سنة . وقال مجاهد : سبعون خريفًا . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } قال : دهرًا . وقال قتادة ، وابن زيد ، مثل ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِفَتَاهُ لآ أَبْرَحُ حَتّىَ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } .
يقول عزّ ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد إذ قال موسى بن عمران لفتاه يوشع : لا أبْرَحُ يقول : لا أزال أسير حتى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ ، كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لا أبْرَحُ قال : لا أنتهي .
وقيل : عنى بقوله : مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ اجتماع بحر فارس والروم ، والمجمع : مصدر من قولهم : جمع يجمع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : حتى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ والبحران : بحر فارس وبحر الروم ، وبحر الروم مما يلي المغرب ، وبحر فارس مما يلي المشرق .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ قال : بحر فارس ، وبحر الروم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مجمَع البَحْرَينِ قال : بحر الروم ، وبحر فارس ، أحدهما قِبَل المشرق ، والاَخر قِبَل المغرب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : مُجْمَعَ البَحْرَيْنِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن الضريس ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب ، في قوله : لا أبْرَحُ حتى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ قال : طنجة .
وقوله : أوْ أمْضِيَ حُقُبا يقول : أو أسير زمانا ودهرا ، وهو واحد ، ويجمع كثيره وقليله : أحقاب . وقد تقول العرب : كنت عنده حقبة من الدهر ، ويجمعونها حُقبا . وكان بعض أهل العربية بوجه تأويل قوله لا أبْرَحُ : أي لا أزول ، ويستشهد لقوله ذلك ببيت الفرزدق :
فمَا بَرِحُوا حتى تَهادَتْ نِساؤُهُمْ *** ببَطْحاءِ ذِي قارٍ عِيابَ اللّطائِمِ
وذكر بعض أهل العلم بكلام العرب ، أن الحقب في لغة قيس : سنة . فأما أهل التأويل فإنهم يقولون في ذلك ما أنا ذاكره ، وهو أنهم اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هو ثمانون سنة . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن هشيم ، قال : حدثنا أبو بلج ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : الحقب : ثمانون سنة .
وقال آخرون : هو سبعون سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد أوْ أمْضِيَ حُقُبا قال : سبعين خريفا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون في ذلك ، بنحو الذي قلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أوْ أمْضِيَ حُقُبا قال : دهرا .
حدثنا أحمد بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله حُقَبا قال : الحقب : زمان .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أوْ أمْضِيَ حُقُبا قال : الحقب : الزمان .
وقوله { وإذ قال موسى } الآية ابتداء قصة ليست من الكلام الأول ، المعنى : اذكر واتل ، و { موسى } هو موسى بن عمران بمقتضى الأحاديث والتواريخ وبظاهر القرآن ، إذ ليس في القرآن موسى غير واحد ، وهو ابن عمران ولو كان في هذه الآية غيره لبينه ، وقالت فرقة منها نوف البكالي أنه ليس موسى بن عمران ، وهو موسى بن مشنى ، ويقال ابن منسى ، وأما «فتاه » فعلى قول من قال موسى بن عمران ، فهو يوشع بن نون بن إفراييل بن يوسف بن يعقوب ، وأما من قال هو موسى بن مشنى فليس الفتى يوشع بن نون ، ولكنه قول غير صحيح ، رده ابن عباس وغيره و «الفتي » في كلام العرب الشاب ، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتياناً ، قيل للخادم فتى ، على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم :
«لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي »{[7841]} ، فهذا اندب إلى التواضع ، و «الفتى » في الآية هو الخادم ، ويوشع بن نون يقال هو ابن أخت موسى عليه السلام ، وسبب هذه القصة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى جلس يوماً في مجلس لبني إسرائيل ، وخطب فأبلغ ، فقيل له هل تعلم أحداً أعلم منك قال لا ، فأوحى الله إليه بلى : عبدنا خضر{[7842]} ، فقال يا رب دلني على السبيل إلى لقيه{[7843]} ، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ { مجمع البحرين } فإذا فقدت الحوت فإنه هنالك ، وأمر أن يتزود حوتاً ، ويرتقب زواله عنه ، ففعل موسى ذلك وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة { لا أبرح } أسير ، أي لا أزال ، وإنما قال هذه المقالة وهو سائر ، ومن هذا قول الفرزدق : [ الطويل ]
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم . . . ببطحاء ذي قار عياب اللطائم{[7844]}
وذكر الطبري عن ابن عباس : قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر ، أنزل قومه بمصر ، فلما استقرت الحال خطب يوماً ، فذكر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل ، ثم ذكر نحو ما تقدم ، وما مر بي قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام ، وما أراه يصح ، بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين ، وفي هذه القصة من الفقه الرحلة في طلب العلم ، والتواضع للعالم ، وقرأ الجمهور «مَجمَع » بفتح الميمين ، وقرأ الضحاك «مَجمِع » بكسر الميم الثانية ، واختلف الناس في { مجمع البحرين } أين هو ؟ فقال مجاهد وقتادة هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم .
قال القاضي أبو محمد : وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى الجنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام ، هو { مجمع البحرين } هو عند طنجة وهو حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه السائر من دبور إلى صبا . وروي عن أبي بن كعب أنه قال { مجمع البحرين } بإفريقية ، وهذا يقرب من الذي قبله ، وقال بعض أهل العلم هو بحر الأندلس من البحر المحيط ، وهذا كله واحد حكاه النقاش وهذا مما يذكر كثيراً ، ويذكر أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء ، وقالت فرقة { مجمع البحرين } يريد بحراً ملحاً وبحراً عذباً ، فعلى هذا إنما كان الخضر عند موقع نهر عظيم في البحر ، وقالت فرقة البحران إنما هما كناية عن موسى والخضر ، لأنهما بحرا علم ، وهذا قول ضعيف والأمر بين من الأحاديث أنه إنما رسم له ماء بحر ، وقوله { أو أمضي حقباً } معناه أو أمضي على وجهي زماناً ، واختلف القراء ، فقرأ الحسن والأعمش وعاصم «حقباً » بسكون القاف{[7845]} ، وقرأ الجمهور «حقباً » بضمه ، وهو تثقيل حقب ، وجمع الحقب أحقاب ، واختلف في الحقب ، فقال عبد الله بن عمرو ثمانون سنة ، وقال مجاهد سبعون ، وقال الفراء «الحقب » سنة واحدة وقال ابن عباس وقتادة أزمان غير محدودة وقالت فرقة «الحقب » جمع حقبة ، وفي السنة كأنه قال أو أمضي سنين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ قال موسى لفتاه}، يوشع بن نون... {لا أبرح}، يعني: لا أزال أطلب الخضر... {حتى أبلغ مجمع البحرين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد إذ قال موسى بن عمران لفتاه يوشع:"لا أَبْرَحُ" يقول: لا أزال أسير "حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْن."...
وقوله: "أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا "يقول: أو أسير زمانا ودهرا...
وذكر بعض أهل العلم بكلام العرب، أن الحقب في لغة قيس: سنة، فأما أهل التأويل فإنهم يقولون في ذلك ما أنا ذاكره، وهو أنهم اختلفوا فيه؛ فقال بعضهم: هو ثمانون سنة... وقال آخرون: هو سبعون سنة... عن ابن عباس، قوله: "أوْ أمْضِيَ حُقُبا" قال: دهرا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أهل التأويل: {لا أبرح} أي لا أزال حتى أبلغ كذا. فإن كان على هذا فهو ظاهر، ولا حرف البراح عن المكان، أي لا أبرح المكان {حتى أبلغ مجمع البحرين} وهو كأنه على الإضمار، أي لا أبرح أسير معك حتى أبلغ كذا... وقال بعضهم: سماه فتى لأنه كان خادمه يخدمه. وقال بعضهم: سماه فتى لأنه يتبعه ويصحبه، ليتعلم منه العلم. وقوله تعالى: {مجمع البحرين} أي: ملتقى البحرين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لِفَتَاهُ... وهو اسمُ كرامةٍ لا اسمُ علامةٍ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... فإن قلت: {لا أَبْرَحُ} إن كان بمعنى لا أزول -من برح المكان- فقد دلّ على الإقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى: لا أزال، فلا بدّ من الخبر، قلت: هو بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر؛ لأنّ الحال والكلام معاً يدلان عليه. أمّا الحال فلأنها كانت حال سفر. وأمّا الكلام فلأن قوله: {حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} غاية مضروبة وتستدعي ما هي غاية له، فلا بدّ أن يكون المعنى: لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى: لا يبرح مسيري حتى أبلغ، على أن حتى أبلغ هو الخبر، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم، وهو وجه لطيف. ويجوز أن يكون. المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى: ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ، كما تقول: لا أبرح المكان. ومجمع البحرين: المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام... {أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً} أو أسير زماناً طويلاً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {وإذ قال موسى} الآية ابتداء قصة ليست من الكلام الأول، المعنى: اذكر واتل، و {موسى} هو موسى بن عمران بمقتضى الأحاديث والتواريخ وبظاهر القرآن، إذ ليس في القرآن موسى غير واحد، وهو ابن عمران ولو كان في هذه الآية غيره لبينه،... و «الفتي» في كلام العرب الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتياناً، قيل للخادم فتى، على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي»، فهذا اندب إلى التواضع، و «الفتى» في الآية هو الخادم،...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
وفي الحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أن موسى عليه السلام جَلَسَ يَوْماً في مَجْلِسٍ لَبني إِسْرَائيلَ، وخَطَبَ، فأَبْلَغَ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لاَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، دُلَّنِي عَلَى السَّبِيلِ إِلى لقيه، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ بطُوِلِ سَيْفِ البَحْرِ، حَتَّى يَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، فَإِذَا فَقَدَ الحُوتَ، فإِنَّهُ هُنَالِكَ، وأُمِرَ أَنْ يَتَزَوَّدَ حُوتاً، وَيَرْتَقِبَ زَوَالَهُ عَنْهُ، فَفَعَلَ مُوسى ذَلِكَ، وَقَالَ لِفَتَاهُ على جِهَةِ إِمْضَاءِ العَزِيمَةِ: لاَ أَبْرَحُ أَسِيرُ، أي: لاَ أَزَالُ، وإِنما قال هذه المقالَةَ، وهو سائرٌ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قدم الكلام على البعث، واستدل عليه بابتداء الخلق، ثم ذكر بعض أحواله، ثم عقبه بما ضرب لذلك وغيره من الأمثال، وصرف من وجوه الاستدلال، وختم ذلك بأنه يمهل عند المساءة، عقب ذلك بأنه كذلك يفعل عند المسرة، فلكل شيء عنده كتاب، وكل قضاء بقدر وحساب، فذكر قصة موسى مع الخضر عليهما السلام وما اتفق له في طلبه، وجعله سبحانه له الحوت آية وموعداً للقائه، ولو أراد سبحانه لقرب المدى ولم يحوج إلى عناء، مع ما فيها من الخارق الدال على البعث، ومن الدليل على أن من ثبت فضله وعلمه لا يجوز أن يعترض عليه إلا من كان على ثقة مما يقوله من ربه ولا أن يمتحن، ومن الإرشاد إلى ذم الجدل بغير علم، ووجوب الانقياد للحق عند بيانه، وظهور برهانه، ومن إرشاد من استنكف أن يجالس فقراء المؤمنين بما اتفق لموسى عليه السلام من أنه -وهو كليم الله- أتبع الخضر عليه السلام ليقتبس من علمه، ومن تبكيت اليهود بقولهم لقريش لما أمروهم بسؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إن لم يخبركم فليس بنبي "الموهم للعرب الذين لا يعلمون شيئاً أن من شرط النبي أن لا يخفى عليه شيء، مع ما يعلمون من أن موسى عليه السلام خفي عليه جميع ما فعله الخضر عليه السلام، وإلى نحو هذا أشار الخضر عليه السلام بقوله إذ وقع العصفور على حرف السفينة ونقر من البحر نقرة أو نقرتين "ما نقص علمي وعلمك يا موسى من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر "
وبإعلامهم بما يعلمونه من أن موسى عليه السلام جعل نفسه تابعاً للخضر عليه السلام، تكذيباً لهم في ادعائهم أنه ليس أحد أعلى من موسى عليه السلام في وصف من الأوصاف، وأنه لا ينبغي لأحد اتباع غيره، ومن جوابهم عما لعلهم يقولون للعرب بهتاً وحسداً" لو كان نبياً ما قال: أخبركم غداً، وتأخر عن ذلك "بما اتفق لموسى في وعده الخضر عليهما السلام بالصبر، وبما خفي عليه مما اطلع عليه الخضر عليهما السلام، فقال تعالى عاطفاً على قوله سبحانه {وإذ قلنا للملائكة}: {وإذ} أي واذكر لهم حين {قال موسى} أي ابن عمران المرسل إلى بني إسرائيل، أي قوله الذي كان في ذلك الحين {لفتاه} يوشع بن نون عليهما السلام: {لا أبرح} أي لا أزال سائراً في طلب العبد الذي أعلمني ربي بفضله -كما دل عليه ما يأتي {حتى أبلغ مجمع البحرين} أي ملتقاهما وموضع اختلاطهما الذي سبق إليه فهمي، فتعينت البداءة به فألقاه ثَمّ {أو أمضي حقباً} إن لم أظفر بمجمع البحرين الذي جعله ربي موعداً لي في لقائه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
قصة موسى مع الخضر: هذه الحلقة من سيرة موسى -عليه السلام- لا تذكر في القرآن كله إلا في هذا الموضع من هذه السورة. والقرآن لا يحدد المكان الذي وقعت فيه إلا بأنه (مجمع البحرين) ولا يحدد التاريخ الذي وقعت فيه من حياة موسى، هل كان ذلك وهو في مصر قبل خروجه ببني إسرائيل أم بعد خروجه بهم منها؟ ومتى بعد الخروج: قبل أن يذهب بهم إلى الأرض المقدسة، أم بعد ما ذهب بهم إليها فوقفوا حيالها لا يدخلون لأن فيها قوما جبارين؟ أم بعد ذهابهم في التيه، مفرقين مبددين؟ كذلك لا يذكر القرآن شيئا عن العبد الصالح الذي لقيه موسى. من هو؟ ما اسمه؟ هل هو نبي أو رسول؟ أم عالم؟ أم ولي؟ وهناك روايات كثيرة عن ابن عباس وعن غيره في هذه القصة. ونحن نقف عند نصوص القصة في القرآن. لنعيش "في ظلال القرآن "ونعتقد أن لعرضها في القرآن على النحو الذي عرضت به، دون زيادة، ودون تحديد للمكان والزمان والأسماء، حكمة خاصة. فنقف نحن عند النص القرآني نتملاه.. (وإذ قال موسى لفتاه: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا).. والأرجح -والله أعلم- أنه مجمع البحرين: بحر الروم وبحر القلزم. أي البحر الأبيض والبحر الأحمر.. ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح. أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر. فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر. وعلى أي فقد تركها القرآن مجملة فنكتفي بهذه الإشارة. ونفهم من سياق القصة فيما بعد -أنه كان لموسى- عليه السلام -هدف من رحلته هذه التي اعتزمها، وأنه كان يقصد من ورائها أمرا، فهو يعلن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن الزمن الذي ينفقه في الوصول. وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه القرآن من قوله: (أو أمضي حقبا) والحقب قيل عام، وقيل ثمانون عاما. على أية حال فهو تعبير عن التصميم، لا عن المدة على وجه التحديد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفي سَوْقِ هذه القصة تعريضٌ بأهل الكتاب بأن الأَوْلَى لهم أن يَدُلّوا الناس على أخبار أنبياء إسرائيل وعلى سَفَرٍ لأجل تحصيل العلم والحكمة لا سفرٍ لأجل بَسْط الملك والسلطان...
فجملة {وإذ قال موسى} معطوفة على جملة {وإذ قلنا للملائكة} [الكهف: 50] عطف القصة على القصة. والتقدير: واذكرْ إذ قال موسى لفتاه، أي اذكرْ ذلك الزمن وما جرى فيه. وناسَبها تقديرُ فِعل "اذْكُر "لأن في هذه القصة موعظةً وذكرى كما في قصة خَلْق آدم...
واستُعير {لا أَبْرَحُ} لِمعنى: لا أَتْرُكُ، أو لا أكُفُّ عن السَّير حتى أبلغ مجمع البحرين... ومَجْمَع البحرين لا ينبغي أن يُختَلَف في أنه مكانٌ من أرض فلسطين. والأظهَر أنه مصبُّ نهر الأردن في بحيرة طبرية فإنه النهر العظيم الذي يمر بجانب الأرض التي نزل بها موسى عليه السلام وقومه. وكانت تسمى عند الإسرائيليين بحر الجليل...
والخضر: اسم رجل صالح... {أو أمضي}... المقصود بحرف الترديد تأكيد مُضِيِّه زمناً يتحقق فيه الوصول إلى مجمع البحرين. فالمعنى: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين بِسَيْرٍ قريب أو أسير أزماناً طويلة فإني بالِغ مجمع البحرين لا محالة، وكأنه أراد بهذا تأييس فتاه من محاولة رجوعهما، كما دَلّ عليه قوله بعدُ {لقد لَقِينا من سفرنا هذا نَصَباً} [الكهف: 62]. أو أراد شَحْذَ عزيمةِ فتاه ليُساويَه في صحة العزم حتى يكونا على عزْمٍ متّحِدٍ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه قصة غريبة في طبيعتها، إذ تشتمل على حوادث غير مألوفة، كرجوع الحوت إلى الحياة، واتباع موسى النبي المرسل إلى الناس عبداً صالحاً عالماً، ليتعلم منه ما يملكه من علم بواطن الأشياء التي لم يعلّمها الله لموسى (عليه السلام)، وصرامة هذا العالم الصالح في حالة الانضباط الذي يجب أن يفرضه موسى على نفسه، بالصبر وترك السؤال في الأمور التي يحاول فيها إثارة فضوله بأعلى الدرجات، في ما لا يمكن الصبر عليه، لا لغرابته، بل لمخالفته للقوانين المألوفة في شريعة موسى (عليه السلام). ثم يحسم الأمر مع موسى (عليه السلام)، فيصر على مفارقته لأنه لم يلتزم بما شرطه عليه من الصبر القاسي، بعد أن يفسر له ما أبهم عليه من القضايا المثيرة للفضول. أسئلة تثار حول القصة وربما كانت هذه القصة مثيرةً لأكثر من سؤالٍ على مستوى التفاصيل العقيدية لما يجب أن تكون شخصية النبي. فكيف يمكن أن يكون النبي موسى (عليه السلام) محتاجاً إلى التعلم من شخص آخر، مع أن الفكرة المطروحة لدى الكثيرين أن النبي لا بد من أن يكون أعلم الناس، لا سيما في القضايا المتصلة بالجوانب العملية التي تتحرك فيها الرسالة؟ وكيف نفسر نسيان موسى (عليه السلام) للحوت، أمام الفكرة التي تقول إن النبي معصوم عن الخطأ والنسيان، حتى في القضايا الحياتية؟ وكيف نواجه مسألة هذا الصبر النبويّ الذي ينفد أمام أيّة حالة غموض، بعد أن أعطى كلمته للعبد الصالح أن يتبعه من دون أيّ سؤال؟ إنها علامات استفهام ترتسم أمام القارئ العادي للقرآن، من خلال ما يملك من تفاصيل معينة في النظرة الإسلامية للشخصية النبوية...